logo

ماذا نريد من علمائنا؟


بتاريخ : السبت ، 26 ربيع الأول ، 1444 الموافق 22 أكتوبر 2022
بقلم : تيار الاصلاح
ماذا نريد من علمائنا؟

العلماء هم الذين تعلموا العلم وأتقنوه وعقلوه، وعملوا به وعلموه، العدول الذين استقاموا لله تعالى بالدين والمروءة، الذين يخشونه ولا يخشون أحدًا سواه.

والمقصود بالعلم هنا علم الكتاب العزيز والسنة النبوية من حيث معرفة الأوامر والنواهي والحلال والحرام والكراهة والاستحباب، فكل من عقل عن الله تعالى ذلك العلم وامتثل أوامره واجتنب مساخطه، وعلم من سأله، وأفرد الله تعالى بالخوف منه على وجه التعظيم له فهو العالم حقًا.

وفي تفسير ابن كثير: قال الحسن البصري: العالم مَن خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغب الله فيه، وزهد فيما سَخط الله فيه، ثم تلا الحسن: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28].

وعن ابن مسعود أنه قال: ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية.

وعن مالك قال: إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب.

قال أحمد بن صالح المصري: معناه: أن الخشية لا تدرك بكثرة الرواية، وأما العلم الذي فرض الله عز وجل أن يتبع فإنما هو الكتاب والسنة، وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من أئمة المسلمين، فهذا لا يدرك إلا بالرواية ويكون تأويل قوله: "نور" يريد به فهم العلم، ومعرفة معانيه.

وقال سفيان الثوري، عن أبي حيان التميمي، عن رجل قال: كان يقال: العلماء ثلاثة: عالم بالله عالم بأمر الله، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله، فالعالم بالله وبأمر الله: الذي يخشى الله ويعلم الحدود والفرائض، والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله: الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود ولا الفرائض، والعالم بأمر الله ليس بعالم بالله: الذي يعلم الحدود والفرائض، ولا يخشى الله عز وجل (1).

والعلماء هم حماة المجتمع من الآفات الاجتماعية، وإن كثرة العلماء وانتشار علمهم ووعظهم وتذكيرهم يخفف من آثار الآفات الاجتماعية والانحرافات الخُلقية إن لم يقض عليها، لأن العلم يذهب الجهل، والجهل مصدر كل الآفات الاجتماعية، بالعلماء ينطق الكتاب والسنة في الناس واعظًا ومرشدًا وهاديًا، ويكون للدين سلطان على النفوس، والعلماء يحاربون هذه الآفات بالكلمة الطيبة والنصيحة الصادقة إذ هم أول من يمتثل قول المولى عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، وقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

إنه بقدر أهمية العلماء الربانيين وحاجة الأمة إليهم يتبين خطر غياب دورهم أو تغييبه، فإن الثغرة التي هم عليها لا يسدُّها غيرهم، ومن أجل تجنب ذلك فإنني أؤكد على أمور مهمة، هي:

- أنه يجب على العلماء أن يتقدموا لسد الثغرة، وأن يتولوا زمام المبادرة بأنفسهم، وأن يكونوا قريبين من الناس قبل الفتن وفي أثنائها، وأن لا ينتظروا أن تأتيهم الفرص وهم قاعدون.

فإنهم متى ما تأخروا تقدم غيرهم ممن ليس أهلًا لسدِّ مكانهم، ولا بدَّ للناس من قادةٍ يرشدونهم ويوجِّهونهم «حتى إذا لم يترك عالمًا؛ اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا» (2).

- لا بد من الاحتساب مِنْ قِبَل العلماء الراسخين على من يدعون العلم وينتسبون إليه من غير أهله، وتبيين حالهم للناس، وعدم ترك المجال لهم ليقودوا الأمة ويتصدروها، وإن من غِشِّ الأمة ترك الاحتساب على أولئك المتعالمين.

يقول ابن القيم رحمه الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية: وكان شيخنا رضي الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجُعلتَ محتسبًا على الفتوى؟! فقلت له: أيكون على الخبازين والطبَّاخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب؟!(3)، فانظر إلى فقه هذا الإمام الرباني.

