ليس عليك هداهم
الهداية منحة ربانية، وتوفيق إلهي، وعطاء رباني؛ لمن سلك سبيلها، وامتطى طريقها، وسار على دربها، فلا عجب أن يقول المسلم في كل صلاة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، رغم أنه في صلاة وعبادة؛ ومع ذلك يرجو الهداية، ويسأل الله بها؛ لأنه الوحيد الذي يملكها، والعبد بدونها لا قيمة له ولا وزن، وهي الضمان الوحيد للسعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة.
والهداية هي الدلالة على الطريق؛ سواء كان طريقًا حسيًا أم طريقًا معنويًا، الطريق الذي يوصل إلى الغاية، الله جعل النجوم لنهتدي بها؛ {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام:97]، {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16].
وهذا الأمر هو أعظم وأول ما يَطلُب المؤمن من ربه العون فيه، فالهداية إلى الطريق المستقيم هي ضمان السعادة في الدنيا والآخرة عن يقين، وهي في حقيقتها هداية فطرة الإنسان إلى ناموس الله، الذي ينسق بين حركة الإنسان وحركة الوجود كله في الاتجاه إلى الله رب العالمين(1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «كل عبد مضطر دائمًا إلى مقصود هذا الدعاء، وهو هداية الصراط المستقيم، فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية، ولا وصول إلى السعادة إلا به، فمن فاته هذا الهدى فهو إما من المغضوب عليهم، وإما من الضالين، وهذا الاهتداء لا يحصل إلا بهدى الله؛ {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17]»(2).
عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم»(3).
إن أمر القلوب وهداها وضلالها ليس من شأن أحد من خلق الله؛ ولو كان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه من أمر الله وحده، فهذه القلوب من صنعه، ولا يحكمها غيره، ولا يصرفها سواه، ولا سلطان لأحد عليها إلا الله، وما على الرسول إلا البلاغ، فأما الهدى فهو بيد الله، يعطيه من يشاء، ممن يعلم سبحانه أنه يستحق الهدى، ويسعى إليه.
وإخراج هذا الأمر من اختصاص البشر يقرر الحقيقة التي لا بد أن تستقر في حس المسلم؛ ليتوجه في طلب الهدى إلى الله وحده، وليتلقى دلائل الهدى من الله وحده، ثم هي تفسح في احتمال صاحب الدعوة لعناد الضالين، فلا يضيق صدره بهم وهو يدعوهم ويعطف عليهم، ويرتقب إذن الله لقلوبهم في الهدى، وتوفيقهم إليه بمعرفته حين يريد(4).
الهداية أربعة أنواع:
قال ابن القيم: «الهداية أربعة أنواع :
أحدها: الهداية العامة المشتركة بين الخَلْق، المذكورة في قوله تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]، أي: أعطى كل شيء صورته التي لا يشتبه فيها بغيره، وأعطى كل عضو شكله وهيئته، وأعطى كل موجود خلقه المختص به، ثم هداه لما خلقه من الأعمال.
قال: وهذه الهداية تعم الحيوان المتحرك بإرادته إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره .
قال: وللجماد أيضًا هداية تليق به، كما أن لكل نوع من الحيوان هداية تليق به، وإن اختلفت أنواعها وصورها، وكذلك لكل عضو هداية تليق به، فهدى الرِّجْلين للمشي، واللسان للكلام، والعين لكشف المرئيات، وهلم جرا .
وكذلك هدى الزوجين من كل حيوان إلى الازدواج والتناسل وتربية الولد، والولد إلى التقام الثدي عند وضعه، ومراتب هدايته سبحانه لا يحصيها إلا هو .
الثاني: هداية البيان والدلالة والتعريف لِنَجْدَي الخير والشر، وطريقي النجاة والهلاك .
وهذه الهداية لا تستلزم الهدى التام؛ فإنها سبب وشرط لا موجب، ولهذا ينتفي الهدى معها؛ كقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [ ص:17]، أي بيَّنَّا لهم وأرشدناهم ودللناهم فلم يهتدوا،ومنها قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] .
