logo

أسباب شرح الصدر


بتاريخ : السبت ، 23 شوّال ، 1436 الموافق 08 أغسطس 2015
بقلم : تيار الاصلاح
أسباب شرح الصدر

إن انشراح صدر العبد لمن أعظم الأمور وأجلها إعانة له على عبادة ربه ومولاه، على الوجه الذي يرضيه، بيد أن لذلك أسبابًا؛ فلهذا يجب على العبد أن يبحث جاهدًا عن تلك الأسباب، ومن وفق لذلك ورزقه الله صدرًا منشرحًا فهو على نور من ربه، ومن كان كذلك فقد حاز خيري الدنيا والآخرة؛ لذا قال سبحانه: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22].

كما ينزل الماء من السماء فينبت لهم به زرعًا مختلفًا ألوانه؛ كذلك ينزل من السماء ذِكْرًا تتلقاه القلوب الحية، فتفتح وتنشرح وتتحرك حركة الحياة، وتتلقاه القلوب القاسية كما تتلقاه الصخرة القاسية التي لا حياة فيها ولا نداوة، والله يشرح للإسلام قلوبًا يعلم منها الخير، ويصلها بنوره فتشرق به وتستضيء.

هذه الآية تصور حقيقة القلوب التي تتلقى الإسلام؛ فتنشرح له وتندى به، وتصور حالها مع الله، حال الانشراح، والتفتح، والنداوة، والبشاشة، والإشراق، والاستنارة، كما تصور حقيقة القلوب الأخرى في قساوتها، وغلظتها، وموتها، وجفافها، وعتمتها، وظلامها، ومن يشرح الله صدره للإسلام، ويمد له من نوره، ليس، قطعًا، كالقاسية قلوبهم من ذكر الله، وشتان شتان بين هؤلاء وهؤلاء(1).

فانشراح الصدر دليل على هداية الله لهذا العبد، كما أن ضيق الصدر، الذي يكون سببًا لعدم قبول ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، من علامات الشقاء.

إن الصدر يطلق مجازًا على القلب الحسي الذي فيه، وعلاقته ظاهرة، وعلى القلب المعنوي الذي هو للنفس، كالقلب الحسي للبدن؛ لأنه لبها، ومركز شعور مداركها وانفعالاتها، دون الدماغ؛ فإن النفس لا تشعر بما ينطبع فيه من المدركات من انشراح، وبسط، وحرج، وضيق، وقبض، فجميع الإدراكات العلمية والوجدانية توصف بها القلوب حقيقة والصدور مجازًا، وتكون فاعلة ومفعولة وصفات للأفعال العاملة فيهما(2).

ولهذا قال سبحانه: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}[الأنعام:125].

من يقدر الله له الهداية، وفق سنته الجارية من هداية من يرغب في الهدى ويتجه إليه بالقدر المعطى له من الاختيار بقصد الابتلاء، {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ}؛ فيتسع له ويستقبله في يسر ورغبة، ويتفاعل معه، ويطمئن إليه، ويستروح به، ويستريح له.

ومن يقدر له الضلال، وفق سنته الجارية من إضلال من يرغب عن الهدى ويغلق فطرته عنه، {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}، فهو مغلق مطموس، يجد العسر والمشقة في قبوله، {كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}، وهي حالة نفسية تجسم في حالة حسية، من ضيق النفس، وكربة الصدر، والرهق المضني في التصعد إلى السماء! وبناء اللفظ ذاته {يَصَّعَّدُ} فيه هذا العسر والقبض والجهد.

وجرسه يخيل هذا كله، فيتناسق المشهد الشاخص مع الحالة الواقعة مع التعبير اللفظي في إيقاع واحد(3).

