logo

التخطيط الاستراتيجي للدعوة


بتاريخ : الأحد ، 7 رمضان ، 1440 الموافق 12 مايو 2019
بقلم : تيار الاصلاح
التخطيط الاستراتيجي للدعوة

يكثر الكلام في عصرنا على الاستراتيجية والتكتيك، والمراد بالاستراتيجية الموقف الأحكم في قضية ما على ضوء النظرة الشاملة والبعيدة المدى، والمراد بالتكتيك الحركة الآنية التي تناسب المقام، والقائد الناجح هو الذي يدرك الموقف الاستراتيجي الأجود، ويتحرك حركة آنية مناسبة على ضوء ذلك، ومن فاته إدراك الموقف الاستراتيجي الأحكم أو التكتيك المناسب الأسلم في موقف ما خسر أو فشل، وكثيرًا ما يسقط قادة في التكتيك، أو في الاستراتيجية، وبعض القادة تطريهم النجاحات الجزئية فيسقطون في النهاية لتفضيلهم ما هو تكتيكي على ما هو استراتيجي(1).

ويعرف البعض الاستراتيجية في العلوم الإدارية الحديثة بأنها: عملية اتخاذ القرارات بناءً على معلومات أو خبرات، ووضع الأهداف والاستراتيجيات والبرامج الزمنية، والتأكد من تنفيذ الخطط والبرامج المحددة وفق الأهداف بعيدة المدى(2)

ولقد كان من نتائج غياب البعد الزمني في تفكير الدعاة:

1- الابتعاد عن الأعمال المنتجة العميقة الأثر التي تحتاج إلى وقت وجهد للقيام بها، ولا تظهر آثارها في الزمن القريب، والعناية أكثر بالأعمال سريعة الأثر وقريبة النتائج، وهي مهما علا شأنها لا يسوغ أن تكون بحال هي الميدان الوحيد الذي يفكر فيه الدعاة.

2- غياب الرؤية البعيدة والنظر الاستراتيجي العميق للواقع، وعدم دراسة المتغيرات التي تحكمه واتجاهاتها؛ مما يوقع المجتمعات الإسلامية أمام المفاجآت، ويحرمها من التوقع المسبق للمشكلات، ومن ثم الإعداد لها ومواجهتها، وذلك واجب ينبغي أن يقوم بأعبائه الدعاة إلى الله عز وجل.

3- التسرع في التقويم، والحكم على كثير من الجهود الدعوية التي ربما لا تظهر آثارها في الزمن القريب المنظور، وترتب على ذلك اعتبار الابتلاءات التي تصيب الدعوة دلائل فشل وإخفاق، وافتراض ثبات الأوضاع القائمة بكل متغيراتها وظروفها.

إننا اليوم بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في طريقة تفكيرنا، وإعطاء الأمور ما تستحقه من الوقت؛ مما يؤمل معه أن تنتقل الدعوة إلى مواقع ومساحات كانت قد حرمت منها، وأن تتسع النظرة ويبعد الأفق(3).

والحركة الإسلامية المعاصرة قد مرت بتجارب عديدة، وخاضت حلقات من الصراع بين الحق والباطل، ومع كل ما عانته من غربة واضطهاد، وعالجته من مكر وآلام، عبر أحداث جسام، وظروف عصيبة، فإن الله كتب لها البقاء والمضي، حتى وإن تعثرت خطواتها في ثنيات الطريق ومعتركاته، إلا أنها قائمة موجودة بالفعل.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن وبقوة: هل استفادت الحركة الإسلامية من تجاربها السابقة المؤلمة؟ وهل اكتسبت مهارات التوقع عبر رصيد التجارب ومعطيات الواقع؟ بل هل أثر ذلك على خططها المستقبلية واستشرافها للمستقبل؟ وهل كان ذلك بالسلب أم بالإيجاب؟

