logo

وينطق الرويبضة


بتاريخ : السبت ، 17 صفر ، 1445 الموافق 02 سبتمبر 2023
بقلم : تيار الاصلاح
وينطق الرويبضة

عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة»، قيل: وما الرويبضة؟ قال: «الرجل التافه في أمر العامة» (1).

وهذا واقع مشاهد، فكثير ممن تصور بصورة العلم وتكلم عنه وليس أهلًا له، وكذا كثير ممن تكلم في أمور العامة ليس أهلًا لها، فالرويبضة والفواسق كثروا في عصرنا، والمستمعون لهم أكثر، كهمج رعاع، كما قسمهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق (2).

إن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر أن أمورًا جسامًا ستقع في مستقبل الأيام، تختل معها المفاهيم، وتنقلب معها الموازين، وتسير الأمور على خلاف القواعد والأصول، فالصادق يكذب والكاذب يُصدَّق، والأمين يخون والخائن يُؤتًمن، والصالح يهان، والفاجر يكرم، والعالم يُكمَّم والتافِهُ الرويبضة الذي لا قيمة له ولا وزن ولا علم يمكَّن، ومما يزيد المشكلة عمقًا ومساحة أن يكون هذا وأمثاله ممن يتناول أمور الجماهير فيساهم في تضليل الرأي العام، وتوجيه العامة إلى مستوى طرحه كتافه قاعد متقاعس، أو يدل على عجز الناس وجهلهم فوُسِّد أمرهم لرويبضة، وكان الأصل خلاف ذلك؛ ولذلك أطلق النبي صلى الله عليه وسلم على هذه السنين بأنها سنوات خداعات.

إن هذا الحديث النبوي العظيم لمما يدلل على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق دائمًا وأبدًا، فقد وقع الأمر على ما أخبر تمامًا، فهو غيب لا يعلم إلا من خلال الوحي.. وكما نرى ونسمع، فلقد فتحت على مصاريعها أبواب القنوات لكل عديم الفهم، قليل العلم، سقيم العقل، عليل القلب، بل ولكل زنديق يريد أن يطعن في دين الله تحت أي مسمى كان، وأخطر هذه المسميات ما يطلقون عليه زورًا اسم "تجديد أو تغيير الخطاب الديني"، وعملت معاول الهدم في تحطيم ثوابت الدين، وقواطع العلم، وأسس الشريعة، وأصوليات العقيدة، وكل ما كان يقينيًا عند المسلمين، بداية من مصادر التشريع وكتب العلم، والطعن في محتوياتها واتهام أصحابها، ثم التعريج على فقه الأئمة الأربعة، والطعن فيهم، والتصريح بسبهم ونسبتهم إلى الجهل والإرهاب والتحجر، وغيرها من الألفاظ القبيحة بقدر قبح قلوب قائليها وفحش ألسنتهم.

ثم بعد ذلك الطعن في السنة النبوية الكريمة باتخاذ الطعن في كتب الحديث المعتبرة والمعتمدة تكأة للوصول إلى ذلك كالطعن في البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وباقي الكتب الستة الشهيرة، والتهكم على أصحابها، الذين لم يسلموا من كل هؤلاء الحانقين على كل ما ينتسب إلى الدين.. وكان لا بد أن ينال القرآن الكريم حظًا من بذاءات أهل البذاءة، والمدخل أولًا إعادة النظر في فهم السابقين، ومحاولة فهمه فهمًا عصريًا حسب تطورات النظام العالمي الجديد، وهو الباب الذي يلجون منه للطعن، وبعد مرحلة الطعن المبطن تأتي مرحلة الطعن الظاهر فيوصف القرآن تارة بأن فيه آيات عنصرية، وتارة بأن فيه آيات تدعو إلى القتل والإرهاب، وتارة بأن فيه تناقضات، أو كما قال من لا خلاق لهم بأنه ناقص أو محرف.. والقصد تجريء الناس على القرآن وتهوين مقامه في قلوبهم.. حتى رب العزة سبحانه وتعالى شأنه وجل سلطانه لم يستطيعوا أن يكتموا ما في قلوبهم نحوه، فهم في الحقيقة زنادقة يلبسون للناس لبوس الناصحين.. ومخطئ من ظن يومًا أن للثعلب دينًا.

وتصدر الجهال لا يكون إلا بعد موت العلماء أو إقصاؤهم وإبعادهم عن التواصل مع الناس وتوجيههم إلى ما فيه رضا ربهم واتباع شريعته.