- ولا بد أيضًا من التصدي لمن يسعى إلى زعزعة ثقة الأمة بعلمائها بوسائل شتى، لا سيما ممن يسيطرون على كثير من وسائل الإعلام على اختلافها، فإن الحرب الشرسة التي يقودها هؤلاء على أهل العلم ومحاولة التهوين من شأنهم والحط من قدرهم، لا بد وأن تواجه وأن تقاوم من أهل العلم –بل من الأمة أجمع– بما يتناسب مع هذه الحملات والتشويه.

إننا لا نقول بعصمة العلماء من الخطأ.. كلا، وإنما مَنْ يقرر أخطاءهم أو يناقشها ليس هم أولئك الجهلة أو المنحرفون، وإنما العلم يرد بالعلم، وتقارع الحجة بمثلها.

- ومن الأمور المهمة في هذا السياق أن يحذر العلماء من أن يقوموا هم بتغييب دورهم بأنفسهم.

وقد يقع ذلك من حيث يظن العالم أن هذا هو مقتضى الثبات وعدم التأثر بالواقع، بينما هو في حقيقته نوع من الانغلاق والانكفاء على الذات، وهو مذموم بلا شك، فليس المراد بالثبات أن يقعد العالم في بيته معتزلًا عن قضايا الأمة وهمومها، وإنما المراد هو الاضطلاع بدور الريادة والقيادة مع التمسك بأمر الله قدر المستطاع، فإن قدر وإلا عذر، فإن الثبات على المبدأ هو التحرك به لا الانعزال والانطواء.

- إن المراد من العالم أن يقوم بما يستطيع، وهو معذور فيما لا يحسن، و{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَ} [البقرة: 286].

أما إذا استطاع العالم وقَدِر فإن المرجو منه شمولية الأهداف والمشاريع، والمنتظَر منه إصلاح واقع الأمة بكل مجالات ذلك الواقع واتجاهاته.

وتأمل حال شيخ الإسلام ابن تيمية تلمس أثره ظاهرًا في التأصيل للمسائل العلمية والعملية، الدقيقة والجلية، وكذلك في تبني مشروعات عملية؛ منها التعبدي الخاص به، ومنها ما يتعلق بإنزال التأصيل العلمي الذي يقرره إلى أرض الواقع، فتراه مثلًا يقرر مسائل الاعتقاد ثم يدعو إليها ويناظر عليها، وتراه كذلك يؤصل للسياسة الشرعية، ثم لا يألُ جهدًا في مناصحة الأمراء والولاة والقضاة، وأكثر من ذلك تراه يتولى زمام الدعوة إلى شن الحروب على العدو المتغلب، وينخرط في برامج تدريبية تؤهل الناس إلى ذلك، ثم يحرض الناس على اختلاف طباقتهم للمشاركة في وقعة شقحب، بل يقود الجيوش والمعارك، ثم يوجه الدولة نحو خطر أهل النفاق المظاهرين للعدو من رافضة جبل كسروان، مع جهوده وطلابه في إنكار المنكرات.

وفي أثناء ذلك كله يبين قراءته للأحداث ويطرح رؤيته لتوقع سيرها، وقد كانت عنده من الوضوح بمكان يجعله يقسم على بعضها متفائلًا بتحقق النصر وهزيمة العدو، على رغم اضطراب الأوضاع في عصره بما يشبه حال الناس اليوم فما أشبه عصره بعصورنا في كثير من القضايا كشيوع الجهل، وانتشار المنكرات العقدية والعملية والأخلاقية، وضعف الأمة وانكسار شوكتها، وتغلب العدو المغولي المحتل عليها، وتنازع الملك بما يشبه الانقلابات العسكرية المعاصرة، وإغارة الأمراء على الأقاليم.

- ومن الأمور المهمة جدًا –من وجهة نظري– في مجال تفعيل دور العالم في الأمة وعدم غياب ذلك الدور أو تغييبه البعد عن المسلك الفردي في العمل والإصلاح والتأثير.

وذلك أن الجهد الفردي –مهما كانت قدرات صاحبه ومواهبه– لا يمكن أن يوازي جهده حينما يكون مضمومًا إليه جهودًا وخبرات الآخرين ومواهبهم وطاقاتهم، حتى ولو كانوا أقل منه؛ كطلابه أو عامة الناس من أصحاب التخصصات المتنوعة التي تحتاجها الأمة.