قال ابن سعد في طبقاته: «فلما كان شهر ربيع الأول سنة سبع من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي كتابًا يدعوه فيه إلى الإسلام، وبعث به مع عمرو بن أمية الضمري، فلما قُرِئ عليه الكتاب أسلم، وقال: (لو قدرت أن آتيه لأتيته)، وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، وكانت فيمن هاجر إلى أرض الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش، فتنصر هناك ومات، فزوجه النجاشي إياها وأصدق عنه أربعمائة دينار، وكان الذي ولي تزويجها خالد بن سعيد بن العاص، وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه من بقي عنده من أصحابه ويحملهم، ففعل وحملهم في سفينتين مع عمرو بن أمية الضمري، فأرسلوا بهم إلى ساحل (بولا)، ثم تكاروا الظهر، حتى قدموا المدينة، فيجدون رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فشخصوا إليه، فوجدوه قد فتح خيبر، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يدخلوهم في سُهْمَانهم ففعلوا»(4).

فالناظر في قصة الهجرة إلى الحبشة بشيء من التأمل يدرك هذا التخطيط البعيد والتفكير العميق في المنهج النبوي؛ حيث أذن النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه بالهجرة، وظلوا في الحبشة حتى قدموا عليه بعد صلح الحديبية، وطول هذه الفترة لم يكن لهم من المناسب أن يرجعوا إلى المدينة، ويتركوا هذا البلد التي من الممكن أن تكون ملاذًا للمؤمنين إذا اشتدت بهم الخطوب، وتبدلت بهم الأحوال.

إنه لموقف يدل على بعد النظر والاحتياط الواجب في توفير بدائل متطلبات الدعوة، وإن تحمل المسلمون نصيبهم من المشاق في سبيل تأمين ذلك، فهو أمر ليس بالسهل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلسوا في الحبشة ولا يشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد والغزوات في أخطر منعطف تمر به دولة الإسلام الناشئة، ولكن الضرورة اقتضت ذلك.

إن أنصار الباطل وأولياءه لم يألوا جهدًا في الكيد لحقائق الدين، وفك رموز التوجه الدعوي، فعملوا على الاستفادة من تجارب السنين وأخطاء الممارسات، وقاموا بالتدوين والتسجيل والمقارنة، والفهرسة للمعلومات والنتائج؛ حتى أصبح لديهم مخزون من الحنكة والمهارة في النظر وإدارة الصراع، واستطاعوا، على حين غفلة من أنصار الحق، تحقيق الظفر في بعض جولات مواجهة الحق ومجابهته؛ مما ترك آثاره المضنية على مسيرة الدعوة ونموها، ومما استقوه من هذه الخبرة التراكمية، والقدرة على فهم الخصوم، هو معرفة أهمية التخطيط البعيد والعمل الدءوب المتكرر، دون استعجال للنتائج؛ فإنه يؤتي أكله ولو بعد حين.

فالمدقق في مكايد الأعداء ومكاسبهم يجد أنها تجاوزت حدود المستحيل، عن طريق طول النفس، والعمل البطيء المستديم، والترقب الطويل لأخطاء الدعاة وعثرات الممارسات، واستغلال هذه الأخطاء، ما أمكن ذلك، في محاربة الدعوة والقضاء عليها.

فعلى سبيل المثال عندما لم يحلم أعداء الدعوة بقبول الإسلاميين لمجرد فكرة التفاوض مع الدعاة والناشطين، والجلوس منهم مجلس الحوار، ظهر بعد سنين وأعوام خلوف ممن ينتسبون للدعوة من يقبل ذلك وأكثر منه، ويرحب به، ويضع يده في أيدي أذناب الطغاة، ويبرهن على ذلك، ويجادل عنه؛ إما افتتانًا بالمغريات المادية، أو رغبة في تحقيق شهرة ونجومية، أو رهبة من بطش أعداء الدعوة، وإيثارًا للسلامة، أو انحرافًا في التصور وضبابية في الاعتقاد، أورثت سذاجة وسطحية في التفكير، تم توظيفها لخدمة أعداء الدعوة، وسواء عزونا ذلك للمكر والكيد المحكم، أو لضعف هذه النفوس التي زلت وتدنت، ولم تكترث برصيد الماضي، فإن اللافت للانتباه بشدة هو تقلب الصراع عبر الزمن، وأن عجلة الوقت الدائرة لا توقفها عثرة فريق، أو انشغال بلملمة جراح؛ بل وضح أهمية طول النفس والنظر البعيد في تحقيق المكاسب وإحراز الأهداف.

