logo

الكلمات البينات في التحذير من البدع والرد على الشبهات


بتاريخ : الأحد ، 28 رمضان ، 1440 الموافق 02 يونيو 2019
بقلم : تيار الاصلاح
الكلمات البينات في التحذير من البدع والرد على الشبهات
  1. المراد بالبدعة، وذكر أنواعها، وحكمها، وكيفية معاملة المبتدع:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، واقتفى سنته واتبع هداه، وبعد:

فإن الناظر في أحوال الأمة الإسلامية يجد أن البدع قد انتشرت، وذلك في شتى المجالات، في مجال العقيدة والأصول، وفي مجال العبادات والفروع، وفي مجال المعاملات المختلفة.

ومن أهم الأسباب التي أدت إلى انتشار تلك البدع ظن الكثيرين أن البدع تنقسم إلى قسمين: بدع سيئة، وبدع حسنة!!

مع أن هذا يتعارض، جملة وتفصيلًا، مع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، الذي نص نصًا قاطعًا في تلك القضية فقال: «كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»(1).

كما أنه يتصادم مع سنة صحابته الكرام، أكمل الناس عقولًا، وأزكاهم نفوسًا، وأصدقهم في محبة نبيهم، وأحرصهم على اتباع سنته، واقتفاء أثره، وهم مع ذلك كله خير القرون، وهم من أُمِرنا أن نتبع سنتهم، وهم من لا يعتد بإجماع غير إجماعهم؛ فما رأوه حسنًا فهو عند الله حسن.

وبالرغم من هذا، فإن طائفة غير قليلة من المسلمين أبت إلا أن تحيد عن تلك الشريعة الغراء، وعن هذا المنهج  القويم، وعن تلك السنة المبينة الصريحة، ذلك بدعوى تقسيم البدع إلى حسنة وسيئة.

ولما كان للقوم شبهات دفعتهم إلى هذا التقسيم المحدث، والذي لبَّسوا به على كثير من عوام المسلمين كان لزامًا على أهل العلم أن يذبوا عن دينهم الحنيف تحريف المبطلين، وزيف المضلين.

وفي هذا المقام ننقل عن أهل العلم مختصرًا مما ذكروه، ردًا لتلك الشبهات، لعله يدفع الوهم الناشئ عنها، ويجلي الحقيقة، فيرجع هؤلاء إلى النبع الصافي لينهلوا من أصول دينهم: كتابًا، وسنة، وما استند إليهما من إجماع قائم، أو قياس صحيح.

وقبل الرد على الشبهات نذكِّر ببعض المصطلحات الهامة المتعلقة بالموضوع، كمعنى البدعة وذكر أشهر أقسامها، وبعض ما اشتهر منها، وراج على كثيرين في هذه الأزمنة.

معنى البدعة:

أصل هذه الكلمة، في اللغة، من الاختراع، وهو الشيء يحدث من غير أصل سبق، ولا مثال احْتُذِيَ، ولا ألف مثله.

ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وقوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ}؛ أي: لم أكن أول رسول إلى أهل الأرض(2).

ويقال: ابتدع فلان بدعة، يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق، وهذا أمر بديع، يقال في الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن، فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله ولا ما يشبهه.

ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع، وهيئتها هي البدعة(3).

أما تعريف البدعة شرعًا فهي، كما قال الشاطبي: «طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصَد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه»(4).

وقال ابن رجب: «والمراد بالبدعة ما أُحدِث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعة لغة»(5).

وقال السيوطي: «البدعة عبارة عن فعلةٍ تصادم الشريعة بالمخالفة، أو توجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان»(6).

وقال ابن تيمية: «البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب وعلم الأمر به بالأدلة الشرعية فهو من الدين الذي شرعه الله، وإن تنازع أولو الأمر في بعض ذلك، وسواء كان هذا مفعولًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يكن»(7).

وعرفها الحافظ ابن حجر بقوله: «ما أحدث في الدين وليس له دليل عام ولا خاص يدل عليه»(8).

