logo

جددوا إيمانكم


بتاريخ : الأربعاء ، 25 شوّال ، 1441 الموافق 17 يونيو 2020
بقلم : تيار الاصلاح
جددوا إيمانكم

إن تجديد الإيمان في القلوب والنفوس، وتوثيق الصلة بالله تعالى، أمر جاءت به نصوص الكتاب والسنة، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136].

قال ابن كثير: ولولا احتياجه ليلًا ونهارًا إلى سؤال الهداية لما أرشده الله إلى ذلك؛ فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية، ورسوخه فيها، وتبصره، وازدياده منها، واستمراره عليها، فإن العبد لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله، فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونة والثبات والتوفيق، فالسعيد من وفقه الله تعالى لسؤاله؛ فإنه تعالى قد تكفل بإجابة الداعي إذا دعاه، ولا سيما المضطر المحتاج المفتقر إليه آناء الليل وأطراف النهار، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} الآية [النساء: 136]، فقد أمر الذين آمنوا بالإيمان، وليس في ذلك تحصيل الحاصل؛ لأن المراد الثبات والاستمرار والمداومة على الأعمال المعينة على ذلك، والله أعلم (1).

وجاء في الحديث عن ابن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم» (2).

يعني بذلك أن الإيمان يبلى في القلب كما يبلى الثوب إذا اهترأ وأصبح قديمًا، وتعتري قلب المؤمن في بعض الأحيان سحابة من سحب المعصية فيظلم، وهذه الصورة صورها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح: «ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينا القمر مضيء إذ علته سحابة فاظلم، إذ تجلت عنه فأضاء» (3).

فالقمر تأتي عليه أحيانًا سحابة تغطي ضوءه، وبعد برهة من الزمن تزول وتنقشع فيرجع ضوء القمر مرة أخرى ليضيء في السماء، وكذلك قلب المؤمن تعتريه أحيانًا سحب مظلمة من المعصية، فتحجب نوره، فيبقى الإنسان في ظلمة ووحشة، فإذا سعى لزيادة إيمانه واستعان بالله عز وجل انقشعت تلك السحب، وعاد نور قلبه يضيء كما كان.

فالعوامل والفتن والابتلاءات التي تحيط بنا من كل مكان، تؤثر في القلب والنفس، وربما وقع صاحبها في الضيق والحرج والإثم، لضعف العامل الإيماني والوازع الشرعي في القلب.

بل ربما وقع مثل هذا في الانتكاس عن طريق الاستقامة والعبادة، فيقع منه التقصير في الفرائض والواجبات، وربما وقع في الذنوب والمحرمات.

فالمسلم إذن في حاجة دائمة إلى تقويم إيمانه وتهذيب نفسه وتزكيتها حتى لا تؤثر فيه عوامل الفتنة والابتلاءات من حوله.

وهناك الكثير من الوسائل الإيمانية والصلات الربانية التي ترفع مستوى الإيمان في القلب، وتوثق الصلة بين العبد وربه وتزكي النفس وتهذبها، فمن ذلك على سبيل المثال:

إقامة الصلاة بأركانها وخشوعها:

اعلموا أن أعظم أركان الإسلام بعد التوحيد وإقامته، إقامة الصلوات في أوقاتها لله تعالى، بأركانها وشروطها، من الطمأنينة، والتدبر، والترتيل، والخشوع والذلة لله تعالى.

لقد جعل الله تعالى المحافظة على الصلاة، والقيام بحقها من صفات المتقين الصادقين فقال تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة: 1- 3].

كما أمر بها الأمم من قبلنا بفعلها، فقال تعالى لبني إسرائيل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]، ثم كرر الأمر بها فقال: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45].

ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أمره بدعوة الناس إلى الصلاة، كما جاء في الحديث عن معاذ وابن عباس رضي الله عنهما: «إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم، فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب» (4).

وهذه الصلاة طريق لتهذيب النفس والأخلاق، وحفظها عن الفواحش والدنايا والمحرمات، كما أخبرنا تعالى في كتابه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].