أيضًا فمن أمثلة المكايد الطويلة الأمد، البعيدة المرامي، التي دبرها الأعداء للكيد لمسيرة الدعوة الإسلامية، ومحاولة التصدي لها على المستوى الفكري، ولو على المدى البعيد:

• ملف الاستشراق، ومحاولة الدراسة من الداخل، وبث السم في العسل؛ فهو ملف طويل، وجهد مضن، لا يقوم به إلا من أيقن أن الصراع تاريخي وممتد، ومن ثم تم تكريس جميع الآليات وتوفير السبل؛ لخوض هذه المعركة الفكرية الطويلة التي ترنو لتبديل الحقائق، وتزييف التاريخ من داخل المراجع والمصنفات الإسلامية.

• مخططات التعليم في معظم البلدان، من حيث المناهج وأساليب التعليم، ودقة هذه المخططات في حذف الكلمات والعبارات العدائية لليهود، وحذف مواقف السيرة ومآثر التاريخ التي تحكي معاني البطولة والعبقرية والفداء.

• إدارة المعارك الفكرية، عن طريق تسليط العلمانيين واليساريين وتحريضهم؛ لتشويه صورة الدعوة في معارك فكرية طويلة ممتدة.

• مخطط التذويب والانصهار للتيارات الإسلامية، ودمجهم داخل الحياة الاجتماعية المنحرفة عن مفاهيم الإسلام وتطبيقه، كمنهج شامل للحياة الإنسانية، وهو مخطط طويل تبنته الدراسات الحديثة، من أمثال أبحاث مركز (راند الأمريكي).

• مهام الكُتَّاب التنويريين من العلمانيين وأذنابهم، الذين بذلوا أعمارهم وجهدهم في نشر أفكارهم المنحلة، وزبالة أذهانهم، والترويج لها في مقابلة الفكرة الإسلامية الناصعة الصافية.

• استخدام التنويريين ممن لهم ميول إسلامية، ونتاج فكري يهدف إلى تبني أفكار المقاربة والتوسط، وصنع تيار وسطي تلفيقي؛ بهدف إظهار التيارات المخالفة لهذا التيار بالتشدد والغلو والجمود والتطرف.

• إتقان اللعب بدور الدعاة الجدد، الذين ليس لديهم مشروع حضاري إسلامي، فلا الثوابت يحمونها ويحافظون عليها، ولا إلى الأمام يقودون مسيرة شباب الدعوة؛ بل التخذيل والتخدير هو أبرز معالمهم، ومنهم السلفيون المسالمون، الذي فقدوا منهجية التغيير، ومشروع الإسلام الشمولي، وآثروا السلامة أيًا كان ثمنها!

وهذه المكايد وغيرها قد تركت بصماتها واضحة في الأوساط الدعوية، بالرغم من كونها جهدًا فكريًا بطيئًا، لا يأتي بنتائج بين يوم وليلة؛ بل هو طويل المدى، وقليل الخطو، لكنه بعيد المرامي.

التأثير الاستراتيجي:

على النقيض مما ذكرنا فقد أثرت الدعوة على المدى البعيد في البيئة المحيطة، وتركت بصماتها واضحة في مجتمعات الناس، ولعل مما يبين ذلك بعض المظاهر التي انتشرت في المجتمعات التي مورست فيها الدعوة إلى الله، فمثلًا: الإقبال المتزايد على الحج والعمرة، خصوصًا في أعمار الشباب بدلًا من اقتصار الأمر في السابق على الشيوخ والعجائز، يعد أحد ثمار الدعوة وآثارها، أيضًا المحافظة على صلاة التراويح في شهر رمضان، والحرص على الإكثار من تلاوة القرآن والتهجد فيه، والاعتكاف في أواخر هذا الشهر، وانتشار الكثير من السنن بين عوام الأمة، وانزواء الكثير من البدع التي كانت منتشرة من قبل، وأيضًا انزواء التصوف الذي كان يهيمن على الحياة الدينية لعقود طويلة، بالرغم من كل الدعم المادي الذي تناله الصوفية من أيدي أصحاب النفوذ والقرار في الكثير من البلدان، كل ذلك من الأمور التي انتشرت بين الناس بعد مجهود مبذول من العاملين في الدعوة إلى الله، خصوصًا في البلاد التي لم يكن يعرف عن أهلها المحافظة على هذه الألوان من القربات التعبدية.

