قواعد ضرورية في عملية التربية
إن التربية هي المقصد الأسمى من بعثة الرسل عامة، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
وقال تعالى، حاكيًا دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [البقرة:129].
إن التغيير المنشود للأمة يستلزم تربية أفرادها تربية صحيحة متكاملة، والتربية تحتاج إلى استمرارية ممارسة معاني الإسلام، من خلال جو تربوي تتم فيه المعايشة، والتعاهد، وبث الروح، وضبط الفهم، وتوجيه الجهد، واستنهاض الهمم، هكذا فعل محمد صلى الله عليه وسلم وهو يبني الأمة الجديدة، وتأمل قوله تعالى وهو يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم على تربية أصحابه وتعاهدهم، ودوام توجيههم، وذلك في المرحلتين المكية والمدينة، ففي مكة كان يمارس ذلك من خلال تواجده المستمر بينهم، ولقائه الدائم بهم في دار الأرقم بن أبي الأرقم عند الصفا، وفي المدينة استمر في التربية والتعليم من خلال المسجد، ومن خلال التواجد المستمر بين أصحابه ومعايشتهم ومتابعة أحوالهم.
لابد إذن من أن يقوم الدعاة بالوجود بين الناس، وممارسة معاني الإسلام معهم؛ حتى يتم التغيير المنشود، ولقد كان هذا هو دأب الرسل عليهم الصلاة والسلام، تأمل قوله تعالى في قصة هود عليه السلام: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [هود:58].
وفي قصة شعيب عليه السلام: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف:88]، وفي قصة موسى عليه السلام: {قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [غافر:25].
فالملاحظ في هذه الآيات قوله تعالى عن أتباع كل رسول: {الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}، ولم يقل: «آمنوا به»، فـ (مع) تعطي دلالة على المعية والصحبة والمعايشة، و(به) لا تعطي ذلك، وهذا يحمل في طياته بعض الدلالات على أن كل رسول لله كان يقوم على تربية من يؤمن بالدعوة، ولا يكتفي بتعليمهم فقط(1).
والتربية تقوم على مجموعة من المسلمات والفرضيات التي تؤثر عليها وتتأثر بها، كما تتسم التربية بأنها عملية إنسانية، تختص بالإنسان وحده دون سائر المخلوقات؛ لما ميزه الله بالعقل والذكاء، والقدرة على إدارك العلاقات، واستخلاص النتائج وتأويلها, والتربية تقوم على علم حقيقي، وتستند إلى عديد من الأصول والقواعد أجمعت عليها معظم البحوث والدراسات التربوية.
1- الشمول والاتزان:
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].
ونعني بالشمول: تقدم الفرد في العلم والسلوك معًا، ونعني بالاتزان: عدم تضخيم جانب أو تضخم جانب على حساب الآخر.
وينبغي مراعاة الشمول كذلك من ناحية العلم الشرعي، والسلوك، والواقع الذي يعيشه الإنسان(2).
مفهوم التربية الشمولية:
هي تربية شاملة متوازنة متكاملة لشخصية المتربي باعتباره وحدة متكاملة، يتفاعل مع المربي والموقف والبيئة الاجتماعية والمهارات المطلوبة؛ بحيث يحقق النمو الاجتماعي، ويكتسب المعارف والمهارات والاتجاهات والقيم المناسبة، وهي تربية مجتمعية، الهدف الأساسي منها أن يدرك المتربي أن أية قضية أو ظاهرة هي نتيجة تقاطع أو تفاعل قضايا ومظاهر وعناصر عديدة، وأنه هو نفسه جزء من عالم تتشابك فيه القضايا المختلفة في كل أبعادها.