كما جعل سبحانه إقامة الصلاة على أوقاتها، من أعظم ما يذهب السيئات والخطايا عن الإنسان، فقال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114].

وجاء في الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» (5).

كما جعل الله الصلاة من أجل الذكر له تعالى فقال عز وجل: {إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].

قال السعدي رحمه الله: أقم الصلاة لأجل ذكرك إياي، لأن ذكره تعالى أجل المقاصد، وهو عبودية القلب، وبه سعادته، فالقلب المعطل عن ذكر الله، معطل عن كل خير، وقد خرب كل الخراب، فشرع الله للعباد أنواع العبادات، التي المقصود منها إقامة ذكره، وخصوصًا الصلاة.

قال الله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ} أي: ما فيها من ذكر الله أكبر من نهيها عن الفحشاء والمنكر، وهذا النوع يقال له توحيد الألوهية، وتوحيد العبادة، فالألوهية وصفه تعالى، والعبودية وصف عبده (6).

كما حذرنا الله تعالى من تضيع الصلاة، وإخراجها عن وقتها الذي يحبه الله تعالى ويتعبدنا به فقال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].

وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} [الماعون: 4-5].

كما جعل الله التكاسل عن الصلاة من علامات المنافقين وصفاتهم، فقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 144].

وجاء في حديث أبي هريرة مرفوعًا: «أثقل الصلاة على المنافقين؛ صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما، لأتوهما ولو حبوًا» (7).

وعنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال: «هل تسمع النداء بالصلاة؟» قال: نعم قال: «فأجب» (8).

وترك الصلاة بلا عذر شرعي أمر محرم شرعًا، وقد يفضي بصاحبه إلى الكفر عياذًا بالله تعالى، فعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» (9).

إذن من الواجب على المسلمين الاهتمام بالصلاة والمحافظة عليها، لأنها من أفرض الفرائض علينا، ثم لأن الصلاة بناء للإنسان وتهذيب للنفس، وصلة قوية تربط العبد بخالقه، وتخلق فيه من أنواع الحب والخشية الشيء الكثير.

تلاوة القرآن وتدبره:

أفضل الذكر تلاوة القرآن وذلك لتضمنه لأدوية القلب كما قال الله عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57].

وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه» (10).

فما أحوج المسلم إلى تلاوة هذا الكتاب، وقد قال خباب رضي الله عنه: تقرب إلى الله ما استطعت فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه (11).

يقول الدكتور مصطفى عبد الواحد: إن المسلم يعلم أن كتاب الله عز وجل هو روح الهداية في هذه الدنيا، وهو نقطة التحول في تاريخ البشرية، فلا بد أن يكون وثيق الصلة به، يعيش معه ولا يسأم من ترديد النظر فيه، فهو حبل الله المتين وصراطه المستقيم (12).

ويقول أيضًا: ومن هنا فلا ينبغي للمسلم أن يتهاون في صلته بالقرآن فينساه أو يهجره، فالقرآن هو الدستور الذي يجمع حقائق الإسلام؛ فإذا انقطعت صلة المسلم به فإن نبع الإيمان يجف في نفسه فتذوي نضارته ويذهب بهاؤه (13).

ويقول أبو الحسن الندوي رحمه الله: والقرآن وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم قوتان عظيمان تستطيعان أن تشعلا في العالم الإسلامي نار الحماسة والإيمان (14).

فمن الواجب على كلّ مسلم أن يتدبَّر هذا القرآن العظيم، وأن يتفهَّم آياتِه ومعانيَه، وأن يعيش معه برُوحه وفِكْره ووجدانه؛ كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} [ص: 29]، وقال أيضًا: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].

قال العلامة ابن سعدي رحِمه الله: أي: فهلا يتدبَّر هؤلاء المعرضون القُرآن كتاب الله، ويتأمَّلونه حقَّ التَّأمُّل، فإنَّهم لو تدبَّروه، لدلَّهم على كلّ خير، ولحذَّرهم من كلِّ شرّ، ولملأ قلوبَهم من الإيمان، وأفئِدتَهم من الإيقان، ولأوْصلَهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية، ولبيَّن لهم الطَّريق الموصّلة إلى الله، وإلى جنَّته ومكملاتها، ومفسداتها، والطَّريق الموصّلة إلى العذاب وبأيّ شيءٍ تُحْذَر، ولعرَّفهم بربِّهم، وأسمائه وصفاته وإحسانه، ولشوَّقهم إلى الثَّواب الجزيل ورهَّبهم من العقاب الوبيل (15).

