logo

التدين الحق


بتاريخ : الاثنين ، 3 رمضان ، 1443 الموافق 04 أبريل 2022
بقلم : تيار الاصلاح
التدين الحق

 دين الإسلام هو الطريق المستقيم الموصل إلى الله كما ورد في سورة الفاتحة، فإن العبد يدعو ربه بأن يهديه إلى الصراط المستقيم، وأن يبعده عن طريق المغضوب عليهم وهم اليهود الذين عصوا الله عن علم ومعرفة، وطريق الضالين وهم النصارى الذين يعبدون الله على جهل وضلال، فليس هذا مرادنا من الحديث؛ ولكن رسالتنا لأهل الإسلام أين أنتم من هذا الدين؟ وهل ما نقوم به الآن هو المراد بالدين، أو هو التدين الحقيقي الذي ارتضاه الله لنا.

إن الدينونة لله تعالى بالطاعة، وإخلاص العبادة له وحده، دون ما سواه، مقتضى الفطرة السوية، وعنوان كمال الإنسانية.

التدين الحق في الإسلام ليس هو التخلص من الرغبات والشهوات، وليس هو التقشف بالكف عن اللذات، وليس هو في تحريم ما أحل الله، فالتبتل بهذا المعنى في الفكرين البوذي والنصراني، يصطدم مع منهج الله في الحياة.

التدين الحق هو دوام التعلق بالله تعالى، ولا يتم ذلك إلا بلسان دائم الذكر وقلب دائم الفكر وبدن يتعب من عناء تحصيل المراد.

ويتفاوت الناس في التحقق بها تفاوتًا كبيرًا؛ فمن متجرد عن هواه، مقبل على مولاه، يعبده كأنه يراه، فذاك بأكرم المنازل، ومن متنكر لفطرته، متمرد على ربه، معرض عن طاعته بالكلية، فذاك بأخبث المنازل.

وبين هذا وذاك مضمار طويل، ومقامات متعددة، يجري فيها الخلق، ويقفون، وإلى الله إيابهم، وعلى الله حسابهم.

قال تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32].

والأنموذج الكامل، والمعيار الدقيق للتدين، ما دل عليه قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، فتضمنت الآية وصفين عظيمين، عليهما تقوم العبادة الحقة، والدين الأحسن، وهما:

-1 الإخلاص التام، المعبَّر عنه بإسلام الوجه لله تعالى، فلا يلتفت إلى أحد سواه.

-2 الإحسان التام، الحاصل بموافقة هدي محمد صلى الله عليه وسلم، واتباع ملة أبيه إبراهيم، خليلا الرحمن، عليهما السلام.

فحين يتجرد القلب إخلاصًا لله، وتتجرد الجوارح متابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تتحقق العبودية الخالصة والدين الأحسن، فالإخلاص يحصل به صلاح الباطن، والمتابعة يحصل بها صلاح الظاهر، وبمجموعهما يصلح أمر العبد كله، وهذان هما ركنا العبادة التي لأجلها خلق الله الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب.

وحين ينزل هذان المعنيان في جذر قلب العبد، ويستقران فيه، يؤتى الخشوع في عباداته، والعدل والإحسان في معاملاته، واللطف والرفق في أخلاقه، ويحبه الله وأهل سماواته، ويطرح له القبول في الأرض.

ويجد من يلقاه صدقًا في لفظه، وأمنًا في ضميره، وأنسًا في معاشرته، كما يجد هو سكينة في نفسه ناشئة عن التوافق بين الظاهر والباطن، وقوة في قلبه مستمدة من صدقه مع ربه، وعزة في منطقه ومسلكه نابعة عن اعتزازه بدينه ومعتقده، وترسم الآيات الكريمات في خاتمة سورة الفرقان هذا التدين النقي لـعباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)}، إلى قوله: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)} [الفرقان: 63- 73].

وثم (تدين منقوص) ثلم، بسبب:

1- آفة قلبية، وأخلاط فاسدة، من حظ نفس، أو طلب شهرة، أو شرك خفي.

2- أو شبهة عقلية، أوحتها شياطين الإنس أو الجن، فعلقت بفؤاده.

3- أو شهوة جامحة، قدمت محاب نفسه على محاب ربه، فلم يعد هواه تبعًا للوحي.

4- أو بدعة قبيحة، أفسدت عليه نسق المتابعة، ونظام الشريعة.

5- أو سوء خلق، ونوع فضاضة، وضراوة، شوَّهت نسك حاملها.