إذًا فالحاجة باتت واضحة لاستغلال هذا التأثير، وإحداثه بشكل مرتب ومعد له مسبقًا، ومخطط له بدقة وعناية، عن طريق وضع خطط طويلة المدى، بعيدة المرامي، لكنها واضحة الأهداف، مفهومة المعاني والمقاصد.

فالداعية مأمور بأن يبذل جهده في هذا الإبلاغ، وعليه أن يعد خطة واعية، وبرنامجًا عمليًا؛ لتعريف الناس بربهم، وتجلية صورة الإسلام الحقيقية للناس أجمعين، دون تشويه أو تضليل.

وهذه النظرة الاستراتيجية ليست غريبة عن التصور الإيماني والتربية الإيمانية؛ بل إن الناظر في نصوص الشريعة وحرصها على سد الذرائع المفضية للمحرمات، ودوام النظر في مآلات الأقوال والأفعال والأحكام، وحرصها على تقدير ذلك والاحتياط له؛ يدرك بداهةً أن هذا المبدأ من الأسس الأصيلة في البناء التربوي الإسلامي، بحيث يزيد من عمق النظرة وبعدها عن اللحظة الحالية، والتعامل مع الاحتمالات المتوقعة لمدة من الزمن القريب والبعيد على حد سواء.

بل إن الهدي العملي للرسول صلى الله عليه وسلم كان أنموذجًا في هذا البناء التربوي التراكمي؛ كما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قلَّ»(5).

وإنما ذلك يرجع إلى نفس هذا المنظور البعيد المدى، الذي يراعي الحاصلة النهائية، بغض النظر عن التفوق اللحظي الحالي؛ كما يفسر ذلك الإمام النووي: «يثمر القليل الدائم، بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة»(6).

وإن كانت الاتجاهات الفكرية الحديثة الآن تتسارع إلى إعمال الفكر الاستراتيجي في إدارة شئون الحياة، وأصلوا قواعد وأفكارًا في صياغة وتخطيط وتقييم الخطط الاستراتيجية، فالمسلمون أولى منهم بذلك، وأجدادهم عملوا بهذه الأفكار منذ زمن بعيد.

فانظر على سبيل المثال ذلك الموقف الذي قد يطلق عليه فيما يسمى بالدراسات الإدارية الحديثة بـالقرار الاستراتيجي، وهو موقف أولئك الشبيبة الذين آمنوا بدين محمد صلى الله عليه وسلم وشارفوا على عقد بيعة بينهم وبينه، تنص على توفير الحماية له وللدعوة، وأن يمنعوه مما يمنعوا منه نساءهم وأموالهم، ما يعني ذلك لدى أفهامهم الثاقبة وعقولهم الراشدة، أنهم مشرفون على مواجهة العالم بأسره، وحروب قد تمتد أطرافها لتشمل القوى العظمى في هذا الوقت، الفرس والروم، ومن أجل أن قرار البيعة كان قرارًا محوريًا، وخطوة ينبني عليها ما بعدها، كان لا بد من دراسة وتجلية الأمور؛ تأهبًا لاتخاذ هذا القرار الاستراتيجي، ويتضح ذلك من خلال الحوار الذي تم أثناء البيعة.

يقول المقريزي: «تكلم العباس أولًا يتوثق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا معشر الخزرج، إن محمدًا منا حيث علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عز ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده)»(7).

لقد قال عبد الله بن رواحة ليلة العقبة: «اشترط لربك ولنفسك ما شئت»، فقال: «أشترط لربي أن تَعبدوه ولا تُشركوا به شيئًا، وأشترط لنفسي أن تَمنعوني مما تمنعون منه أنفسَكم وأموالكم»، قالوا: «فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟»، قال: «الجنة»، قالوا: «ربح البيع، ولا نقيل ولا نستقيل»(8).

