ما لكم لا ترجون لله وقارًا
قال تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ للهِ وَقارًا} [نوح:13]؛ أي: عظمة، قال ابن عباس: «لا تعظمون الله حق عظمته»؛ أي: لا تخافون من بأسه ونقمته(1).
ومن هنا قال بعضهم: ما سبقكم أبو بكرٍ بكثرة صومٍ ولا صلاةٍ، ولكن بشيءٍ وقرَ في صدره(2)؛ أي سكن فيه وثبت، من الوقار والحلم والرّزانة، ويقال: الوقار: الحلم والسكينة.
قال الجاحظ: «الوقار هو الإمساك عن فضول الكلام والعبث، وكثرة الإشارة والحركة، فيما يستغنى عن التحرك فيه، وقلة الغضب، والإصغاء عند الاستفهام، والتوقف عن الجواب، والتحفظ من التسرع، والمباكرة في جميع الأمور»(3).
فقوله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ للهِ وَقارًا}؛ أي: لا تخافون من بأسه ونقمته،... عن الأخفش قال: «والرجاء هنا الخوف»؛ لأن مع الرجاء طرفًا من الخوف ومن اليأس، والوقار العظمة، أو لا تأملون له توقيرًا؛ أي: تعظيمًا، والمعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب(4).
وتعظيم الله سبحانه وتعالى من أَجَلِّ القربات، وأعظم العبادات؛ بل هو أساس العبادات، يقول ابن القيم رحمه الله: «ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التعظيم، وهذه المنزلة تابعة للمعرفة، فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الرب تعالى في القلب، وأعرف الناس به أشدهم له تعظيمًا وإجلالًا، وقد ذم الله تعالى من لم يعظمه حق عظمته، ولا عرفه حق معرفته، ولا وصفه حق صفته، وأقوالهم تدور على هذا، فقال تعالى: {ما لكم لا ترجون لله وقارًا} [نوح:13]»، ثم أخذ يذكر كلام السلف في تفسير هذه الآية، فقال: «قال ابن عباس ومجاهد: (لا ترجون لله عظمة)، وقال سعيد بن جبير: (ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته)، وقال الكلبي: (لا تخافون لله عظمة)، قال البغوي: (والرجاء بمعنى الخوف، والوقار: العظمة، اسم من التوقير وهو التعظيم، قال الحسن: لا تعرفون لله حقًا، ولا تشكرون له نعمة، وقال ابن كيسان: لا ترجون في عبادة الله أن يثيبكم على توقيركم إياه خيرًا)»(5).
وقد جعل العلماء لتعظيم الله تبارك وتعالى درجات ومراتب، وممن ذكر ذلك الهروي في منازل السائرين، يقول رحمه الله تعالى: «التعظيم معرفة العظمة مع التذلل لها، وهو على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: تعظيم الأمر والنهي، وهو ألا يعارضا بترخص جاف، ولا يعرضا لتشديد غال، ولا يحملا على علة توهن الانقياد.
والدرجة الثانية: تعظيم الحكم أن يبغى له عوج، أو يدافع بعلم، أو يرضى بعوض.
والدرجة الثالثة: تعظيم الحق، وهو ألا تجعل دونه سببًا، أو ترى عليه حقًا، أو تنازع له اختيارًا(6).
إن الإيمان بالله مبني على تعظـيم الله وإجلاله، قال سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم:88-93]، قال الضحـاك بن مزاحم في تفسير قوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ}: «يتشققن من عظمة الله عز وجل»، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآيات: «اقشعرت الجبال وما فيها من الأشجار، والبحار وما فيها من الحيتان، وفزعت السماوات والأرض، وجميع المخلوقات إلا الثقلين، وكادت أن تزول، وغضبت الملائكة، فاستعرت جهنم، واكفهرت الأرض حين قالوا: اتخذ الله ولدًا»(7).
ألا يعظم الله؟! وهو الذي له الملائكة العظام يسبحونه ويستغفرونه وله يسجدون، جاء عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء، وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله، والله، لو تعلمون ما أعلم؛ لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله»(8).