ولا يَخفى عليْنا ما للتدبُّر من آثارٍ وفوائد، وقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتدبَّر القرآن، ويردِّدُه وهو قائم باللَّيل، حتَّى إنَّه في إحْدى اللَّيالي قام يردِّد آيةً واحدةً من كتاب الله، وهو يصلِّي لَم يُجاوزْها حتَّى أصبح، وهي قوله تعالى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] (16)، وهذا يدلّ على وجوب تدبُّر القرآن الكريم ومُعايشة آياتِه، وفهْم معانيه وما تدْعو إليْه.

والقرآن فيه توْحيد، ووعْد ووعيد، وأحكام وأخبار، وقصص وآداب، وأخلاق وآثارها في النَّفس متنوّعة.

وقد كان صحابة النَّبي صلى الله عليه وسلم يقرؤُون ويتدبَّرون ويتأثَّرون، وكان أبو بكر رضِي الله عنْه رجُلًا أسيفًا رقيقَ القلب، إذا صلَّى بالنَّاس وقرأ كلام الله تعالى لا يتمالَكُ نفسَه من البكاء، ومرض عُمر رضِي الله عنْه من أثر تلاوة قوْل الله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِن دَافِعٍ (8)} [الطور: 7- 8].

وقال عثمان بن عفَّان رضي الله عنْه: لو طهرتْ قُلوبُنا ما شبِعَت من كلام ربِّنا، وقُتِل شهيدًا مظلومًا ودمُه على مصْحفه، وأخبار الصَّحابة في هذا كثيرة.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: والمطلوب من القُرآن هو فهْم معانيه والعمل به، فإن لم تكُن هذه همَّة حافظه لم يكُن من أهل العلم والدين (17).

طلب العلم والحرص عليه:

إنَّ هذا العلم نورٌ يقذفه الله في قلب العبد إذا رغب في تحصيله، وسلك سبيله، وأخلَصَ لله قصده، واستَفرَغ في طلبه وقتَه وجهدَه، فإذا استَقَرَّ ذلكم النورُ في القلب صلح به القلب، وانشَرَح به الصدر، واطمأنَّت به النفس، فطابَت الأقوال، وصلحت الأعمال، وحسُنَت السَّرِيرة، وجملت السيرة، فصار صاحبُه إمامَ هدًى يُقتَدَى به إلى آخِر الدهر، ولا يعلَم إلا الله ما له عنده من كرم الذخر وعظيم الأجر، فتعلَّموا العلمَ تُعرَفوا به، واعمَلُوا به تكونوا من أهله، فما عُبِد اللهُ تعالى بعد الفرائض بشيءٍ أفضلُ من العلم.

إنَّ طلَبَه عبادة، وتعليمَه لله خشية، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جِهاد، وما اكتَسَب مكتسبٌ مثل فضْل علمٍ يَهدِي صاحبَه إلى هدًى أو يكفه عن سبيل هوًى ودركة ردى، وإنما ينتَفِع به مَن طلَبَه لله فعَمِل به وبذَلَه في عِباد الله، فذاك الذي تَراه كلَّما أصاب منه بابًا ازداد لله تَواضُعًا وله خشية، ومنه خوفًا ورهبة، وله رجاء وإليه رغبة، وبه أنسًا وله محبَّة، ولنبيِّه صلَّى الله عليْه وسلَّم إيمانًا وتصديقًا، وتعزيرًا وتوقيرًا، ولعباد الله تَواضُعًا ونُصحًا ورحمةً وشفقة، فذاك الذي علمُه في قلبه فهو على نورٍ من ربه (18).

وطلب العلم الشرعي بصدقٍ، وإخلاص من أسباب دخول الجنة فلقد صَحَّ عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سَهَّل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له مَن في السموات ومن في الأرض؛ حتى الحيتانُ في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورشةُ الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍ، وافر» (19).