الثالث: هداية التوفيق والإلهام، وهي الهداية المستلزمة للاهتداء فلا يتخلف عنها، وهي المذكورة في قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8]، وفي قوله تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل:37]، وفي قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56]، فنفى عنه هذه الهداية، وأثبت له هداية الدعوة والبيان في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
الرابع: غاية هذه الهداية، وهي الهداية إلى الجنة أو النار إذا سيق أهلهما إليهما، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس:9]، وقال أهل الجنة فيها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]، وقال في حق أهل النار: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)} [الصافات:22-23].
وفي البيضاوي: الهداية دلالة بلطف، ولذلك تستعمل في الخير، وقوله: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)} [الصافات:23]، على التهكم، ثم قال: وهداية الله تتنوع أنواعًا لا يحصيها عد، لكنها تنحصر في أجناس مترتبة :
الأول: إفاضة القوى التي بها يتمكن المؤمن الاهتداء إلى مصالحه؛ كالقوة العقلية، والحواس الباطنة، والمشاعر الظاهرة .
والثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل، والصلاح والفساد، وإليه أشار حيث قال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، وقال: {فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17].
والثالث: الهداية بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإياها عنى بقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء:73]، وقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9].
والرابع: أن يكشف على قلوبهم السرائر، ويريهم الأشياء كما هي بالوحي أو الإلهام والمنامات الصادقة، وهذا قسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء، وإياه عنى بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90]، وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69](5).
منازل الهداية:
والهداية هي الإرشاد إلى الخيرات قولًا وفعلًا، وهي من الله تعالى على منازل، بعضها يترتب على بعض، لا يصح حصول الثاني إلا بعد الأول، ولا الثالث إلا بعد الثاني.
وأول المنازل: إعطاؤه العبد القُوَى التي بها يهتدي إلى مصالحه؛ إما تسخيرًا وإما طوعًا، كالمشاعر الخمسة، والقوة الفكرية، وبعض ذلك قد أعطاه الحيوانات، والبعض خصّ به الإنسان، وعلى ذلك دلّ قوله تعالى: {أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى} [طه:50]، وقوله تعالى: {الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى} [الأعلى:3].
وهذه الهداية إما تسخير وإما تعليم، وإلى نحوه أشار بقوله تعالى: {وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل:68]، وقوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها} [الزلزلة:5]، وقال في الإنسان، بما أعطاه من العقل، وعرفه من الرشد: {إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ} [الإنسان:3] وقال: {وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، وقال في ثمود: {فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى} [فصلت:17].
وثانيها: الهداية بالدعاء، وبعثه الأنبياء عليهم السلام، وإياها عنى بقوله تعالى: {وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا} [السجدة:24]، وبقوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ} [الرعد:7]، وهذه الهداية تنسب تارة إلى الله عز وجل، وتارة إلى النبي عليه السلام، وتارة إلى القرآن، قال الله تعالى: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9].
وثالثها: هداية يوليها صالحي عباده بما اكتسبوه من الخيرات، وهي الهداية المذكورة في قوله عز وجل: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ} [الحج:24]، وقوله: {أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] وقوله: {وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا} [العنكبوت:69].
وهذه الهداية هي المعنية بقوله: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد:28].
ويصح أن ننسب هذه الهداية إلى الله عز وجل؛ فيقال: هو آثرهم بها من حيث إنه هو السبب في وصولهم إليها، ويصح أن يقال: اكتسبوها من حيث أنهم توصلوا إليها باجتهادهم، فمن قصد سلطانًا مسترفدًا فأعطاه، يصح أن يقال: إن السلطان خوّله.