وإذا كان الهدف من العملية التربوية هو قيام المربي بعمليات ثلاث مع المربَّى (تخلية- تحلية- تنمية) فإن نجاح ذلك يتوقف على مراعاة المربي لمكونات النفس البشرية الثلاثة (العقل- الروح- الجسد)، ولكل واحد من هذه الثلاثة حالةُ صحةٍ وحالةُ مرضٍ، فتأتي التخلية للتخلص من الحالة المرضية، وتأتي التحلية والتنمية للحالة الصحية، ولأجل ذلك كانت الأهداف التربوية ذات محاور ومجالات ثلاثة (المعرفية- الوجدانية- المهارية)؛ بحيث تخدم الأهداف المعرفية الجانب العقلي في الإنسان، وتخدم الأهداف الوجدانية الجانب الروحي، وتخدم الأهداف المهارية السلوكية الجانب الجسدي، وبالتالي تتكامل التربية، ويتحقق الشمول التربوي في المتربي.
ولذلك رأينا سيدنا عمر بن الخطاب يمكث أكثر من تسع سنوات في حفظ سورة البقرة، ليس ضعفًا في حفظ لديه، ولكن لأنه كان لا يتجاوز العشر آيات إلى غيرهن حتى يعمل بهن، وفي مثال واضح على تحقق الأهداف الثلاثة، جنبًا إلى جنب في العملية التربوية، تأتينا وصية أم سفيان الثوري لولدها قائلة:
1-يا بني احفظ العشر كلمات (المجال المعرفي).
2-وانظر إلى نفسك (المجال الوجداني).
3-هل زادت في خشيتك وحلمك ووقارك (المجال السلوكي).
4-فإن لم تفعل فاعلم أنها تضرُّك (معيار الإنجاز، وهو الهدف المطلوب تحقيقه).
ومن هنا لا بد أن يدرك المربي أن تحقيق ثلاثية الأهداف التربوية متداخل، وأنها متكاملة، بمعنى أنها تتمثَّل في فهم وإدراك واقتناع عقلي لدى المربَّى، والذي يثمر تفاعلًا قلبيًّا واختلاجًا في الوجدان، ثم يفيض أثرها على الجوارح بعمل لا يتوقف.
والمربي الفعَّال يدرك من ناحية أخرى أن قاعدة «ليس بالإمكان أفضل مما كان»لا مكان لها في العمل التربوي، فإن التخلُّق بهذه الثلاث (المعرفية- الوجدانية- المهارية) ليس مستحيلًا؛ بل يمكن أن يتحقَّق من خلال المحضن والمناخ والبيئة التربوية، فالأخلاق يمكن أن يُفطَر عليها الإنسان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة» (3)، وقوله لأشجّ عبد قيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة»(4).
كما يمكن أن تُكتسب بالتدريب والتربية والتعوُّد عليها، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنما العلم بالتعلُّم، وإنما الحلم بالتحلُّم، ومن يتحرَّ الخيرَ يُعطَه، ومن يتقِ الشرَّ يوقه»(5)، وهذا ما يجب أن يستشعره المربي أثناء قيامه بعملية التربية، وليدرك أن التدرج البطيء، والتربية المتأنية، والرفق بالمربَّى سيحقق فيه المستهدفات التربوية، ويكسبه الأخلاق، وأن تكون عينه دائمًا على تحقيق الثلاثية (المعرفية والوجدانية والمهارية) جنبًا إلى جنب(6).
فالتربية الإسلامية ترفض النظرة الأحادية أو الثنائية إلى الطبيعة الإنسانية، التي تقوم على التمييز بين العقل والجسم، وسمو العقل على الجسم، وإنما هي تنظر إلى الإنسان نظرة متكاملة، تشمل كل جوانب الشخصية، فهي تربية للجسم، وتربية للنفس والعقل معًا، ولا شك أن كل جانب من هذه الجوانب يؤثر في الآخر ويتأثر به، وقديمًا قالوا: العقل السليم في الجسم السليم، كما أن في الجسم مضغة إذا صحت صح الجسم، وإذا فسدت فسد الجسم ألا وهي القلب.