وتعظيم الله يكون بفعل ما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، وتفصيل ذلك ما ذكره ابن القيم في الوابل الصيب بقوله: «وأما علامات تعظيم المناهي فالحرص على التباعد من مظانها، وأسبابها، وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب منها، كمن يهرب من الأماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة خشية الافتتان بها، وأن يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس، وأن يجانب الفضول من المباحات؛ خشية الوقوع في المكروه، ومجانبة من يجاهر بارتكابها، ويحسنها ويدعو إليها، ويتهاون بها، ولا يبالي ما ركب منها، فإن مخالطة مثل هذا داعية إلى سخط الله تعالى وغضبه، ولا يخالطه إلا من سقط من قلبه تعظيم الله تعالى وحرماته، ومن علامات تعظيم النهي أن يغضب لله عز وجل إذا انتهكت محارمه، وأن يجد في قلبه حزنًا وكسرة إذا عُصِيَ الله تعالى في أرضه، ولم يُطَع بإقامة حدوده وأوامره، ولم يستطع هو أن يغير ذلك»(9).
قال الإمام ابن القيم: «استقامة القلب بشيئين؛ أحدهما: أن تكون محبة الله تعالى تتقدم عنده على جميع المحاب...، الأمر الثاني: تعظيم الأمر والنهي، وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله تعالى ذمَّ من لا يُعظّمه ولا يعظّم أمره ونهيه، قال الله سبحانه وتعالى: {مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا} [نوح:13]، قالوا في تفسيرها: ما لكم لا ترجون لله تعالى عظمة».
وقال: «فعلامة التعظيم للأوامر: رعاية أوقاتها وحدودها، والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها، والحرص على تحسينها وفعلها في أوقاتها، والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة والأسف عند فوت حق من حقوقها»، ثم ذكر عددًا من علامات تعظيم المناهي، وهي على وجه الاختصار:
1- الحرص على التباعد عن مظانها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب إليها.
2- أن يغضب لله عز وجل إذا انتُهكت محارمه، وأن يجد في قلبه حزنًا وكَسْرة إذا عُصي الله تعالى في أرضه، ولم يُطع بإقامة حدوده وأوامره، ولم يستطع هو أن يغير ذلك.
3- ألا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون فيه جافيًا غير مستقيم على المنهج الوسط.
4- ألا يحمل الأمر على علة تُضعف الانقياد والتسليم لأمر الله عز وجل؛ بل يسلم لأمر الله تعالى وحكمه، متمثلًا ما أمر به، سواء ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه أو لم تظهر(10).
وتوقير الله عز وجل وتعظيمه ليست كلمات مجردة تتحرك بها الألسن بلا وعي أو فهم، وليست حركات مجردة يؤديها المرء في عباداته الظاهرة بلا روح؛ بل ملاك الأمر ما يقوم في القلب تجاه هذا الرب العظيم، ويصدقه اللسان وباقي الأركان، فمن تحقق ذلك في نفسه فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، ونحن لا نملك إلا أن نعيد عليه تلك الصيحة النبوية المدوية المترددة عبر القرون، عساه أن يفيق من سكرته: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا} [نوح:13].
فالرجاء هنا على قولين:
الأول: أن الرجاء هاهنا بمعنى الخوف، ومنه قول الهذلي:
إذا لَسَعتْه النحل لم يرج لسعها وخالَفَها في بيت نوبٍ عواملِ
والوقار: العظمة، والتوقير: التعظيم، ومنه قوله تعالى: {وَتُوَقِّروه} [الفتح:9]، بمعنى ما بالكم لا تخافون لله عظمة، وهذا القول عندي غير جائز؛ لأن الرجاء ضد الخوف في اللغة المتواترة الظاهرة، فلو قلنا: إن لفظة الرجاء في اللغة موضوعة بمعنى الخوف لكان ذلك ترجيحًا للرواية الثابتة بالآحاد على الرواية المنقولة بالتواتر، وهذا يفضي إلى القدح في القرآن، فإنه لا لفظ فيه إلا ويمكن جعل نفيه إثباتًا وإثباته نفيًا بهذا الطريق.
