السهر من أمراض العصر
السهر هو تأخير وقت النوم إلى ساعات متأخرة من الليل، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان: 47]، {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ: 9]، أي قطعًا للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد والسعي في المعايش في عرض النهار (1).
والليل يستر الأشياء والأحياء فتبدو هذه الدنيا وكأنها تلبس الليل وتتشح بظلامه فهو لباس، وفي الليل تنقطع الحركة ويسكن الدبيب وينام الناس وكثير من الحيوان والطيور والهوام، والنوم انقطاع عن الحس والوعي والشعور، فهو سبات، ثم يتنفس الصبح وتنبعث الحركة، وتدب الحياة في النهار، فهو نشور من ذلك الموت الصغير، الذي يتداول الحياة على هذه الأرض مع البعث والنشور مرة في كل دورة من دورات الأرض الدائبة التي لا يصيبها الكلال، وهي تمر بالبشر وهم غافلون عما فيها من دلالة على تدبير الله، الذي لا يغفل لحظة ولا ينام (2).
وكان من تدبير الله للبشر أن جعل النوم سباتًا يدركهم فيقطعهم عن الإدراك والنشاط ويجعلهم في حالة لا هي موت ولا هي حياة، تتكفل بإراحة أجسادهم وأعصابهم وتعويضها عن الجهد الذي بذلته في حالة الصحو والإجهاد والانشغال بأمور الحياة.. وكل هذا يتم بطريقة عجيبة لا يدرك الإنسان كنهها، ولا نصيب لإرادته فيها ولا يمكن أن يعرف كيف تتم في كيانه.
فهو في حالة الصحو لا يعرف كيف يكون وهو في حالة النوم، وهو في حالة النوم لا يدرك هذه الحالة ولا يقدر على ملاحظتها، وهي سر من أسرار تكوين الحي لا يعلمه إلا من خلق هذا الحي وأودعه ذلك السر وجعل حياته متوقفة عليه، فما من حي يطيق أن يظل من غير نوم إلا فترة محدودة، فإذا أجبر إجبارًا بوسائل خارجة عن ذاته كي يظل مستيقظًا فإنه يهلك قطعًا.
وفي النوم أسرار غير تلبية حاجة الجسد والأعصاب.. إنه هدنة الروح من صراع الحياة العنيف، هدنة تلم بالفرد فيلقي سلاحه وجنته- طائعًا أو غير طائع- ويستسلم لفترة من السلام الآمن، السلام الذي يحتاجه الفرد حاجته إلى الطعام والشراب، ويقع ما يشبه المعجزات في بعض الحالات حيث يلم النعاس بالأجفان، والروح مثقل، والأعصاب مكدودة، والنفس منزعجة، والقلب مروع، وكأنما هذا النعاس- وأحيانًا لا يزيد على لحظات- انقلاب تام في كيان هذا الفرد، وتجديد كامل لا لقواه بل له هو ذاته، وكأنما هو كائن حين يصحو جديد.. ولقد وقعت هذه المعجزة بشكل واضح للمسلمين المجهودين في غزوة بدر وفي غزوة أحد، وامتن الله عليهم بها، وهو يقول: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال: 11]، {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران: 154]، كما وقعت للكثيرين في حالات مشابهة! فهذا السبات: أي الانقطاع عن الإدراك والنشاط بالنوم ضرورة من ضرورات تكوين الحي وسر من أسرار القدرة الخالقة ونعمة من نعم الله لا يملك إعطاءها إلا إياه، وتوجيه النظر إليها على هذا النحو القرآني ينبه القلب إلى خصائص ذاته، وإلى اليد التي أودعتها كيانه، ويلمسه لمسة تثير التأمل والتدبر والتأثر.
وكان من تدبير الله كذلك أن جعل حركة الكون موافقة لحركة الأحياء، وكما أودع الإنسان سر النوم والسبات، بعد العمل والنشاط، فكذلك أودع الكون ظاهرة الليل ليكون لباسًا ساترًا يتم فيه السبات والانزواء (3).
وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [غافر: 61]، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبغض كل جعظري جواظ سخاب بالأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة» (4).
لقد سن الله عز وجل للإنسان نظامًا للعمل والراحة فجعل الليل للنوم والراحة والسكون، وجعل النهار للعمل والكد والنشاط، والنوم نعمة عظيمة من نعم الله وفوائده لا تحصى، ويكفي أنه حاجة ضرورية للجسم لا يمكن للإنسان الاستغناء عنه، ولكن أسلوب حياتنا العصرية جعلتنا نخل كثيرًا بهذا النظام، ونخالف ما سنه الله تعالى لنا، فبدلًا من ذهاب المرء إلى النوم مبكرًا في أول الليل وفيه المنفعة الكبرى يذهب إلى ما يلهيه ويشغله إلى ما بعد منتصف الليل، إما مع جمع من الأصدقاء والحديث في أشياء لا طائل ولا فائدة منها، وإما أمام القنوات الفضائية التي تظل تعمل وتبث برامجها على مدار اليوم، أو على وسائل التواصل الاجتماعي التي تسرق الوقت دون شعور منا بذلك.
أنواع السهر:
1- السهر في طاعة الله، وهو سهر محمود؛ ومنه السهر في مصالح المسلمين العامة كالجهاد والرباط في الثغور، وكذلك السهر في إحياء الليل بالقيام والتلاوة، قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} [الذاريات: 17- 18].
2- السهر المباح: شريطة ألا يؤدي إلى تضييع واجب، ومن أنواع هذا السهر حديث المسافرين لبعضهم لتهوين مشقة السفر على أنفسهم، ولا ريب أن بعض مصالح المسلمين تقتضي أن يكون من يعمل ليلًا كالعمل في الأمن والمستشفيات.
3- السهر في معصية الله: كالسهر في مشاهدة الأفلام والقنوات الفضائية والألعاب المحرمة؛ كلعب الورق، أو ممارسة السهر في أكل لحوم البشر بالغيبة والنميمة والشتائم والبهتان ... وما شابه ذلك من أنواع المعاصي وهو سهر مذموم محرّم قال الشاعر:
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
وقد اختلف أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين، ومن بعدهم في السمر بعد صلاة العشاء الآخرة، فكره قوم منهم السمر بعد صلاة العشاء، ورخص بعضهم إذا كان في معنى العلم، وما لا بد منه من الحوائج، وأكثر الحديث على الرخصة.
أسباب السهر:
أسباب السهر كثيرة، ولعلي أذكر لكم بعض الأسباب الجوهرية لهذه المشكلة:
(أ) القرناء؛ خاصة قرناء السوء: إن القرناء لهم الأثر الكبير على سلوكيات الفرد وتفكيره، فالشاب يتأثر بمجتمع الشلة التي يعيش معها، ويتوافق تفكيره معها، وينسجم بتصرفاتها، فيصبح هذا الشاب منقادًا خلف ما يقترفونه من سلوك وممارسات؛ سواء كانت هذه الممارسات إيجابية أو سلبية.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل»، فجب عليك أن تتنبه لمن تجلس معهم، ولا تنقاد خلف الأصدقاء غير المبالين بما يقترفونه من سلوك وأفعال؛ خاصة سلوك السهر الذي سيقودك إلى ثغرات أخرى من المشكلات السلوكية التي قد لا تحمد عقباها، فاحرص أن تكون ممن يفكر ويميّز في اختيار الأصدقاء المتميزين خلقًا وعلمًا حتى تتأثر إيجابًا بسلوكياتهم المحمودة.
(ب) وقت الفراغ: الوقت أثمن وأغلى سلعة تضيع على الإنسان في حياته، فيجب أن تستغله الاستغلال الأمثل بما يحقق لك الفائدة المرجوة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» (5)، فإذا كان فراغك يرميك في محيط السهر والضياع دون أن تفكر تفكيرًا منطقيًا يجعلك تعمل على ترتيب أوقات فراغك ترتيبًا تجني ثماره في تحصيلك العلمي، وفي مساعدة الأهل، وفي توثيق عرى الروابط معهم، وفي صلة أرحامك، فأنت وقعت في خطأ سوف تندم عليه في مستقبلك الدراسي والوظيفي والصحي والاجتماعي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه» (6).