وقوله: «وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم» معناه أنها تدعو له وتعطف عليه.

وتتواضع لطالب العلم تعظيمًا له، أو أنها تنزل عند مجالس العلم وتترك الطيران.

ومَن أراد الله به خيرًا وَفّقه لتعلم ما ينفعه ويِّبصره بأحكام دينه.

وعنه صلى الله عليه وسلم قال: «مَن يرد الله به خيرًا يفقه في الدين» (20).

بالعلم يصلح الإنسان زيفه وفاسده، ويرغم عدوَّه وحاسده ويقوّم عوجه ومَيلَه ويصحح نيته وأملَه.

ومن وصايا لقمان لابنه قال: يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحي القلوب الميتة بالحكمة كما يحي الأرض الميتة بوابل السماء (21).

ذكر الله تعالى:

وكذلك يحتاج المسلم في عدته الإيمانية الروحية إلى الذكر وقد قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، وقال الله تعالى: {وَلَذِكُر اللهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45].

وقال تعالى: {فَاذكُروني أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، وقال تعالى: {وَاذكُروا الله كَثِيرًا لَعَلَّكم تُفْلِحونَ} [الجمعة: 10].

وقال تعالى: {وَاذكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وخِيفةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَولِ بالغُدُوِّ والآصَال وَلا تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ} [الأعراف: 205].

وقال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اذْكُرُوا الله ذِكرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكرةً وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب: 41- 42].

وليعلم المسلم أن حقيقة الذكر ليست باللسان؛ بل لا بد أن ينشأ أولًا في الشعور والوجدان، ثم يفيض على اللسان مناجاة وحمدًا وتسبيحًا وتنزيهًا، فحينئذٍ يكون المسلم من الذاكرين حقًا الذين أعد الله لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا.

وفي الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره، مثل الحي والميت» (22).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبق المفردون»، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: «الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات» (23).

وعن عبد الله بن بسرٍ رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبرني بشيءٍ أتشبث به، قال: «لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله» (24).

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلك على كنزٍ من كنوز الجنة؟»، فقلت: بلى يا رسول الله، قال: «لا حول ولا قوة إلا بالله» (25).

وقال الحسن البصري: تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وقراءة القرآن، فإن وجدتم؛ وإلا فاعلموا أن الباب مغلق (26).

وقال الإمام ابن القيم: الذكر هو المنزلة الكبرى التي منها يتزود العارفون، وفيها يتجرون، وإليها دائمًا يترددون، وبه يستدفعون الآفات، ويستكشفون الكربات، وتهون عليهم به المصيبات، وهو جلاء القلوب وصقالتها، ودواؤها إذا غشيها اعتلالها، وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقًا، ازداد محبة إلى لقائه للمذكور واشتياقًا (27).

وفي الحديث القدسي: «فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» (28).

قيام الليل:

وهذا أيضًا من أعظم الزاد والبناء الإيماني في قلب المسلم، وهو من أول ما أمر الله به نبينا عليه الصلاة والسلام، يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزمل: 1- 4].

وقال الله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّد بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحمُودًا} [الإسراء: 79].

وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا، يا رسول الله، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» (29).

بل إن السلف الصالح كانوا يعظمون قيام الليل، ويرفعون مكانته، ويجعلونه دليل العلم والخشية، وعلامة الصالحين الصادقين، وكانوا يعجبون مما لا نصيب له من هذه العبادة الجليلة.

فقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله في صفة الصفوة في ترجمة الإمام أحمد بن حنبل: عن أبي بكر المروزي قال: كنت مع أبي عبد الله نحوًا من أربعة أشهر بالعسكر؛ لا يدع قيام الليل، وقراءة النهار، فما علمت بختمة ختمها كان يسر ذلك (30).

وذكر عنه صاحب الآداب الشرعية: إبراهيم بن شماس، قال: كنت أعرف أحمد بن حنبل وهو غلام وهو يحيي الليل (31).

