logo

فاعتبروا يا أولي الأبصار


بتاريخ : الخميس ، 11 ذو القعدة ، 1441 الموافق 02 يوليو 2020
بقلم : تيار الاصلاح
فاعتبروا يا أولي الأبصار

عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنّه بكى يومًا بين أصحابه، فسئل عن ذلك فقال: فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر، إن فيها مواعظ لمن ادكر (1).

الاعتبار: النظر في دلالة الأشياء على لوازمها وعواقبها وأسبابها، وهو افتعال من العبرة، وهي الموعظة.

والعبرة: اسم مصدر للاعتبار، وهو التوصل بمعرفة المشاهد المعلوم إلى معرفة الغائب، وتطلق العبرة على ما يحصل به الاعتبار المذكور من إطلاق المصدر على المفعول (2).

وقال أبو سليمان الداراني: إني لأخرج من منزلي، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليَّ فيه نعمة، أو لي فيه عبرة (3).

أنواع العبرة:

أولها: العبرة في بيان قدرة الحق سبحانه: وأعظم ما يكون ذلك بالنظر في مصنوعات الله والتفكر في مخلوقاته، فالصنعة تدل على الصانع، ودقة الخلق تدل على عظمة الخالق، ورب العزة سبحانه يدعونا لنتأمل في خلقنا، وفي خلق السماوات والأرض، وخلق النبات، والبحار، والحيوان، قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام: 99]، {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} [النحل: 66].

وها هو ذا يقف بنا أمام نشأة الحياة في النبات.. وأمام مشاهد الأمطار الهاطلة، والزروع النامية، والثمار اليانعة، وهي حشد من الحيوات والمشاهد، ومجال للتأمل والزيادة، لو نشاهدها بالحس المتوفز والقلب المتفتح (4).

يقول بعض العلماء: إن الغذاء إذا طبخ في المعدة انصرف كل شيء إلى سبيله، فينصرف الدم إلى العروق، واللبن إلى الضرع، والبول إلى المثانة، والروث إلى الأمعاء ثم المخرج، فلا يمتزج شيء منها بغيره، بل ولا يأخذ واحد منها من الآخر رائحة أو تشوبه منها شائبة؛ فتبارك الله أحسن الخالقين، ومن تأمل في خلق الله وتصرفه وجد العجب العجاب.

لله فـي الآفاق آيات      لعل أقـلهـا هـو ما إليه هـداكا

ولعل ما في النفس من آياته    عجب عـجــاب لو تـرى عيـناك

والكون مشحون بأسرار إذا     حـاولت تفسـيرًا لهـا أعياكا

ثانيًا: الاعتبار بهلاك الظلمة والطغاة: اعلم أن للكرسي شهوة هي أشد من شهوة المال والنساء والولد، والحاكم إن لم يكن عنده من الدين ما يحفظ له توازنه وعقله أصيب بجنون العظمة؛ حتى يرى نفسه فوق مستوى البشر، فربما قال: أنا ربكم الأعلى، كما قال فرعون، أو كما قال النمرود: أنا أحيي وأميت.

أو يظن أن عقله يتسع لأن يشرع للبشرية منهجًا أحسن من منهج الله أو يساويه أو يدانيه، أو يستورد لهم من قوانين الخلق ما يظنه فوق شريعة الرب، وهذا أعظم الظلم وأبينه كما قال عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ} [الأنعام: 93]، فتأمل في عاقبتهم واعتبر.

أما فرعون فأغرقه الله في اليم {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات: 40]، وجعل من جثته وجيفته آية وعظة وعبرة لكل الطغاة بعده {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس: 92]، فما أعظمها من عبرة ولكن أين من يعتبر؟ {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 92].

{إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى} فالذي يعرف ربه ويخشاه هو الذي يدرك ما في حادث فرعون من العبرة لسواه، أما الذي لا يعرف قلبه التقوى فبينه وبين العبرة حاجز، وبينه وبين العظة حجاب، حتى يصطدم بالعاقبة اصطدامًا، وحتى يأخذه الله نكال الآخرة والأولى، وكل ميسر لنهج، وكل ميسر لعاقبة، والعبرة لمن يخشى (5).

وكم من طاغية أحاط نفسه بمن يظن أنهم يحمونه، وسور على نفسه بألف سور لتحفظه من أهل الأرض، {فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [النحل: 26].

ثالثًا: الاعتبار بزوال الأمم: فمن سنن الله في كونه أن أحوال الناس معلقة بإيمانهم فإذا غيروا غير الله عليهم، فإن هم آمنوا بالله أنزل لهم المطر، وأنبت لهم الزرع، وأحفل لهم الضرع، أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، فإذا غيروا وعصوا وظلموا وكفروا نعمته؛ أهلكهم بذنوبهم وظلمهم، فأمسك عنهم القطر، وأبدلهم بعد الأمن خوفًا، وبدل الرزق جوعًا، وبدل النعمة نقمة، {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].

لما فتحت قبرص فرق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، قال جبير بن نفير: رأيت أبا الدرداء جالسًا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره، بينا هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى (6).

