logo

تساقط الدعاة


بتاريخ : الأربعاء ، 9 محرّم ، 1440 الموافق 19 سبتمبر 2018
بقلم : تيار الاصلاح
تساقط الدعاة

للعلماء والدعاة مكانة عظيمة في دين الله، فهم ورثة الأنبياء، قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُون} [الزمر:9]، وقال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وقال سبحانه: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11]، وأوجب الله عز وجل طاعة العلماء فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء:59]، وأولو الأمر هم العلماء كما قال المفسرون، وقيل: هم الأمراء والعلماء(1).

وقال تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]، قال القرطبي: «في هذه الآية دليلٌ على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم، فإنه لو كان أحدٌ أشرفُ من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته، كما قرن اسم العلماء.

وقال في شرف العلم لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، فلو كان شيءٌ أشرفُ من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه، كما أمر أن يستزيده من العلم، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن العلماء ورثة الأنبياء» وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين خطير»(2).

وحديث: «وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافرٍ»(3).

ولقد أوجب الله عز وجل على العلماء بيان الحق للناس، وحرَّم عليهم كتمانه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:174]، وقد نعى الله عز وجل على من أوتي علمًا ثم تخلى عنه ولم يحمل أمانة الكلمة، فقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاء مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ (177) مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)} [الأعراف:175-178].

قال الإمام البغوي: «وهذه أشد آية على العلماء، وذلك أن الله أخبر أنه آتاه آية من اسمه الأعظم والدعوات المستجابة والعلم والحكمة، فاستوجب بالسكون إلى الدنيا، واتباع الهوى تغيير النعمة عليه والانسلاخ عنها، ومن الذي يسلم من هاتين الخلتين إلا من عصمه الله؟»(4).

عن حذيفة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن ما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن، حتى إذا رئيت بهجته عليه وكان ردئًا للإسلام غيره إلى ما شاء الله، فانسلخ منه ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك)، قلت: (يا نبي الله، أيهما أولى بالشرك: المرمي أم الرامي؟)، قال: (بل الرامي)»(5).

وورد عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أخوف ما أخاف عليكم الأئمة المضلون»(6).

التحذير من أئمة الضلال؛ وذلك لأن الباعث على طاعتهم في هواهم ومتابعتهم في دعواهم ما في أيديهم، مما جبلت النفوس على طلبه من المال والشرف، فيفسد بفسادهم غالب الأمة(7).

وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان»(8).

أي: كثير علم اللسان، جاهل القلب والعمل، اتخذ العلم حرفة يأكل بها، ذا هيبة وأبهة يتعزز ويتعاظم بها، يدعو الناس إلى الله ويفر هو منه، ويستقبح عيب غيره ويفعل ما هو أقبح منه، ويظهر للناس التنسك والتعبد ويسارر ربه بالعظائم، إذا خلا به ذئب من الذئاب لكن عليه ثياب، فهذا هو الذي حذر منه الشارع صلى الله عليه وسلم هنا حذرًا من أن يخطفك بحلاوة لسانه، ويحرقك بنار عصيانه، ويقتلك بنتن باطنه وجنانه.

قال الزمخشري رحمه الله: «والمنافقون أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله تعالى وأمقتهم عنده؛ لأنهم خلطوا بالكفر تمويهًا وتدليًا، وبالشرك استهزاءً وخداعًا؛ ولذلك أنزل فيهم {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]».

وكان يحيى بن معاذ يقول لعلماء الدنيا: «يا أصحاب القصور، قصوركم قيصرية، وبيوتكم كسروية، وأبوابكم ظاهرية، وأخفافكم جالوتية، ومراكبكم قارونية، وأوانيكم فرعونية، ومآثمكم جاهلية، ومذاهبكم شيطانية، فأين الشريعة المحمدية».