الوجه الثاني: ما ذكره صاحب «الكشاف»، وهو أن المعنى: ما لكم لا تأملون لله توقيرًا؛ أي: تعظيمًا، والمعنى ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم، ولله بيان للموقر، ولو تأخر لكان صلة للوقار(11).
وقيل: الرجاء هاهنا بمعنى التوقع؛ لأن الراجي للشيء متوقع له، إلا أن أشرف أقسام التوقع هو الرجاء، فسمي الجنس باسم أشرف أنواعه(12).
وقيل: الرجاء هنا بمعنى الخوف؛ أي: ما لكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أحدكم بالعقوبة؛ أي: أيُّ عذرٍ لكم في ترك الخوف من الله، وقال سعيد بن جبير وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح: «ما لكم لا ترجون لله ثوابًا ولا تخافون له عقابًا».
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: «ما لكم لا تخشون لله عقابًا وترجون منه ثوابًا».
وقال الوالبي والعوفي عنه: «ما لكم لا تعلمون لله عظمة».
والوقار: العظمة، والتوقير: التعظيم، وقال قتادة: «ما لكم لا ترجون لله عاقبة»، كأن المعنى: ما لكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان، وقال ابن كيسان: «ما لكم لا ترجون في عبادة الله وطاعته أن يثيبكم على توقيركم خيرًا»، وقال ابن زيد: «ما لكم لا تؤدون لله طاعة»، وقال الحسن: «ما لكم لا تعرفون لله حقًا ولا تشكرون له نعمةً»، وقيل: ما لكم لا توحدون الله؛ لأن من عظَّمه فقد وحده، وقيل: إن الوقار الثبات لله عز وجل، ومنه قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]؛ أي: اثبتن، ومعناه ما لكم لا تثبتون وحدانية الله تعالى وأنه إلهكم لا إله لكم سواه، قاله ابن بحر(13).
وفي هذه الآية فوائد كثيرة، كما يقول ابن القيم: فوائد كثيرة أخر مشاهدة.
منها: إظهار العبودية والفاقة، والحاجة إلى ما يرجوه من ربه، ويستشرفه من إحسانه، وأنه لا يستغني عن فضله وإحسانه طرفة عين.
ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده أن يؤملوه ويرجوه، ويسألوه من فضله؛ لأنه الملك الحق الجواد، أجود من سئل، وأوسع من أعطى، وأحب ما إلى الجواد أن يرجى ويؤمل ويسأل، وفي الحديث «من لم يسأل الله يغضب عليه»(14)، والسائل راج وطالب، فمن لم يرج الله يغضب عليه، فهذه فائدة أخرى من فوائد الرجاء، وهي التخلص به من غضب الله.
ومنها: أن الرجاء حادٍ يحدو به في سيره إلى الله، ويطيب له المسير، ويحثه عليه، ويبعثه على ملازمته، فلولا الرجاء لما سار أحد، فإن الخوف وحده لا يحرك العبد، وإنما يحركه الحب، ويزعجه الخوف، ويحدوه الرجاء.
ومنها: أن الرجاء يطرحه على عتبة المحبة، ويلقيه في دهليزها، فإنه كلما اشتد رجاؤه وحصل له ما يرجوه ازداد حبًا لله تعالى، وشكرًا له، ورضا به وعنه.
ومنها: أنه يبعثه على أعلى المقامات، وهو مقام الشكر، الذي هو خلاصة العبودية، فإنه إذا حصل له مرجوه كان أدعى لشكره.
ومنها: أنه يوجب له المزيد من معرفة الله وأسمائه ومعانيها، والتعلق بها، فإن الراجي متعلق بأسمائه الحسنى، متعبد بها، داع بها، قال الله تعالى: {وَللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، فلا ينبغي أن يعطل دعاؤه بأسمائه الحسنى التي هي أعظم ما يدعو بها الداعي، فالقدح في مقام الرجاء تعطيل لعبودية هذه الأسماء، وتعطيل للدعاء بها.