والجسم هو مطية النفس والعقل في أداء الواجبات وتنفيذ أوامر الشرع، ولأهمية الجسم في التربية الإسلامية أمرنا الإسلام بالعناية بصحتنا وأجسامنا «إن لبدنك عليك حقًا»، فهناك حق البدن على صاحبه، وجعل طهارة الجسم شرطًا للعبادة، كما أمرنا أن نجمل مظهرنا بنظيف الثياب، وأن نأخذ زينتنا عند كل مسجد، وتخاطب التربية الإسلامية حواس الإنسان وقواه، وتحتكم إليها: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
والتربية الإسلامية تربية للعقل؛ لأنها تخاطب العقل وتحتكم إليه، والإسلام دين العقل والنظر والتفكير والتأمل، ويحتل العقل في الإسلام مكانًا هامًا، قَلَّ أن نجد له نظيرًا في غيره من الشرائع، فهو أساس التكليف والاختيار والحساب، واعتبرت المعرفة والعلم، وهو غذاء العقل، أساس التفاضل بين الناس.
والتفكير، وهو وظيفة العقل، فريضة إسلامية، وهو ما حدا بمؤلف العبقريات الإسلامية، عباس العقاد، أن يجعله عنوانًا لكتاب من كتبه الخالدة، والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تحث على إعمال العقل والفكر والنظر والتأمل، ووزن الأمور بميزان المنطق، ونبذ ما يتنافى معه من خرافات وأباطيل وأوهام، وقد ذم الله في كتابه العزيز من يسمع القرآن ولا يفقه معناه ولا يتدبره، ومدح من يسمعه ويفقهه، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
والتربية الإسلامية تربية نفسية، لأنها تخاطب عاطفة الإنسان ووجدانه وقلبه وضميره، وتحتكم إليها، أمرنا ديننا بأن نربي نفوسنا على الفضيلة والخير وحب الناس، والتجرد من الأنانية وحب الذات، وجعل أساس الحساب على الأعمال ما استقر في النفس لا بما ظهر من السلوك، وأمرنا ديننا بالتعفف، وعزة النفس، ورياضتها، وتدريبها، والتحكم فيها.
إن التربية الإسلامية تربية تحررية؛ لأنها تحرر العقل من التعصب الأعمى والتزمت، أو الانغلاق وضيق الأفق والإيمان بالأوهام والأساطير، كما أنها تحرر النفس من الخوف والعبودية والضعف، فالمسلم القوي خير من المسلم الضعيف.
وتحررها أيضًا من الخبث والدنس واللؤم وكل ما يشينها، وهي أيضًا تحرر الجسم من كل ما يدنسه ويعيبه، وتقيمه على الطهارة والنظافة، والعناية والاهتمام به، كما تحرره من الخضوع للذات والشهوات(7).
- أما الاتزان: فمعني به عدم تضخيم جانب على حساب آخر.
فعقل المسلم بحاجة إلى تغذيته بالمعرفة النافعة حتى يكتمل نموه، وتتفتح نوافذه، وتتسع مداركه، وقلبه بحاجة إلى إيمان متجدد حتى يستضيء وينفتح، ويصبح قلبًا سليمًا، ونفسه بحاجة إلى ترويض وتزكية؛ حتى يسلس قيادها وارتداؤها رداء العبودية لله عز وجل.
أما حركة المسلم فهي بحاجة إلى توجيه مستمر؛ حتى يكون له أثر نافع في الحياة، وحتى يحقق مراد ربه من وجوده كمسلم يحمل طوق النجاة للبشرية جمعاء.
هذه الأمور الأربعة لا يكفي لتحقيقها اهتمام لحظي، أو إمداد عابر؛ بل لا بد من دوام الإمداد والرعاية حتى يظهر الأثر المطلوب(8).
ومن واقعية التربية الإسلامية التوسط بين أمور الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77].