وأكثر علماء الزمان ضربان؛ ضرب منكب على حطام الدنيا لا يمل من جمعه، وتراه شهره ودهره يتقلب في ذلك كالهج في المزابل، يطير من عذرة إلى عذرة، وقد أخذت دنياه بمجامع قلبه، ولزمه خوف الفقر وحب الإكثار، واتخذ المال عدة للنوائب، لا يتنكر عليه تغلب الدنيا، وضرب هم أهل تصنع ودهاء وخداع، وتزين للمخلوقين وتملق للحكام، شحًا على رئاستهم، يلتقطون الرخص، ويخادعون الله بالحيل، ديدنهم المداهنة، وساكن قلوبهم المنى، طمأنينتهم إلى الدنيا، وسكونهم إلى أسبابها، اشتغلوا بالأقوال عن الأفعال، وسيكافئهم الجبار المتعال(9).

عن زياد بن حدير قال: «قال لي عمر: (هل تعرف ما يهدم الإسلام؟)، قلت: (لا)، قال: (يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين)»(10).

وفي زماننا هذا عظمت غربة الدين، وتتابعت الفتن كوجوه البقر، يرقق بعضها بعضًا، وتتابع سقوط الكثير من الدعاة إلى الهاوية، بعد أن كانوا مصابيح يستنير بها السائرون، وصروحًا يهتدي بها السائرون.

إن أكثر الخذلان والذل الذي تعيشه أمتنا الجريحة هذه الأيام من أبرز أسبابه تلاعب أولئك الأدعياء للعلم بدين الله، وجعله مطية لكل طاغية ومجرم، والمصيبة أن هؤلاء باعوا آخرتهم من أجل دنيا غيرهم.

كما في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: «قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراءٍ يكونون بعدي، فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ولا يرد عليَّ الحوض، ومن غشي أبوابهم أو لم يغش ولم يصدقهم في كذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فهو مني وأنا منه، ويرد عليَّ الحوض»(11).

قال الإمام الخطابي: «ليت شعري من الذي يدخل إليهم اليوم فلا يصدقهم على كذبـهم، ومن الذي يتكلم بالعدل إذا شهد مجالسهم، ومن الذي ينصح ومن الذي ينتصح منهم؟ إن أسلم لك يا أخي في هذا الزمان وأحوط لدينك أن تقلَّ من مخالطتهم وغشيان أبوابهم، ونسأل الله الغنى عنهم والتوفيق لهم»(12).

فلقد كان العلماء الصادقون هم من يقودون الأمة دائمًا ودومًا إلى خيري الدنيا والآخرة؛ فشيخ الإسلام بن تيمية رحمه رب البرية هو مَن قاد أهل الشام في حربهم ضد التتار.

عن ميمون بن مهران قال: «قال عمر بن عبد العزيز لجلسائه: (أخبروني بأحمق الناس)، قالوا: (رجل باع آخرته بدنياه)، فقال عمر: (ألا أنبئكم بأحمق منه؟)، قالوا: (بلى)، قال: (رجل باع آخرته بدنيا غيره)»(13).

عن ابن وهب قال: «قال لي مالك: (يا عبد الله، أد ما سمعت وحسبك، ولا تحمل لأحد على ظهرك، واعلم أنما هو خطأ وصواب؛ فانظر لنفسك، فإنه كان يقال: أخسر الناس من باع آخرته بدنياه، وأخسر منه من باع آخرته بدنيا غيره)»(14).

فحين يعود العلماء للقيام بالدور الذي أقامهم الله من أجله يعود للأمة عزتها وهيبتها ويخشاها أعداء الله، ولا تبقى نهبة للكفرة والفجرة كما هو الحال الآن.

فاليوم نشهد تساقط الكثير من هؤلاء الدعاة مع تتابع الفتن والضغوط على الصحوة وعلى المجاهدين بصورة خاصة.

وتفاوت هؤلاء الدعاة في السقوط؛ فمنهم من أصبح من أصحاب بلعام المقربين، ومنهم من يسير سيرًا حثيثًا ليلحق ببلعام وأصحابه المقربين.