ومنها: أن المحبة لا تنفك عن الرجاء، فكل واحد منهما يمد الآخر ويقويه.
ومنها: أن الخوف مستلزم للرجاء، والرجاء مستلزم للخوف، فكل راج خائف، وكل خائف راج؛ ولأجل هذا حسن وقوع الرجاء في موضع يحسن فيه وقوع الخوف، قال الله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لله وَقَارًا} [نوح:13]، قال كثير من المفسرين: المعنى: ما لكم لا تخافون لله عظمة؟ قالوا: والرجاء بمعنى الخوف.
والتحقيق أنه ملازم له، فكل راج خائف من فوات مرجوه، والخوف بلا رجاء يأس وقنوط، وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ} [الجاثية:14]، قالوا في تفسيرها: لا يخافون وقائع الله بهم، كوقائعه بمن قبلهم من الأمم.
ومنها: أن العبد إذا تعلق قلبه برجاء ربه، فأعطاه ما رجاه، كان ذلك ألطف موقعًا، وأحلى عند العبد، وأبلغ من حصول ما لم يرجه، وهذا أحد الأسباب والحكم في جعل المؤمنين بين الرجاء والخوف في هذه الدار، فعلى قدر رجائهم وخوفهم يكون فرحهم في القيامة بحصول مرجوهم واندفاع مخوفهم.
ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يريد من عبده تكميل مراتب عبوديته من الذل والانكسار، والتوكل والاستعانة، والخوف والرجاء، والصبر والشكر، والرضا والإنابة وغيرها، ولهذا قدر عليه الذنب وابتلاه به؛ لتكمل مراتب عبوديته بالتوبة، التي هي من أحب عبوديات عبده إليه، فكذلك تكميلها بالرجاء والخوف.
ومنها: أن في الرجاء، من الانتظار والترقب والتوقع لفضل الله، ما يوجب تعلق القلب بذكره ودوام الالتفات إليه بملاحظة أسمائه وصفاته، وتنقل القلب في رياضها الأنيقة، وأخذه بنصيبه من كل اسم وصفة، فإذا فني عن ذلك وغاب عنه، فاته حظه ونصيبه من معاني هذه الأسماء والصفات.
إلى فوائد أخرى كثيرة، يطالعها من أحسن تأمله وتفكره في استخراجها، وبالله التوفيق(15).
لكن هل نحن معظمون لله أم لا؟ للإجابة عن هذا التساؤل لا بد أن ننظر إلى حالنا عند الإقدام على فعل طاعة من الطاعات: هل نؤديها رغبة ورهبة، خوفًا وطمعًا؟ أم أن الطاعة أصبحت عادة من العادات نعملها كل يوم دون استشعار الهدف من أدائها؟ وهل المرأة حين تلبس الحجاب الشرعي تلبسه لأنه شرعٌ من الله أم أنه تراث وتقاليد؟ كذلك ننظر إلى حالنا عند فعل المعصية: هل نحس كأننا تحت جبل يكاد أن يسقط علينا أم كذبابة وقعت على أنف أحدنا فقال بها هكذا؟
كذلك لننظر إلى حالنا أثناء أداء الصلاة والقيام لرب العالمين، هل نستشعر عظمة من نقابله فنخشع في صلاتنا أم تشغلنا الأفكار والهواجس؟ وهل إذا قابلنا ملكًا من ملوك الدنيا صنعنا عنده مثل ما نصنع في صلاتنا؟ إذا أجبنا عن هذه التساؤلات بكل تجرد فسنعرف يقينًا هل نحن معظمون لله أم لا؟(16).
كان مجاهد رحمه الله إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يشد بصره إلى شيء، أو أن يلتفت أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه من شأن الدنيا إلا ناسيًا ما دام في صلاته، وكان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشوع، وكان يسجد فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه وهو في الصلاة لا يرفع رأسه.
وكان مسلمة بن بشار يصلي في المسجد فانهدم طائفة منه فقام الناس وهو في الصلاة لم يشعر.
