صناعة الأبطال
بداية أود أن أسأل سؤلًا، هل الأبطال يصنعون الأحداث، أم أن الأحداث هي التي تصنع الأبطال؟
وللإجابة عن هذا السؤال يجب أولًا أن نعرف أن البطولة ليست شعارات مزيفة يدعيها الإنسان، وليست كلمات رنانة يتشدق بها الجبناء، وليست البطولة تنال بغير كفاح وجد وثبات، وليست من الأشياء التي تشترى بالمال، أو تنال بالوراثة.
والبطولة لا يمكن أن يتصف بها الجبناء ولا الخونة ولو أنفقوا ما في الأرض جميعًا؛ لأن التاريخ لا يجامل أحدًا، فكل من يدعيها زورًا سرعان ما ينكشف أمره، وينفضح حاله، والأمثلة من الواقع على هذا كثيرة.
والأحداث التي يعيشها الإنسان لا شك أنها تنمي فيه من المعاني ما يكون من جنس تلك الأحداث لا سيما الإيجابي منهم، لأن من البشر ما لا يتأثر إلا سلبيًا، أو يتأثر تأثيرًا نسبيًا، أو لا يتأثر على الإطلاق.
فليس كل البشر يتأثر بالأحداث، وليس كل الآثار تكون إيجابية، وليس كل حدث يكون له تأثير في الواقع أو في النفوس، فالأحداث الكبار تؤثر ولكن في أصحاب النفوس الكبار، أما أصحاب النفوس الضعيفة أو المريضة فلا يتأثرون {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
ونريد أن نحذر من البطولة المصطنعة أو الأبطال الوهميين فالبطولة لا تصنع من الشموع، ولا تشترى بالمال، ولا يمكن أن تساكن الجبن والخيانة في جسد واحد.
وأما صناعة الأبطال من الشموع فهذه ملموسة واضحة، يوم أن ترى المجلات الأجنبية والوافدة تضفي على رجل ألقاب الثقة، وألقاب العلم، وتجعله علمًا ومعلمًا وشخصية ومركزًا، ويجعلونه إمامًا حتى يتعلق الناس فيه، وتشرئب أعناقهم إلى رؤيته، وتنطلق أبصارهم تتأمله.
وما تزال تلك الوسائل المغرضة للدين وأهله وعلمائه وولاة أمره تصنع من أحقر التافهين بطلًا عظيمًا، فإذا لمع وبرز وعرفه الناس جميعًا، أخذوا فصلًا جديدًا من تمثيلية أو مسرحية، فينال من قبل الأعداء نيلًا، تجدونهم وهو من أوليائهم، وهو من أذنابهم يظهرون أنهم يؤذونه، ويظهرون أنهم يتابعونه، ويظهرون أنهم ينالون منه، حتى يتأكد الناس أنه صادق وليس بعميل.
ثم بعد ذلك يطلقون سراحه من جديد، فيمسك شأنًا من شئون أمة الإسلام، ثم بعد ذلك يعيث في الأرض فسادًا، كيف استطاع أن ينال ثقة الجماهير والأمة يوم أن مر بدور مسرحي، وفصل تمثيلي خطير لم يكن شيئًا، ثم أظهر بين الناس، ثم لمع، ثم أصابه نوع في ظاهر الأمر بلاء، وليس في حقيقته بلاء، ثم يعود بعد ذلك مصيبة وويلًا على المسلمين.
هذا اسمه صناعة الأبطال من الشموع! والنوع الآخر والمقابل لهذا: تشكيك الناس في الثقات، يوم أن يبرز عالم من العلماء، أو أن يظهر علماء المسلمين وقادتهم وقادة الجهاد ورجاله، يوم أن يظهرون ويبرزون على الساحة، تجد ألوان التشكيك، المجاهد الفلاني كان ممن يتعاطون المخدرات، القائد الفلاني وصلت ثروته إلى أرقام خرافية، فلان بن فلان حصل له كذا وكذا، فماذا بعد ذلك؟ يشك الناس فيه، ولا يثقوا بقوله، ولا ينتصحوا لنصحه، ولا يخلصوا الأمر له ومنه.
لقد صنع اليهود الأبطال كما فعلوا بكمال أتاتورك، الذي صنعوا بطلًا منه أجوف منفوخًا، وجعلوه يخوض معركة مع اليونان يخرج منها ظافرًا منتصرًا، حتى يلمعوه ليقوم بالدور المطلوب منه، في تقويض بناء الإسلام وإحلال العلمانية بدلاً منه.