وتنوعت السقطات؛ فمن منقلب على منهج السلف الصالح، الداعي إلى التمسك بأصول الدين وفروعه، والعض عليها بالنواجذ، إلى منهج مسخ يميع الأصول، ويتساهل في الفروع، ولسان حاله: افعل ولا حرج، والغاية تبرر الوسيلة والعياذ بالله.

ومن سائر في ركب التيار العالمي الداعي إلى النظام العالمي الجديد، الذي وضعه مردة شياطين الإنس والجن، والداعي إلى تمييع المعتقدات وتغيير القناعات، تحت مسميات براقة خلابة، وفي حناياها السم الزعاف، يعرفها كل عاقل ولبيب.

فثقافة الفجور والانحلال وتأصيل الدياثة وقتل الغيرة في النفوس يسمونها بالتسامح، وتمييع العقيدة والمسلمات ونشر الزندقة والإلحاد يسمونه بالرأي الآخر، وثقافة الشذوذ والانحلال الأخلاقي والفسوق يسمونه بالحرية الشخصية، والكافر والزنديق والرويبضة يسمونه بالآخر، والعدو الصائل الذي يفسد الدين ويهدم العقيدة وينتهك الأعراض يسمونه بالمعاهد، والجهاد في سبيل الله والنفرة لنصرة المسلمين المستضعفين يسمونه إرهابًا، وهلم جرًا، فالقائمة تطول.

فنجد أن الكثير من هؤلاء الدعاة المنتكسين قد سار في ركب هذه الدعوات الضالة تحت أسمائها البراقة؛ ظانًا أنه لن يتأثر بحقيقة تلك الدعوات؛ بل سيعمل وفق معانيها الشرعية، فلا يروعه إلا وهو في عداد التيوس المستعارة، التي يستعملها أعداء الدين لتمرير مخططاتهم وإفساد الأمة وتدمير دينها ومعتقدها.

وتبنى آخرون منهج الجهم بن صفوان، الذي هو أحب المذاهب إلى الطواغيت؛ لأنه يوافق أهواءهم، ويؤصل لقاعدة (الغاية تبرر الوسيلة)، و(افعل ولا حرج)، فكل شيء يمكن تبريره على مذهب الجهم، حتى لو كان الواحد أكفر من إبليس، وأشد تدليسًا من الدجال والعياذ بالله(15).

قال الإمام أحمد بن حنبل: «لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:

أولها: أن تكون له نية، فإن لم تكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور.

والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة.

والثالثة: أن يكون قويًا على ما هو فيه وعلى معرفته.

والرابعة: الكفاية، وإلا مضغه الناس.

والخامسة: معرفة الناس».

قال العلامة ابن القيم معـلقًا علـى كلام الإمام أحمد: «وهذا مما يدل على جلالة أحمد ومحله من العلم والمعرفة، فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى، وأي شيءٍ نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه».

ثم شرح ابن القيم عبارة الإمام أحمد، وكان فيما قاله: «فأما النية فهي رأس الأمر وعموده وأساسه وأصله الذي عليه يُبنى، فإنها روح العمل وقائده وسائقه، والعمل تابعٌ لها، يُبنى عليها، يصح بصحتها ويفسد بفسادها...، وقد جرت عادة الله التي لا تبدل وسنته التي لا تحول أن يُلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه، ويُلبس المرائي، اللابس ثوبي الزور، من المقت والمهانة والبغضاء ما هو اللائق به، فالمخلص له المهابة والمحبة، وللآخر المقت والبغضاء، وأما قوله: أن يكون له حلم ووقار وسكينة، فليس صاحب العلم والفتيا إلى شيءٍ أحوج منه إلى الحلم والسكينة والوقار، فإنها كسوةُ علمه وجماله، وإذا فقدها كان علمه كالبدن العاري من اللباس، وقال بعض السلف: ما قُرِنَ شيءٌ إلى شيءٍ أحسنَ من علمٍ إلى حلم»(16).

وفي قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177)}.