وبما أننا مثَّلنا على الدور الإيجابي للعلماء الربانيين بمواقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإننا ننبِّه أيضًا إلى أنه كان له رحمه الله إخوة من العلماء والعباد، وطلاب ومحبون من العامة والأمراء، بتعاضده معهم بعد توفيق الله تعالى أفلح في تحقيق مشاريع كثيرة، بعضها متعلق بالدعوة وإظهار الحق، وبعضها متعلق بالجهاد، وأخرى متعلقة بإنكار المنكرات، وكثير منها لم يكن ليتأتى له –على الرغم من القدرات العلمية التي حباه الله- لو سلك نهج العمل الفردي، ولو تأملت حال مجددي الأمة على مر العصور تلمس طابع التفاعل مع المجتمع والتفعيل لقواه المختلفة أمرًا مطردًا، وهذا أمر طبيعي فكيف يتأتى لأمة خاملة منهكة أن تنهض دون أن تستجمع قواها، ولو كان أحد يستغني عن الآخرين في نشر الإسلام ونصره إذًا لاستغنى الأنبياء عليهم السلام، ولكن هذا لم يكن(4).

- يجب على العلماء أن يصارحوا الأمة بواقعها، وأن يدلوها على مستقبلها، وأن يبددوا اليأس الذي تغلغل في صدور أبنائها، وأن يتوحدوا على «خطاب» واحد، يتجاوز الاختلافات المذهبية والسياسية، ويقنع الناس ويؤثر فيهم، وعلى أولويات ومقاصد تخرج المجتمعات الاسلامية من حيرتها وارتباكها، وعلى «كلمة سواء» تعيد للأمة تماسكها وتكافلها، وتحشدها في صف واحد ضد أعدائها، وتجدد لها «دينها»، وعلى مشروع واحد، يرسم لها طريقها، وينشر فيها معاني المحبة والاعتدال، ويُفعّل قيمها الغائبة، وعناصرها المعطلة، ومنزلتها التي تستحقها بين أمم العالم وشعوبه.

- نريد من علماء الأمة أن يحرروا شبابنا من الوهم، ومن الخوف، ومن التبعية والاستلاب، وأن يخرجوا مجتمعاتنا من السلبية وردود الأفعال، ومن التخلف، وأن يتوجهوا إلى العالم «بالإسلام» الصحيح، بنماذجه الفاعلة لا بمجرد الكلام عنه، أو ترويج المدائح له، بالإسلام الذي يرفض العدوان كما يرفض الهوان، الذي يدعو إلى السماحة كما يدعو إلى الرد على ما يوجه له من إساءة ووقاحة.

- نريد من علمائنا أن يقدموا لنا نماذجهم الملهمة، وأن يتقدموا صفوفنا للدفاع عن مقدساتنا، وإعادة الاعتبار «لقيمة» الانسان فينا، وحماية حقوقنا والانتصار لقضايانا، فالرهان اليوم على دورهم، والأمل بهم، فهم «ورثة الأنبياء»، وهم «الضمير» الذي يتحرك داخل الأمة، ويطمئنها على صحة خياراتها، وسلامة سكتها، وقوة مناعتها لكي تظل صامدة (5).

- مراقبة خط سير الأمة على المنهج الأقوم، حتى لا تدفع النوازل الطارئة إلى خروج عن الصراط المستقيم بردود فعل غير محسوبة، تدفع إليها الحماسة المجردة والعاطفة غير المنضبطة بعقال العقل الشرعي.

- الاستعداد لكل منافق قد يطل بقرنه أثناء النازلة، فكثير من المرجفين والمنافقين يغتنمون النوازل فيروجون لفكر منحرف يحاولون استبدال منهج الله به، فإن كان المصلحون لهم بالمرصاد أمكنهم الاستفادة من إفرازات أهل النفاق الضارة ومخالفاتهم في تأجيج الحق وإظهاره.

- رؤية ما تنطوي عليه النوازل من خير، ثم تبصير الناس به، والعمل على الاستفادة منه حتى لا يدب في نفوس الناس اليأس أو يستحكم القنوط.