ثم خطوا خطوة أخرى حين نصبوه، وأعلنوا إلغاء ما يسموه بالخلافة يومئذٍ، فأفلحوا بذلك في عزل تركيا عن العالم الإسلامي، وأصبح العالم الإسلامي من أقصاه إلى أدناه لا يبالي ماذا يجري في تركيا، وأصبح الأمر الذي يجري في تلك البلاد، إنما يهم أهل تلك البلاد ولا يهم المسلمين في قليل ولا كثير، وهكذا يصنعون دائمًا وأبدًا، يحاولون أن يعزلوا بلاد الإسلام بعضها عن بعض، حتى إذا أصيب هذا البلد لم يحزن له أحد، ولم يتأثر لمصيبته أحد، ولم يقم له أحد لأنهم قد أفلحوا في إلهاء كل واحد بنفسه، وإشعار المسلمين بأنه ليس ثمة رابطة.
لقد كان من أعظم الأعمال التي قام بها مصطفى أتاتورك أنه اضطهد العلماء وقتلهم، وزج بهم في غياهب السجون، بل وعلق جثثهم على الأشجار في الشوارع، وطمس معالم الدين كلها، حتى منع الأذان، ومنع التعليم باللغة العربية، ومنع أي لباس يدل على الانتماء والانتساب للإسلام، وفرض على الناس اللباس الأوروبي الغربي، وفرض عليهم لغة مختلفة، وحاول أن يمسخ الناس، وأن يصبغهم بصبغة قومية جديدة (1).
ومع هذا فإن بطولته المزيفة هذه لم تدم طويلًا حتى فضحه الله ليموت بشر موته، ويذوب الشمع الذي صنعوه حول هذا البطل المزيف، ويعلم الجميع حقيقة هذا المجرم الأحمق.
كم سجل الهوى في التاريخ البطولة للرعديد، والقدسية للداعر، والعدالة للطاغية، والجماعة الإنسانية التي تتعدد، وتتباين فيها المقاييس الدينية والخلقية والاجتماعية تختلف على نفسها في تقدير قيم الحقائق والأشياء، وبالتالي فيمن تنسب إليهم هذه القيم إثباتًا أو نفيًا، لذا أمر الله سبحانه أن يجعل المسلمون كتاب الله وسنة نبيه حكمًا بينهم، يحتكمون إليها كما شجر بينهم خلاف، حتى يقوموا حقائق الأشياء بالحق والعدل، ويحكموا في أقضيتهم بالحق والعدل، فلا يبدد الخلاف وحدتهم، ولا يذهب بهم الهوى شيعًا وأحزابًا.
ولا يستغلهم الحمقى والتافهون المتزيون بلباس البطولة المزيف فيخضعونهم لآرائهم ويخدعوهم بأهوائهم فيسلموا لهم أمرهم، فتكون الطامة الكبرى حين يقود القوم فئام من الحمقى والتافهين، ويخضع لهم الجميع، وينسجون حولهم هالة من القدسية، ويمنحوهم حق التشريع والتقنين، ويتخذونهم آلهة من دون الله تعالى، فيفسدوا على الناس دينهم ودنياهم، ويمكنوا الأعداء منهم، فتكون الهلكة والضياع على أيدي هؤلاء، وما النكسات التي منيت بها الأمة منذ عام 1948 حتى الآن عنا ببعيد، والسبب الحقيقي هو صناعة الأبطال من الشمع الرديء الفاسد.
البطولة الحقيقية:
لقد تجسدت البطولة الحقيقية في مواطن الرجولة وميادين الصراع، يوم قال ربعي بن عامر لما سأله رستم: ما جاء بكم؟ قال: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
وتتسم البطولة في الإسلام بطابع علمي إيجابي، ومن هنا كان البطل في الإسلام دائمًا خادمًا لمجتمعه وفكرته وأمته، يؤمن حق الإيمان بأن عمله مقدور في ميزان العمل الصالح عند الله تعالى ثم عند المؤمنين، على تعاقب الأجيال، ومن هنا فهو لا يتطلع إلى الجزاء المادي أو المغنم أو الشهوة.
لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح
في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاح
فتحقيق العبودية الصادقة جعل من القلة المؤمنة في غزوة بدر قوة رهيبة قهرت عظائم الأحداث، وأصبحت قانونًا خالدًا ينظم حياة المسلمين على أصول الرسالة الخاتمة، ويضيء أرواح وعقول الرجال المسلمين على مر العصور بالعبر المنهجية، فالصدق والإخلاص في العمل لله وحده لا شريك له يفتح بصيرة المجاهدين حتى يروا ما أعد الله تعالى للشهداء في سبيله، وهم بعد أحياء يمشون على الأرض.