أسعد بن زرارة من شباب الخزرج، المتوهج المتقد حماسًا وإخلاصًا، الممتلئ إيمانًا، الفياض باليقين، يريد أن يحدد الأمر إلى أبعاده البعيدة فقال: «رويدًا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن إخراجه اليوم مفارقة لجميع العرب وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون عليها إذا مستكم بقتل خياركم ومفارقة العرب كافة، فخذوه وأجركم على الله تعالى، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو عذر لكم عند الله عز وجل»، فقالوا: «يا سعد، أمط عنا يدك، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها»، قال جابر بن عبد الله: «فقمنا إليه رجلًا رجلًا فبايعناه»(9).

قال أبو الهيثم التيهان: «يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال [يعني: اليهود] حبالًا [أي: عهودًا]، وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟»، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «بل الدَّمَ الدَّمَ، والهَدْم الهَدْمَ»(10).

فانظر إلى أي مدًى كان المسلمون الأوائل يراعون تقديرات الأمور وآثارها على المدى القريب والبعيد؟ وكيف يتعاملون مع المعلومات والبيانات؛ تمهيدًا لاتخاذ قرار خطير مثل البيعة للرسول صلى الله عليه وسلم؟

أفكار عملية لخطط مستقبلية:

تراود كثيرًا من الدعاة أفكار دعوية وحلول تربوية، لكنها ما تلبث أن تصبح طي النسيان، أو مكانها في الأدراج بين قصاصات الأمنيات؛ وذلك لأن الحاجات الملحة التي تتطلبها الدعوة كثيرة، وعند تزاحمها يقدم الشخص الأكثر أهمية على ما هو دونه؛ فمثلًا: الحاجة إلى الإصلاح العقدي والتربية القرآنية النبوية، وتصحيح الكثير من التصورات والمفاهيم المغلوطة في أوساط المجتمعات، كل ذلك له الأولوية القصوى، ويقدم على أي شيء آخر، لكن إذا قسمنا أهدافنا إلى قريبة المدى وأخرى بعيدة المدى، قد لا نجد حرجًا في أن نجمع بين هذه الأفكار الإصلاحية مع تلك الأولويات المنهجية الأساسية، ومن ثم نستطيع أن ننسج الخطط ونؤلف بين الأهداف، ثم ننشئ الأدوات والبرامج التي تحول هذه المطالب إلى واقع حياتي ملموس، ولو بعد حين طويل.

وتوجد مجموعة من الأفكار والأهداف التي تصلح لتطويرها إلى برامج وخطط فيما بعد؛ منها:

• العمل على إخراج جيل يتربى على مبادئ الإسلام الشامل، فهمًا وممارسة في حياته الاجتماعية والأسرية، ومعاملاته المالية، وغرس قيم حب العمل واحترامه، والحرص عليه حرصًا مستمدًا من قيم الإسلام وروحه، التي تدعم البشر، وتدفعهم للحركة والنشاط في الاتجاه النافع، ودفع الضار بشكل يتناسق مع حركة الكون.

• التركيز على التحرر من سلبيات المجتمعات الداخلية من حولنا؛ مثل: الفوضى والعشوائية واللامبالاة، بحيث يترعرع جيل قد دأب على النظام والدقة، وتعود على الإيجابية في ممارساته، ولا تعرف الفوضى له طريقًا.

• التربية الإيمانية العلمية الشاملة، التي تعمل على فهم أصول الإسلام فهمًا عميقًا دقيقًا، واستيعاب مبادئه، ثم الخوض في تعلم علوم الشريعة، والتمسك بأدلتها الشرعية، وتعلمها؛ دراسةً وتلقينًا، وتعلم أدواتها، بحيث تضيق حدود التقليد إلى أقصى درجة، ويكون الرجوع إلى الأدلة هو المرد الأولى، ويخرج جيل لديه قدر من هذا الفهم والاستيعاب، والقدرة على الاستدلال، ويقل الجهل والفوضى، ويصعب تسرب الشك والريبة إليه.