وهذا الإقصاء له طرق كثيرة شاهدناها كلها في هذا الزمان، ورأيناها رؤيا العيان.. فمن كان له عينان وقلب رأى، وأما من لم ير فإنما هو لعمى قلبه {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

فمن هذه الطرق:

الحبس والسجن، ومنها التهديد والتخويف، ومنها التضييق، ومنها النفي، ومنها القتل إن استدعى الأمر، ومنها إغلاق منافذ التواصل مع الجماهير، كإغلاق القنوات ومواقع التواصل الاجتماعية، والمنع من الخطابة والدروس ولقاء الناس.. ومنها وهو أظهرها على الإطلاق صرف الناس عن الدعاة والعلماء بشتى الطرق: كالطعن فيهم، وتشويه صورتهم، والافتراء عليهم، وتزهيد الناس في علمهم، واتهامهم بأقبح التهم، والتجريح والتقبيح، وإطلاق أبواق الإعلام المأجور عليهم يتسلطون على أعراضهم، ويتهمون أخلاقهم، ويسبونهم، ويتطاولون عليهم، كل ذلك لإقصائهم عن الحياة، وإسقاط هيبتهم عند الناس، لحملهم على الانزواء لمنع تأثيرهم في حياة العباد والبلاد.

إن ترؤس هؤلاء الأصاغر إضاعة للأمانة، مؤذن بقرب قيام الساعة، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سأله أعرابي: متى الساعة؟ قال عليه الصلاة والسلام: «فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة»، قال: وكيف إضاعتها؟ قال: «إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» (3).

يقول ابن حجر: إن إسناد الأمر إلى غير أهله إنما يكون عند غلبة الجهل ورفع العلم، وذلك من جملة الأشراط ومقتضاه أن العلم ما دام قائمًا ففي الأمر فسحة وكأن المصنف أشار إلى أن العلم إنما يؤخذ عن الأكابر (4).

وما حدثت الفتنة في الأمة ودبت الفرقة إلا حينما تصدر مثل هؤلاء الناس وقادوهم، وهذا ما حدث في الفتنة على عثمان رضي الله عنه، وهذا كان وصف الخارجين عليه المقدمين على قتله، فقد كانوا من الأعراب ومن سفهاء الناس وعامتهم.

ولما خرج سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى الخارجين على عثمان -وعثمان رضي الله عنه محصور- فرأى سعد رضي الله عنه رؤساءهم صفق بيديه أحدهما على الأخرى ثم استرجع ثم أظهر الكلام فقال: والله إن أمرًا هؤلاء رؤساؤه لأمر سوء (5).

قال تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 88].

لذلك يوصي أبو الدرداء رضي الله عنه هذه الوصية العظيمة فيقول: تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يذهب بأصحابه، العالم والمتعلم شريكان في الخير وسائر الناس لا خير فيهم، إن أغنى الناس رجل عالم افتقر إلى علمه فنفع من افتقر إليه، وإن استغنى عن علمه نفع نفسه بالعلم الذي وضع الله عز وجل عنده، فمالي أرى علماءكم يموتون وجهالكم لا يتعلمون، ولقد خشيت أن يذهب الأول ولا يتعلم الآخر، ولو أن العالم طلب العلم لازداد علمًا وما نقص العلم شيئًا، ولو أن الجاهل طلب العلم لوجد العلم قائمًا، فمالي أراكم شباعًا من الطعام جياعًا من العلم (6).

ومما يهم المسلم المعاصر لهذا الزمن، أن تكون له بينة لصفات من يؤخذ عنهم العلم، ومعرفة جلية لسمات أهله وأصحابه؛ لئلا يختلط عليه الحق بالباطل، والصواب بالخطأ، وليعبد الله على بصيرة وبينة، خصوصًا أن أحاديث صريحة أتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحذير ممن يتقمصون مسوح العلم وينطقون به، ومن أئمة الضلال الذين يحكمون بالجور والجهل، ومن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الأئمة المضلون» (7)، وحدث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» (8).

وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم قومًا يتدارءون، فقال: «إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضًا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم، فكلوه إلى عالمه» (9).

صفات من يؤخذ عنهم العلم:

لأجل هذا يتحتم على مبتغي طريق الحق، ومريد طوق النجاة وسبيل الفلاح أن يعرف صفات من يأخذ عنهم العلم، لئلا يضيع الطريق الشرعي، ويضل السبيل، وسأذكرها في عدة نقاط:

1- خشية الله تعالى:

وهي صفة لصيقة بأهل العلم الراسخين الربانيين، الذين يخشون ربهم، ويراقبونه في ما دق وكبر، جليلًا كان أو حقيرًا، فخشية ربهم ملازمة لهم، لا يحيدون عنها ولا يتحايلون عليها، بل هم لله وبالله وعلى الله يفضون له جميع أمورهم، ويتعلقون بحبال الرجاء والخشية منه، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، قال مجاهد: إنما العالم من خشي الله عز وجل، وقال مسروق: كفى بخشية الله علمًا وكفى بالاغترار جهلًا، فمن كان أعلم بالله كان أخشاهم له، قال الربيع بن أنس: من لم يخش الله فليس بعالم، وقال الشعبي: العالم من خاف الله (10).

كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رحمه الله: إن الفقه ليس بكثرة السرد وسعة الهذر وكثرة الرواية؛ وإنما الفقه خشية الله عز وجل (11).

عن أبي حيان، عن رجل قال: كان يقال: العلماء ثلاثة: عالم بالله عالم بأمر الله، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله؛ فالعالم بالله وبأمر الله: الذي يخشى الله ويعلم الحدود والفرائض، والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله: الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود ولا الفرائض، والعالم بأمر الله ليس بعالم بالله: الذي يعلم الحدود والفرائض، ولا يخشى الله عز وجل (12).

2- تلقي العلم عن الراسخين في العلم:

وذلك لئلا تكون له منهجية مبعثرة في قواعد الترجيح، ودلائل الاستنباط، وأن يكون تلقيه من أفواه العلماء وشفاههم، فيكون متقنًا للأحكام، ولهذا كان السلف الصالح كالإمام الشافعي يقول: من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام (13).

والراسخ حقيقته الثابت القدم في المشي، لا يتزلزل واستعير للتمكن من الوصف مثل العلم بحيث لا تغره الشبه، والراسخ في العلم بعيد عن التكلف وعن التعنت، فليس بينه وبين الحق حاجب، فهم يعرفون دلائل صدق الأنبياء ولا يسألونهم خوارق العادات (14).

فلا يعقل آيات الله، ولا يفقه أحكامها ويستنبط دلائلها إلا البارعون في العلم؛ كما قال تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، وكقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].

فأهل العلم هم أولى الناس باستنباط أحكام الدين وشرائعه، قال محمد بن سراقة البصري: حقيقة الفقه عندي: الاستنباط، قال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (15).

لهذا حثنا الله تعالى على سؤالهم إن أشكل علينا أمر شرعي، فقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]، أخرج الدارمي في سننه في مقدمته عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خذوا العلم قبل أن يذهب»، قالوا: وكيف يذهب العلم يا نبي الله، وفينا كتاب الله؟ قال: فغضب، ثم قال: «ثكلتكم أمهاتكم أولم تكن التوراة والإنجيل في بني إسرائيل، فلم يغنيا عنهم شيئًا؟ إن ذهاب العلم أن يذهب حملته، إن ذهاب العلم أن يذهب حملته» (16).

قال الإمام الشوكاني رحمه الله: إن إنصاف الرجل لا يتم حتى يأخذ كل فن عن أهله كائنًا ما كان؛ فإنه لو ذهب العالم الذي تأهل للاجتهاد يأخذ مثلًا الحديث عن أهله ثم يريد أن يأخذ ما يتعلق بتفسيره في اللغة عنهم، كان مخطئًا في أخذ المدلول اللغوي عنهم، وهكذا المعنى الإعرابي عنهم فإنه خطأ، ثم يؤكد الإمام الشوكاني هذه المنهجية المتزنة بقوله: فالعالم إذا ظفر بالحق من أبوابه، ودخل إلى الإنصاف بأقوى أسبابه، وأما إذا أخذ العلم عن غير أهله، ورجح ما يجده من الكلام لأهل العلم في فنون ليسوا من أهلها، فإنه يخبط ويخلط، ويأتي من الأقوال والترجيحات بما هو في أبعد درجات الإتقان وهو حقيق بذاك (17).

وكم من مدع للعلم، متعالم مع جهل، ينظر لنفسه نظر الكبر والغرور، فيظن أن جمع العلم يكون من قراءته للكتب فحسب، فلا حاجة ليقرأ العلم على أهله، ولا ليثني ركبه عند أهل العلم، تلقيا منهم ومذاكرة معهم، ومراجعة عليهم، ليعلو كعبه في العلم، ويعلم أنه "من البلية تشيخ الصحيفة" وقد كان أهل العلم ينهون عن نيل العلم من الكتب فحسب، بل لا بد من مقارنة ذلك بالحضور عند أهل العلم، والتلقي من الأشياخ، ليقوى باع الطالب في العلم، ويشتد عوده في الفهم، ويصلب مراسه لمعالجة مشكلات الكتب وما يكتنفها من مسائل غامضة.

قال كمال الدين الشمني: من يأخذ العلم عن شيخ مشافهة يكن من الزيف والتصحيف في حرم ومن يكن آخذًا للعلم من صحف فعلمه عند أهل العلم كالعدم قال الأوزاعي: كان هذا العلم شيئًا شريفًا؛ إذ كان من أفواه الرجال يتلاقونه ويتذاكرونه، فلما صار في الكتب ذهب نوره وصار إلى غير أهله.