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا حضرت الصلاة يتزلزل ويتلون وجهه، فقيل له: ما لك؟ فقال: جاء، والله، وقت أمانة عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها.
وكان سعيد التنوخي إذا صلى لم تنقطع الدموع من خدَّيه على لحيته.
وكان شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله إذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه حتى يميل يمنة ويسرة(17).
بل إن من العجيب أن كفار قريش كان في قلوبهم شيء من تعظيم الله، وإليك بعض الشواهد على ذلك:
1- قصة عتبة بن ربيعة حينما قرأ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فواتح سورة فصلت، فلما بلغ قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13]، وضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده الله والرحم ليسكتن(18).
2- قصة جبير بن مطعم أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ (37)} [الطور:35-37]، كاد قلبي أن يطير(19).
لا بد من المحاسبة والمراجعة وتقويم النفس والنظر في علاقتنا بربنا جل وعلا، ولعل من أعظم أسباب عدم تعظيم الله ما يلي:
1- الوقوع في المعاصي، وهذه هي المعضلة، وهي السبب في كل بلاء ومحنة وبُعْد عن الله تعالى، قال ابن القيم رحمه الله: «وكفى بالعاصي عقوبةً أن يضمحل من قلبه تعظيم الله جل جلاله وتعظيم حرماته، ويهون عليه حقه، ومن بعض عقوبة هذا أن يرفع الله عز وجل مهابته من قلوب الخلق، ويهون عليهم ويستخفُّون به كما هان عليه أمره واستخف به»(20).
وقال بشر بن الحارث: «لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوا الله».
2- التساهل في أوامر الله؛ فتجد كثيرًا من الناس لا يؤدون العبادات على الوجه المطلوب؛ فلو كانوا يعظمون الله حق التعظيم لعظموا أمره كذلك.
3- عدم تدبر القرآن حال قراءته، وعدم الوقوف عند وعده ووعيده، وأصبح همُّ القارئ آخر السورة فحسب، دون اعتبار للهدف الذي أُنزل من أجله القرآن، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29].
4- الغفلة عن ذكر الله؛ فتجد أحدنا في المستشفيات أو في إحدى الدوائر الحكومية جالسًا على كرسي الانتظار زمنًا طويلًا وهو لا يذكر الله ولا يسبحه ولا يكبره؛ حتى وإن سبح وكبر فهو لا يعي معنى هذا التسبيح وهذا التكبير، وهذه مشكلة لا بد أن نعالجها في نفوسنا.
5- النظر إلى ما حَرَّم الله تعالى؛ فالنظر الحرام يولد في القلب القسوة والجفاء، وهذا لا يتأتى مع التعظيم؛ لأن التعظيم لا يكون إلا من قلب خاضع خاشع لين مقبل على الله بكليته.
ولهذا فلا عجب أن يكون السلف الصالح رضوان الله عليهم من أشد الناس تعظيمًا لله؛ لأنهم أحرص الناس على طاعته وأبعدهم عن معصيته، قال القنوجي: «وهم [أي السلف الصالح] أشد تعظيمًا لله وتنزيهًا له عما لا يليق بحاله»(21)، وقال ابن منده: «والعباد يتفاضلون في الإيمان على قدر تعظيم الله في القلوب والإجلال له، والمراقبة لله في السر والعلانية»(22).
وبعد هذا كله فحريٌ بنا أن نتطرق إلى الأمور المعينة على تعظيم الله، وهي كثيرة ولله الحمد، فنذكر منها:
1- تحقيق العبودية الكاملة لله تعالى؛ فالعبد كلما تقرب إلى ربه بأنواع العبادات وأصناف القرُبات عظُم في قلبه أمر الله؛ فتراه مسارعًا لفعل الطاعات، مبتعدًا عن المعاصي والسيئات.
قال شيخ الإسلام: «وكلما ازداد العبد تحقيقًا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته»(23).