وجاءت غزوة أحد، فكانت إصابات المسلمين في أنفسهم، وفي جراحات النبي صلى الله عليه وسلم أعظم درس تربوي ممحص للمسلمين، ليعرفوا وخيم عاقبة مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم ومخالفة أمره عمومًا، وخاصة إذا علموا أنهم مختارون ليكونوا حملة الإسلام إلى الناس في أقطار الأرض، لذلك بين لهم خطورة الاختلاف وحب الدنيا وإرادتها، وأن ذلك هو السبب فيما حل ويحل بالمسلمين، والله تعالى يقول: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152].
وقد خلد لنا الإسلام سلاسل مضيئة من أعلام رجالنا الكرام، كان لهم النصيب الأوفى من البطولة والفداء والصدق والوفاء، ونزداد إعجابًا بأولئك السابقين من أصحاب نبينا عليه الصلاة والسلام، حيث نجد أحدهم يذوب خشية وعبادة لربه سبحانه في محرابه كأنه لا شغل له سوى التعبد والتهجد، فإذا نادى المنادي: حي على الجهاد، نقل محرابه إلى الميدان وجاهد في سبيل ربه خير جهاد، ثم بذل جهوده هنا وهناك في مسالك الحياة وشعابها صالحًا مصلحًا، راغبًا في أن يكون عند الله من المقبولين، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)} [الواقعة: 10- 12].
لذلك فلقد أصاب الإمام القرافي حين قال: لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة إلا أصحابه لكفوه في إثبات نبوته (2).
عن سلمة قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربع عشرة مائة، وعليها خمسون شاة لا ترويها، قال: فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبا الركية، فإما دعا، وإما بصق فيها، قال: فجاشت، فسقينا واستقينا، قال: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعانا للبيعة في أصل الشجرة، قال: فبايعته أول الناس، ثم بايع، وبايع، حتى إذا كان في وسط من الناس، قال: «بايع يا سلمة» قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس، قال: «وأيضًا»، قال: ورآني رسول الله صلى الله عليه وسلم عزلًا- يعني ليس معه سلاح-، قال: فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم حجفة- أو درقة-، ثم بايع، حتى إذا كان في آخر الناس، قال: «ألا تبايعني يا سلمة؟» قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس، وفي أوسط الناس، قال: «وأيضًا»، قال: فبايعته الثالثة، ثم قال لي: «يا سلمة، أين حجفتك- أو درقتك- التي أعطيتك؟»، قال: قلت: يا رسول الله، لقيني عمي عامر عزلًا، فأعطيته إياها، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «إنك كالذي قال الأول: اللهم أبغني حبيبًا هو أحب إلي من نفسي».
ثم إن المشركين راسلونا الصلح حتى مشى بعضنا في بعض، واصطلحنا، قال: وكنت تبيعًا لطلحة بن عبيد الله أسقي فرسه، وأحسه، وأخدمه، وآكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي مهاجرًا إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة، واختلط بعضنا ببعض، أتيت شجرة فكسحت شوكها فاضطجعت في أصلها، قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبغضتهم، فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي، يا للمهاجرين، قتل ابن زنيم، قال: فاخترطت سيفي، ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود، فأخذت سلاحهم، فجعلته ضغثًا في يدي، قال: ثم قلت، والذي كرم وجه محمد، لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه، قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وجاء عمي عامر برجل من العبلات، يقال له: مكرز يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس، مجفف في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «دعوهم، يكن لهم بدء الفجور، وثناه»، فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24]، الآية كلها.
قال: ثم خرجنا راجعين إلى المدينة، فنزلنا منزلًا بيننا وبين بني لحيان جبل، وهم المشركون، فاستغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن رقي هذا الجبل الليلة كأنه طليعة للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال سلمة: فرقيت تلك الليلة مرتين أو ثلاثًا، ثم قدمنا المدينة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره مع رباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا معه، وخرجت معه بفرس طلحة أنديه مع الظهر، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستاقه أجمع، وقتل راعيه، قال: فقلت: يا رباح، خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة بن عبيد الله، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد أغاروا على سرحه، قال: ثم قمت على أكمة، فاستقبلت المدينة، فناديت ثلاثا: يا صباحاه، ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتجز، أقول:
أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع
فألحق رجلًا منهم فأصك سهمًا في رحله، حتى خلص نصل السهم إلى كتفه، قال: قلت: خذها
وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع
قال: فوالله، ما زلت أرميهم وأعقر بهم، فإذا رجع إليّ فارس أتيت شجرة، فجلست في أصلها، ثم رميته فعقرت به، حتى إذا تضايق الجبل، فدخلوا في تضايقه، علوت الجبل فجعلت أرديهم بالحجارة، قال: فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه، ثم اتبعتهم أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة، وثلاثين رمحًا، يستخفون ولا يطرحون شيئًا إلا جعلت عليه آرامًا من الحجارة يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى أتوا متضايقًا من ثنية، فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري، فجلسوا يتضحون- يعني يتغدون- وجلست على رأس قرن، قال الفزاري: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البرح، والله، ما فارقنا منذ غلس يرمينا حتى انتزع كل شيء في أيدينا، قال: فليقم إليه نفر منكم أربعة، قال: فصعد إلي منهم أربعة في الجبل، قال: فلما أمكنوني من الكلام، قال: قلت: هل تعرفوني؟ قالوا: لا، ومن أنت؟ قال: قلت: أنا سلمة بن الأكوع، والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم، لا أطلب رجلًا منكم إلا أدركته، ولا يطلبني رجل منكم فيدركني، قال أحدهم: أنا أظن، قال: فرجعوا.
فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر، قال: فإذا أولهم الأخرم الأسدي، على إثره أبو قتادة الأنصاري، وعلى إثره المقداد بن الأسود الكندي، قال: فأخذت بعنان الأخرم، قال: فولوا مدبرين، قلت: يا أخرم، احذرهم لا يقتطعوك حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال: يا سلمة، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، وتعلم أن الجنة حق، والنار حق، فلا تحل بيني وبين الشهادة، قال: فخليته، فالتقى هو وعبد الرحمن، قال: فعقر بعبد الرحمن فرسه، وطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحول على فرسه، ولحق أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الرحمن، فطعنه فقتله، فوالذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم، لتبعتهم أعدو على رجلي حتى ما أرى ورائي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولا غبارهم شيئًا حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له: ذو قرد ليشربوا منه وهم عطاش، قال: فنظروا إلي أعدو وراءهم، فخليتهم عنه- يعني أجليتهم عنه- فما ذاقوا منه قطرة، قال: ويخرجون فيشتدون في ثنية، قال: فأعدو فألحق رجلًا منهم فأصكه بسهم في نغض كتفه، قال: قلت: خذها
وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع
قال: يا ثكلته أمه، أكوعه بكرة؟ قال: قلت: نعم يا عدو نفسه، أكوعك بكرة، قال: وأردوا فرسين على ثنية، قال: فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ولحقني عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن، وسطيحة فيها ماء، فتوضأت وشربت، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي حلأتهم عنه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ تلك الإبل وكل شيء استنقذته من المشركين، وكل رمح وبردة، وإذا بلال نحر ناقة من الإبل الذي استنقذت من القوم، وإذا هو يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها، قال: قلت: يا رسول الله، خلني فأنتخب من القوم مائة رجل فأتبع القوم، فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه في ضوء النار، فقال: «يا سلمة، أتراك كنت فاعلًا؟» قلت: نعم، والذي أكرمك، فقال: «إنهم الآن ليقرون في أرض غطفان».
قال: فجاء رجل من غطفان، فقال: نحر لهم فلان جزورًا فلما كشفوا جلدها رأوا غبارًا، فقالوا: أتاكم القوم، فخرجوا هاربين، فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة»، قال: ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين سهم الفارس، وسهم الراجل، فجمعهما لي جميعًا.
ثم أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة، قال: فبينما نحن نسير، قال: وكان رجل من الأنصار لا يسبق شدًا، قال: فجعل يقول: ألا مسابق إلى المدينة؟ هل من مسابق؟ فجعل يعيد ذلك قال: فلما سمعت كلامه، قلت: أما تكرم كريمًا، ولا تهاب شريفًا، قال: لا، إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قلت: يا رسول الله، بأبي وأمي، ذرني فلأسابق الرجل، قال: «إن شئت»، قال: قلت: اذهب إليك وثنيت رجلي، فطفرت فعدوت، قال: فربطت عليه شرفًا- أو شرفين- أستبقي نفسي، ثم عدوت في إثره، فربطت عليه شرفًا- أو شرفين-، ثم إني رفعت حتى ألحقه، قال: فأصكه بين كتفيه، قال: قلت: قد سبقت والله، قال: أنا أظن، قال: فسبقته إلى المدينة (3).
قال النووي: هذا فيه استحباب الثناء على الشجعان وسائر أهل الفضائل، لا سيما عند صنيعهم الجميل لما فيه من الترغيب لهم ولغيرهم في الإكثار من ذلك الجميل، وهذا كله في حق من يأمن الفتنة عليه بإعجاب ونحوه (4).