إنه مشهد من المشاهد العجيبة، الجديدة كل الجدة على ذخيرة هذه اللغة من التصورات والتصويرات.

إنسان يؤتيه الله آياته، ويخلع عليه من فضله، ويكسوه من علمه، ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والاتصال والارتفاع، ولكن ها هو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخًا، ينسلخ كأنما الآيات أديم له متلبس بلحمه، فهو ينسلخ منها بعنف وجهد ومشقة، انسلاخ الحي من أديمه اللاصق بكيانه، أو ليست الكينونة البشرية متلبسة بالإيمان بالله تلبس الجلد بالكيان؟ ها هو ذا ينسلخ من آيات الله، ويتجرد من الغطاء الواقي، والدرع الحامي، وينحرف عن الهدى ليتبع الهوى، ويهبط من الأفق المشرق فيلتصق بالطين المعتم، فيصبح غرضًا للشيطان، لا يقيه منه واق، ولا يحميه منه حام، فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه، ثم إذا نحن أولاء أمام مشهد مفزع بائس نكد، إذا نحن بهذا المخلوق لاصقًا بالأرض، ملوثًا بالطين، ثم إذا هو مسخ في هيئة الكلب، يلهث إن طورد، ويلهث إن لم يطارد، كل هذه المشاهد المتحركة تتتابع وتتوالى، والخيال شاخص يتبعها.

كم من عالم دين رأيناه يعلم حقيقة دين الله ثم يزيغ عنها ويعلن غيرها، ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة، والفتاوى المطلوبة لسلطان الأرض الزائل! يحاول أن يثبت بها هذا السلطان المعتدي على سلطان الله وحرماته في الأرض جميعًا!

لقد رأينا من هؤلاء من يعلم ويقول: إن التشريع حق من حقوق الله سبحانه، من ادعاه فقد ادعى الألوهية...

ولقد رأينا من هؤلاء من يكتب في تحريم الربا كله عامًا، ثم يكتب في حله كذلك عامًا آخر.

ورأينا منهم من يبارك الفجور وإشاعة الفاحشة بين الناس، ويخلع على هذا الوحل رداء الدين وشاراته وعناوينه.

فماذا يكون هذا إلا أن يكون مصداقًا لنبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين؟

وماذا يكون هذا إلا أن يكون المسخ الذي يحكيه الله سبحانه عن صاحب النبأ: {وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} ولو شاء الله لرفعه بما آتاه من العلم بآياته، ولكنه سبحانه لم يشأ؛ لأن ذلك الذي علم الآيات أخلد إلى الأرض واتبع هواه، ولم يتبع الآيات.

إنه مثل لكل من آتاه الله من علم الله فلم ينتفع بهذا العلم، ولم يستقم على طريق الإيمان، وانسلخ من نعمة الله، ليصبح تابعًا ذليلًا للشيطان، ولينتهي إلى المسخ في مرتبة الحيوان! ثم ما هذا اللهاث الذي لا ينقطع؟

إنه، في حسنا كما توحيه إيقاعات النبأ وتصوير مشاهده في القرآن، ذلك اللهاث وراء أعراض هذه الحياة الدنيا، التي من أجلها ينسلخ الذين يؤتيهم الله آياته فينسلخون منها، ذلك اللهاث القلق الذي لا يطمئن أبدًا، والذي لا يتركه صاحبه، سواء وعظته أم لم تعظه، فهو منطلق فيه أبدًا! والحياة البشرية ما تني تطلع علينا بهذا المثل في كل مكان وفي كل زمان وفي كل بيئة، حتى إنه لتمر فترات كثيرة، وما تكاد العين تقع على عالم إلا وهذا مثله، فيما عدا الندرة النادرة ممن عصم الله، ممن لا ينسلخون من آيات الله، ولا يخلدون إلى الأرض ولا يتبعون الهوى، ولا يستذلهم الشيطان، ولا يلهثون وراء الحطام الذي يملكه أصحاب السلطان! فهو مثل لا ينقطع وروده ووجوده، وما هو بمحصور في قصة وقعت، في جيل من الزمان! وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتلوه على قومه الذين كانت تتنزل عليهم آيات الله، كي لا ينسلخوا منها وقد أوتوها.