ويصح أن يقال: فلان اكتسب بسعيه، ولانطواء ذلك على الأمرين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ} [يونس:9]، فنبه أن ذلك بجهدهم، وهذه الهداية يصح أن يقال: هي مباحة للعقلاء كلهم، ويصح أن يقال: هي محظورة إلا على أوليائه، لما كان في إمكان جميع العقلاء أن يترشحوا لتناولها، ومن ذلك قيل: إنها لا يسهل تناولها قبل أن يتشكل الإنسان بشكل مخصوص، بتقديم عبادات، وقد قال بعض المحققين: الهدى من الله كثير، ولا يبصره إلا البصير، ولا يعمل به إلا اليسير، ألا ترى إلى نجوم السماء ما أكثرها، ولا يهتدي بها إلا العلماء.
والمنزلة الرابعة: من الهداية التمكين من مجاورته في دار الخلد، وإياها عنى الله بقوله: {وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا} [الأعراف:43]، فإذا ثبت ذلك فمن الهداية ما لا ينفى عن أحد بوجه، ومنها ما ينفى عن بعض ويثبت لبعض، ومن هذا الوجه قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، وقال: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [البقرة:272]، وقال: {وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} [الروم:53]، فإنه عنى الهداية، التي هي التوفيق وإدخال الجنة، دون التي هي الدعاء، لقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، وقال في الأنبياء: {وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا} [الأنبياء:73].
فحاجته إلى هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته، بخلاف الحاجة إلى الرزق والنصر، فإن الله يرزقه، وإن انقطع رزقه مات، والموت لا بدّ منه، فإن كان من أهل الهداية كان سعيدًا بعد الموت، وكان الموت موصلًا له إلى السعادة الدائمة الأبدية، فيكون رحمة في حقه، وكذلك النصر، إذا قدّر أنه قهر وغلب حتى قتل، فإذا كان من أهل الهداية إلى الاستقامة مات شهيدًا، وكان القتل من تمام نعمة الله عليه، فتبين أن حاجة العباد إلى الهدى أعظم من حاجتهم إلى الرزق والنصر؛ بل لا نسبة بينهما، فلهذا كان هذا الدعاء مفروضًا عليهم في الصلاة فرضها ونفلها(6).
قال ابن كثير: «يقول تعالى لرسوله: إنك يا محمد {لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}، أي: ليس إليك ذلك، إنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272]، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، وهذه الآية أخص من هذا كله، فإنه قال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56]، أي: أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية»(7).
قد علمنا أن الرسالة الإلهية لا تتوقف على إقدار الرسول على التصرف في المخلوقات من غير طريق الأسباب التي سخرها الله للناس؛ لأن موضوعها علمي تعليمي، فهي عبارة عن تبليغ ما علمه الله للرسول بوحيه إليه، وليس من موضوعها تغيير شيء من خلق; ولذلك لم يعط الله تعالى أحدًا من رسله قدرة على هداية أحد بالفعل، قال تعالى لخاتم رسله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272]، وقال له: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56]، ولو كان لهم شيء من التصرف في الخلق لجعله نوح عليه السلام في هداية ولده، وإبراهيم عليه السلام خليل الله في هداية أبيه آزر(8).
وهداية الله للإنسان على ضروب:
(1) هداية الإلهام، وتكون للطفل منذ ولادته، فهو يشعر بالحاجة إلى الغذاء، ويصرخ طالبًا له.
(2) هداية الحواس.
وهاتان الهدايتان يشترك فيهما الإنسان والحيوان الأعجم؛ بل هما في الحيوان أتمّ منهما في الإنسان؛ إذ إلهامه وحواسه يكملان بعد ولادته بقليل، ويحصلان في الإنسان تدريجًا.
(3) هداية العقل، وهى هداية أعلى من هداية الحس والإلهام، فالإنسان قد خلق ليعيش مجتمعًا مع غيره، وحواسه وإلهامه لا يكفيان لهذه الحياة، فلا بد له من العقل الذي يصحح له أغلاط الحواس، ألا ترى الصفراوي يذوق الحلو مرًّا، والرائي يبصر العود المستقيم في الماء معوجًّا.