فقيدت بالدين لأنها فيه تخترع، وإليه يضيفها صاحبها، فخرج بذلك الطريقة المخترعة في أمور الدنيا، أو ما يتعلق بأمر الدنيا، فإنها لا تسمى بدعة شرعًا؛ كالصناعات مثلًا وإن كانت مخترعة، وهذا القيد مأخوذ من قوله:  «أنتم أعلم بأمر دنياكم»(9).

وخرج أيضًا بهذه القيود التي في التعريف المحدثات المتعلقة بالدين مما له أصل شرعي عام أو خاص، فمما أحدث في الدين وكان مستندًا إلى دليل شرعي عام ما ثبت بالمصالح المرسلة؛ مثل جمع القرآن، ومما أحدث في هذا الدين وكان له دليل شرعي خاص إحداث صلاة التراويح، وإحياء الشرائع المهجورة.

وكل هذه التعاريف لها نفس المدلول ولا يوجد اختلاف فيها، والجامع لها أن البدعة محدثٌ، لا دليل عليه، مضاف للدين، سواء كان فعلًا أو قولًا أو اعتقادًا.

أنواع البدع، وبيان البدعة الإضافية:

تنقسم البدع لعدة أقسام، وباعتبارات مختلفة، لكننا نقتصر على ذكر ما يهم موضوعنا، وهو الرد على شبهات المبتدعة.

قال الشيخ صالح الفوزان: «البدعة في الدين نوعان:

النوع الأول: بدعة قولية اعتقادية؛ كمقالات الجهمية والمعتزلة والرافضة، وسائر الفرق الضالة، واعتقاداتهم.

النوع الثاني: بدعة في العبادات، كالتعبد لله بعبادة لم يشرعها، وهي أقسام:

القسم الأول: ما يكون في أصل العبادة: بأن يحدث عبادة ليس لها أصل في الشرع؛ كأن يحدث صلاة غير مشروعة أو صيامًا غير مشروع أصلًا، أو أعيادًا غير مشروعة؛ كأعياد الموالد وغيرها.

القسم الثاني: ما يكون من الزيادة في العبادة المشروعة، كما لو زاد ركعة خامسة في صلاة الظهر أو العصر مثلًا.

القسم الثالث: ما يكون في صفة أداء العبادة المشروعة؛ بأن يؤديها على صفة غير مشروعة، كأداء الأذكار المشروعة بأصوات جماعية مطربة، وكالتشديد على النفس في العبادات إلى حد يخرج عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

القسم الرابع: ما يكون بتخصيص وقت للعبادة المشروعة لم يخصصه الشرع، كتخصيص يوم النصف من شعبان وليلته بصيام وقيام، فإن أصل الصيام والقيام مشروع، ولكن تخصيصه بوقت من الأوقات يحتاج إلى دليل»(10).

ومن أشهر البدع المنتشرة في هذا الزمان أيضًا:

من بدع العقائد: تأويل صفات الله تعالى.

ومن بدع العبادات: تحديد صلاة التراويح بعدد، التلفظ بالنية في العبادات، تلقين الميت، الذكر الجماعي، والاجتماع يوم عرفة بالأمصار.

ومن بدع العادات: بدع الخطوبة؛ مثل قراءة الفاتحة عند الخطبة، لبس دبلة الخطوبة، والخلوة بالمخطوبة، بدع العقد والاحتفال، وبدع العرس، بدع الملابس، وبدع الزينة، الاحتفال بالمناسبات الدينية والدنيوية، وتسمية بعضها أعيادًا.

وقال الشيخ الألباني: «إن البدعة المنصوص على ضلالتها من الشارع هي:

أ- كل ما عارض السنة من الأقوال أو الأفعال أو العقائد ولو كانت عن اجتهاد.

ب- كل أمر يتقرب إلى الله به، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ج- كل أمر لا يمكن أن يشرع إلا بنص أو توقيف، ولا نص عليه، فهو بدعة إلا ما كان عن صحابي.

د- ما ألصق بالعبادة من عادات الكفار.