وحين يتأمل المرء في بعض الكتب الصادرة، وما يجد فيها من فهم خاطئ لبعض نصوص الكتاب والسنة، وأقوال أهل العلم، يتيقن بأن الخطأ ليس في صياغة الشيخ في كتابه بدلالاته اللغوية، ومعانيه الكلامية، وإنما من الفهم القاصر لقارئ الكتاب، مما يجعله ينزلق في الفهم القاصر، كما قال ابن القيم: ما أكثر ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالأفهام القاصرة (18).

وصدق من قال:

وكم من عائب قولًا صحيحًا   وآفته من الفهم السقيم

ولا عجب أن ترى كثيرًا من المسائل التي وقعت بها أخطاء علمية، أدت فيما بعد لأن تكون أقوالًا تنسب لبعض المنتسبين للعلم، لتكون خلافًا يحكى أمد الدهر، وذلك لقلة الفهم، وضعف العلم، ولو سكت هؤلاء القوم ولم ينطقوا لكان ذلك بهم أحرى وأولى من أن يتكالبوا على التدريس والتعليم، وبضاعتهم في العلم مزجاة، ومما يحسن إيراده في هذا المقام ما قاله كلثوم العتابي حيث قال: لو سكت من لا يعلم لسقط الاختلاف (19)، وقال أبو حامد الغزالي: لو سكت من لا يعرف قل الاختلاف، ومن قصر باعه وضاق نظره عن كلام علماء الأمة والاطلاع عليه فماله وللتكلم فيما لا يدريه، والدخول فيما لا يعنيه، وحق مثل هذا أن يلزم السكوت(20).

ولهذا كان أهل العلم رحمهم الله جميعًا إذا سئلوا عن مسألة ولم يعرفوا لها جوابًا قالوا: الله أعلم، ولم يفذلكوا أو يكذلكوا، بل كانوا متسمين بالوضوح تجاه مستفتيهم، إن علموا حكم المسألة قالوا بها، وإن جهلوها قالوا لا نعرفها، بل كانوا لا يجزمون في فتاويهم -في بعض الأحيان- إن شعروا أن المسألة قد تحتمل أوجها متعددة، كما نقل عن الإمام مالك أنه في بعض الأحيان إن أفتى قال: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] (21)، ومما نقل عن بعض أهل العلم حين كانوا لا يعرفون حكم المسألة أو يجهلونها، ما نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: وأبردها على الكبد إذا سئل أحدكم عما لا يعلم، أن يقول: الله أعلم(22).

وشأن الزائغين عن الحق أن يتتبعوا ما تشابه من القرآن رغبة في إثارة الفتنة، ويؤوِّلوها حسب أهوائهم، وهذه الآيات لا يعلم تأويلها الحق إلا الله والذين تثبتوا في العلم وتمكنوا منه، وأولئك المتمكنون منه يقولون: إنا نوقن بأن ذلك من عند الله، لا نفرق في الإيمان بالقرآن بين محكمه ومتشابهه، وما يعقل ذلك إلا أصحاب العقول السليمة التي لا تخضع للهوى والشهوة (23).

3- ألا يكون من أصحاب تتبع الرخص، ومن المتساهلين في فتاويهم وتعليمهم:

والحقيقة أن أصحاب تتبع الرخص صاروا يستمرؤون هذه الخصلة وخاصة في هذا الزمان، بل صاروا يأتوننا بأسماء جديدة للفقه، فطورًا يقولون: نحن من دعاة (تطوير الفقه الإسلامي) وتارة يقولون: نحن أصحاب مدرسة (فقه التيسير والوسطية) وليتهم كانوا كذلك، فهناك فرق بين التيسير الذي هو سمة الفقهاء الراسخين، والتفريط الذي هو سمة المتساهلين، بيد أن التيسير والترخيص لا يؤخذ إلا من رجل عالم ثبت ثقة، وأما أن يؤخذ ذلك من كل أحد يدعي الاجتهاد والتعليم، فإن ذلك هو المرفوض قطعًا، وبما أن الرباني يرفض الغلو والتشديد، فهو كذلك يرفض الترخيص والتساهل من غير الثقات، لذا قال الإمام سفيان الثوري رحمه الله: إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة فأما التشدد فيحسنه كل أحد (24).

ففي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170]، تعريض بالذين أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه ثم هم لا يتمسكون بالكتاب الذي درسوه، ولا يعملون به، ولا يحكمونه في تصوراتهم وحركاتهم ولا في سلوكهم وحياتهم.. غير أن الآية تبقى- من وراء ذلك التعريض- مطلقة، تعطي مدلولها كاملًا، لكل جيل ولكل حالة.