فيه فضيلة الشهادة ومنقبة لسلمة وأبي قتادة، وجواز الثناء على من فعل جميلًا، واستحقاق ذلك إذا ترتب عليه مصلحة وجواز عقر خيل العدو في القتال، واستحباب الرجز في الحرب وجواز القول: بأني أنا ابن فلان وجواز المبارزة بغير إذن الإمام وحب الشهادة والحرص عليها، وإلقاء النفس في غمرات الموت (5).
وقد عرف تاريخ الإسلام أبطالًا قاموا بأدوار على قدر عظيم من الأهمية دون أن يكشفوا عن شخصياتهم، أو يبوحوا بأسمائهم، وقد سجل التاريخ هذه المواقف تحت أسماء مجهولة، ومن هؤلاء صاحب النقب، هذا البطل الذي استطاع أن يفتح ثغرة في سور دمشق بعد أن حاصرها المسلمون طويلًا وحاولوا مرات، غير أن هذا البطل الذي لم يعرف التاريخ اسمه، ولم يكشف هو عن شخصيته، اندفع على رأس فرسه وسهام العدو تنوشه من كل مكان دون أن يتوقف أو يرتد، حتى بلغ الجدار فأحدث فيه ثقبًا، ثم اخترقه إلى داخل السور وكبر، فكبر المسلمون وعبروا إليه، فلما انتهت الموقعة ظن قائد الجيش محمد بن مسلمة أن صاحب النقب سوف يتقدم إلية دون جدوى، هنالك نادى في الجيش أن يتقدم، فلم يتقدم أحد، ووعد ثم هدد، وبينما هو جالس في خيمته تقدم منه رجل فقال له: أيها القائد، هل تريد أن تعرف صاحب النقب، قال: نعم، قال: أنا أدلك عليه إذا أعطيتني العهد على أن لا تسألني عن اسمي، فقال القائد محمد بن مسلمة: لك عهد الله على أن لا أسألك عن اسمك، قال: أنا هو، وانطلق خارجًا من خيمة القائد ينتظر حسن الثواب من الله تعالى يوم يقوم الحساب، ولم يتطلع إلى الحظ العاجل وإذاعة أخباره واسمه، وهذا الصنف الكريم يجلي لنا العبر، ويعطينا الموعظة الحسنة، لنعتبر بأن الله تعالى وحده هو الذي يجزي على العمل.
وقد وضح لنا هذا المعنى عندما أقبل وباء المرتدين المجرمين بقيادة مسيلمة الكذاب، وخرج جيش الإسلام ليرد ذلك الطوفان، وكان فيه البراء بن مالك الأنصاري رضي الله عنه ولم تكن المعركة يومها سهلة ولا ميسرة، واشتد القتال بين المؤمنين والباغين، وهناك رفع البراء بن مالك صوته ينادي في المجاهدين: يا أهل المدينة، لا مدينة لكم بعد اليوم، إنما هو الله والجنة، أي: لا تذكروا في هذا الموطن أنفسكم ولا أهليكم ولا بلدكم، بل اجعلوا كل همكم أن تنصروا الله ربكم جل جلاله، وأن تأخذوا الطريق إلى جنته عن طريق الجهاد في سبيل دينه ودعوته.
فالبطولة الإسلامية لم تكن الإعلان والشهرة، وإنما هي التماس رضا الله عز وجل، وتحرير العمل لوجه الله تعالى وإخلاصه للحق وحده.
يذكر لنا التاريخ أن رومانوس امبراطور الدولة البيزنطية، أقبل بجيش يضم مائتي ألف مقاتل، وقيل ستمائة ألف مقاتل، يقوده بنفسه، ومعه البطارقة، يريد أن يقضي على المسلمين -بزعمه- ويزيل ملكهم وينفي جمعهم ويدوس رايتهم، وسرعان ما علم "ألب أرسلان" قائد المسلمين آنذاك بالخطر الزاحف على المسلمين، وأدرك أن لا مفر من الجهاد، فجمع أهل مشورته وقال لهم: تعلمون من أنباء زحف رومانوس وجيشه اللجب، ولقد حاولت أن أثنيه عن عزمه بكل المغريات من مال وممتلكات، أحب أن أضعها بين يدي رومانوس على أن لا يظفر بنا فيهلك جمعنا على القتال، وسأخرج لتوي بكفني وحنوطي، فمن رغب عن الجهاد فدونه المسالك فليسلك أيها أقرب إلى نجاته، ومن رغب في لقاء الله عز وجل، فليتحنط وليلبس كفنه وليلحق بي لملاقاة رومانوس.