وهذا وصف لحال المستعد لهداية الإسلام، بسلامة فطرته وطهارة نفسه من الخُلقين الصادين عن إجابة دعوة الحق؛ وهما الكبرياء والحسد، وبتحليها، أي نفسه، بالهاديين إلى الحق والرشاد، وهما استقلال الفكر الصاد عن تقليد الآباء والأجداد، وقوة الإرادة الصارفة عن اتباع الرؤساء أو مجاراة الأنداد، فمن كان كذلك كان أهلًا بإرادة الله تعالى وتقديره لقبول دعوة الإسلام، الذي هو دين الفطرة ومهذبها، فإذا ألقيت إليه وجد لها في صدره انشراحًا واتساعًا بما يشعر به قلبه من السرور وداعية القبول، وذلك أنه لا يجد مانعًا من النظر الصحيح فيما ألقي إليه، فيتأمله فتظهر له آيته، وتتضح له دلالته، فتتوجه إليه إرادته، ويذعن له قلبه فتتبعه جوارحه، وهذا هو النور الذي يفيض عليه من القرآن أو الذي يسير فيه باتباعه له، فهذه الآية مقابلة لآية المثل الذي ضربه الله تعالى في هذا السياق للمؤمنين والكافرين، وما العهد بها ببعيد، وفي معناها قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[الزمر:22](4).

وهذه الهداية المذكورة في الآية هي: هداية التوفيق والإلهام، التي لا يملكها إلا الله، والموفق من وفقه الله.

فحري بالعاقل أن يسعى سعيًا حثيثًا للبحث عن أسباب انشراح صدره وانفساحه، ويبتعد عن الأسباب التي تكون وسيلة لضيق الصدر.

قال ابن عباس: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}، إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه، وإن ذكر شيء من عبادة الأصنام ارتاح إلى ذلك.

ولما كان القلب محلًا للمعرفة والعلم والمحبة والإنابة، وكانت هذه الأشياء إنما تدخل في القلب إذا اتسع لها، فإذا أراد الله هداية عبد وسع صدره وشرحه؛ فدخلت فيه وسكنته، وإذا أراد ضلاله ضيق صدره وأحرجه، فلم يجد محلًا يدخل فيه، فيعدل عنه ولا يساكنه، وكل إناء فارغ إذا دخل فيه الشيء ضاق به، وكلما أفرغت فيه الشيء ضاق إلا القلب اللين، فكلما أفرغ فيه الإيمان والعلم اتسع وانفسح، وهذا من آيات قدرة الرب تعالى.

فشرح الصدر من أعظم أسباب الهدى، وتضييقه من أسباب الضلال، كما أن شرحه من أجل النعم، وتضييقه من أعظم النقم، فالمؤمن منشرح الصدر منفسحه في هذه الدار على ما ناله من مكروهها، وإذا قوي الإيمان وخالطت بشاشته القلوب كان على مكارهها أشرح صدرًا منه على شهوتها ومحابها، فإذا فارقها كان انفساح روحه، والشرح الحاصل له بفراقها أعظم بكثير؛ كحال من خرج من سجن ضيق إلى فضاء واسع موافق له، فإنها سجن المؤمن، فإذا بعثه الله يوم القيامة رأى من انشراح صدره وسعته ما لا نسبة لما قبله إليه.

فشرح الصدر كما أنه سبب الهداية فهو أصل كل نعمة، وأساس كل خير، وقد سأل كليم الرحمن موسى بن عمران ربه أن يشرح له صدره، لما علم أنه لا يتمكن من تبليغ رسالته، والقيام بأعبائها، إلا إذا شرح له صدره، وقد عدد سبحانه من نعمه على خاتم أنبيائه ورسله شرح صدره له، وأخبر عن أتباعه أنه شرح صدورهم للإسلام.

فإن قلتَ: فما الأسباب التي تشرح الصدور، والتي تضيقها؟

قلتُ: السبب الذي يشرح الصدر النور الذي يقذفه الله فيه، فإذا دخله ذلك النور اتسع بحسب قوة النور وضعفه، وإذا فقد ذلك النور أظلم وتضايق(5).