وفي قيام الليل لتكوين المسلم والداعية عدة عناصر:

1- الإخلاص: وهو أن يبتغي بدعوته وجه الله سبحانه.

2- التميز: وهو ضرورة لشخصية الداعية؛ لأن الشعور بالتميز هو الذي يعطي للمسلم في نفسه دافع الدعوة لغيره، حيث أن هذه الصلاة لا يقوى عليها إلا من تفرد وتميز بالعزم والقوة.

3- الإرادة: فصلاة التهجد معالجة لنوعي الإرادة: البدء والاستمرار حيث نجد في هذه الكيفية طول الصلاة ليتم من خلالها تربية الداعية على إرادة الاستمرار.

4- الاتزان النفسي: في ظروف الاستضعاف (32).

ذكر الموت والدار الآخرة وقصر الأمل:

فقد جاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيلٍ».

وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أمسيت، فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت، فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك (33).

عن عبد الله رضي الله عنه، قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطًا مربعًا، وخط خطًا في الوسط خارجًا منه، وخط خططًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: «هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به -أو: قد أحاط به- وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا» (34).

وكذلك؛ ذكر الموت هادم اللذات وزيارة قبور الموتى مما يزيد رصيد الإيمان في القلب ويحقر شأن الدنيا في نظر المسلم الصادق، فلا يتعلق قلبه بغير الله والدار الآخرة، ولا تلتفت نفسه إلى متاع الدنيا الفانية؛ لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة.

وقد قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].

وقال أيضًا مذكرًا بوعده الحق: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)} [ق: 20- 19].

وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثروا ذكر هاذم اللذات يعني الموت» (35).

فلا ينبغي أن يغفل المسلم عن ذكر دار مستقره في الآخرة، وعن أنه راحل عن الدنيا، فلا تعتريه الغفلة وهو في سكرة الدنيا والأموال والتجارة غافلًا ناسيًا، وقد بين الله ذلك في كتابه.

فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)} [المنافقون: 9 - 11].

وقال تعالى: {حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارجِعُونِ (99) لَعَلِّي أعمَلُ صَالحًا فِيما تَرَكتُ كَلاَّ إنَّهَا كَلِمَةٌ هو قَائِلُهَا وَمِن ورَائِهم بَرْزَخٌ إلى يَوْم يُبْعَثُونَ (100)} [المؤمنون: 99 – 100].

فالموت لا محالة منه ولا فرار، فلا بد من الاستعداد له، كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوتِ وَإنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُم يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عنِ النَّارِ وأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فَازَ وما الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ} [آل عمران: 185] (36).

قراءة سير السلف الصالح:

فقراءة سير الزاهدين تربي في القلوب الزهد، وقراءة سير المجاهدين والشهداء تجعل القلب يُحَلِّقُ في السماء وكأنه يعيش معهم، ويستلهم منهم، ويتمنى أن لو كان واحدًا منهم، بل إن قراءة سيرتهم تجد الواحد منا وكأنه قد انتظم في صف جيشهم، وكأنه يمتطي صهوة جواد يقاتل معهم ويصول ويجول في ميدان القتال، فكم أَحْيَتْ سيرة خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة عامر بن الجراح وعكرمة والمقداد والمثنى بن حارثة قلوبًا عرفَتْها، وكم دفعت أقوامًا للشهادة في سبيل الله، وكم حرضت على البذل والعطاء وإرواء شجرة الإسلام العظيمة من دماء الشهداء.

ومن أجل ذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم يعلمون أبناءهم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعلمونهم الآية من القرآن.

إن سيرة رجل مثل خالد بن الوليد وحدها يمكن أن تحيي قلوب أمة بأسرها، وتستنهض همتها، وتشد عزيمتها، ومن أجل ذلك نُصِحَتْ بعضُ الأنظمة العَلْمانية بعدم تدريس "عبقرية خالد" التي كانت مقررة على طلاب الثانوية العامة منذ سنوات، وذلك لما أحدثته من أثر خطير على الطلاب في تلك السن.