وما هي إلا ساعة حتى كان ألب أرسلان يمتطي جواده ووراءه خمسة عشر ألف جندي، قد تكفنوا جميعًا بقماش أبيض، وقد فاحت منهم رائحة الحنوط، ينتظرون وصول جيش رومانوس أرض المعركة، وتمر سويعات ثقيلة متباطئة لم يلبث أن يتطاير عن بعد غبار ينبئ بوصول رومانوس، فتتعالى أصوات المسلمين الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله صدق وعده ونصره عبده وهزم الأحزاب وحده، ويفاجأ رومانوس وقادة جيشه بالذي رأوه وسمعوه، ويلقي الله الرعب في قلوبهم، إذ لا يرون أمامهم إلا كتلة واحدة بيضاء، يتعالى تكبيرها إلى عنان السماء.
وتحتدم المعركة بين الجيش المكفن المؤمن، وبين الجيش اليبزنطي اللجب الجرار، ويتدافع المسلمون بأكفانهم يطرقون أبواب الجنة بجماجم الكافرين من جنود بيزنطة، وسالت الدماء أنهارًا، وتطايرت الرؤوس بلا حساب، وشرعت أبواب الجنة تستقبل المؤمنين، وشرعت أبواب جهنم تستقبل الكافرين، وتطلب المزيد ... وما كاد النهار أن يستكمل دورته حتى هدأ ضجيج المعركة، وارتفع في الأجواء صوت المنادي ينادي: أبشروا يا جند الإسلام لقد أسر رومانوس.
فتعالت إذ ذاك أصوات المسلمين الله أكبر الله أكبر، وإذ فرغ ألب أرسلان وجنده من أداء ركعات شكر لله عز وجل، على نصره وتأييده، التفت إلى بعض جنده، وقال لهم: إليّ برومانوس، وجيء برومانوس مشدود الوثاق مكبلًا بالأصفاد، فقال له ألب أرسلان: يا رومانوس، ألم أعرض عليك المال والأرض والممتلكات لتكف عن أذى الإسلام وحرمات المسلمين؟ قال رومانوس: بلى، قال القائد المؤمن: فلم لم تقبل؟ قال رومانوس: ظننت أني سأقضي على جيشك، وأسحق دولتك، قال القائد المؤمن: أما وقد أخزاك الله يا رومانوس، ما تظن أني فاعل بك؟ قال رومانوس: إن شئت فاقتلني، وإن شئت جرني بالسلاسل، وإن شئت تقبل فديتي وتعفو عني.
وأطرق القائد المسلم قليلًا ثم قال: يا رومانوس، أتعاهدني إن عفوت عنك ألا تقاتل بعد اليوم مسلمًا أبدًا، قال رومانوس وقد دمعت عيناه بعد أن أدرك أنه نجا من موت محقق: لك عهدي يا قائد المسلمين.
وقام ألب أرسلان ففك قيود أسيره بيديه، وقال له: ستوصلك جنودي إلى مأمنك يا رومانوس، ولقد أمرت لك بخمسة عشر ألف دينار تستعين بها على وصولك، وحقق الله عز شأنه للمجاهدين المخلصين ما وعدهم بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
وهكذا نرى البطولة والانتصار يخدمان قضية الإسلام وهدف الدعوة إليه، ولا يقل عمل المصلحين الذين يصححون المفاهيم المنحرفة عن المجاهدين الذين يردون كيد الأعداء، ويحمون بيضة الدين، ويتساوى في الإسلام مداد العلماء ودم الشهداء، ولقد كان تاريخ الإسلام قائماً دائماً على القدرة المتجددة في أن يبعث البطل الذي يقود المعركة، ويواجه الأزمة، وكلما تجمعت التحديات في وجه المسلمين برز القائد العالم المجاهد الذي يحمل اللواء، ويقود الجماعة في معركة مقاومة، سلاحها المصحف والسيف، وكانت الأحداث والأزمات دائمًا قادرة على أن تدفع المسلمين إلى الوحدة والتجمع تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى يحقق الله عز شأنه لهم النصر.
وكل الأبطال الذين عرضهم التاريخ الإسلامي أبطال مقاومة لا يستسلمون ولا يحنون الرؤوس للظلم والانحراف والطغيان، ومن هنا عجزت قوى الكفر عن أن تقتلعهم أو تنتصر عليهم، وكانت المقاومة عند هؤلاء المسلمين إيمانًا في أعماق القلب، وسلاحًا في اليد، يعملان معًا في يقين راسخ بأنهم أصحاب أمانة إلهية ودعوة ربانية، ولقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو المثل الكامل للبطل الإسلامي، وكانت حياته صلى الله عليه وسلم موضع القدوة لكل الأجيال الإسلامية المتلاحقة، والرجال الذين تربوا على يديه كتبوا صفحات بارعة من المجد التليد، وظلوا رضي الله عنهم موضع إعجاب الأجيال الإسلامية المتوالية، وكانوا قدوة حسنة تقتدي بها الأجيال اللاحقة، ومن ثم اتصلت في تاريخ الإسلام روح البطولة والتضحية والموت من أجل الحياة الإيمانية، وكانت مقاومة الظلم والانحراف هي أبرز صفحات الجهاد في مواجهة كل باغ وظالم ومعتد على الإسلام وأهله.