حاجة الداعية لصدر فسيح:

إن البحار عميقة والظلمات متكاثفة، وفي الطريق قطاع من الأعداء الداخلة والخارجة، وشياطين الإنس والجن كثيرة، فإن لم تشرح لي صدري، ولم تكن لي عونًا في كل الأمور انقطعت، وصارت هذه الخلع سببًا لنيل الآفات لا للفوز بالدرجات(6).

فهذا موسى عليه السلام لما أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغية، لعنه الله، عرف أنه كلف أمرًا عظيمًا، وخطبًا جسيمًا، يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط، وصدر فسيح، فاستوهب ربه أن يشرح صدره ويفسح قلبه، ويجعله حليمًا حمولًا، يستقبل ما عسى يرد عليه من الشدائد التي يذهب معها صبر الصابر بجميل الصبر وحسن الثبات، وأن يسهل عليه في الجملة أمره الذي هو خلافة الله في أرضه، وما يصحبها من مزاولة معاظم الشئون، ومقاساة جلائل الخطوب، في قوله: {اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)}[طه:25-26].

هذا سؤال من موسى عليه السلام لربه عز وجل أن يشرح له صدره فيما بعثه به، فإنه قد أمره بأمر عظيم، وخطب جسيم، بعثه إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك، وأجبرهم وأشدهم كفرًا، وأكثرهم جنودًا، وأعمرهم ملكًا، وأطغاهم وأبلغهم تمردًا، بلغ من أمره أن ادعى أنه لا يعرف الله، ولا يعلم لرعاياه إلهًا غيره.

هذا وقد مكث موسى في داره مدة وليدًا عندهم، في حجر فرعون، على فراشه، ثم قتل منهم نفسًا فخافهم أن يقتلوه، فهرب منهم هذه المدة بكمالها، ثم بعد هذا بعثه ربه عز وجل إليهم نذيرًا يدعوهم إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له؛ ولهذا قال: {اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)}؛ أي: إن لم تكن أنت عوني ونصيري، وعضدي وظهيري، وإلا فلا طاقة لي بذلك(7).

لقد طلب إلى ربه أن يشرح له صدره، وانشراح الصدر يحول مشقة التكليف إلى متعة، ويحيل عناءه لذة، ويجعله دافعًا للحياة لا عبئًا يثقل خطا الحياة.

وطلب إلى ربه أن ييسر له أمره، وتيسير الله لعباده هو ضمان النجاح، وإلا فماذا يملك الإنسان بدون هذا التيسير؟ ماذا يملك وقواه محدودة، وعلمه قاصر، والطريق طويل وشائك ومجهول؟!(8).

حينئذ عَلِم موسى عليه السلام أنه تحمل حملًا عظيمًا؛ حيث أُرسل إلى هذا الجبار العنيد، الذي ليس له منازع في مصر من الخلق، وموسى عليه السلام وحده، وقد جرى منه ما جرى من القتل، فامتثل أمر ربه، وتلقاه بالانشراح والقبول، وسأله المعونة وتيسير الأسباب، التي هي من تمام الدعوة، فقال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي}[طه:25]؛ أي: وسعه وأفسحه؛ لأتحمل الأذى القولي والفعلي، ولا يتكدر قلبي بذلك، ولا يضيق صدري، فإن الصدر إذا ضاق لم يصلح صاحبه لهداية الخلق ودعوتهم(9).

كيف ينشرح الصدر:

ويدل على أن شرح الصدر عبارة عن النور قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}[الزمر:22]، واعلم أن الله تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور، أحدها: وصف ذاته بالنور: {اللهُ نُورُ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضِ}[النور:35].

وثانيها: الرسول: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ}[المائدة:15].

وثالثها: القرآن: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ}[الأعراف:157].

ورابعها: الإيمان: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ}[التوبة:32].

وخامسها: عدل الله: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها}[الزمر:69].