2- التدبر الدقيق للقرآن الكريم وما فيه من حِكم وأحكام، والنظر فيما فيه من الدروس والعبر، وأن نتدبر في الآيات التي تتحدث عن خلق الله وبديع صنعه، والآيات التي تتحدث عن عقوبته وشديد بطشه، وآيات الوعد والوعيد، فإن تدبر القرآن يؤثر في القلب ولا شك، ويُذكي فيه عظمة الخالق والخوف منه.
قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: «بل قراءة آية بتدبر وتفهُّم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهُّم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة الإيمان، وهكذا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم والسلف من بعده، حتى إنه ليردد الآية إلى الصباح، وهذا هو أصل صلاح القلب، ومن مكائد الشيطان تنفير عباد الله من تدبر القرآن لعلمه أن الهدى واقع في التدبر»(24).
3- التفكر في خلق السماوات والأرض؛ فإن الناظر فيها ليدهش من بديع صنعها وعظيم خلقها واتساعها؛ ومع هذا فهو لا يرى فيها شقوقًا ولا فطورًا، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)} [الملك:3-4].
ولهذا أثنى الله على عباده الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} [آل عمران:190-191].
ومن الأحاديث الدالة على عظمة السماوات ما رواه أبو ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة»(25).
فهذا الحديث يبين عظمة السماوات وعظمة الكرسي والعرش، ونحن بنو آدم لا نساوي شيئًا أمام هذه المخلوقات العظيمة، ومع ذلك يقول الله تعالى في السماء والأرض: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، قال الشوكاني: «أي أتينا أمرك منقادين»(26).
4- النظر في حال من غبر؛ فلقد عاش على هذه الأرض أقوام وشعوب أعطاهم الله بسطة في الجسم وقوة في البدن لم يعطها أمة من الأمم، ولكنها كفرت بالله وكذبت بالرسل؛ فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ودمرهم تدميرًا؛ فها هم قوم عاد الذين قالوا: «من أشد منا قوة؟»! أهلكهم الله {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى القَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)} [الحاقة:6-7]، وها هم ثمود، الذين كانوا ينحتون من الجبال بيوتًا فارهين، أهلكهم الله بالصيحة {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود:67]، فالله سبحانه لم يتكلف في عذاب هذه الأمم، ولم يكن له سبحانه أن يتكلف، إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، فما بالنا نحن الأضعف والأقل قوة وبطشًا لا نخشى أن يصيبنا مثل ما أصاب أولئك؟
5- الدعاء: وهو أنفع الأدوية وأقوى الأسباب متى ما حضر القلب وصدقت النية؛ فإن الله لا يخيب من رجاه، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ} [البقرة:186](27).
***
_________________
(1) تفسير ابن كثير (8/ 233).
(2) جامع العلوم والحكم، ت ماهر الفحل (1/ 116).
(3) تهذيب الأخلاق، للجاحظ، ص22.
(4) الأساس في التفسير (11/ 6155).
(5) مدارج السالكين (2/ 495).
(6) منازل السائرين، للهروي (1/ 80-81).
(7) تفسير ابن كثير (3/ 631).
(8) أخرجه الترمذي (2312).
(9) الوابل الصيب، ص13.
(10) المصدر السابق، ص17.
(11) مفاتيح الغيب (30/ 653).
(12) المصدر السابق (31/ 18).
(13) تفسير القرطبي (18/ 303).
(14) أخرجه الترمذي (3373).
(15) مدارج السالكين (2/ 50-52).
(16) تعظيم الله تعالى، موقع: مقالات إسلام ويب.
(17) 33 سببًا للخشوع في الصلاة، ص35-39.
(18) تفسير القرطبي (15/ 221).
(19) أخرجه البخاري (4854).
(20) الجواب الكافي، ص46.
(21) قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، ص48.
(22) كتاب الإيمان (1/ 300).
(23) مجموع الفتاوى (10/ 176).
(24) حاشية الروض (2/ 207).
(25) أخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (109).
(26) فتح القدير (4/ 508).
(27) رسالة في تعظيم الله، مجلة البيان، (العدد:168).