- تثبيت الأمة وتصبيرها حتى لا تنقلب على عقبها أو تجزع مما ألم بها، بل عليهم بث التفاؤل الإيجابي وحسن الظن بالله مهما كان الظاهر خلاف ذلك، فهذا منهج القرآن وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5]، {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87] «بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا» (6).

- أن ينصحوا للمسلمين -حكامًا ومحكومين-، وأن يبينوا للجميع أهمية الأخوة الإسلامية، ومنزلتها من الشرع، وينبهوهم إلى خطورة شأنها وضرورتها، ويبينوا آثارها في حياة الأمة أفرادًا ومجتمعات، وأن يذكِّروهم بكل ما من شأنه أن يُرغبهم في التمسك بأخوتهم والالتفاف حولها، ويحذرهم من إهمالها وتضييع حقوقها.

إن على العلماء -في هذا الزمن خاصة- أن يجتهدوا في الدعوة إلى تقوية أواصر الأخوة الإسلامية، وإحياء التضامن الإسلامي؛ حيث إن المسلمين في هذا العصر قد زادت معاناتهم، وهانوا على غيرهم -أفرادًا وجماعات- بسبب انفراط عقد أخوتهم وضعف الولاء فيما بينهم، فما أشد حاجتهم إلى الوحدة الإسلامية المبنية على أساس الإخاء في الدين، لدرء المفاسد التي تحيط بهم، والفتن التي تغشاهم وتكتنفهم.

- ومن واجب العلماء والدعاة أن يعملوا على تعميق التدين الصحيح لدى جماهير المسلمين، حيث إن هذا الأمر يخدم قضية النهوض بالأخوة الإسلامية، ذلك أن شعائر الدين وتشريعاته تُقوي رابطة الإخاء في نفس المؤمن المتبع لدينه، المتمسك بشرائعه وشعائره، فإذا ما زكت روح التدين لدى المسلمين ازدهرت روح الأخوة، وثبتت دعائمها فيما بينهم، وقد سق أن أشرنا إلى أن التشريعات الإسلام المختلفة دورًا كبيرًا، وأثرًا بالغًا في إحياء الترابط والأخوة والوحدة بين المسلمين.

وحقًا ما قاله الأفغاني: لو ترك المسلمون وأنفسهم بما هم عليه من العقائد، مع رعاية العلماء العاملين منهم، لتعارفت أرواحهم وائتلفت آحادهم (7).

- ومن واجب العلماء والدعاة في هذا الشأن أن يبددوا سحب اليأس والقنوط، ويعمقوا الآمال في نفوس الأجيال بتجاوز هذه الحال التي آلت إليها أمتنا من الفرقة والتشتت، والوهن والتردي، وأن يبثوا في جموع المسلمين في العالم أن التلاقي على الأخوة والاتحاد في ظلها، والتماسك برباطها على الوجه الذي شرعه الله عز وجل أمر ممكن في هذا الزمان، على الرغم من وجود المعوقات، وأن عودة المسلمين إلى موقع الريادة والسيادة، وتبوء مقام الصدارة في العالم ليس بالأمر المحال، بل إن هناك بوادر يقظة في العالم الإسلامي قد بزغ فجرها ولاح نورها، وغدًا بمشية الله تشرق شمسها، ويعم الكون ضياؤها.

ولذلك لا نيأس من أن تعود الوحدة الإسلامية كما بدأت قوية، وتجعل من المسلمين جماعة واحدة، تقف أمام الكتلة الشرقية والكتلة الغربية، وغيرها من الكتل التي تتجمع وليس فيها للإسلام مكان، وأن الجماعة الإسلامية ستكون مصدر خير للإنسانية كما كانت في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر الراشدين من بعده، بل عصر الملوك الذين كانوا يَحكمون المسلمين وهم مجتمعون، سواء أكان الحكم كما جاء في القرآن والسنة، أم خالفوه في مناهج قلت أو كثرت (8).