هـ- ما نص على استحبابه بعض العلماء، سيما المتأخرين منهم، ولا دليل عليه.

و- كل عبادة لم تأت كيفيتها إلا في حديث ضعيف أو موضوع.

ز- الغلو في العبادة.

ح- كل عبادة أطلقها الشارع وقيدها الناس ببعض القيود؛ مثل المكان أو الزمان أو صفة أو عدد»(11).

وهذه الصورة الأخيرة في كلام الشيخ الألباني، وكذلك القسمين الثالث والرابع في كلام الشيخ الفوزان، تمثيل للبدع الإضافية.

ومن الأمثلة أيضًا على البدعة الإضافية ما يلي:

1- الأذان للعيدين ولصلاة الكسوف، فالأذان في أصله مشروع، ولكن الأذان للعيدين والكسوف لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

2- ومن ذلك تخصيص الأيام الفاضلة بأنواع من العبادات التي لم تشرع لها تخصيصًا؛ كتخصيص اليوم الفلاني بكذا وكذا من الركعات، أو بصدقة كذا أو كذا، أو الليلة الفلانية بقيام كذا وكذا ركعة، أو بختم القرآن فيها أو ما أشبه ذلك.

3- ختم الصلاة على الهيئة المعروفة التي يفعلها كثير من الأئمة؛ فإنه من جهة كونه قرآنًا وذكرًا ودعاءً مشروع، ومن جهة ما عرض له من رفع الصوت في المسجد ومن جهة كونه لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم غير مشروع.

4- الصلاة والسلام على النبي، صلى الله عليه وسلم، بعد الأذان بحيث تجعل جزءًا من الأذان كما هو المعهود في كثير من المساجد، فمن جهة فالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروعان ثابتان.

ومن جهة أخرى من حيث جعلهما جزءًا من الأذان غير مشروعين(12).

والخلاصة: أن الإحداث في الدين قد يكون باختراع شيء جديد مطلقًا وإدخاله في الدين، فيكون العمل كله بدعة لا دليل عليها، لا في الجملة ولا في التفصيل، ومثالها: التقرب إلى الله تعالى بالرهبانية، ونحو تحكيم العقل ورفض النصوص في دين الله تعالى، فهذه تسمى: بدعة حقيقية.

وقد يكون للبدعة شائبة من الأدلة، لكن أضيف لها وألصق بها ما ليس عليه دليل، فمن جهة الأصل عليها دليل، ومن جهة ما أضيف إليها، من كيفية أو صفة أو تفاصيل، لا دليل عليها، فهذه تسمى (بدعة إضافية)؛ ومثالها: تخصيص يوم، لم يخصه الشارع، بصوم، فإن أصل الصوم في ذاته مشروع، وتخصيصه بيوم مخصوص، لم يخصه الشارع به، بدعة، فصاحب البدعة الإضافية يتقرب إلى الله تعالى بمشروع وغير مشروع، والتقرب إلى الله يجب أن يكون بمحض المشروع.

قال ابن تيمية: «البدعة لا تكون حقًا محضًا؛ إذ لو كانت كذلك لكانت مشروعة، ولا تكون مصلحتها راجحة على مفسدتها؛ إذ لو كانت كذلك لما اشتبهت على أحد، وإنما يكون فيها بعض الحق وبعض الباطل»(13).

السنة التركية:

السنة التركية: هي أن يترك النبي فعل أمر من الأمور مع كون موجبه وسببه المقتضي له قائمًا ثابتًا، والمانع منه منتفيًا، فإن فِعْلَه بدعة وتركه سنة.

مثال على ذلك: التأذين للعيدين أو الكسوفين فقد تركه النبي ولم يفعله مع قيام المقتضي على فعله، فكان تركه هو السنة؛ لتركه صلى الله عليه وسلم، وفعله هو البدعة.

وكذا استلام الركنين الشاميين في الطواف؛ فترك الاستلام لهما سنة وفعله بدعة.