إن سيرة خالد بن الوليد وأمثاله؛ تجعل المسلم يحتقر الدنيا وشهواتها ولذاتها الفانية، وتجعله يحب الموت، وتجعله يمشي على الثرى وهمته في الثريا، وتجعله يحتقر نفسه الدنيئة التي تفكر أو تتعلق بعَرَضٍ زائلٍ أو متاعٍ رخيصٍ، وكم نَزَعَتْ سِيَرُهم من القلوب دواعي الرعب وهواتف الخوف وتلبيس الشيطان، وكم دفعت قلوبًا إلى حصن التوكل الحق على الله.

أما قراءة سير الزهاد والصالحين؛ فَتُنْبِتُ في القلب شجرة الزهد في الدنيا، وتظل تسقي هذه الشجرة حتى تترعرع في القلب وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وسير العابدين تربي النفس على حب القيام والصيام والذكر والدعاء والخشوع والبكاء، فكم أنبتت سير التوابين بذور التوبة، وكم حركت قلوبًا قست من كثرة بعدها عن ربها، وكم فتحت صنابيرَ دموعِ الندمِ والتوبة من أعينٍ ما عَرَفَتِ البكاء من قبل.

الخَلْوة:

ومن وسائل تجديد الإيمان أن يخلو الأخ بنفسه بين الحين والآخر خلوةً غير خلوته في قيام الليل والأذكار والتلاوة الراتبة، فكما ورد في الأثر؛ أن للعاقل أربعَ ساعات، منها ساعة يخلو فيها بنفسه.

وهذه الخلوة في غاية الأهمية بالنسبة لكل من يعمل للإسلام، ففيها يختلي العبد بربه ومولاه وخالقه، وفيها يأنس بربه وبالقرب منه سبحانه وتعالى، وينفرد فيها بمحبوبه الأعظم، ويتذوق فيها حلاوة مناجاته سبحانه، وهذه الخلوة؛ يحاسب الأخ فيها نفسه ويقف معها وقفة الشريك الشحيح مع شريكه، يحاسبها بعيدًا عن مدح المادحين وثناء المُثنين، ويحاسبها وهو يستشعر ذلك العبودية أمام مولاه وخالقه.

وفي هذه الخلوة؛ يتذكر ذنوبه ومعاصيه وتقصيره وغفلته –وخـاصة المعاصي الباطنة- التي لا يعرفها مادحوه ويعرفها هو من نفسه، وفي هذه الخلوة يسح دموع الندم والإنابة، ويبكي خوفًا من الله وحياءً وحبًا وخشوعًا لعظمته سبحانه، ولعل هذه الدموع الصادقة قد تكون أنفعَ له وأجدى من كثير من عمله الذي يفرح به ويُعْجَبُ.

فأين هذا ممن عَدَّهُم الرسول صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله: «ورجلٌ ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه» (37).

وتأمل جيدًا كلمة «خاليًا» في الحديث؛ فهو في خلوة ابتعد فيها عن السمعة والرياء، واصطحب فيها التجرد والإخلاص لله عز وجل.

وفي هذه الخلوة؛ يتذكر نِعَمَ الله عليه وعلى إخوانه وجماعته المسلمة، ويتفكر في إكرام الله له، وأول هذه النعم وأعظمها؛ نعمة الهداية، ويظل يردد بقلبه وجوارحه معنى؛ {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ} [الأعراف: 43]، ويتفكر كذلك في أن إقبال الناس عليه وعلى دعوته وقبولهم لها ليس بسبب فصاحته وبلاغته أو عذوبة منطقه أو تمكنه من العلوم أو قوة حجته، ولكنه راجع إلى توفيق الله له، وكرم الله المحض عليه، وفضله المطلق عليه... وهكذا، يظل يعدد النعم كلها في خلوته تلك.

وفي الخلوة؛ أشياء وأشياء كثيرة يصعب حصرها أو بيانها في تلك الصفحات القليلة، ولكني مُوقِنٌ أن سعة أفهامكم ووفور عقولكم، ستدلكم على ما لم يُكْتَبْ في هذه العُجالة.