- ومن واجب العلماء والدعاة أن يجاهدوا بالقلم واللسان لإزالة المعوقات الفكرية والثقافية التي تقف حجر عثرة في سبيل تحقيق أخوة المسلمين، وتجمعهم ووحدتهم على أساس دينهم، فيكشفوا زُيوف وتلبيس الدعوات الضالة الهدامة التي تعاكس وتحارب مبدأ الإخاء الإسلامي، وتناهض وجوده وتفعيله في نفوس المسلمين وواقعهم، وذلك مثل الدعوة إلى القوميات والعنصريات، والدعوة إلى هجر اللغة العربية الفصحى، واستبدال اللهجات العامية بها وإحلالها محلها، وأن يعملوا على مقاومة وإزاحة أسباب وعوامل الفُرقة والتنافر بين المسلمين كالتعصب المذهبي الممقوت، وغير هذا من المعوقات التي يصنعها أعداؤنا أحياناً، أو نصنعها نحن أحيانًا أخرى.

- وينبغي على العلماء والدعاة أيضًا توظيف الأحداث والنوازل التي تنزل بالمسلمين، والمصائب التي يرميهم أعداؤهم بها، في تدعيم وتعزيز مبدأ الأخوة الإسلامية، والتدليل على أهميته وضرورته في حياة الأمة، فها هي ذي المصائب التي تلحق بالمسلمين في أرض الرباط فلسطين، من قبل إخوان القردة والخنازير، وبمؤازرة الصليبين الحاقدين، حيث يتعرضون لأشنع ضروب الإيذاء والتنكيل، من قتل للأنفس وهدم للبيوت وتفجيرها على من فيها من المسلمين، نساء وأطفالًا وشيوخًا، وتجريف للأرض المزروعة وإتلاف للأخضر واليابس، بل وقتل متعمد للأطفال، وهتك للعورات والحرمات...، كل هذا وغيره على مرأى ومسمع من العالم الذي يدعي التحضر، وتحت سمع وبصر ما يُسمى بالنظام الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الزمان.

- ثم إن على علماء الأمة ودعاتها أن يقدموا من أنفسهم القدوة الحسنة أمام عموم المسلمين في التحقق بالأخوة الإسلامية والحفاظ عليها، فينأوا بأنفسهم عن الإتيان بما من شأنه أن يَضْعِف الإخاء بين المسلمين، ويوهن من ترابطهم وأخوتهم.

وعلى سبيل المثال هناك بعض العلماء والدعاة المعاصرين نراهم -مع الأسف- أداة تخريب للأخوة الإسلامية، وتمزيق لها؛ حيث ينفخون في رماد التعصب المذهبي الممقوت، ويعملون على إحيائه من موات، فيُحْدِثون بهذا من الانقسامات والفرقة في صفوف المسلمين الكثير، وللأسف يتبع هذه الانقسامات شحناء وبغضاء وتدابر، ولا سيما مع غياب فقه الاختلاف وآدابه!!

- ومن واجب العلماء والدعاة للحفاظ على الأخوة، وإرساء دعائمها، والنهوض بها بين المسلمين، أن يحرصوا في كتاباتهم وبحوثهم، وملتقياتهم ومؤتمراتهم على تبني القضايا والموضوعات الفكرية والعلمية التي تجعل التواصل بين المسلمين على الدوام نابضًا بالحرارة والحيوية، مفعمًا بالنشاط والقوة.

- ومما ينبغي أن يقوم به العلماء والدعاة في هذا الشأن كذلك، أن يعملوا على استمرار التآخي والتواصل والتلاقي بين المؤسسات والجمعيات العلمية والدعوية في أنحاء العالم الإسلامي، وفي بلاد الغرب، كالجامعات الإسلامية، والمعاهد والمجامع العلمية، والمراكز البحثية، والجمعيات والهيئات المعنية بشأن الدعوة الإسلامية، والمؤسسات الشرعية والمراكز الإسلامية في الغرب... فهذه ونحوها من الهيئات يجب أن يحرص القائمون على أمرها من أهل العلم والدعوة على أن يكون بينها تعاون مشترك، وتنسيق للجهود والأعمال، وتبادل للمنافع، بما يُعَزَّز وحدة المسلمين، ويوقظ فيهم -على الدوام- مشاعر الإخاء، مهما تناءت ديارهم، وتباعدت أقطارُهم.