ومن ثمَّ، كان لا بد من التزكية، والتربية، لمن أراد الفلاح بالفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب؛ بتخليص نفسه من آفاتها، وترقيتها في سلم الكمال البشري، كما بين الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) أَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 7- 10] (1).

تتجلى حقيقة التدين من حيث صلاح القلب: في الرقابة لله عز وجل، والذي ينتج عنها تقوى الله، فمن راقب الله اتقاه، وهذه من معاني الإحسان التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، حينما سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (2)، بهذا الاستشعار تتحقق الرقابة لله عز وجل في قلب المؤمن وعقله ومشاعره وروحه وعواطفه، فإذا تحققت الرقابة لله عز وجل فإن المسلم لا بد أن يتقي الله، وهذه نتيجة طبيعية، بل نتيجة حتمية، فكل من راقب الله واتقاه فلا بد أن يقوم بما أوجب الله عليه، وأن ينتهي عما نهى الله عنه (3).

فأما عبادة القلب فهي أجلُّ عبادات السِّر وأعظمها، فالله عز وجل لا يناله من عبده إلا التقوى، ولا ينظر إلى الصور والأموال؛ وإنما إلى القلوب والأعمال، ولا ينفع عنده يوم تبلى السَّرائر مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، والإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقرَ في القلب وصدَّقه العمل، كما يشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (4).

وأما عبادات الخفاء وقُرَب السِّر المشتملة على تعظيم أمر الله تعالى ونهيه، والإكثار من مناجاته فهي عمل آخر جاءت النصوص والآثار مكثرة من الحثّ عليه، فمن ذلك قوله تعالى: {إنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ} [فاطر: 18]، أي: يخافونه سبحانه حال خلوتهم به بعيدًا عن أعين الخلق (5)، وقوله عَز وجل: {إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271]، والآية الكريمة ظاهرة في تفضيل صدقة السِّر، والتي ثبت أنها تطفئ غضب الرب سبحانه، وجاء من السبعة الذين يظلّهم الله تعالى يوم القيامة في ظلّه يوم لا ظلَّ إلا ظلّه: «رجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه»(6).

وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسرُّ بالقرآن كالمسرِّ بالصدقة»، قال الترمذي: ومعنى هذا الحديث أن الذي يسرُّ بقراءة القرآن أفضلُ من الذي يجهر بقراءة القرآن؛ لأن صدقة السِّر أفضل عند أهل العلم من صدقة العلانية (7).

وما ذاك إلا لما في قُرْبَة السِّرِّ -بعيدًا عن رؤية الخلق- من عظم إيمانٍ، وكمال أدبٍ مع الله تعالى، وتعظيمٍ له سبحانه، ولما فيها من حضور قلبٍ واجتماع هَمٍّ وابتعادٍ عن القواطع والمشتتات، وثقةٍ بالله تعالى، وأُنْسٍ به، واطمئنانٍ إليه، ومراقبةٍ له، ومخافةٍ منه، ومطالعة مِنَّتِه، وتطلعٍ للظفر بمحبته وثوابه، ولما فيها من تخليصٍ للنفس من الطمع بثناء الخلق وحب مدحهم وكراهية ذمّهم، وضمان سلامتها من بعض دسائس السوء من رياء وسمعة وتصنُّع، فهي أبلغ في التضرع والخشوع، وأمكن في التذلّل والخضوع.

ولذا؛ فقد جاء التوجيه النبوي الكريم بحثِّ العبد المؤمن على أن يكون له عبادة في السِّر، فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه مرفوعًا قال: «من استطاع منكم أن يكون له خِبءٌ من عملٍ صالحٍ فليفعل» (8)، وكان الفضيل بن عياض يقول: كان يقال: من أخلاق الأنبياء والأصفياء الأخيار الطاهرةِ قلوبهم خلائقُ ثلاثة: الحلم، والأناة، وحظٌّ من قيام الليل (9)، ويحكي الخريبي عن السلف أنهم كانوا يستحبون أن يكون للرجل خبيئةٌ من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها (10)، وقال مسلم بن يسار: ما تلذّذ المتلذّذون بمثل الخلوة بمناجاة الله عز وجل (11).