• غرس روح الاعتزاز بالإسلام لدى النشء، وقتل روح الانهزامية المنتشرة في المجتمعات؛ حتى يستطيع أن يرفع رأسًا، ويحمل للإسلام مشعلًا.

• تدبير قيام حركة علمية فقهية، تخرج أجيالًا من العلماء والفقهاء والمجتهدين، يكفون حاجة الأمة في الإفتاء والقضاء، وتكون عدة لقيادة الأمة وفق منهج علمي واع.

• وضع خطط عملية فيما يخص التربية العقلية السليمة، التي تعترف بالمسلمات العقلية، ولديها القدرة على التفكر والتحليل والنظر، والعمل على تعزيز الوعي، عن طريق الاهتمام بدراسة السنن الإلهية والارتباط بها، والإلمام بفقه الواقع، وإدراك ما يطرأ على ساحة الأحداث ومجريات الأمور، وإتقان فك الرموز السياسية، وأيضًا تستطيع تقدير الأمور ووضعها في نصابها، ومن ثم تقييم الواقع والتعامل معه بما يليق به في ضوء تعاليم الشرع وأوامر الإسلام.

وهذه الأهداف وغيرها تحتاج لمزيد من الاهتمام والنظر، كما تفتقر إلى أن تصاغ هذه الأهداف العامة وتلك الأهداف المرحلية في صورة خطط وبرامج قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى، بحيث تحقق الكثير من أغراض الدعوة، وتحرز لها مكاسب عظيمة لا يمكن حصرها إلا في دراسات متأنية.

كثرة المهام والتركيز الجزئي:

هذه الأهداف المذكورة وغيرها لا تتعارض مع الأهداف الميدانية الأخرى للدعوة؛ بل تتكامل معها، ولا يظنن أحد أن ذلك سيشغل الدعوة عما هو أهم وأنفع لدعوتهم، فالأصل أن المؤمن يسعى في سبل الخير كلها في آن واحد إلا عند التعارض، فإنه يقدم الأنفع على ما هو دونه.

وقد يقول قائل: علينا أن نوجه طاقاتنا لخطط التغيير ومراحل التمكين، وأن نسعى قدمًا في هذا الاتجاه، فنقول: ما يمنعك عن السعي فيما أردت، ولكن التمكين له سنن، والتعامل معها هو عين السعي للتمكين، كما أن عجلة الزمان لا تتوقف، ورحى الوقت دائرة، ولا بد أن ننظر بعيدًا عن أقدامنا، ونسهم في إخراج الأمة من محنتها، ونعمل على نشر الدعوة مع الحفاظ على ريحها، وأيضًا نساعد على تغيير نظرة الناس إلى دعوة الإسلام، فإن هذا من أدعى الأسباب لقبول دعوتنا وإقبال الناس عليها.

إن التربية الشاملة هي التي تغطي جوانب الإنسان كلها، وتوجه تحركاته ونشاطه وفق منهج قويم، يسعى لصلاح الكائن الإنساني وإخراجه في أزكى صورة، كما كان من صنيع النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو الذي ربى هذا الرعيل الأول، وأخرج منهم قادة الأمم وهداة البشرية كلها.

لقد شعر الصحابة رضوان الله عليهم بالتميز الحقيقي على أمم الكفر ودولها، وشعروا بعزة الإيمان الحقيقية التي هيأتهم ليكونوا أولى الناس بخصال الخير، وصنائع المعروف، فما رأوا من معروف إلا سارعوا إليه، ولا من فضيلة إلا ائتزروا بها.

وفي نفس الوقت تربوا على النفرة من أفعال السوء وخصال الخسة، وكانوا أبعد الناس عنها، فارتقوا في مقامات الكمال ومدارج السمو، وعرفوا ما يليق بهم وما لا يليق، كما وجههم المنهج الإسلامي (قرآنًا وسنة).