زيارة الصالحين:

ومن وسائل تجديد الإيمان؛ زيارة الصالحين والمجاهدين وأهل السَّبق في العمل الإسلامي، فهذه الزيارات لها أثر عظيم في تجديد الإيمان وصقله، وإذا كانت رؤية هؤلاء وحدها زادًا على الطريق الإيماني فكيف بمجالستهم ومصاحبتهم والاستماع إليهم والتعلم منهم والاستماع إليهم وإلى سيرتهم العطرة وسير زملائهم المجاهدين والصالحين؟! وكيف كان زهدهم في الدنيا ورغبتهم في الآخرة والموت في سبيل الله، وتضحياتهم في الدعوة والحسبة والجهاد؟!

وإن مثل هذه الزيارات تمثل شحنًا لبطارية إيمان الأخ التي قد تكون أوشكت على النفاد.

فهؤلاء تلاميذ معاذ بن جبل ومحبوه -الذين كانوا يترددون عليه ويتعلمون منه- كانوا يبكون بكاءً شديدًا حزنًا على فراق معاذ حينما مَرِضَ مَرَضَ الموت، وذلك من أجل شعورهم أنهم سيفقدون ذلك المجلس الإيماني العظيم، الذي كانوا يجلسون فيه إلى معاذ بن جبل يجدد لهم إيمانهم ويعلمهم الحكمة والعلم بالله وبأمر الله (38).

فعن يزيد بن عميرة قال: لما مَرِضَ معاذ بن جبل مرضه الذي قُبِضَ فيه كان يُغْشى عليه أحيانًا ويفيق أحيانًا، حتى غشي عليه غشيةً ظننا أنه قد قُبِضَ، ثم أفاق وأنا مقابِلُهُ أبكي، فقال: ما يبكيك؟! قلت: والله لا أبكي على دنيا كنتُ أنالُها منك، ولا على نسبٍ بيني وبينك ولكن أبكي على العلم والحكم الذي أسمع منك يذهب! قال: فلا تبك! فإن العلم والإيمان مكانَهما، من ابتغاهما وجدهما، يقول ذلك ثلاث مرات، والتمسوا العلم عند أربعة رهط، عند عويمر أبي الدرداء، وعند سلمان الفارسي، وعند عبد الله بن مسعود وعند عبد الله بن سلام الذي كان يهوديًا فأسلم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه عاشر عشرة في الجنة (39).

***

_____________

(1) تفسير ابن كثير (1/ 139).

(2) أخرج الحاكم (5).

(3) صحيح الجامع (5682).

(4) أخرجه البخاري (1496).

(5) أخرجه الطبراني في الصغير (7322).

(6) تيسير الكريم الرحمن (ص: 503).

(7) أخرجه ابن ماجه (797).

(8) أخرجه مسلم (653).

(9) أخرجه الترمذي (2621).

(10) أخرجه مسلم (804).

(11) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/ 217).

(12) شخصية المسلم (ص: 138).

(13) نفس المصدر (ص: 142).

(14) ماذا خسر العالم للعلامة أبي الحسن الندوي (ص: 235).

(15) تفسير السعدي (ص: 788).

(16) أخرجه ابن ماجه (1350).

(17) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/ 235).

(18) فضل العلم، موقع الألوكة.

(19) أخرجه ابن ماجه (223).

(20) أخرجه أحمد (2790).

(21) موطأ مالك (2/ 1002).

(22) أخرجه البخاري (6407).

(23) أخرجه مسلم (2676).

(24) أخرجه الترمذي (3375).

(25) أخرجه مسلم (2704).

(26) مدارج السالكين (2/ 396).

(27) نفس المصدر.

(28) أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675).

(29) أخرجه البخاري (4836)، ومسلم (2819).

(30) صفة الصفوة (1/ 480).

(31) الآداب الشرعية والمنح المرعية (2/ 169).

(32) حكمة الدعوة (ص: 44- 46).

(33) أخرجه البخاري (6416).

(34) أخرجه البخاري (6417).

(35) أخرجه الترمذي (2307).

(36) ذكر الموت ومنازل الآخرة - شبكة الألوكة.

(37) أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031).

(38) رسالة إلى كل من يعمل للإسلام (الحلقة الثانية) - نحن العرب.

(39) أخرجه الترمذي (3804).