وسادسها: ضياء القمر: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا}[نوح:16].

وسابعها: النهار: {وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ}[الأنعام:1].

وثامنها: البينات: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ}[المائدة:44].

وتاسعها: الأنبياء: {نُورٌ عَلَى نُورٍ}[النور:35].

وعاشرها: المعرفة: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ}[النور:35].

إذا ثبت هذا فنقول: كأن موسى عليه السلام قال: رب اشرح لي صدري بمعرفة أنوار جلالك وكبريائك.

وثانيها: رب اشرح لي صدري بالتخلق بأخلاق رسلك وأنبيائك.

وثالثها: رب اشرح لي صدري باتباع وحيك وامتثال أمرك ونهيك.

ورابعها: رب اشرح لي صدري بنور الإيمان والإيقان بإلهيتك.

وخامسها: رب اشرح صدري بالاطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك.

وسادسها: رب اشرح لي صدري بالانتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلال عزتك، كما فعله إبراهيم عليه السلام؛ حيث انتقل من الكوكب والقمر والشمس إلى حضرة العزة.

وسابعها: رب اشرح لي صدري من مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل عدلك.

وثامنها: رب اشرح لي صدري بالاطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسماواتك.

وتاسعها: رب اشرح لي صدري في أن أكون خلف صور الأنبياء المتقدمين، ومتشبهًا بهم في الانقياد لحكم رب العالمين.

وعاشرها: رب اشرح لي صدري بأن تجعل سراج الإيمان في قلبي كالمشكاة التي فيها المصباح.

واعلم أن شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير القلب كالسراج، وذلك النور كالنار، ومعلوم أن من أراد أن يستوقد سراجًا احتاج إلى سبعة أشياء: زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن.

فالعبد إذا طلب النور الذي هو شرح الصدر افتقر إلى هذه السبعة، فأولها: لا بد من زند المجاهدة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا}[العنكبوت:69]، وثانيها: حجر التضرع: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}[الأعراف:55]، وثالثها: حراق منع الهوى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى}[النازعات:40]، ورابعها: كبريت الإنابة: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ}[الزمر:54]، ملطخًا رءوس تلك الخشبات بكبريت توبوا إلى الله، وخامسها: مسرجة الصبر: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}[البقرة:45]، وسادسها: فتيلة الشكر: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}[إبراهيم:7]، وسابعها: دهن الرضا: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}[الطور:48]؛ أي: ارْضَ بقضاء ربك، فإذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها؛ بل ينبغي ألَّا تطلب المقصود إلا من حضرته: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها}[فاطر:2]، ثم اطلبها بالخشوع والخضوع: { وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}[طه:108]، فعند ذلك ترفع يد التضرع وتقول: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي}[طه:25]، فهنالك تسمع:{قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسَى}[طه:36].

ثم نقول: هذا النور الروحاني، المسمى بشرح الصدر، أفضل من الشمس الجسمانية؛ لوجوه:

أحدها: الشمس تحجبها غمامة، وشمس المعرفة لا يحجبها السموات السبع: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}[فاطر:10].

وثانيها: الشمس تغيب ليلًا وتعود نهارًا، قال إبراهيم عليه السلام: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}[الأنعام:76]، أما شمس المعرفة فلا تغيب ليلًا: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا}[المزمل:6]، {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}[آل عمران:17]؛ بل أكمل الخلع الروحانية تحصل في الليل: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا}[الإسراء:1].