إن الصيغة اللفظية: {يُمَسِّكُونَ} تصور مدلولًا يكاد يحس ويرى، إنها صورة القبض على الكتاب بقوة وجد وصرامة، الصورة التي يحب الله أن يؤخذ بها كتابه وما فيه، في غير تعنت ولا تنطع ولا تزمت.

فالجد والقوة والصرامة شيء والتعنت والتنطع والتزمت شيء آخر، إن الجد والقوة والصرامة لا تنافي اليسر ولكنها تنافي التميع! ولا تنافي سعة الأفق ولكنها تنافي الاستهتار! ولا تنافي مراعاة الواقع ولكنها تنافي أن يكون «الواقع» هو الحكم في شريعة الله! فهو الذي يجب أن يظل محكومًا بشريعة الله! والتمسك بالكتاب في جد وقوة وصرامة وإقامة الصلاة- أي شعائر العبادة- هما طرفا المنهج الرباني لصلاح الحياة، والتمسك بالكتاب في هذه العبارة مقرونًا إلى الشعائر يعني مدلولًا معينًا، إذ يعني تحكيم هذا الكتاب في حياة الناس لإصلاح هذه الحياة، مع إقامة شعائر العبادة لإصلاح قلوب الناس، فهما طرفان للمنهج الذي تصلح به الحياة والنفوس، ولا تصلح بسواه، والإشارة إلى الإصلاح في الآية: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} (25).

فليفرق بين أصحاب مدرسة التيسير المتبعين لضوابط الشرع، وبين أولي التساهل والتفريط والتمييع وعلى هذا فقس، من أنصار تطويع الفتوى للواقع، ولي أعناقها لتواكب هذا العصر وتوازن ميوله واتجاهاته خشية أن ينبزوا بأنهم متشددون متنطعون.

وآفة رجال الدين حين يفسدون، أن يصبحوا أداة طيعة لتزييف الحقائق باسم أنهم رجال الدين، وهذه الحال التي يذكرها القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب، نعرفها نحن جيدًا في زماننا هذا، فهم كانوا يؤولون نصوص كتابهم، ويلوونها ليًا، ليصلوا منها إلى مقررات معينة، يزعمون أنها مدلول هذه النصوص، وأنها تمثل ما أراده الله منها، بينما هذه المقررات تصادم حقيقة دين الله في أساسها، معتمدين على أن كثرة السامعين لا تستطيع التفرقة بين حقيقة الدين ومدلولات هذه النصوص الحقيقية، وبين تلك المقررات المفتعلة المكذوبة التي يلجئون إليها النصوص إلجاء.

ونحن اليوم نعرف هذا النموذج جيدًا في بعض الرجال الذين ينسبون إلى الدين ظلمًا! الذين يحترفون الدين، ويسخرونه في تلبية الأهواء كلها ويحملون النصوص ويجرون بها وراء هذه الأهواء حيثما لاح لهم أن هناك مصلحة تتحقق، وأن هناك عرضًا من أعراض هذه الحياة الدنيا يحصل! يحملون هذه النصوص ويلهثون بها وراء تلك الأهواء، ويلوون أعناق هذه النصوص ليًا لتوافق هذه الأهواء السائدة ويحرفون الكلم عن مواضعه ليوافقوا بينه وبين اتجاهات تصادم هذا الدين وحقائقه الأساسية، ويبذلون جهدا لاهثًا في التمحل وتصيد أدنى ملابسة لفظية ليوافقوا بين مدلول آية قرآنية وهوى من الأهواء السائدة التي يهمهم تمليقها (26).

ومن الوسائل التي يحاول أدعياء تطوير الفكر الإسلامي أن يطرحوها؛ اتخاذ التلفيق الفقهي وسيلة لمعايشة ضغوط الواقع، والمقصود بالتلفيق: ألا يلتزم المفتي أو مستنبط الحكم مذهبًا معينًا في فتاواه وفي حكمه، بل يحاول أن يأخذ برخص الفقهاء، ونوادر العلماء، وتيسيرات المتقدمين، لتكون مناسبة لفقه القرن الواحد والعشرين، وهو قرن اندماج الثقافات مع الآخر الغربي الكافر، ليكون ذلك وسيلة على إظهار الإسلام بروح المعاصرة والمسايرة.

ولقد كان علماؤنا الأجلاء يحرمون استفتاء المفتي المتساهل، كما ذكر الإمام ابن مفلح قائلًا: يحرم تساهل المفتي، وتقليد معروف به (27)، وكان الإمام أيوب السختياني رحمه الله يقول: يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان (28)، ولهذا شكا بعضهم إلى الفقيه ابن حجر الهيتمي أحد قضاة المسلمين؛ لأنه يشدد على الناس فلا يحكم إلا بالقول الصحيح، ولا يسلك بهم مسلك التخفيف والترخيص فأجاب رحمه الله بقوله: ما ذكر عن هذا القاضي إنما يعد من محاسنه لا من مساوئه، فجزاه الله تعالى عن دينه وأمانته خيرًا، فإنه عديم النظر إلى الآن، ثم قال: فقيام هذا القاضي حينئذ بقوانين مذهبه، وعدم التفاته إلى الترخيص للناس بما لا تقتضيه قواعد إمامه يدل على صلاحه ونجاحه وفلاحه (29).