إنه مما لا شك فيه أن للدين سلطانًا على النفوس لا يَعْدله سلطان، وإن لعلماء الدين ومؤسسات العلم والدعوة -من هذا المنطلق- تقديرًا خاصًا لدى الناس، ولذا فإن بإمكانهم أن يؤدوا دورًا عظيمًا، ويؤثروا تأثيرًا بالغًا في جمع شتات المسلمين، ولمِّ شملهم، وتوحيد صفوفهم تحت راية الأخوّة الإسلامية، إذا رُزقوا الإخلاص وعلو الهمة.

وإن جماهير المسلمين في المشارق والمغارب لتنتظر من علماء الأمة ودعاتها الربانيين الكثير والكثير في إصلاح الخلل، ورأب الصدع، ورتق الفتق، ولا غرو؛ فهم ورثة الأنبياء في العلم والدعوة والإصلاح، فليتقدموا على بركة الله، وليعملوا في جد، وليؤملوا -بمشيئة الله- خير النتائج، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا (9).

وعلى طالب العلم أن يبتغي بعلمه وجه الله تعالى، ويكون من علماء الآخرة، يقول الإمام الغزاليّ رحمه الله: إن الفائزين المقربين هم علماء الآخرة، ولهم علامات؛ فمنها: أن لا يطلب الدنيا بعلمه، فإن أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها وكدورتها وانصرامها، وعظم الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلالة ملكها، ويعلم أنّهما متضادتان، وأنهما كالضرتين مهما أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، وأنّهما ككفتي الميزان مهما رجحت إحداهما خفت الأخرى، وأنّهما كالمشرق والمغرب مهما قربت من أحدهما بعدت عن الآخر، وأنّهما كقدحين أحدهما مملوء والآخر فارغ، فبقدر ما تصب منه في الآخر حتّى يمتلئ يفرغ الآخر، فإنّ من لا يعرف حقارة الدنيا وكدورتها، وامتزاج لذّاتها بألمها، ثمّ انصرام ما يصفو منها فهو فاسد العقل مَفتون (10).

وقيل: خمس من الأخلاق هي من علامات علماء الآخرة، مفهومة من خمس آيات من كتاب الله عزّ وجل: الخشية، والخشوع، والتواضع، وحسن الخلق، وإيثار الآخرة على الدنيا، وهو الزهد، فأمّا الخشية فمن قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وأمّا الخشوع فمن قوله تعالى: {خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 199]، وأمّا التواضع فمن قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88]، وأمّا حسن الخلق فمن قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، وأمّا الزهد فمن قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص: 80] (11).

وكان من سمت علماء الآخرة وهديهم أنهم لا يدخلون على ولاة الأمر والأمراء إلا ناصحين مذكرين، بالحكمة والموعظة الحسنة، من قلوب لا تعرف إلا شرع الله عز وجل، ولا تبتغي إلا مرضاته، والنصح لعباده.

دخل أعرابي على سليمان بن عبد الملك فقال له: تكلم يا أعرابي، فقال: يا أمير المؤمنين إنّي مكلمك بكلام فاحتمله، وإن كرهته فإن وراءه ما تحبّ إن قبلته، فقال: يا أعرابي! إنا لنجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه، ولا نأمن غشه، فكيف بمن نأمن غشه، ونرجو نصحه؟ فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين إنّه قد تكنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياهم بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله تعالى، ولم يخافوا الله فيك، حرب الآخرة، سلم الدنيا، فلا تأتمنهم على ما ائتمنك الله تعالى عليه، فإنّهم لم يألوا في الأمانة تضييعًا، وفي الأمّة خسفًا وعسفًا، وأنت مسؤول عما اجترحوا، وليسوا بمسؤولين عمّا اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غبنًا من باع آخرته بدنيا غيره، فقال له سليمان: يا أعرابيّ، أما إنك قد سللت لسانك، وهو أقطع سيفيك، قال: أجل يا أمير المؤمنين، ولكن لك لا عليك (12) .