قال ابن تيمية: وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا، فنشبه حالنا بحالهم، ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين، ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان (7).

رابعًا: العبرة بمن استطال على الناس بجاهه وماله: بعض الذين فاجأتهم النعمة نظروا إلى البشر نظرة ازدراء واحتقار، وظنوا أنهم فوق بقية الناس اعتزازا بأموالهم أو بجنسياتهم أو قومياتهم أو إقليمياتهم.. وهؤلاء ضرب الله لهم مثلًا بقارون كان من قوم موسى فبغى عليهم {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيْتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 76- 78]، فنسب النعمة لنفسه ولم ينسبها لرب العزة سبحانه.

فكيف كانت العاقبة؟ {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص: 81].

فابتلعته وابتلعت داره، وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقًا، وذهب ضعيفًا عاجزًا، لا ينصره أحد، ولا ينتصر بجاه أو مال.

وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت بعض الناس وردتهم الضربة القاضية إلى الله وكشفت عن قلوبهم قناع الغفلة والضلال (8).

خامسًا: العبرة بعاقبة أكل الحرام: قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]، ذكر ابن كثير في تفسير الآية: قال ابن عباس: هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال، ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام (9).

وعن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذ، فإنما أقطع له قطعة من النار» (10).

وهكذا يتركهم لما يعلمونه من حقيقة دعواهم، فحكم الحاكم لا يحل حرامًا، ولا يحرم حلالًا، إنما هو ملزم في الظاهر، وإثمه على المحتال فيه (11).

لما حضرت عمر بن عبد العزيز قال له مسلمة بن عبد الملك -وكان قائد جيوشه وابن عمه-: يا أمير المؤمنين، إنك أقفرت أفواه ولدك من هذا المال فتركتهم عالة لا شيء لهم، فلو أوصيت بهم إلي أو إلى نظرائي من أهل بيتك، قال: فقال: أسندوني، ثم قال: أما قولك إني أقفرت أفواه ولدي من هذا المال؛ فإني والله ما منعتهم حقًا هو لهم، ولم أعطهم ما ليس لهم، وأما قولك لو أوصيت بهم إلي أو إلى نظرائي من أهل بيتك؛ فوصيي ووليي فيهم الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين.

بني أحد رجلين: إما رجل يتقي فسيجعل الله له مخرجًا، وإما رجل مكب على المعاصي فإني لم أكن لأقويه على معصية الله.

ثم بعث إليهم وهم بضعة عشر ذكرًا، قال: فنظر إليهم فذرفت عيناه فبكى، ثم قال: بنفسي الفتية الذين تركتهم عيلى لا شيء لهم، بلى بحمد الله قد تركتهم بخير، أي بني إنكم لن تلقوا أحدًا من العرب ولا من المعاهدين إلا كان لكم عليهم حقًا، أي بني إن أمامكم ميل بين أمرين، بين أن تستغنوا ويدخل أبوكم النار، وأن تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة، فكان أن تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة أحب إليه من أن تستغنوا ويدخل النار، قوموا عصمكم الله (12).

فلقد رآهم بعد ذلك من رآهم وقد أغناهم الله من فضله، فمنهم الأمير ومنهم من يتصدق بالألوف ويحمل في سبيل الله.

سادسًا: أن العاقبة لمن اتقى وصبر: فهذا يوسف عليه السلام حسده أخوته وهموا بقتله {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَو اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُم}، ويرمونه في الجب، وتمضي الأيام ويمكن الله له في الأرض، بل ويأتيه إخوته أذلة صاغرين، {قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ] [يوسف: 90].

النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما هاجروا تركوا ديارهم وأموالهم لله تعالى، فعوَّضهم الله بأن جعلهم قادة الدنيا، وحكام الأرض، وفتح عليهم خزائن كسرى وقيصر، ومكنهم من رقاب الملوك والجبابرة، هذا مع ما يرجى لهم من نعيم الآخرة، فشكروا، ولم يكفروا، وتواضعوا ولم يتكبروا، وحكموا بالعدل بين الناس، قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].

موقف المؤمن من العبرة:

أما موقف المؤمن من هذه الآيات والشواهد والعبر:

أولًا: أن يعلم أن المتصرف الحقيقي في الكون هو الله:

يظهر هذا من قصة موسى وفرعون، ففيها تحد للفلسفة العقلية فتأمل معي؛ أُعلِم فرعون أن هلاكه سيكون على يد مولود من بني إسرائيل، فأمر بأن يقتل كل مولود ذكر، فشاء الله أن يولد وأراد فرعون ألا يولد.. فولد وأراد الله أن يعيش وأراد فرعون ألا يعيش، فكان ما أراد الله بل ويعيش في بيت فرعون وكنفه ويربيه بيده، ثم خرج موسى طريدًا شريدًا فآواه الله وأمنه وزوجه، وعاد إلى فرعون نبيًا داعيًا وهو مطلوب الدم يدخل على أعظم ملوك الأرض ويخرج بعد ذلك منتصرًا.