ومن تأمَّل سير السلف وجد اهتمامًا بليغًا بعبادة القلب، التي هي روح العبودية ولبّها، بل هي الأصل وإنما أعمال الجوارح تبع ومكملة ومتممة لها، فهذا الصحابي الجليل والإمام الجِهْبِذ ابن مسعود رضي الله عنه يقول: من صلى صلاة عند الناس لا يصلي مثلها إذا خلا، فهي استهانة استهان بها ربه، ثم تلا قوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108] (12)، وفي يوم قال رضي الله عنه لأصحابه: أنتم أكثر صلاة وأكثر جهادًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيرًا منكم، قالوا: ِبمَ ذاك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة (13).

والمتأمل في واقع الدعاة ومحاضن التدين وبيئاته اليوم يلحظ مظاهر عدة تدل على تقصير في عبادة القلب، وضعف بيِّن في القيام بكثير من القربات في الخفاء، والتي يدّخرها صاحبها لوقوفه بين يدي ربه عز وجل يوم تُبلى السرائر، مما وَرَّث هشاشة بيّنة في الاستقامة، وضعفًا جليًا في الجدِّية، وفتورًا ظاهرًا في أخذ الكتاب بقوة تعلّمًا وعملًا ودعوة، وهو أمر ما لم يشعر بخطره القائمون على الشأن الدعوي والتربوي -مؤسسات وأفرادًا- ويولوه ما يستحق من أولوية في التصحيح والمعالجة، فإن أجيال الاستقامة القادمة ستكون أكثر بَهَتَانًا وأشدّ ضعفًا.

وفي ظنِّي أن مسؤولية معالجة هذه الظاهرة تقع بدرجة أكبر على الفرد نفسه على اعتبار أن عبادة القلب وعمل السِّر هي بوّابة نجاته وطريق رفعته، فإن اعتنى بها وأصلح من حاله فيها ففي ذلك سعادته، وإن قصَّر بإلقاء نفسه في بحور الغفلة ودركات البطالة والشهوات فقد أساء إلى نفسه، والإنسان على نفسه بصيرة.

ولعلَّ من أبرز ما يعين العبد على الوصول إلى مقصوده في هذا الجانب: مراقبة من لا تخفى عليه خافية والسِّر عنده علانية، ومخافته تعالى والحياء منه، والتعرف على جلاله وعظمته سبحانه، وترك الاشتغال بما لا يعني من فضول الطعام والمنام والكلام والنظر والخلطة ونحوها، والزهد في متع الدنيا وملذّاتها وإيثار الآخرة على الدنيا، وخشية عدم قبول العمل، والشعور الدائم بالتقصير والزّلل في القيام بحق الباري سبحانه، والاهتمام بأعمال القلوب وعدم قصر العبد جهده على أعمال الجوارح، وتذكّر الموت والبلى، ومطالعة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، والإكثار من القراءة في تراجم العلماء الربّانيين والعُبّاد الزاهدين، ومحاسبة النفس، وإدراك ثمار وفوائد قُرَب السِّر، وتنمية الحياء من النفس وجعله في رتبة أعلى من رتبة الحياء من الخلق، ومرافقة من تنفع مرافقته في الآخرة وتزيد صحبته المرء قربًا من الله تعالى، وتخصيص أوقات للخلوة بالله والأنس به والعيش في كنفه من اعتكاف وقيام ليل وخلوات للتفكر في ملكوت الله سبحانه والذكر والدعاء والقراءة ونحو ذلك (14).

حقيقة التدين هي التمسك بجميع أوامر الدين وترك نواهيه ظاهرًا وباطنًا، فمن تمسك بالدين ظاهرًا وباطنًا فهو المتدين حقيقة، ومن تمسك به ظاهرًا وتركه باطنًا فهو مدَّعٍ للتدين، وليس متدينًا، والدعاوى ما لم تكن عليها بينات فأهلها أدعياء، وللتدين مظاهر متعلقة بالقلب والجوارح ينبغي مراعاتها، والحرص على تحقيقها.

ولعل أظهر محك للناس في ظهور حقيقة التدين هو التعامل مع الآخرين، فمن التدين أن يكون المسلم رفيقًا شفيقًا رحيمًا بالمسلمين، أن يرفق بالمسلمين في كل شيء، في نصحه، في بيانه، في رده، في بيعه، في شرائه، في جميع أنواع التعامل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» (15)، ولو استعرضنا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا أن الأصل في تعامله مع الآخرين -حتى الذين يخطئون والذين يقعون في فواحش الذنوب، والذين يقعون في الأمور المستشنعة- أنه يعاملهم برفق، فعامل الأعرابي الذي بال في المسجد بالرفق، وعامل حاطب بن أبي بلتعة الذي وقع في عمل ظاهره الكفر بالرفق، وكثير من ذلك، إلا إذا انتهكت حدود الله فهذا أمر آخر، وله ضوابطه، ويكون لأهل الحل والعقد أيضًا، وليس لكل إنسان أن يدعي دعوى الغيرة على الحدود فيفتات على العلماء.