ويصوّر الأديب الرافعي أهمية العلماء في كيان الأمّة، وأثرهم في تقويم الراعي والرعيّة، وخطر انزلاقهم إلى الدنيا، وتفريطهم بأمانة العلم والدين فيقول :ما يحسن بحامل الشريعة أن ينطق بكلام يرده الشرع عليه؛ ولو نافق الدين لبطل أن يكون دينًا، ولو نافق العالم الدينيّ لكان كل منافق أشرف منه؛ فلطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود، والمنافق رجل مغطى في حياته، ولكن عالم الدين رجل مكشوف في حياته لا مغطى؛ فهو للهداية لا للتلبيس، وفيه معاني النور لا معاني الظلمة؛ وذاك يتّصل بالدين من ناحية العمل، فإذا نافق فقد كذب؛ والعالم يتصل بالدين من ناحية العمل وناحية التبيين، فإذا نافق فقد كذب وغشّ وخان.

وما معنى العلماء بالشرع إلا أنّهم امتداد لعمل النبوّة في الناس دهرًا بعد دهر، ينطقون بكلمتها، ويقومون بحجّتها، ويأخذون من أخلاقها، كما تأخذ المرآة النور، تحويه في نفسها، وتلقيه على غيرها، فهي أداةٌ لإظهاره وإظهار جماله معًا.

أتدري يا ولدي ما الفرق بين علماء الحق وعلماء السوء، وكلهم آخذ من نور واحد لا يختلف؟ إنّ أولئك في أخلاقهم كاللوح من البلور؛ يظهر النور نفسه فيه، ويظهر حقيقته البلورية، وهؤلاء بأخلاقهم كاللوح من الخشب، يظهر النور حقيقته الخشبية لا غير!

وعالم السوء يفكّر في كتب الشريعة وحدها؛ فيسهل عليه أن يتأوّل ويحتال، ويغيّر ويبدّل، ويظهر ويخفي؛ ولكنّ العالم الحقّ يفكّر مع كتب الشريعة في صاحب الشريعة، فهو معه في كلّ حالة، يسأله: ماذا تفعل؟ وماذا تقول؟

والرجل الدينيّ لا تتحوّل أخلاقه ولا تتفاوت، ولا يجيء كلّ يوم من حوادث اليوم، فهو بأخلاقه كلّها، لا يكون مرّة ببعضها، ومرة ببعضها، ولن تراه مع ذوي السلطان وأهل الحكم والنعمة كعالم السوء هذا الذي لو نطقت أفعاله لقالت لله بلسانه: هم يعطوني الدراهم والدنانير فأين دراهمك أنت ودنانيرك؟

إنّ الدينار يا ولدي إذا كان صحيحًا في أحد وجهيه دون الآخر، أو في بعضه دون بعضه، فهو زائف كلّه؛ وأهل الحكم والجاه حين يتعاملون مع هؤلاء يتعاملون مع قوّة الهضم فيهم.. فينزلون بذلك منزلة البهائم؛ تقدم أعمالها لتأخذ بطونها، والبطن الآكل في العالم السوء يأكل دين العالم فيما يأكله.

فإذا رأيت لعلماء السوء وقارًا فهو البلادة، أو رقّة فسمّها الضعف، أو محاسنة فقل: إنّها النفاق، أو سكوتًا عن الظلم فتلك رشوة يأكلون بها!

نحن يا ولدي مع هؤلاء كالمعنى الذي يصحّح معنى آخر، فإذا أمرناهم، فالذي يأمرهم فينا هو الشرع لا الإنسان، وهم قوم يرون لأنفسهم الحق في إسكات الكلمة الصحيحة أو طمسها أو تحريفها؛ فما بدّ أن يُقابَلوا من العلماء والصالحين بمن يرون لأنفسهم الحقّ في إنطاق هذه الكلمة وبيانها وتوضيحها؛ فإذا كان ذلك فههنا المعنى بإزاء المعنى؛ فلا خوف ولا مبالاة، ولا شأن للحياة والموت.

وإنما الشرّ كلّ الشرّ أن يتقدّم إليهم العالم لحظوظ نفسه ومنافعها، فيكون باطلًا مزوّرًا في صورة الحقّ؛ وههنا تكون الذات مع الذات، فيخشع الضعف أمام القوّة، ويذلّ الفقر بين يدي الغنى، وترجو الحياة لنفسها، وتخشى على نفسها؛ فإذا العالم من السلطان كالخشبة البالية النخرة تحاول أن تقارع السيف.