قال الحافظ ابن حجر: «أجاب الشافعي عن قول من قال: ليس شيء من البيت مهجورًا، بأن لم ندع استلامها هجرًا للبيت، وكيف يهجره وهو يطوف به؟ ولكن نتبع السنة فعلًا أو تركًا...»(14).

وقال العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي في فتاواه: «وكذا ما تركه مع قيام المقتضي؛ فيكون تركه سنة، وفعله بدعة مذمومة، وخرج بقولنا مع قيام المقتضي في حياته إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وجمع المصحف وما تركه لوجود مانع؛ كالاجتماع للتراويح؛ فإن المقتضى التام يدخل فيه عدم المانع»(15).

وسئل السبكي الشافعي عن بعض المحدثات فقال: «الحمد لله، هذه بدعة لا يشك فيها أحد ولا يرتاب في ذلك، ويكفي أنها لم تعرف في زمن النبي ولا في زمن أصحابه، ولا عن أحد من علماء السلف»(16).

إذًا القاعدة: كل عبادة تركها السلف ولم يَجْرِ العمل بها وإن لم يرد بها النهي عنها دليل خاص وإن دلت عليها أدلة الشارع بعمومها فهي بدعة ضلالة، لأنه تركه مع وجود المقتضي لفعلها يدل على أن فعلها بدعة مذمومة(17).

والغرض أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما تكون بالفعل تكون بالترك، فكما كلفنا الله تعالى باتباع النبي صلى الله عليه وسلم في فعله الذي يتقرب به كذلك طالبنا باتباعه في تركه، فيكون الترك سنة، والفعل سنة، وكما لا نتقرب إلى الله تعالى بترك ما فعل لا نتقرب إليه بفعل ما ترك، فالفاعل لما ترك كالتارك لما فعل، ولا فرق بينهما.

وكذلك قد يقع الابتداع بالترك كمن يحرم على نفسه شيئًا، أو يقصد تركه تدينًا، أو يتدين بضد ما شرع الله تعالى؛ لأن هذا معارضة للشارع، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:87]، ففي الآية أن تحريم الحلال اعتداء لا يحبه الله تعالى(18).

الفرق بين البدع والمعاصي:

المعاصي والبدع فيها تعد على حرمات الله وتجن على شريعته، ولكن المعاصي والبدع تختلف بسبب اختلاف بواعثها وآثارها؛ لهذا ذكر العلماء فروقًا بينها، منها:

1- أن مرتكب المعصية قصده نيل غرضه وشهوته العاجلة، متكلًا على العفو ورفع الحرج الثابت في الشريعة، فهو إلى الطمع في رحمة الله أقرب، كما أن إيمانه لا يتزحزح في أن هذه المعصية ممنوعة شرعًا، وإنْ اقترفها فهو يخاف الله ويرجوه، والخوف والرجاء شعبتان من شعب الإيمان.

2- أن مرتكب المعصية ليس في ذهنه أن معصيته هذه من الشرع في شيء، فهو لا يعتقد إباحتها فضلًا عن أن يعتقد شرعيتها، كما أنه بمعصيته لم ينقص من الدين شيئًا، في حين أن المبتدع ببدعته قد جاء بتشريع زائد أو ناقص أو تغيير للأصل الصحيح، وكل ذلك قد يكون على انفراد أو ملحقًا بما هو مشروع، فيكون قادحًا في المشروع، ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامدًا لكفر؛ إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير قل أو كثر كفر، ولكن من فعل هذا بتأويل فاسد أو برأي خاطئ فإنه يكون مخالفًا لشرع الله، ولا أقل من أن تكون هذه المخالفة بدعة يمنعها الشارع منعًا قاطعًا(19).

حكم البدعة والابتداع:

وردت عن الصحابة فمن بعدهم من سلف الأمة نصوص متكاثرة في النهي عن الابتداع، وذم البدع وأهلها، وتفيد هذه النقولات إفادة قاطعة بتحريم البدعة والابتداع في الدين جملة، ومن ذلك:

 عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم»(20).

وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله احتجز التوبة عن صاحب كل بدعة»(21).

وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: «اتقوا الله يا معشر القراء، خذوا طريق من قبلكم، فوالله، لئن سبقتم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، وإن تركتموه يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا»(22).

وقال ابن عمر رضي الله عنهما: «كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة»(23).

وقال أبو إدريس الخولاني: «لأن أرى في المسجد نارًا لا أستطيع أطفيها أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها»(24).

فالنصوص المتكاثرة تفيد قاعدة شرعية وتقررها على أتم وجه، وهي أن الأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يرد الدليل الشرعي عليها، فلا يتعبد لله تعالى إلا بعبادة دل الدليل عليها، سواء من أصلها أو من جهة عددها أو هيئتها.

وقال ابن تيمية: «البدع هي مبادئ الكفر، ومظان الكفر، كما أن السنن المشروعة هي مظاهر الإيمان»(25).

فمع أن البدعة محرمة فقد تبلغ بصاحبها الكفر، فمن البدع المكفرة: اعتقاد بعض المبادئ الكفرية؛ كمقالات الفلاسفة مثلًا، وكالطواف على القبور بقصد التقرب لأصحابها ونحو ذلك.

فالحاصل: أن البدع كلها محرمة؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة»، وأن ما سمي بدعة ولم يطلق عليه وصف الذم والتحريم فهو ليس بدعة في الدين، وأن البدع مع تحريمها في الجملة فإنها ليست على رتبة واحدة.

الأدلة المختصرة على تحريم الابتداع في الدين، ونصوص الأئمة في ذلك:

أولًا: من القرآن الكريم:

قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3].

قال الشوكاني مناقشًا بعض المبتدعين في شيء من آرائهم: «فإذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض نبيه صلى الله عليه وسلم، فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه؟! إن كان من الدين في اعتقادهم فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم، وهذا فيه رد للقرآن! وإن لم يكن من الدين فأي فائدة في الاشتغال بما ليس من الدين؟!

وهذه حجة قاهرة ودليل عظيم لا يمكن لصاحب الرأي أن يدفعه بدافع أبدًا، فاجعل هذه الآية الشريفة أول ما تصك به وجوه أهل الرأي، وترغم به آنافهم، وتدحض به حججهم»، إذ «كل ما أحدث بعد نزول هذه الآية فهو فضلة، وزيادة، وبدعة»(26).

ثانيًا: من السنة النبوية:

صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»(27).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ولا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي قوله: (كل بدعة ضلالة) بسلب عمومها؛ وهو أن يقال: ليست كل بدعة ضلالة؛ فإن هذا مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم أقرب منه إلى التأويل»(28).

وعن أنس رضي الله عنه أنه قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها، فقالوا: (وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)، قال أحدهم: (أما أنا فأنا أصلي الليل أبدًا)، وقال آخر: (أنا أصوم الدهر ولا أفطر)، وقال آخر: (أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا)، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)»(29).

ثالثًا: أقوال السلف من الصحابة ومن تبعهم من الأئمة:

أما  الصحابة فقد ذكرنا بعضًا من أقوالهم آنفًا، وأما مشاهير الأئمة فهذه بعض النقولات عنهم:

قال الإمام مالك: «من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ دينًا لا يكون اليوم دينًا».

وقال الإمام الشافعي يقول: «ليس لأحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول إلا بالاستدلال»، إلى أن قال: «ولا يقول بما استحسن، فإن القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سبق»(30).

وقال الإمام أحمد: «أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة»(31).

وقال أبو حنيفة: «عليك بالأثر وطريق السلف، وإياك وكل محدثة فإنها بدعة»(32).

رابعًا: من المعقول: من وجهين:

الأول: أن التشريع حق لرب العالمين، وليس من حق البشر؛ لأن الله الذي وضع الشرائع ألزم الخلق الجري على سنتها، وصار هو المنفرد بذلك؛ لأنه حكم بين العباد فيما كانوا فيه يختلفون.

