logo

لماذا نتخلى عن أحلامنا؟


بتاريخ : الخميس ، 13 رمضان ، 1438 الموافق 08 يونيو 2017
بقلم : د. زهرة وهيب خدرج
لماذا نتخلى عن أحلامنا؟

"في طفولتي كانت أحلامي كبيرة وبريئة؛ أحلام لا تساورها شكوك ولا تردُّد، أحلام سِمَتُها الثقة المطلقة بأنها ستغدو في يوم ما واقعًا ملموسًا، أعيشه بكل دقائق تفاصيله، أبدًا لم أنظر إلى الأشواك التي تفترش الطريق، ولا الصخور التي تسدُّ المنفذ الوحيد المفضي لتلك الأحلام، أبدًا؛ بل كنتُ أمضي بخيالي إلى أبعد ما يكون، وماذا يكون أبعد من الفضاء؟!

كنتُ أتصور نفسي أسير على القمر ببذلة فضائية منفوخة، لم أفكر في غير الشعور الجميل الذي يسيطر عليَّ وأنا أرى الأرض زرقاء تتلألأ أمام ناظري وأنا أشاهدها من الفضاء، وأُجري أبحاثي على تربة القمر، وأتخيل نفسي وأنا أقف على المنصة، أمامي كثير من الناس؛ أُلقي المحاضرات، وأتحدث فيما أعتقده من نظريات وآراء وعلوم، وهم يصغون السمع لما أقول، لم يكن لدي أدنى استعداد للاستماع لِمن يَسخر مني من زميلاتي ومعلماتي وأقاربي، لم أكن أنظر إلى ابتسامتهم الماكرة المشككة في أحلامي، واستفساراتهم حول حلمي التي يخفون وراءها تكذيبًا واستهجانًا لما أؤمن به، لم تكن محاولاتهم بإقناعي (بعدم جدوى حلمي واستحالة تحقيقه) تُجدِي معي نفعًا؛ بل كان ذلك الحلم جزءًا مني".

اسمها مثل أحلامها (سراب)، كانت تقول لنا دائمًا:

- سأصبح طبيبةً ماهرة، سيأتي الناس من كل الدنيا للعلاج عندي، سأهَبُ كل وقتي لإسكات آلام الموجوعين، وتطبيب أوجاعهم وأمراضهم المستعصية.

لم يكن في حسابها عقبات، ولا يوجد في قاموسها معيقات، وفعلًا تفوَّقَت في الثانوية العامة، وبدأت مسيرة طبيبة الطفولة والأحلام وعلاج الأمراض المستعصية، إلى أن كانت الصدمة الكبرى عندما عرفت أنَّها غادرت الأحلام وعالم الدراسة، واختارت أن تتزوج وتهاجر مع زوجها إلى بلاد العسل...

كثيرون أمثالي، وأمثال سراب، يَحلمون في طفولتهم؛ بل ويبتعدون كثيرًا في أحلامهم؛ فتراهم يركبون الخيل بمهارة، ويغوصون في أعماق البحار، ويتسلقون قمم الجبال، كما يسافرون في الفضاء، ويَعبرون الزمن، ويقاتلون الوحوش الضارية، ويحلمون بأن يصبحوا أطباء مهرة، وحقوقيين مدافعين عن المظلومين، وقضاة عادلين، وأبطالًا خارقين، ومهندسين ماهرين، ومديرين مبدعين، ووزراء، ورؤساء دول، وروَّاد فضاء، وآباء وأمهات مميزين...

ونلعب مع إخواننا وأصحابنا اللعبة فنتفنن في الأداء، ونعيش دقائق الأحداث والتفاصيل، فيبدو الواحد منا متقنًا للدور مؤمنًا بما يتخيل، ما يميِّز أحلامَنا ويميزنا في تلك الأوقات أننا نصدِّقها؛ بل نؤمن بها، وأبدًا لا يوجد لدينا أي استعدادٍ لأن نصدِّق أنها مَحض أحلام طفولية...