ثم ليبقى من بعده ومن بعدهم يتلى، ليحذر الذين يعلمون من علم الله شيئًا أن ينتهوا إلى هذه النهاية البائسة، وأن يصيروا إلى هذا اللهاث الذي لا ينقطع أبدًا، وأن يظلموا أنفسهم ذلك الظلم الذي لا يظلمه عدو لعدو، فإنهم لا يظلمون إلا أنفسهم بهذه النهاية النكدة!

ولقد رأينا من هؤلاء، والعياذ بالله، في زماننا هذا من كان كأنما يحرص على ظلم نفسه، أو كمن يعض بالنواجذ على مكان له في قعر جهنم، يخشى أن ينازعه إياه أحد من المتسابقين معه في الحلبة! فهو ما يني يقدم كل صباح ما يثبت به مكانه هذا في جهنم! وما يني يلهث وراء هذا المطمع لهاثًا لا ينقطع حتى يفارق هذه الحياة الدنيا! اللهم اعصمنا، وثبت أقدامنا، وأفرغ علينا صبرًا، وتوفنا مسلمين.

ثم نقف أمام هذا النبأ والتعبير القرآني عنه وقفة أخرى.

إنه مثل للعلم الذي لا يعصم صاحبه أن تثقل به شهواته ورغباته؛ فيخلد إلى الأرض لا ينطلق من ثقلتها وجاذبيتها، وأن يتبع هواه فيتبعه الشيطان ويلزمه، ويقوده من خطام هذا الهوى.

ومن أجل أن العلم لا يعصم يجعل المنهج القرآني طريقه لتكوين النفوس المسلمة والحياة الإسلامية، ليس العلم وحده لمجرد المعرفة؛ ولكن يجعل العلم عقيدة حارة دافعة متحركة لتحقيق مدلولها في عالم الضمير وفي عالم الحياة أيضًا(17).

فكل عالِم أو داعية يتبع هواه ويرضى بالدنيا والشرف الزائف، ويركن إلى ثناء الطواغيت وأعطياتهم، ففيه شبه من بلعام بن باعوراء، وينطبق عليه من المثل بقدر اتباعه للهوى وإخلاده إلى الأرض.

ولا شك أن الذي يحمل هؤلاء الدعاة والعلماء اليوم على مجاراة الطواغيت والسير في ركابهم واتباع أهوائهم هو الدنيا والشرف الزائف.

ولا يعني هذا أن كل من يذهب إلى أبواب السلاطين فهو عالم سوء؛ فمن ذهب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح في غير مداهنة أو طمع في الدنيا، فهذا على باب من أبواب الجهاد، وهو مأجور غير مأزور، وأفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.

فالحاصل أن فتنة السلطان وفتنة الشرف وحب المنصب ولفت وجوه الناس من أعظم الفتن التي تؤدي إلى الانتكاسة والعياذ بالله.

***

__________________

(1) تفسير الطبري (8/ 501).

(2) تفسير القرطبي (4/ 41).

(3) أخرجه أبو داود (3641).

(4) تفسير البغوي (3/ 304).

(5) أخرجه ابن حبان (81).

(6) أخرجه أحمد (27485).

(7) التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 568).

(8) أخرجه أحمد (143).

(9) فيض القدير (2/ 419).

(10) أخرجه الدارمي (220).

(11) أخرجه الترمذي (614).

(12) كتاب العزلة، ص98.

(13) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 325).

(14) جامع بيان العلم وفضله (2/ 906).

(15) أسباب انتكاسة الدعاة.. دروس وعبر، منتدى فرسان السنة.

(16) إعلام الموقعين (4/ 199)، فما بعدها.

(17) في ظلال القرآن (3/ 1397-1399) باختصار.