وقال ابن الجوزي: قد يكون الإنسان صحيحًا ولا يكون متفرغًا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيًا ولا يكون صحيحًا، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون؛ لأن الفراغ يعقبه الشغل والصحة يعقبها السقم، ولو لم يكن إلا الهرم، كما قيل:
يسر الفتى طول السلامة والبقا فكيف ترى طول السلامة يفعل
يرد الفتى بعد اعتدال وصحة ينوء إذا رام القيام ويحمل (7).
لذا عليك أن تستغل وقتك فيما يفيدك وينفعك، فأنت بحاجة إلى كل دقيقة وكل ثانية من عمرك، وإذا كان لا بد من شيء من الترويح عن النفس فلا تجعل التلفاز ومشاهدة القنوات الفضائية وسيلتك الوحيدة لهذا الترويح؛ بل يقصد التلفاز في وقت معين ولأمر محدّد ليس فيه مخالفة شرعية تحاسب عليها، وأن يكون لك هوايات أخرى وألعاب رياضية وزيارات اجتماعية وقراءة كتب، فالتنويع في هذه الأمور يزيدك ترويحًا عن نفسك على عكس الاكتفاء بمشاهدة التلفاز والقنوات التي يمكن أن تزيدك همًا وغضبًا على عضب.
(ج) مشاهدة القنوات الفضائية والانترنت: لا يخفى على أحد منا ما للإعلام من أثر فاعل، ولا سيما في ظل التقدم التكنولوجي المذهل في هذا العصر، والذي ارتبط فيه الإعلام ارتباطًا وثيقًا بالسياسة الخارجية للدول، فأصبح الإعلام من أكثر الأساليب الدبلوماسية فاعلية ونفوذًا لما له من إحداث التأثير على الأفكار والاتجاهات لدى الرأي العام.
وليس هناك أدنى شك أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت من سمات العصر واخترقت جميع البيوت دون استئذان ودون رقابة، ويستخدمها جميع الفئات والأعمار، فهي أداة فتاكة وسلاح ذو حدين، فكما أنها وسيلة لتعزيز السلوك الإيجابي داخل المجتمع عن طريق تشجيع الفرد على تكوين صداقات والتواصل مع الآخرين والتعرف على كل ما هو جديد في مجال العلوم وتبادل الخبرات العلمية في جميع المجالات وعلى كافة الأصعدة.
وتكمن الخطورة الحقيقية أو التحدي الأكبر الذي يواجه الأسرة والمجتمع في هذا العصر، والمتمثل بتساهل بعض الأسر بتوفير الهواتف الذكية والأيباد وتقديمها للأطفال دون توعية أو رقابة أسرية، مما قد يوقع الطفل بكثير من المشاكل التي قد تؤثر على نموه العقلي والنفسي والاجتماعي.
وتمثل قلة النوم سببًا في متاعب صحية خطيرة مثل القلق والاكتئاب، كما يخشى أخصائيون من تأثير هذه العادة السيئة على التحصيل العلمي لدى المراهقين والشباب.
(د) السهر للمصالح الدنيوية: مثل سهر بعض الطلاب في مذاكرة المقررات الدراسية، وينبغي لهؤلاء ومن شاكلهم أن يجتهدوا في ترتيب أوقاتهم ترتيبًا حازمًا يغنيهم عن السهر المؤدي إلى المفاسد.
(ه) طبيعة العصر الحاضر: والتي غيرت الأوضاع الاجتماعية مما يحمل الناس على أن يمارسوا الكثير من الأنشطة والأعمال والعلاقات حتى أصبح ليل الناس كنهارهم.
ومن ذلك جعل أكثر الناس زياراتهم العائلية وغير العائلية في الليل بسبب طبيعة الأعمال والدراسة.