وثالثها: الشمس تفنى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}[التكوير:1]، وشمس المعرفة لا تفنى: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}[يس:58]، ورابعها: الشمس إذا قابلها القمر انكسفت، أما هاهنا فشمس المعرفة؛ وهي معرفة أشهد أن لا إله إلا الله ما لم يقابلها قمر أشهد أن محمدًا رسول الله لم يصل نوره إلى عالم الجوارح، وخامسها: الشمس تُسَود الوجوه والمعرفة تبيضها: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}[آل عمران:106]، وسادسها: الشمس تحرق والمعرفة تنجي من الحرق، وسابعها: الشمس تصدع والمعرفة تصعد: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}[فاطر:10]، وثامنها: الشمس منفعتها في الدنيا والمعرفة منفعتها في العقبى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ}[الكهف:46]، وتاسعها: الشمس في السماء زينة لأهل الأرض، والمعرفة في الأرض زينة لأهل السماء، وعاشرها: الشمس تقع على الولي والعدو، والمعرفة لا تحصل إلا للولي، فلما كانت المعرفة موصوفة بهذه الصفات النفيسة، لا جرم قال موسى: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي}(10).

حقيقة شرح الصدر:

ذكر العلماء فيه وجهين: الأول: ألا يبقى للقلب التفات إلى الدنيا، لا بالرغبة ولا بالرهبة؛ أما الرغبة فهي أن يكون متعلق القلب بالأهل والولد، وبتحصيل مصالحهم ودفع المضار عنهم، وأما الرهبة فهي أن يكون خائفًا من الأعداء والمنازعين، فإذا شرح الله صدره صغر كل ما يتعلق بالدنيا في عين همته، فيصير كالذباب والبق والبعوض؛ لا تدعوه رغبة إليها ولا تمنعه رهبة عنها، فيصير الكل عنده كالعدم، وحينئذ يقبل القلب بالكلية نحو طلب مرضاة الله تعالى.

الثاني: أن موسى عليه السلام لما نصب لذلك المنصب العظيم احتاج إلى تكاليف شاقة؛ منها ضبط الوحي، والمواظبة على خدمة الخالق سبحانه وتعالى، ومنها إصلاح العالم الجسداني، فكأنه صار مكلفًا بتدبير العالمين، والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر، ألا ترى أن المشتغل بالإبصار يصير ممنوعًا عن السماع، والمشتغل بالسماع يصير ممنوعًا عن الإبصار والخيال، فهذه القوى متجاذبة متنازعة، وأن موسى عليه السلام كان محتاجًا إلى الكل، ومن استأنس بجمال الحق استوحش من جمال الخلق، فسأل موسى ربه أن يشرح صدره بأن يفيض عليه كمالًا من القوة؛ لتكون قوته وافية بضبط العالمين، فهذا هو المراد من شرح الصدر(11).

أسباب شرح الصدر:

ذكر ابن القيم رحمه الله جملة من ذلك فقال:

1- التوحيد:

أعظم أسباب شرح الصدر التوحيد، وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه، قال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22].

وقال تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125].

انشراح الصدر شعور بالراحة الداخلية، شعور بالسكينة، شعور بالسعادة، بالطمأنينة؛ الاطمئنان لعدالة الله، الاطمئنان لحكمة الله، الاطمئنان لرحمة الله.

قد تجد أناسًا غارقين في المتع، في الغنى، في الشهوات؛ وهم أشقى الناس، قال تعالى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:213].

فشرح الصدر يحتاج إلى توحيد، أما الشرك فإنه يورث الشقاء والضلال؛ والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وانحراجه، والنور الذي يقذفه الله في قلب المؤمن هو نور الإيمان؛ فإنه يشرح الصدر ويوسعه، ويفرح القلب، فإذا فقد هذا النور من قلب العبد ضاق وحرج، وصار في أضيق سجن وأصعبه, فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر، والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وانحراجه.

2- النور الذي يقذفه الله في قلب العبد:

وهو نور الإيمان، فإنه يشرح الصدر ويوسعه، ويفرح القلب، فإذا فقد هذا النور من قلب العبد ضاق وحرج، وصار في أضيق سجن وأصعبه، فيصيب العبد من انشراح صدره بحسب نصيبه من هذا النور، وكذلك النور الحسي والظلمة الحسية، هذه تشرح الصدر، وهذه تضيقه.