ولهذا فإن المنتسبين لأصحاب مدرسة فقه التيسير -أي التساهل والتمييع لقضايا الشريعة-المدعين أنهم أولو الوسطية والاعتدال، فإنك واجد في كتاباتهم ودروسهم وفتاويهم عجائب من الأقاويل، التي يرون أنهم بها قد وافقوا بين الأصالة الفقهية والمعاصرة الزمانية، ومن ذلك ما قاله الشيخ مصطفى المراغي لأعضاء لجنة وضع لائحة الأصول للأحوال الشخصية وكان رئيسها: ضعوا من المواد ما يبدوا لكم أنه موافق الزمان والمكان، وأنا لا يعوزني بعد ذلك أن آتيكم بنص من المذاهب الإسلامية يطابق ما وضعتم(30).

فإذا ما الشيب في أذقانهم ملئوا الآفاق ظلمًا وبوارًا، وقد كان أهل العلم يحذرون أشد التحذير من الأخذ برخص العلماء وزلاتهم، وأن تجعل دينًا يدين العبد بها ربه، فإن ذلك علامة على ضعف الإيمان، وقلة الديانة، قال الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام (31).

4- أن يكون له باع طويل في تلقي العلم والاجتهاد في تحصيله:

إن ضرورة التأصيل العلمي، وقوة التمكن الشرعي، له أثره البالغ -ولا شك- في أهلية العالم أو المعلم وقت تعليمه وكتابته وإفتائه، ذلك أنه يعطي المتعلم أو المستفتي اطمئنانًا لمن يسأله، والقارئ ارتياحًا لما يكتبه الداعية المعلم، وقد كان أهل العلم الربانيين السابقين منهم واللاحقين يطلبون العلم، ويجتهدون في نيل مرامه، من المهد إلى اللحد، كما قال الإمام أحمد، فكانوا لا يفارقون كواغد العلم، ولا أوراق الشريعة، فهي معهم في حلهم وترحالهم، بل لا يتركون معلميهم وأساتذتهم في طلب العلم عليهم بثني الركب عندهم، ولك أن تعلم أن إمامًا كابن الجوزي طلب علم القراءات وقد كان باقعة في العلم، علامة في الإدراك والفهم، مشهورًا بين الأنام، ومع ذلك يطلب هذا العلم مع ابنه الصغير وهو في سن السبعين، ولم يكن كبر عمره، وشرف رسوخه في العلم، حائلًا بينه وبين طلب العلم، وملازمة أخذه وإدراكه، والعيش معه ليل نهار، حفظًا واطلاعًا وبحثًا ومذاكرة وفهمًا وتعليمًا وإفتاء، وقد قال علماؤنا بأنه: من لم يتقن الأصول حرم الوصول.

إلا أن القضية وللأسف اختلفت وخاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه المستعجلون للتدريس، والمتزببون قبل أن يتحصرموا، والمدعون للعلم والعلم بريء منهم، فعلى هذا لا يكتفى بمجرد انتسابه إلى العلم، ولو بمنصب تدريس أو غيره، لا سيما في هذا الزمان الذي غلب فيه الجهل، وقل فيه طلب العلم، وتصدى فيه جهلة الطلبة للقضاء والفتيا، فتجد بعضهم يقضي ويفتي وهو لا يحسن عبارة الكتاب، ولا يعلم صورة المسألة، بل لو طولب بإحضار تلك المسألة وهي في الكتاب لم يهتد إلى موضعها؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون:

لقد هزلت حتى بدا من هزالها        كلاها وحتى سامها كل مفلس (32).

حتى قال الأستاذ: مالك بن نبي رحمه الله: والحقيقة أننا قبل خمسين عامًا كنا نعرف مرضًا واحدًا يمكن علاجه، هو الجهل والأمية، ولكننا اليوم أصبحنا نرى مرضًا جديدًا مستعصيًا هو (التعالم)، وإن شئت فقل: الحرفية في التعلم؛ والصعوبة كل الصعوبة في مداواته، وهكذا فقد أتيح لجيلنا أن يرى خلال النصف الأخير من هذا القرن ظهور نموذجين من أفراد في مجتمعنا: حامل المرقعات ذي الثياب البالية، وحامل اللافتات العلمية (33).