أضرار السهر الصحية:
خلق الله سبحانه وتعالى النهار للعمل والليل للنوم، وفي النهار يصرف الجسم طاقاته ليعوّض في الليل عما صرفه منها، وعدم أخذ القسط الكافي من النوم يؤدي إلى ظهور أعراض وأمراض أخرى منها: التعب- الصداع- الغثيان- واحمرار العينين وانتفاخهما- والتوتر العصبي- والقلق- وضعف الذاكرة والتركيز- وسرعة الغضب- والألم في العضلات وبعض المشكلات الجلدية كالبثور وغيرها.
ولقد ثبت من خلال التجارب التي أجراها عدد من علماء التربية البدنية أن الوظائف الجسمية تزداد قوتها وتنقص بين وقت وآخر خلال اليوم، حيث تظهر الكفاءة العضلية في الزيادة تدريجيًا عند الساعة الرابعة صباحًا، وتبلغ مداها الأقصى في الساعة السابعة صباحًا، فيستمر حتى الساعة الحادية عشرة ظهرًا، حيث يبدأ المستوى في الانخفاض التدريجي لغاية الساعة الثالثة عصرًا، حيث يزداد تدريجيًا لغاية الساعة السادسة مساءً، ثم يعود في الانخفاض التدريجي مجددًا والانخفاض الكبير يبدأ في الساعة التاسعة ليلًا، ويبلغ مداه في الساعة الثالثة صباحًا.
وقلة النوم تسبب خللًا في جهاز المناعة؛ وهو خط الدفاع الأول والأخير ضد الأمراض وعندما يعتلّ هذا الجهاز فهذا معناه وبكل بساطة الانهيار.
فالجسم يحتاج إلى نوم هادئ وطويل يكفي لطرح السموم العصبية التي تراكمت فيه نتيجة للأعمال الحيوية.
وصايا تربوية:
1- إن تضييع الواجبات الشرعية مثل التخلف عن صلاة الفجر جماعة أو قضائها في غير وقتها دون خشوع؛ نتيجة إحساس بالإعياء الشديد الذي يجعلك تصارع النعاس؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها.
2- فوات بركة البكور في أول النهار: الذين يسهرون يحرمون أنفسهم هذا الوقت الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «بورك لأمتي في بكورها» (8).
3- لكي لا تأتي الى مدرستك وأنت منهك ومتأخرًا أيها الابن الكريم نم مبكرًا واستيقظ مبكرًا، لكي لا تضعف قدراتك وأداؤك، ويختل تعاملك مع معلميك ومرشدك وزملائك، فكثيرًا من الطلاب يسهرون ثم يأتون إلى المدرسة ثم يجلس أحدهم على الكرسي ولا ينتبه لشرح المعلم، علاوة على ذللك يأتي متأخرًا عن الاصطفاف الصباحي، وكذلك النوم في الفصل.
4- إن السهر يؤدي إلى النوم في غير وقت النوم، فينام السهران مثلًا بعد صلاة العصر والنوم بعد صلاة العصر لغير حاجة كرهه السلف.
5- الليل للسكون والنهار للحركة والعمل ومخالفة ذلك خلافًا للفطرة الإنسانية التي تقودك إلى حالة صحية سيئة ومضطربة، وإن نوم ساعة من الليل قد يعدل نوم ضعفها في غيره.
6- يجب بذل الوسع في تعويد النفس على النوم مبكرًا، فإن الأصل في السهر عادة فإن جاهد المرء نفسه بحزم انتصر عليها.
7- الإحساس بالمسئولية يجعلك تحرص على وقتك ولا تفرط فيه، فاستشعر مسئوليتك نحو واجباتك الدينية والمنزلية والمدرسية والاجتماعية.
8- عليك انتقاء الصحبة والرفاق الذين يعينونك على فعل الخير ويساعدونك عليه، فكن حريصًا بالتأثر بهم دون الصحبة السيئة.