هذه هي التربية الإسلامية الشاملة المطلوبة لإخراج جيل مسلم متزن واع، التربية التي تليق بطبيعة المهمة المنوطة بهذا الجيل، والتي تكاد تكافئ تلك الجهود المبذولة لإيقاف مسيرة الدعوة، والحيلولة دون خروج الأمة إلى حيويتها من جديد، وهذه التربية هي الطريق الصحيح الذي يسلكه أهل الإسلام؛ لتحقيق نصرة الدين والتمكين له في الأرض، وبالرغم من حدوث التعارض بين الجوانب بعضها ببعض، وما ينشأ عن ذلك من تركيز الاهتمام على جانب دون آخر، فإن هذا التعارض الحاصل يفسر ولا يبرر انصباب توجيه جهود الدعاة على بعض المجالات دون المجالات الأخرى، وينشأ عن ذلك التربية الجزئية والإصلاح السطحي الذي ينجح في جانب ويخفق في جوانب أخرى، ولكن المنهج الشامل هو الذي يعتني بهذه المجالات كلها، ويقوم بالتوجيه والتقويم للسلوك كله، ويصب اهتمامه في جميع ذلك دفعة واحدة، ثم يحدث التعارض بعد ذلك، فيوازن الإنسان بين هذا وذاك، فيقدم المعروف الأكبر على معروف أقل منه، وهكذا.

إذًا فالتعارض والتزاحم ليسا في أصل الاهتمام، ولكن في فروع العمل، وسلوكيات الأداء.

ولعلنا إذا نظرنا لبعض هذه الأفكار المطروحة فسنجد أن الدقة والنظام من صميم المنهج الإسلامي، والعمل الدءوب والنشاط فيما يفيد الحياة الإنسانية لهو من خصائص هذه الأمة، وإن وجدنا الكفار قد سبقونا إلى كل ذلك فنقول: نحن أولى به منهم، وإنما نقله آباؤهم عن أجدادنا.

فالإسلام قوة فاعلة في الأرض، دلت على ذلك نصوص الشرع وبيناته؛ قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].

وقال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251].

وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران:110].

وإذا تأملنا في منهج يعقد للناس اجتماعًا في اليوم والليلة خمس مرات، فيجتمع الناس، وينصرفون منه في هذه الخمس المتوالية في حركة دءوب وسعي حثيث.

إن المشاهِد المتأمل لذلك يرى أن أتباع هذا المنهج هم أمة العمل وأصحاب الحركة والنشاط، وأبعد الناس عن الخمول والكسل، وأما الجمود المزري الذي تعاني منه مجتمعاتنا الآن، وتعاني منه الدعوة؛ حيث يوجه إليها تهمة الفوضى والهمجية، والسطحية والتخلف، التي تلاحق المنتسبين لهذا الدين، وتصد الناس عن دين الله، فهو ليس من طبيعة هذا الدين، ولا سمة لأتباعه؛ بل هو ناشئ بدافع حياة القهر والاستبداد التي نالت مجتمعاتنا سنين طويلة، وأفسدت فيها أيما إفساد، فكان هذا النتاج الشائه من المجتمعات المقهورة الفاقدة للهوية والرسالة، وكانت هذه اللوثة التي مست بعطنها بيئة الدعوة، وأجهضت مهمتها، وتسعى الدعوة الآن لاستعادة ريادتها، وقيادة مسيرة النهضة من جديد، وتنتفض للقيام من هذه الغفوة والجمود، والتمسك بحقائق الإسلام في التصور والعمل، ولنشرها في الآفاق واضحةً بيضاء، نقية من غير تشويه ولا تحريف أو تفريط أو كدر(11).

***

__________________

(1) الأساس في السنة وفقهها - السيرة النبوية (2/ 802).

(2) راجع: الإدارة الاستراتيجية المتقدمة، عايدة سيد خطاب.

(3) الدعاة والبعد الزمني الغائب، مجلة البيان (العدد: 115).

(4) عيون الأثر (1/ 139).

(5) أخرجه البخاري (6464)، ومسلم (783).

(6) شرح النووي على مسلم (6/ 71).

(7) سيرة ابن هشام (1/ 442).

(8) فتح الباري، لابن حجر (6/ 4).

(9) الدعوة الإسلامية في عهدها المكي، مناهجها وغاياتها، ص601.

(10) أخرجه أحمد (15798).

(11) البعد الاستراتيجي في مسيرة الدعوة، منتديات الألوكة.