ولقد استمد المجاهدون الأبطال من الرسول صلى الله عليه وسلم أبرز مفاهيم البطولة حيث جمعوا بين بطولة الفكر، وبطولة الجهاد، فقد كان العلماء العاملون كلهم قادة معارك يحملون السلاح في مواقف الجهاد، ولو لم يعيشوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عصر خلفائه الراشدين، ولا في عصر الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ولم يكن عجيبًا أن نرى في تاريخ أمتنا الإسلامية أناسًا تجردوا لله عز وجل فتألق نجمهم في مجتمعهم بعد عصر النبوة بنحو مائة وخمسين عامًا، وكان موضع تألقه بعيدًا عن منزل الوحي ومهبط الرسالة، كان هناك في شمال أفريقيا، ومع ذلك بقي الإسلام يمده بالإيمان المشرق، ويرشده إلى منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصده تأخر الزمان ولا بعد المكان عن الإسهام الرائع في بناء مجتمعه على أساس الدين والعلم، والإعداد والربط بين الدرس وجهاد النفس، ذلكم هو الإمام العالم أسد بن الفرات الذي جمع الله تعالى له الإمارة والقضاء، وكان يقال له من أجل ذلك: القاضي الأمير، الذي جمع بين العلم والعمل، وبين الفقه والجهاد، وسعى في الدنيا ليربح الآخرة (6).
وصلت وحدةٌ من جيش الإسلام إلى حيث يوجد رستم، عثرت على سريره ولم يعثروا عليه فوقه، إذ كان بجوار بغلٍ محملٍ بعدلين من مسك، يستظل بالظل ويشم الرائحة، ويدير المعركة، واقترب رجلٌ من المسلمين من بني تيم؛ هلال التيمي، وهو لا يعلم بوجود رستم، فضرب الحبال التي تشد العدلين إلى ظهر البغل فقطعها، فوقع أحد العدلين على ظهر رستم، وكان ثقيلاً جداً، فأصابه إصابةً بالغة أثرت في فقرةٍ من فقار ظهر رستم، ثم ضرب هلال العدل، يريد أن يعرف ماذا يحوي هذا العدل، فضربه بالسيف، فانبعثت رائحة المسك، فعرف أنه رستم، تسلل رستم هارباً نحو النهر، وعرفه هلال وتوجه نحوه، ورماه رستم بسهمٍ فأصابه في قدمه، وهو يقول له بالفارسية: كما أنت، وأوغل في الهرب وهلال خلفه نحو النهر، ولما رأى أن هلالاً سيدركه، بدأ يتخفف من سلاحه وعدته، فرمى بدرعه، ثم رمى بسيفه، ثم قذف بنفسه في النهر، فلم يدع له هلال فرصة النجاة، إذ اقتحم النهر خلفه، وهو يعوم في الماء لم يشعر إلا وهلال يأخذ برجله يجذبه ويسحبه حتى خرج به إلى البر، ثم ضرب جبينه بالسيف ففلق هامته، وضرب أنفه.
فسحب جثته حتى رمى بها بين أرجل البغال، ثم صعد على سرير رستم، ونادى بأعلى صوته: قتلت رستم ورب الكعبة، إليَّ إليَّ، فأطافوا به، فانهزم المشركون وتهافتوا في العتيق، فقتل المسلمون منهم ثلاثين ألفًا، وقتلوا في المعركة عشرة آلاف سوى من قتل قبل ذلك، وكان المسلم يدعو الكافر فيأتي إليه فيقتله (7).
تلكم الأرواح الطاهرة التي ضربت لنا أروع الأمثلة في البطولة والإقدام، وفي العزة والشهامة والبسالة، قلوبهم تغشاها السعادة، ووجوههم تعلوها الابتسامة، تلك الابتسامة المشرقة التي ملأت السماء والأرض نورًا، والأفئدة والقلوب حبًا ويقينًا، سطروا بسلاحهم أعظم قصص البطولات، ورفعوا رؤوسهم عالية فوق هامة الطغاة، أعلوا دينهم بدمائهم، فأعلى الله شأنهم، وخلد ذكرهم، عطروا بدمائهم الأرجاء، وأنبتوا رياحيق الزهور الغناء، سأذكركم عند كل شروق وغروب، سأبكيكم عند كل ركوع وسجود، سأناديكم عند تغاريد البلابل في البكور، وتكون قطرات الندى في الزهور.