9- إن مثل هذه المجالس قد تكون حسرة عليك يوم القيامة لكونها تفتقر إلى العوامل المعينة والأسباب المؤدية إلى الصلاح والاستقامة، وقد قال عليه الصلاة والسلام محذرًا من هذه المجالس كما جاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمع قوم فتفرقوا عن غير ذكر الله إلا كأنما تفرقوا عن جيفة حمار، وكان ذلك المجلس عليهم ترة» (9).
الآثار الدينية والاجتماعية:
يقول الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67]، ويقول جل ذكره: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73].
فمن رحمة الله تعالى بعباده، وتنظيمًا لنشاطهم، وإتقانًا لأعمالهم، أن جعل الظلماتِ بالليل والنورَ بالنهار؛ ليكون النهار بما فيه من نور مساعدًا على كسب العيش وأداء الواجب لعمارة الكون، وليكون الليل بما فيه من ظلمة مساعدًا على الراحة من عناء العمل بالنهار، ولذلك جعل الله تعالى أكثر العبادات التي يتقرب بها إليه في فترة النهار.
من أجل هذا أرشد الإسلام إلى المُبادرة بالنوم بعد صلاة العشاء، وكرِه تضييع فترة الليل فيما لا يفيد خيرًا، وما دامت لا تُوجد ضرورة ولا حاجة تدعو إلى السهر، كالذين تُوكَلُ إليهم الحِراسة بالليل من أجل المصلحة العامة أو يذاكرون العلم أو تُحَتم عليهم ظروف العيش أن يكون عملهم بالليل، وفي ذلك جاء الحديث الشريف: «عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله» (10).
ومن أجل التنسيق بين العمل والراحة، أرشد الله إلى أن قيام الليل يكون بحيث لا يُؤثر على الواجبات التي تَلْزَمُهَا الراحة وَتُبَاشَر بالنهار، قال تعالى في شأن قيام الليل: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءوا مَا تَيَسَّر مِنْه} [المزمل: 20]، وقال صلى الله عليه وسلم لمن يُرهقون أنفسهم بقيام الليل كُلِّه أو بالصيام اليوم كله: «إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه» (11).
ومما جاء في كراهية السهر لغير ضرورة أو حاجة، عن أبي برزة، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها» (12).
لأن النوم قبلها قد يؤدي إلى إخراجها عن وقتها مطلقًا، أو عن الوقت المختار، والسمر بعدها قد يؤدي إلى النوم عن الصبح أو عن وقتها المختار أو عن قيام الليل، وكان عمر بن الخطاب يضرب الناس على ذلك ويقول: أسمرًا أول الليل ونومًا آخره (13).
أما كراهية الحديث بعدها لأن السهر مَظَنَّة غلبة النوم في آخر الليل فيفوت قيام الليل، ويعرض صلاة الصبح للفوات، وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جدب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم السمر بعد العشاء (14) أي: عابه وذمه.
ومن مبررات كراهية السهر فيما لا يفيد إراحة الكُتَّاب وهم الملائكة الذين يُحصون أعمال الناس، كما يشير إليه قول عمر السابق، ومنها مُخالفة نظام الله في جعل النهار للعمل والليل للنوم والسَّكن، ومنها عدم إزعاج النائمين بما يُثار في السهر من أعمال تقلق الراحة.
وإذا كان السهر بالليل غير مرغوب فيه إلا لضرورة أو حاجة، فإن الأمر الذي يدور عليه السهر إن كان حرامًا كان النَّهي مؤكدًا، كالذين يمضون وقتًا كبيرًا من الليل في السهرات المعروفة بمنكراتها، من أجل المتعة والترويح عن النفس بزعمهم، ومعلوم أن المتعة والترويح عن النفس أمر مُبَاح؛ ولكن في حدود الحلال في المادة، وفي النتيجة المترتبة عليه، وليس من مصلحة العامل الحر أو المرتبط أن يُرْهِق نفسه بطول السهر ويتأخر عن صلاة الصبح والذهاب إلى العمل.
كما جاء عند مسلم أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رقدت في بيت ميمونة ليلة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها لأنظر كيف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، قال: فتحدث النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رَقَدَ (15).