وما أن نَكبر في الحجم والقدرات والخبرات حتى تأخذ أحلامنا في التضاؤل والتلاشي شيئًا فشيئًا، حتى تختفي من خيالنا وأولويَّات حياتنا، حتى تغدو سرابًا جميلًا لذيذَ الذكرى لا أثر له في الواقع، نتندَّر في الحديث عنه عندما تسرد حكاية نجاح شخص، عرفناه في إحدى محطات حياتنا، استطاع الوصول لأحلامه وتحقيق طموحاته، وترانا نتذرَّع بالحجج والأعذار التي حالت دون وصولنا لأحلامنا مثله، وأفقدَتنا الأملَ والتفاؤل في تحقيقها...

ولكن ما الذي يحدث معنا حتى نتخلى عن أحلامنا؟ لماذا نتنازل عما كنا نراه في أيامنا الماضية شيئًا أكيدًا نحن ماضون لتحقيقه؟

ما يحدث حقيقةً أنه عند وصولنا لمساحةٍ تُحقق لنا بعض الاستقرار المادي والمعنوي والاجتماعي، وبعض الأمن الذي يرافقهما، ترانا نلتصق بها ونخلد للراحة والسكينة في تلك المساحة، فيصبح من الصعب علينا أن نتخلى عن الراحة والأمان الذي حصلنا عليه؛ لهذا نتخلَّى أيضًا عن أحلامنا التي كانت تراوِدنا بأن نصبح متفوقين ومتقدمين وقادة، وهذا يبرِّر لنا لماذا يتوقف الكثيرون عند أول محطة نجاح يصِلون إليها في حياتهم، ولا يتابعون النجاحات والإبداعات، على الرغم من العقلية الفذة والقدرات العظيمة التي يمتلكونها؛ فهم يخافون على أنفسهم ونجاحاتهم من المجازفات التي قد يتعرضون لها إن هم استمروا في المضي قُدمًا إلى الأمام، فتحدِّثهم أنفسهم أنهم ربما يخسرون ما حققوه في إحدى المحطات القادمة؛ فتراهم يتجمدون في مكانهم ليبقوا في عداد الناجحين.

إن رضيتَ لنفسك الخلود إلى السكينة والراحة، ولم تتابِع ما بدأتَ من نجاح، فاعلم أنك قد وصلت إلى مرحلة بدء الفقدان؛ فقدان ما حققت من نجاح، فالشعلة إن لم تمدها بوقودٍ يحافظ عليها مشتعلة فستنطفئ بعد مضي بعض الوقت عليها عندما ينفد الوقود من حولها، فنجاحاتنا بحاجة لأن نمدَّها بالوقود حتى نحتفظ بها، والوقود هو الإبداع والطاقة التي لا بد وأن نستمر في بذلها في سبيل الحفاظ على نجاحنا الذي حققناه.

صحيح أن التغيير والتجديد والمجازفات تشعرنا بالخوف، ولكن أليس الخوف لبعض الوقت أفضل من الاختباء في الظل لفترات طويلة من الحياة؟ فإذا كنت تريد أن تتميز أو تقود أو أن يُحفظ ذِكرك، فلا تقف مكانك مهما بلغت من العُلا؛ فالعلا بحاجة لأن تستمر في المثابرة وبذل المزيد من الجهد حتى تحتفظ به...

فما كان من جهدك أنت فلا ترضَ بما وصلت له؛ بل تابِع ما دمت حيًا، وما كان من الله، فارضَ بما قسم لك تكن أسعد الناس، وتترك خلفك بصمةً يَذكرك الناس بها بعد أن تمرَّ من هذه الدنيا، إلا أننا يجب ألا ننسى أيضًا أن القدَر ينحاز للمثابرين الجادين، فيعطيهم ما يريدون؛ لهذا لا يجب أن نتعلّل بالأقدار لأننا تخلَّينا عن أحلامنا.

المصدر: موقع: الألوكة