ورحم الله ابن رشد إذ قال: كان العلم في الصدور واليوم صار في الثياب (34).

ولله در الإمام ابن تيمية حين نقل عن بعضهم: وقد قال بعض الناس: أكثر ما يفسد الدنيا نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي، هذا يفسد الأديان وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان (35).

5- أن يتلقى العلم ممن يقدر العلماء ويحترمهم:

المسلم الذي يهوى الحق ويطلبه، فإنه لابد أن تكون لديه علامة لحب أهل العلم وإنزالهم منزلتهم، واحترام علمهم، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: «ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه» (36).

بينما تجد عند السابقين من طلاب العلم قمة احترامهم لعلمائهم، فهذا لا يطرق الباب على شيخه إلا بأطراف أصابعه، وهذا يهاب من النظر إليه إجلالًا له واحترامًا، وآخر يخشى أن يزعج شيخه بتصفح الأوراق أمامه والانشغال عن درسه بها، وهذا ينتظر شيخه من المساء إلى الصباح وقد سفته الرياح حتى يفتح الشيخ له بابه، وآخر لا يأتي عند شيخه إلا ويقبل يده ويدعو له بالخير، وآخر لا يصلي صلاة إلا ويدعو لشيخه بالخير والجنة، ورحم الله ربيعة بن أبي عبد الرحمن إذ قال: الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم (37).

أما الآن فتجد أن القوم المتعالمين إذا تعلم أحدهم مسألة أو عشر مسائل، بدأ يكتب في الصحف والمجلات والجرائد، وينشر علمه الغزير، فيخطئ الأئمة المجتهدين، ويستدرك عليهم ما يظنه من زلاتهم، بدعوى الحجة الزائفة: (هم رجال ونحن رجال).

ولا شك أن الاحتجاج بهذه المقولة حجة ساقطة لوجوه:

الوجه الأول: أن الاحتجاج بهذه الكلمة غير صحيح؛ لأن الذي قالها الإمام أبو حنيفة، كما نقل مقولته عنه ابن حزم رحمه الله: ما جاء عن الله تعالى فعلى الرأس والعينين، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعًا وطاعة، وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم تخيرنا من أقوالهم، ولم نخرج عنهم، وما جاء من التابعين فهم رجال ونحن رجال (38)، فأبو حنيفة حين قال هذه الكلمة، فقد قالها لأنه يصنف من التابعين، حيث رأى أنس بن مالك، واجتمع مع جمهرة من التابعين الأكابر، فيصدق عليه أنه رجل وهم رجال لأنه هو وهم من التابعين، ومن لنا بعلم أبي حنيفة في هذا العصر، لنقول فيه: هو رجل وهم رجال.

الوجه الثاني: أن هناك فرقًا عظيمًا بين هؤلاء الرجال العصريين، ومن قبلهم من الرجال السابقين، لأن التابعين هم من القرون المفضلة، التي امتدحها رسول الله؛ وهو ما أدى بابن رجب إلى أن يؤلف كتابًا بعنوان: (فضل علم السلف على علم الخلف) ولذا فإن كلام السلف قليل كثير البركة، وكلام الخلف كثير قليل البركة.

الوجه الثالث: أن من يدعي أنه رجل ينبغي عليه أن يعرف قدره وقدر الرجال الذين سبقوه، وإذا كان أبو عمرو بن العلاء يقول: ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال (39)، مع أن أبي عمرو يعد في عرف أهل السير شيخ القراء والعربية.

فهؤلاء المدعون للعلم والشيخوخة في طلبه، لم يعرفوا قدر علمائهم، وإذا كانوا يعدون أنفسهم أنهم رجال، فإن الرجال يحترم بعضهم بعضًا، وأولى بهؤلاء المدعين للرجولة أن يقال في حقهم ما قاله الشيخ عبد الرزاق عفيفي لأحدهم حين ادعى أمامه تلك الدعوى قائلًا له: نعم ... هم رجال... وأنت دجال، ورحم الله مجاهدًا حين قال: ذهب العلماء فلم يبق إلا المتكلمون، والمجتهد فيكم كاللاعب فيمن كان قبلكم (40)، فالله المستعان.

إن مريد الحق، ومبتغي سبل الهدى، ينبغي أن يحتاط في الأخذ لدينه، وأن يعرف من يؤخذ عنهم العلم، وما صفاتهم، وقد كان علماؤنا الأجلاء يعنون بهذه القضية أشد الاعتناء؛ فقد قال الإمام محمد بن سيرين رحمه الله: إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم (41).