3- العلم:

فإنه يشرح الصدر ويوسعه حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحصر والحبس، فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره واتسع، وليس هذا لكل علم؛ بل للعلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدرًا، وأوسعهم قلوبًا، وأحسنهم أخلاقًا، وأطيبهم عيشًا.

4- الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى:

ومحبته بكل القلب، والإقبال عليه، والتنعم بعبادته، فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك، حتى إنه ليقول أحيانًا: إن كنت في الجنة في مثل هذه الحالة فإني إذًا في عيش طيب.

وللمحبة تأثير عجيب في انشراح الصدر، وطيب النفس، ونعيم القلب، لا يعرفه إلا من له حس به، وكلما كانت المحبة أقوى وأشد كان الصدر أفسح وأشرح، ولا يضيق إلا عند رؤية البطالين الفارغين من هذا الشأن، فرؤيتهم قذى عينه، ومخالطتهم حمى روحه.

وبالمقابل: من أعظم أسباب ضيق الصدر الإعراض عن الله تعالى، وتعلق القلب بغيره، والغفلة عن ذكره، ومحبة سواه، فإن من أحب شيئًا غير الله عذب به، وسجن قلبه في محبة ذلك الغير، فما في الأرض أشقى منه، ولا أكسف بالًا، ولا أنكد عيشًا ولا قلبًا؛ هما محبتان؛ محبة هي جنة الدنيا، وسرور النفس، ولذة القلب، ونعيم الروح وغذاؤها؛ بل حياتها وقرة عينها، وهي محبة الله وحده، ومحبة هي عذاب الروح، وغم النفس، وسجن القلب، وضيق الصدر، وهي سبب الألم والنكد والعناء، وهي محبة ما سواه، هما محبتان، إن أحببت الله فأنت أسعد الناس، وإن أحببت الدنيا فأنت أشقى الناس.

5- دوام ذكره على كل حال:

وفي كل موطن، فللذكر تأثير عجيب في انشراح الصدر، ونعيم القلب، وللغفلة تأثير عجيب في ضيقه وحبسه وعذابه.

6- الإحسان إلى الخلق:

ونفعهم بما يمكنه من المال، والجاه، والنفع بالبدن، وأنواع الإحسان، فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدرًا، وأطيبهم نفسًا، وأنعمهم قلبًا، والبخيل، الذي ليس فيه إحسان، أضيق الناس صدرًا، وأنكدهم عيشًا، وأعظمهم همًا وغمًا، وقد ضرب النبي عليه الصلاة والسلام مثلًا في الصحيح للبخيل والمتصدق:«مثل البخيل والمتصدق مثل رجلين عليهما جبتان من حديد، قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما، فكلما هم المتصدق بصدقته اتسعت عليه حتى تعفي أثره، وكلما هم البخيل بالصدقة انقبضت كل حلقة إلى صاحبتها وتقلصت عليه، وانضمت يداه إلى تراقيه»، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «فيجتهد أن يوسعها فلا تتسع»(12).

فهذا مثل انشراح صدر المؤمن المتصدق، وانفساح قلبه، ومثل ضيق صدر البخيل وانحصار قلبه.

7- الشجاعة:

فإن الشجاع منشرح الصدر، واسع البطان، متسع القلب، والجبان أضيق الناس صدرًا، وأحصرهم قلبًا، لا فرحة له ولا سرور، ولا لذة له ولا نعيم، إلا من جنس ما للحيوان البهيمي، وأما سرور الروح، ولذتها، ونعيمها، وابتهاجها، فمحرم على كل جبان، كما هو محرم على كل بخيل، وعلى كل معرض عن الله سبحانه، غافل عن ذكره، جاهل به وبأسمائه تعالى وصفاته ودينه، متعلق القلب بغيره.