(4) هداية الأديان والشرائع، وهى هداية لا بد منها لمن استرقّت الأهواء عقله، وسخّر نفسه للذاته وشهواته، وسلك مسالك الشرور والآثام، وعدا على بني جنسه، وحدث بينه وبينهم التجاذب والتدافع، فبها يحصل الرشاد إذا غلبت الأهواء العقول، وتتبين للناس الحدود والشرائع، ليقفوا عندها، ويكفّوا أيديهم عما وراءها، إلى أن في غرائز الإنسان الشعور بسلطان غيبي متسلّط على الأكوان، إليه ينسب كل ما لا يعرف له سبب، وبأن له حياة وراء هذه الحياة المحدودة، وهو بعقله لا يدرك ما يجب لصاحب هذا السلطان، ولا يصل فكره إلى ما فيه سعادته في هذه الحياة؛ فاحتاج إلى هداية الدين التي تَفَضل الله بها عليه ووهبه إياها.
أما الهداية بمعنى الدلالة على الخير والحق، مع بيان ما يعقب ذلك من السعادة والفوز والفلاح، فهي مما تفضل الله بها على خلقه، ومن ثم أثبتها للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ} [البقرة:272]، أي لا يجب عليك أن تجعل الناس مهديين، إن أنت إلا بشير ونذير، وما عليك إلا الإرشاد والحث على الفضائل، والنهي عن الرذائل؛ كالمنّ والأذى وإنفاق الخبيث، {وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} أي إن أمر الناس في الاهتداء مفوّض إلى ربهم، بما وضعه لسير عقولهم وقلوبهم من السنن، فهو الذي يوفقهم إلى النظر الصحيح، الذي يكون من ثمرته العمل الموصل إلى سعادتهم(9).
فالهداية التي تصح نسبتها لغير الله بوجه ما هي هداية الإرشاد والدلالة، كما قال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، أي: ترشد وتبين، والهداية المنفية عن غير الله هي هداية التوفيق، وخلق القدرة على الطاعة، ذكره بعضهم بمعناه.
أنواعها ومراتبها:
منح الله تعالى الإنسان أربع هدايات يتوصل بها إلى سعادته:
أولها: هداية الوجدان الطبيعي والإلهام الفطري، وتكون للأطفال منذ ولادتهم، فإن الطفل بعد ما يولد يشعر بألم الحاجة إلى الغذاء، فيصرخ طالبًا له بفطرته، وعندما يصل الثدي إلى فيه يلهم التقامه وامتصاصه.
الثانية: هداية الحواس والمشاعر، وهي متممة للهداية الأولى في الحياة الحيوانية، ويشارك الإنسان فيهما الحيوان الأعجم؛ بل هو فيهما أكمل من الإنسان، فإن حواس الحيوان وإلهامه يكملان له بعد ولادته بقليل، بخلاف الإنسان؛ فإن ذلك يكمل فيه بالتدريج في زمن غير قصير، ألا تراه عقب الولادة لا تظهر عليه علامات إدراك الأصوات والمرئيات، ثم بعد مدة يبصر، ولكنه لقصر نظره يجهل تحديد المسافات، فيحسب البعيد قريبًا؛ فيمد يديه إليه ليتناوله، وإن كان قمر السماء، ولا يزال يغلط حسه حتى في طور الكمال.
الهداية الثالثة: العقل، خلق الله الإنسان ليعيش مجتمعًا، ولم يعط من الإلهام والوجدان ما يكفي مع الحس الظاهر لهذه الحياة الاجتماعية كما أعطي النحل والنمل، فإن الله قد منحها من الإلهام ما يكفيها لأن تعيش مجتمعة، يؤدي كل واحد منها وظيفة العمل لجميعها، ويؤدي الجميع وظيفة العمل للواحد، وبذلك قامت حياة أنواعها كما هو مشاهد.