لما فرغ خالد من الأنبار، واستحكمت له، استخلف على الأنبار الزبرقان بن بدر، وقصد لعين التمر، وبها يومئذ مهران بن بهرام جوبين في جمع عظيم من العجم، وعقة بن أبي عقة في جمع عظيم من العرب من النمر وتغلب وإياد ومن لافهم فلما سمعوا بخالد قال عقة لمهران: إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالدًا، قال: صدقت، لعمري لأنتم أعلم بقتال العرب، وإنكم لمثلنا في قتال العجم فخدعه واتقى به، وقال: دونكموهم وإن احتجتم إلينا أعناكم فلما مضى نحو خالد قالت له الأعاجم: ما حملك على أن تقول هذا القول لهذا الكلب! فقال: دعوني فإني لم أرد إلا ما هو خير لكم وشر لهم، إنه قد جاءكم من قتل ملوككم، وفل حدكم، فاتقيته بهم، فإن كانت لهم على خالد فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم تبلغوا منهم حتى يهنوا، فنقاتلهم ونحن أقوياء وهم مضعفون.
فاعترفوا له بفضل الرأي، فلزم مهران العين، ونزل عقة لخالد على الطريق، وعقة على طريق الكرخ كالخفير قدم عليه خالد وهو في تعبئة جنده، فعبى خالد جنده وقال لمجنبتيه: اكفونا ما عنده، فإني حامل، ووكل بنفسه حوامي، ثم حمل وعقة يقيم صفوفه، فاحتضنه فأخذه أسيرًا، وانهزم صفه من غير قتال، فأكثروا فيهم الأسر، وهرب بجير والهذيل، واتبعهم المسلمون ولما جاء الخبر مهران هرب في جنده، وأقبل خالد ومعه عقة أسير فأمر بضرب عنقه (8).
ليست البطولة أن تقاتل وأنت آمن على ظهرك من الرماح، ولكن البطولة أن تقاتل وأنت تنوشك الرماح من كل جانب.
واجه المسلمون هرمز وكان مشهورًا بالخبث والسوء حتى ضُرب المثل بخبثه، فعمل مكيدة لخالد؛ وذلك أنه اتفق مع حاميته على أن يبارز خالدًا ثم يغدروا به ويهجموا عليه، فبرز بين الصفين ودعا خالدًا إلى البراز فبرز إليه، والتقيا فاختلفا ضربتين واحتضنه خالد فحملت حامية هرمز على خالد وأحدقوا به، فما شغله ذلك عن قتل هرمز، وما أن لمح ذلك البطل المغوار القعقاع بن عمرو حتى حمل بجماعة من الفرسان على حامية هرمز، وكان خالد يجالدهم فأناموهم، وحمل المسلمون من وراء القعقاع حتى هزموا الفرس، وهذا هو أول المشاهد التي ظهر فيها صدق فراسة أبي بكر حينما قال عن القعقاع: لا يهزم جيش فيه مثل هذا، وأما خالد فقد ضرب أروع الأمثال في البطولة ورباطة الجأش، فقد أجهز على قائد الفرس وحاميته من حوله، فلم يستطيعوا تخليصه منه، ثم ظل يجالدهم حتى وصل إليه القعقاع ومن معه فقضى عليهم، وقد كان الفرس ربطوا أنفسهم بالسلاسل حتى لا يفروا فلم تغن عنهم شيئًا أمام الليوث البواسل، وسميت هذه المعركة بذات السلاسل (9).
حين تضطرب مقاييس الرجولة يحكم النساء الرجال، وحين تضطرب مقاييس البطولة يحكم اللصوص الشجعان، وحين تضطرب مقاييس الفضيلة يحكم الأوباش.
ما زالت أمتنا تنتظر البطل الذي يملأ فراغها السياسي منذ غاب صلاح الدين، وما تزال تمنح قلوبها وتأييدها كلما خالت مخايل البطولة فيمن يدعيها، حتى إذا اكتشفت بذكائها "زيف" البطل الممثل؛ تخلت عنه بين فجيعة الخيبة وتجدد الأمل في بطل جديد، وما زالت تبحث، وما زالت تنتظر (10).
***
------------
(1) معركة الإسلام والعلمانية/ سلمان العودة.
(2) الفروق للقرافي (4/ 170).
(3) أخرجه مسلم (1807).
(4) شرح النووي على مسلم (12/ 182).
(5) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (6/ 2573).
(6) دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب سلفية لا وهابية (ص: 36).
(7) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (4/ 176).
(8) تاريخ الرسل والملوك (3/ 376) بتصرف.
(9) التاريخ الإسلامي (9/ 133).
(10) هكذا علمتني الحياة/ علي الطنطاوي.