وإن هذا النعيم والسرور يصير في القبر رياضًا وجنة، وذلك الضيق والحصر ينقلب في القبر عذابًا وسجنًا، فحال العبد في القبر كحال القلب في الصدر، نعيمًا وعذابًا وسجنًا وانطلاقًا، ولا عبرة بانشراح صدر هذا لعارض، ولا بضيق صدر هذا لعارض، فإن العوارض تزول بزوال أسبابها، وإنما المعول على الصفة التي قامت بالقلب توجب انشراحه وحبسه، فهي الميزان.

8- إخراج دغل القلب:

من الصفات المذمومة التي توجب ضيقه وعذابه، وتحول بينه وبين حصول البرء، فإن الإنسان إذا أتى الأسباب التي تشرح صدره، ولم يخرج تلك الأوصاف المذمومة من قلبه لم يحظ من انشراح صدره بطائل، وغايته أن يكون له مادتان تعتوران على قلبه، وهو للمادة الغالبة عليه منهما.

9- ترك فضول النظر، والكلام، والاستماع، والمخالطة، والأكل، والنوم:

فإن هذه الفضول تستحيل آلامًا وغمومًا، وهمومًا في القلب، تحصره، وتحبسه، وتضيقه، ويتعذب بها؛ بل غالب عذاب الدنيا والآخرة منها، فلا إله إلا الله ما أضيق صدر من ضرب في كل آفة من هذه الآفات بسهم!، وما أنكد عيشه!، وما أسوأ حاله!، وما أشد حصر قلبه!، ولا إله إلا الله، ما أنعم عيش من ضرب في كل خصلة من تلك الخصال المحمودة بسهم!، وكانت همته دائرة عليها، حائمة حولها، فلهذا نصيب وافر من قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الإنفطار:13]، ولذلك نصيب وافر من قوله تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الإنفطار:14]، وبينهما مراتب متفاوتة لا يحصيها إلا الله تبارك وتعالى(13).

النبي عليه الصلاة والسلام كان أكمل الخلق في كل صفة يحصل بها انشراح الصدر، واتساع القلب، وقرة العين، وحياة الروح، فهو أكمل الخلق في هذا الشرح والحياة، وقرة العين مع ما خص به من الشرح الحسي، وأكمل الخلق متابعة له، وأكملهم انشراحًا ولذة وقرة عين، وعلى حَسب متابعته ينال العبد من انشراح الصدر.

والنبي كان أكمل الناس انشراح صدر، فكل من تابعه في سنته له من شرح القلب نصيب، وأكبر شيء يميز المؤمن هذه الحالة النفسية له؛ والحالة النفسية هي أكبر دعم له، هذه الحالة تجعله يتحمل كل المتاعب، الحالة النفسية تجعله يصبر على الطاعة، ويصبر عن الشهوة، ويصبر على قضاء الله وقدره؛ الدعم الداخلي، معنوياته عالية جدًا، تألقه شديد؛ وهذا يجعله يستقطب مَن حوله استقطاب محبة، استقطاب تقدير، هذا يجعله قوي الإرادة، عزيمته عالية جدًا، فإذا وصلنا لهذا الانشراح في الصدر قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَض ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} [الشرح:1-4](14).

***

______________

(1) في ظلال القرآن، سيد قطب (5/ 3048).

(2) تفسير المنار، محمد رشيد رضا (11/ 329).

(3) في ظلال القرآن (3/ 1203).

(4) تفسير المنار (8/ 36).

(5) شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم، ص107.

(6) مفاتيح الغيب، للرازي (22/ 32).

(7) تفسير ابن كثير (5/ 282).

(8) في ظلال القرآن (4/ 2333).

(9) تفسير السعدي، ص504.

(10) مفاتيح الغيب (22/ 37-38).

(11) مفاتيح الغيب (22/ 40).

(12) رواه البخاري (2917)، ومسلم (1021).

(13) زاد المعاد، لابن القيم (2/ 22-26)، بتصرف.

(14) هديه في أسباب شرح الصدر، موسوعة النابلسي.