بينما يغط الجميع في النوم، يبقى هو مستيقظًا داخل بيته أو خارجه، مع زملائه وأصحابه، أو أمام القنوات الفضائية والإنترنت، وبينما تسكن الحركة ليلًا استعدادًا للسعي إلى العمل في النهار، يقلب هو ميزان الكون، فيسهر حين ينام الناس، وينام حين يستيقظون.
هذه حال كثير من الشباب الذين تحولوا إلى كائنات ليلية، مدمنة للسهر، تجد فيها متعتها وراحتها.
كيفية العلاج:
بقي أن نتحدث عن كيفية العلاج أو المواجهة، وهنا أقول لكل شباب: عليك أن تعي أن نجاحك في الحياة هو مسئوليتك الشخصية، ولن تنجح إلا إذا قاومت ما تحب، وتحملت ما تكره، فقد تهوى السهر، ولكنك في المقابل تأخذ من رصيد صحتك البدنية والعصبية والنفسية، ومن رصيد دورك الحقيقي في هذه الحياة التي خُلقت له، من العمل والدأب نهارًا، والاسترخاء والنوم ليلًا.
ولا تتصور أنك بذلك تُسلب حريتك، فالحرية التي تسبب المرض والتقصير، والوقوع فيما لا يجب - هي حرية مزيفة، والحرية التي تقوم على مجرد التمرد هي حرية أيضًا مزيفة، وحريتك الحقيقية هي ألا تظل عبدًا لعادة سيئة أثبتت معظم الدراسات أنها تسبب الكثير من الاضطرابات العصبية والعقلية والنفسية، وتسبب ضعفًا في التركيز والذاكرة قصيرة المدى، والقدرة على التحصيل والأداء مهما نام الإنسان نهارًا.
والسهر ليس علاجًا لمشكلة تواجهك، بل هو هروب من واقع قد يكون سببه الفراغ أو عدم وجود شيء حقيقي تعمل من أجله، والأجدر لك هو البحث عن هذا الدور وهذا العمل، بدلًا من قتل خلايا مخك وتدميرها يوميًا بهذا السهر، والوقوع في المزيد من عدم الرضا عن النفس والحياة، أو الاستهتار بهما.
وإليك هذه النصائح التي تمكنك من النوم مبكرًا:
- عدم القيام بأعمال شديدة الإجهاد، سواء من الناحية الذهنية أو البدنية قبل النوم.
- عدم تناول المنبهات من القهوة أو الشاي في الفترة المسائية.
- تعويد الجسم على وقت معين وساعة معينة للخلود إلى النوم، وحتى وإن كانت البداية صعبة فلتظل في سريرك.
- تهيئة المكان الهادئ المناسب للنوم، ويفضل أن يكون ثابتًا.
- تجنب الوجبات الثقيلة قبل النوم، ويفضل تناول كوب من اللبن الدافئ قبل النوم.
- عند الذهاب للفراش حاول أن تصرف ذهنك عن الأفكار التي تساعد على القلق والتوتر، وذلك بقراءة بعض الكتب السهلة قبل النوم، ويفضل أن تكون من النوع الممتع المشوق بالنسبة لك، وأفضل ما يمكن قراءته قبل النوم الأذكار وقراءة القرآن الكريم (16).
---------
(1) تفسير ابن كثير (8/ 307).
(2) في ظلال القرآن (5/ 2569).
(3) في ظلال القرآن (6/ 3805).
(4) أخرجه ابن حبان (72).
(5) أخرجه البخاري (6412).
(6) أخرجه الترمذي (2417).
(7) فتح الباري لابن حجر (11/ 230).
(8) صحيح الجامع (2841).
(9) أخرجه النسائي (10169).
(10) أخرجه الترمذي (1254).
(11) أخرجه البخاري (1874).
(12) أخرجه البخاري (568).
(13) فتح الباري لابن حجر (2/ 73).
(14) أخرجه أحمد (3894).
(15) أخرجه البخاري (4569)، ومسلم (763).
(16) السهر وأضراره/ طريق الإسلام.