خرج مع قومه بني إسرائيل حتى بلغو البحر وأدركه فرعون وجنوده، كل قوانين الأرض تحكم أنه هالك لا محالة، وخار قومه وتيقنوا الهلكة وقالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} فكانت النجاة لموسى ومن معه، وكانت الهلكة لفرعون ومن معه، إن في ذلك لآيات لأولي النهى.

ثانيًا: أن تزن الأمور بحقائقها لا بمجرد ظواهرها:

المسلمون في حنين كثرة وقالوا: لن نهزم اليوم من قلة؛ فكانت الهزيمة، وفي بدر كانوا قلة ونصرهم الله وهم أذلة، فليست الأمور توزن بالقلة والكثرة الظاهرة، بل قلة معها الله منصورة لا محالة، وكثرة معها الشيطان مقهورة لا محالة، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ} [البقرة: 249].

ثالثًا: لا تحزن لفرحة ظالم أو لغلبة باطل:

فإن للباطل جولة وللحق جولات، ودولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، والحق أبلج والباطل لجلج، وقد ذيل الله كثيرًا من الآيات بقوله عن الكفار: حبطت أعمالهم.

وأصل الحبط والحبوط: أن تأكل الدابة شيئًا فتنتفخ وربما تموت، فيظن من رآها من قصار النظر أن انتفاخها دليل عافيتها وقوتها، ولكنها في الحقيقة تحمل سبب هلاكها في نفسها، وكذلك الباطل يظن من رأى غلبته أنه باق لا يزول، وربما ظن البعض أن الواقع لا يتغير وأن الغلبة لأعداء الله، ولكن يأبى الله إلا أن ينصر دينه وأهله وحزبه {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18] (13).

قال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، هذه آية جليلة الشأن في الكتاب العزيز سرت مسرى المثل، وذاعت على الألسنة والأقلام؛ لأنها تعني وجوب الاستفادة من تراكم الخبرات البشرية، وأخذ العظة والعبرة من أحوال الأمم السابقة، والمعاصرة، وتوفيرًا للجهد، واختصارًا للطريق، وفرارًا من عذاب الله تعالى.

{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} ولا تعتمدوا على شيء غير الله، فليس للزاهد أن يعتمد على زهده، فإن زهده لا يكون أكثر من زهد بلعام، وليس للعالم أن يعتمد على علمه، انظر إلى ابن الراوندي مع كثرة ممارسته كيف صار، بل لا اعتماد لأحد في شيء إلا على فضل الله ورحمته (14).

وقد قص الله تعالى علينا في سورة الحشر قصة جلاء بني النضير من المدينة إلى خيبر والشام مبيناً وقوع ما ليس في الحسبان، فقال تباركت أسماؤه: {هُوَ الَذِي أَخْرَجَ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] .

لقد كان خروج بني النضير في تلك الصورة المهينة الذليلة حدثًا بعيدًا عن أذهان بني النضير وأذهان المسلمين لأن الأسباب المادية التي أخذ بها القوم كانت على درجة من الإتقان والإحكام تحول دون تصور ما وقع..

ولكن العزيز الجبار الذي لا رادَّ لأمره، ولا معقب لحكمه أتاهم من حيث لم يحتسبوا أتاهم من الداخل، فألقى في قلوبهم الرعب، فخارت عزائمهم، وأدركوا أن قوتهم ما عادت تغني عنهم شيئًا.

وما أشبه الليلة بالبارحة!

فهذه هي النظرية الشيوعية تنهار اليوم في أسرع مما كان يدور في خلد البشر، وهذه هي مئات الألوف من الكتب والمجلدات التي سطرت في فلسفة النظرية وترويجها وتكييف البشر معها تغدو رمادًا تسفوه رياح التغيير العاتية في وجوه السدنة والكهنة والمرتزقة والأذناب وأشباه الأذناب..

لقد كان سقوط النظرية الشيوعية أمرًا لا مفر منه، ولكن المذهل هو انهيار البناء الذي أنفق فيه ثلاثة أرباع القرن من الزمن مع ملايين الأنفس، وما لا يحصى من الآلام والعذابات، وصنوف المعاناة الإنسانية في أسرع من لمح البصر (15).

***

____________________

(1) تفسير ابن كثير (1/ 439).

(2) التحرير والتنوير (13/ 71).

(3) تفسير ابن كثير (2/ 184).

(4) في ظلال القرآن (2/ 1153).

(5) في ظلال القرآن (6/ 3816).

(6) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 216).

(7) العقود الدرية 1/ 137).

(8) في ظلال القرآن (5/ 2713).

(9) تفسير ابن كثير (1/ 521).

(10) أخرجه البخاري (6967)، ومسلم (1713).

(11) في ظلال القرآن (1/ 176).

(12) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 334).

(13) الاعتبار والمعتبرون/ الإسلام ويب.

(14) تفسير الرازي (29/ 503).

(15) فاعتبروا يا أولي الأبصار، مجلة البيان (العدد: 25).