أما الإنسان فلم يكن من خاصة نوعه أن يتوفر له مثل ذلك الإلهام، فحباه الله هداية هي أعلى من هداية الحس والإلهام، وهي العقل الذي يصحح غلط الحواس والمشاعر، ويبين أسبابه، وذلك أن البصر يرى الكبير على البعد صغيرًا، ويرى العود المستقيم في الماء معوجًا، والصفراوي يذوق الحلو مرًا، والعقل هو الذي يحكم بفساد مثل هذا الإدراك.
الهداية الرابعة: الدين، يغلط العقل في إدراكه كما تغلط الحواس، وقد يهمل الإنسان استخدام حواسه وعقله فيما فيه سعادته الشخصية النوعية، ويسلك بهذه الهدايات مسالك الضلال، فيجعلها مسخرة لشهواته ولذاته حتى تورده موارد الهلكة، فإذا وقعت المشاعر في مزالق الزلل، واسترقت الحظوظ والأهواء العقل فصار يستنبط لها ضروب الحيل، فكيف يتسنى للإنسان مع ذلك أن يعيش سعيدًا؟ وهذه الحظوظ والأهواء ليس لها حد يقف الإنسان عنده وما هو بعائش وحده، وكثيرًا ما تتطاول به إلى ما في يد غيره، فهي لهذا تقتضي أن يعدو بعض أفراده على بعض، فيتنازعون ويتدافعون، ويتجادلون ويتجالدون، ويتواثبون ويتناهبون، حتى يفني بعضهم بعضًا، ولا تغني عنهم تلك الهدايات شيئًا؛ فاحتاجوا إلى هداية ترشدهم في ظلمات أهوائهم إذا هي غلبت على عقولهم، وتبين لهم حدود أعمالهم ليقفوا عندها، ويكفوا أيديهم عما وراءها.
ثم إن مما أودع في غرائز الإنسان الشعور بسلطة غيبية متسلطة على الأكوان، ينسب إليها كل ما لا يعرف له سبب؛ لأنها هي الواهبة كل موجود ما به قوام وجوده، وبأن له حياة وراء هذه الحياة المحدودة، فهل يستطيع أن يصل بتلك الهدايات الثلاث إلى تحديد ما يجب عليه لصاحب تلك السلطة الذي خلقه وسواه، ووهبه هذه الهدايات وغيرها، وما فيه سعادته في تلك الحياة الثانية؟ كلا، إنه في أشد الحاجة إلى هذه الهداية الرابعة، الدين، وقد منحه الله تعالى إياها.
ولما كان الإنسان عرضة للخطأ والضلال في فهم الدين، وفي استعمال الحواس والعقل على ما قدمنا، كان محتاجًا إلى المعونة الخاصة، فأمرنا الله بطلبها منه في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، فمعنى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} دلنا دلالة تصحبها معونة غيبية من لدنك، تحفظنا بها من الضلال والخطأ، وما كان هذا أول دعاء علمنا الله إياه، إلا لأن حاجتنا إليه أشد من حاجتنا إلى كل شيء سواه(10).
قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56]، لا تقدر أن تُدْخِل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم؛ لأنك عبد لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره، {وَلكِنَّ اللَّهَ} يدخل في الإسلام {مَنْ يَشاءُ} وهو الذي علم أنه غير مطبوع على قلبه، وأن الألطاف تنفع فيه، فيقرن به ألطافه حتى تدعوه إلى القبول {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} بالقابلين من الذين لا يقبلون(11).
طرق تحصيل الهداية:
ولتحصيل الهداية طريقان:
أحدهما: طلب المعرفة بالدليل والحجة.
والثاني: بتصفية الباطن والرياضة.