فالمهم الإحسان إلى الخلق عمومًا، وكل له درجة من الإحسان، وحسن التعامل مع الآخرين هو المحك، ولذلك لما أخل كثير من المسلمين بهذه الحقيقة، حقيقة التعامل مع الآخرين، ولم يسلك كثير منهم مسلك الرفق والرحمة والحلم والنصح والإشفاق والتدرج في الدعوة ونحو ذلك، لما تخلف هذا الأصل عند المسلمين قل وضعف جانب القدوة فيهم، فالقدوة الآن في المسلمين قليلة ونادرة جدًا في التعامل، وكثيرون نجدهم في عقائدهم على الاستقامة، وتجد هناك نماذجًا من الناس عقيدة أحدهم سليمة، وعلمه وفقهه في الشرع سليم، وقد يكون أيضًا باذلًا جهده في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل، لكن لا يحسن التعامل مع الخلق، فهذا غالبًا لا تنفع دعوته، ولا يقتدي به أحد، والمسلمون الآن بحاجة إلى الأنموذج الأمثل في التعامل أكثر من حاجتهم إلى الخطب والكتابات والوسائل الأخرى، وأنا أجزم أنا لو استغنينا عن أكثر ما نقوله وما نكتبه واتجهنا إلى غرس القدوة في الناس لتحقق الخير الكثير، فكثيرون ممن حرموا الاستقامة كان الحاجب بينهم وبين الاستقامة سلوك بعض المتدينين؛ لأنهم ما حققوا التدين.

وكما تتحقق حقيقة التدين بالتمييز بين الحق والباطل لا بد لكل من يدعي التدين أن يميز بين الحق والباطل، ويتجلى ذلك بأن يميز المسلم بين المعروف وبين المنكر، ويميز بين الكفر وبين الإسلام، ويميز بين المسلم وبين الكافر، ويميز بين المؤمنين وبين الكافرين، والله عز وجل يقول: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم: 35- 36]، ويقول عز وجل: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18]، وبعض الناس يقول: الكل سواء، وهذا غير صحيح، لكن التمييز ينبغي أن يكون له ضوابطه وحدوده، فلا يصل إلى حد الخشونة في التعامل، أو الإساءة إلى الدين الحق أو إلى الفظاظة والغلظة في التعامل مع الآخرين.

فمن حقيقة التدين أن يكون المسلم مميزًا، وكما يميز بين الضار والنافع في مأكله ومشربه ومعاملاته مع الناس يجب أن يميز قبل ذلك بين الحق والباطل، لكن بالضوابط الشرعية، لا يتخطى الحواجز الشرعية والطبيعية كما يفعل بعض الناس، فالأمر يحتاج إلى اعتدال؛ فلابد من التمييز بين الحق والباطل في حقيقة التدين (16).

إن التدين الحق فيه خروج بالإنسان عن كل الصفات السلبية إلى الصفات الإيجابية، خروج من الموت إلى الحياة، ومن الظلمات إلى النور، فقد قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1].

ومن هنا كان ربط الإسلام بين الدين والأخلاق، فليس الإيمان مجرد كلمات تقال أو عبادات تؤدى وحسب، بل هو السمو الروحي إلى مكارم الأخلاق، والعبادات في الإسلام لها تأثير إيجابي كبير على سلوك الإنسان، فقد قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].

__________

(1) أليس هو الحق/ رم للأنباء.

(2) أخرجه البخاري (50)، ومسلم (8).

(3) دروس الشيخ ناصر العقل (9/ 5)، بترقيم الشاملة آليًا.

(4) أخرجه البخاري (52).

(5) التحرير والتنوير (9/173).

(6) أخرجه البخاري (1428).

(7) أخرجه الترمذي (2919).

(8) صحيح الجامع (6018).

(9) حلية الأولياء (8/ 95).

(10) تهذيب الكمال (14/ 464).

(11) حلية الأولياء (4/ 272).

(12) تفسير ابن أبي حاتم (4/ 346).

(13) المعجم الكبير للطبراني (9/ 153).

(14) عبادات السر/ مجلة البيان (العدد: 226).

(15) أخرجه مسلم (2594).

(16) دروس الشيخ ناصر العقل (9/ 8)، بترقيم الشاملة آليًا.