فليس كل من لبس لباس العلم يؤخذ عنه، وليس كل من صدره الإعلام والفضائيات والصحف يظن أنه ذلك الرجل الخريت الذي فقه دين الله، ورضي بمقتضاه، وألم بفحواه، وليس كل من كتب مقالًا أو بحث مسألة شرعية أو كتب كتابًا يعد عالمًا أو طالبًا للعلم، أو مؤهلًا لأن يؤخذ عنه العلم، ويكفي أن أئمتنا قالوا: ليس العلم بكثرة الرواية والدراية، ولكنه نور يقذفه الله في قلب المؤمن الموفق، مصداقًا لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ} [البقرة: 282].

قال الإمام ابن القيم:

والعلم يدخل قلب كل موفق       من غير بواب ولا استئذان

ويرده المحروم من خذلانه      لا تشقنا اللهم بالخذلان (42).

فاعرف يا ابن الإسلام دينك، واختر لنفسك عالمًا متفقهًا في دين الله تنهل منه العلم، وتأخذ عنه الفتوى، وإياك ومشايخ السوء؛ فعنهم ابتعد، ولهم خالف، وعلى آرائهم فاضرب، متأسيًا بقول العربي الأصيل: ليس ذا عشك فادرجي (43).

فعلم الجرح والتعديل يجب ألا نقصره على رواة الحديث ونقلته؛ بل يجب علينا أن نعمل به في كل المجالات التي تهم الأمة الإسلامية، فيعرف ما للرجل من حق وما عليه من مثالب وأخطاء، وحينئذ لا نتخبط في أحكامنا على الرجال، وكذلك لا تكثر أمامنا المفاجآت والنكسات وما أكثر هذه النكسات والمفاجآت التي أصابت الحركات الإسلامية في هذا العصر.

فلا بد من استعمال هذا العلم بحكمة ودراية فيجرح الرجل أو يعدل بنزاهة وأمانة، ولا نطلق للعاطفة العنان فنشرق ونغرب، فتجد هذا الرجل اليوم قائدًا بطلًا وعالمًا فذًا، ونجده بعد أيام أو شهور عميلًا، وخائنًا، ولذلك لم يكن في أيام ازدهار الدولة الإسلامية ورقيها لم يكن هناك مجال للرويبضات، ولم تصعقهم المفاجآت كما هي حالنا اليوم نتيجة لوعيهم وحرصهم وعملهم بهذا العلم من بعد توفيق الله لهم (44).

-------------

(1) أخرجه أحمد (7912).

(2) جامع بيان العلم وفضله (2/ 985).

(3) أخرجه البخاري (59).

(4) فتح الباري (1/ 143).

(5) الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 72).

(6) جامع بيان العلم لابن عبد البر (1/ 602).

(7) أخرجه أحمد (27485).

(8) أخرجه البخاري (100)، ومسلم (2673).

(9) أخرجه أحمد (6741).

(10) فتح القدير للشوكاني (4/ 399).

(11) إبطال الحيل لابن بطة (ص: 18).

(12) تفسير ابن كثير (6/ 545).

(13) تذكرة السامع والمتكلم (ص: 83).

(14) التحرير والتنوير (6/ 28).

(15) المنثور في القواعد (1/ 67).

(16) أخرجه الدارمي (246).

(17) أدب الطلب ومنتهى الأرب (ص: 76).

(18) مدارج السالكين (ص: 431).

(19) معجم الأدباء (5/ 19).

(20) الحاوي للفتاوى (ص: 116).

(21) جامع بيان العلم وفضله (ص: 146).

(22) تعظيم الفتيا لابن الجوزي (ص: 81).

(23) المنتخب في تفسير القرآن الكريم (ص: 71).

(24) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/ 784).

(25) في ظلال القرآن (3/ 1388).

(26) في ظلال القرآن (1/ 419).

(27) التقرير (3/ 351) بواسطة: زجر الفقهاء عن تتبع رخص الفقهاء (ص: 66).

(28) إعلام الموقعين (4/ 177).

(29) الفتاوى الكبرى الفقهية (4/ 34).

(30) تراجم الأعلام المعاصرين لأنور الجندي (ص: 48).

(31) السير (ص: 15).

(32) رسالة في الاجتهاد والتقليد (ص: 48- 49).

(33) شروط النهضة (ص: 91).

(34) التعالم للشيخ بكر أبو زيد (ص: 35).

(35) مجموع الفتاوى (5/ 118).

(36) أخرجه أحمد (22755).

(37) شرح ابن أبي العز للطحاوية (1/ 15).

(38) الإحكام لابن حزم (4/ 573).

(39) سير أعلام النبلاء (6/ 47).

(40) أخرجه أبو خيثمة في كتاب العلم (ص: 66).

(41) شرح مسلم للنووي (1/ 84).

(42) نونية ابن القيم (ص: 165).

(43) انظروا عمن تأخذون دينكم/ خباب بن مروان الحمد.

(44) عندما ينطق الرويبضة/ مجلة البيان (العدد: 18).