أما طرق الاستدلال فإنها غير متناهية؛ لأنها لا ذرة من ذرات العالم، الأعلى والأسفل، إلا وتلك الذرة شاهدة بكمال إلهيته، وبعزة عزته، وبجلال صمديته، كما قيل:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
قال بعضهم: إنه لما قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، لم يقتصر عليه؛ بل قال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، وهذا يدل على أن المريد لا سبيل له إلى الوصول إلى مقامات الهداية والمكاشفة؛ إلا إذا اقتدى بشيخ يهديه إلى سواء السبيل، ويجنبه عن مواقع الأغاليط والأضاليل؛ وذلك لأن النقص غالب على أكثر الخلق، وعقولهم غير وافية بإدراك الحق، وتمييز الصواب عن الغلط، فلا بد من كامل يقتدي به الناقص حتى يتقوى عقل ذلك الناقص بنور عقل ذلك الكامل، فحينئذ يصل إلى مدارج السعادات ومعارج الكمالات(12).
موانع الهداية:
1- إلغاء العقل:
فلا يفكر الإنسان بعقله، وإنما يفكر بعقول الآخرين، وبعض الناس يفكر بعقل آبائه وأجداده {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة:104].
2- اتباع السادة والكبراء:
كما حكى القرآن عن هؤلاء؛ {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب:67] فهذا التقليد الأعمى قد يكون مانعًا من موانع الهداية.
3- الرذائل الخلقية:
مثل الكبر والحسد؛ فالقرآن يقول عن قوم فرعون لماذا لم يتبعوا موسى مع أنه كانت آياته بينات؟ يقول: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا..} [النمل:14]، فمن الظلم أن الإنسان يكون الحق أمامه ولا يتبعه استعلاءً واستبكارًا في الأرض، وقد يكون بسبب الحسد؛ مثل بني إسرائيل لم يتبعوا محمدًا، فكانوا قبل الإسلام يستفتحون به على الذين كفروا: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]، والقرآن يقول: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109].
4- حب الدنيا:
فالإنسان لا يريد أن يخسر دنياه، كثير من الأحبار والرهبان عرفوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وعرفوا أوصافه، وكما قال القرآن: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]، هرقل عرف محمدًا صلى الله عليه وسلم، وسأل عنه أبو سفيان أسئلة في غاية الدقة، حتى عرف أن هذا هو النبي الذي يُنتظر بعد عيسى، ولكنه حينما أراد أن يختبر القوم حوله، مِن القسس والكبار، حاصوا حيصة حمر الوحش، وهاجوا عليه، فقال لهم: لا، أنا أردت أن أختبر إيمانكم، فغلب حب الدنيا وحب الملك على ما تبين له من الإيمان.
5- العصبية العمياء:
قريش كانوا يذهبون ليسمعوا القرآن سرًا، كانوا يتلذذون بسماع القرآن، ولكن العصبية العمياء هي التي منعتهم من الهداية، فهذه كلها من موانع الهداية(13).
فمن أراد الهداية وسعى لها سعيها، وجاهد فيها، فإن الله لا يحرمه منها؛ بل يعينه عليها: {وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]؛ ليطمئن كل من يتجه إلى هدى الله أن مشيئة الله ستقسم له الهدى وتؤتيه الحكمة، وتمنحه ذلك الخير الكثير.
فالداعية واسطة لتحقيق مشيئة الله، فهو لا ينشئ الهدى في القلوب، ولكن يبلغ الرسالة فتقع مشيئة الله، فعليه البلاغ والدعوة والإنذار والغرس، أما الحساب والقبول والاتعاظ والثمر بيد رب البشر سبحانه وتعالى.
______________
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب (1/26).
(2)مجموع الفتاوى، لابن تيمية (22/400).
(3) رواه مسلم (2577).
(4) في ظلال القرآن (1/314).
(5) غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب، للسفاريني (1/30).
(6) محاسن التأويل، للقاسمي (1/234).
(7) تفسير ابن كثير (6/246).
(8) تفسير المنار (7/354).
(9) تفسير المراغي (1/36).
(10) تفسير المنار (1/53-54).
(11) الكشاف، للزمخشري (3/244).
(12) مفاتيح الغيب، للرازي (1/164).
(13) طريق الهداية، د. يوسف القرضاوي.