إنّ السلطان والحكّام أدوات يجب تعيين عملها قبل إقامتها، فإذا تفكّكت واحتاجت إلى مسامير دقّت فيها المسامير؛ وإذا انفتق الثوب فمن أين للإبرة أن تسلك بالخيط الذي فيها إذا هي لم تخُزّه؟ إنّ العالم الحقّ كالمسمار؛ له عمله ومهمّـه، فإذا أوجد المسمار لذاته دون عمله كفرت به كلّ خشبة (13).

لقد جعل الله قيم الحقّ والعدل ميزانًا بأيدي العلماء الربانيين، والأئمة المهديين، الذين ائتمنهم على دينه، وما سواها أهواء متناحرة، وظلمات مدلهمّة، وظلم وعدوان، وبغي وبهتان.. فأول مسؤوليّاتهم أن يعلنوا قيم الحق والعدل للناس، ويعلموهم إياها، وينشروا حقائقها ويشيعوها، ويبشّروا بها بكل وسيلة، ويدعوا الناس للالتزام بها، وإيثارها على ما سواها.. وهم في ذلك يقفون على صراط الله المستقيم، وهديه القويم، يبشّرون به، ويدعون إليه، فإن عجزوا عن ذلك أو ضعفوا فلا أقل من أن يلزموا الصمت، ويعتزلوا الناس، ولا يعينوا الظالم على ظلمه، والباغي على بغيه..

وإنّ الأئمّة المهديّين، والعلماء الربّانيّين في كلّ عصر ومصر لا يقفون بين الأمّة والحاكم على مسافة واحدة، بل هم في صف الأمّة وأقرب إليها، لا استرضاءً للعامّة وإيثارًا للأهواء، ولكن لأنّ الأمّة -والتاريخ شاهد صدق على ذلك- تنتقص حقوقها في أغلب الأحوال، ويعتدى على حرماتها، وتصوّب إليها سهام المظالم من كلّ باغ متنفّذ، ويضعف أكثر أفرادها عن المطالبة بحقوقهم، فينامون على الضيم، ويستكينون للظلم، ممّا يجرّهم إلى ألوان من الفساد لا تقف عند حدّ.. ويتطلّعون إلى العلماء، وهم الفئة الرائدة الراشدة، وينتظرون منهم أن ينتصروا لهم، ويطالبوا بحقوقهم.. فهل من المسؤوليّة أن يخذل العلماء الأمّة التي وثقت بهم، وعلّقت آمالها عليهم؟!

إنّ الأمّة تريد من علمائها أن يكونوا لسانها الناطق بالحقّ، وقلبها النابض بالإيمان والهدى، وعقلها المفكّر، الذي يفقه دين الله، ويعي الواقع، بكلّ ملابساته وتعقيداته، ويُعلّم ويُبصّر، وأن يكونوا يدها المغيثة في كلّ نازلة، ورائدها القدوة في كلّ ميدان من ميادين الخير.. ولا نقول هذا الكلام من نسج الخيال، ففي التاريخ الإسلاميّ وفي الحاضر نماذج مشرقة عن ذلك كلّه (14).

------------

(1) تفسير ابن كثير (6/ 545).

(2) أخرجه الطبراني (14210).

(3) إعلام الموقعين (4/ 217).

(4) دور العلماء في قيادة الأمة/ موقع المسلم.

(5) هذا ما نريده من علمائنا/ المدينة الإخبارية.

(6) أخرجه مسلم (1732).

(7) مجلة المنار، من محاضرة مصطفى عبد الرزاق في رينان والأفغاني (24/ 466).

(8) الوحدة الإسلامية (ص: 4- 5).

(9) دور العلماء والدعاة في المجتمع/ شبكة الألوكة.

(10) إحياء علوم الدين (1/ 60).

(11) إحياء علوم الدين (1/ 77).

(12) إحياء علوم الدين (2/ 148).

(13) وحي القلم (ص: 44- 45).

(14) الآيات وعلماء السوء/ منتدى العلماء.