ولو كان التشريع من مدركات الخلق لم تتنزل الشرائع، ولم تبعث الرسل، وهذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه ندًا لله؛ حيث شرع مع الله، وفتح للاختلاف بابًا، ورد قصد الله في الانفراد بالتشريع، قال الله عز وجل: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3].

وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].

وقال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].

الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لزامًا عليه أن يقوم بحق الرسالة، فيبلغ الإسلام غير منقوص.

قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، ولقد فعل صلى الله عليه وسلم، وإلا فما بلغ رسالته، وحاشاه، فما انتقل إلى جوار ربه راضيًا مرضيًا إلا والدين كامل لا يحتاج إلى زيادة.

وقد أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنه لم يكن نبي قبلي إلاَ كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم»(33).

وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم»(34).

وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: «قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك»(35).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «من حدثك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من الوحي فلا تصدقه، إن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه} [المائدة:67](36).

ولهذا لما قال بعض المشركين لسلمان الفارسي رضي الله عنه: «إني أرى صاحبكم يعلمكم كل شيء حتى الخراءة»، قال: «أجل، أمرنا ألا نستقبل القبلة، وألا نستنجي بأيماننا، ولا نكتفي بدون ثلاثة أحجار، ليس فيها رجيع ولا عظم»(37).

نماذج عملية تبين منهج أهل السنة والجماعة، من السلف ومن تبعهم بإحسان، في التعامل مع البدع والتحذير منها:

وهذه آثار سلفية من صحابة كرام، وأقوال علماء تبين لنا المنهج الصحيح في تلقي الشرع، وأنه لا مجال لتحسين العقل فيه، أو لتزيين الرأي به، وأن مورد ذلك كله النصوص الشرعية.

قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: «باب العبادات والديانات والتقربات متلقاة عن الله ورسوله، فليس لأحد أن يجعل شيئًا عبادة أو قربة إلا بدليل شرعي»(38).

وقال ابن كثير رحمه الله، مناقشًا مسألة إهداء ثواب القراءة للموتى؛ حيث جزم بعدم وصولها، معللًا سبب المنع: «إنه ليس من عملهم، ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء»(39).

 وعلى هذا جرى السلف الصالح رضي الله عنهم من الصحابة والتابعين:

فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: «لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه»(40).

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قبل الحجر الأسود: «إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك»(41).

وقالت امرأة لعائشة رضي الله عنها: «أتقضي إحدانا صلاتها إذا طهرت؟»، فقالت رضي الله عنها: «أحرورية أنت؟ كنا نحيض في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلا يأمرنا به»، أو قالت: «فلا نفعله»(42).

وعن نافع أن رجلًا عطس إلى جنب ابن عمر رضي الله عنهما فقال: «الحمد لله، والسلام على رسوله»، قال ابن عمر: «وأنا أقول: الحمد لله، والسلام على رسول الله، وليس هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حال»‏(43).

وقال الإمام الشافعي في كلمته المشهورة التي نقلها عنه أئمة مذهبه وعلماؤه: «من استحسن فقد شرع»(44).

وقد صح عن معاوية رضي الله عنه أنه كان يستلم أركان الكعبة الأربعة، فقال له ابن عباس رضي الله عنه: «إنه لا يستلم هذان الركنان»، فقال معاوية: «ليس شيءٌ من البيت مهجورًا»(45).

وزاد أحمد: فقال ابن عباس رضي الله عنهما: «{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}»، فقال معاوية رضي الله عنه: «صدقت»(46).

وفي قصة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، لما جاء إلى أولئك القوم المتحلقين في المسجد، ومعهم حصى يعدون بها التكبير والتهليل والتسبيح، فقال لهم رضي الله عنه: «فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمدٍ! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملة أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة»، قالوا: «والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير»، قال: «‏وكم من مريد للخير لن يصيبه»(47).

فهذه قصة جليلة، ترى فيها بجلاء كيف كان علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم يتعاملون مع العبادات بوسائلها ومقاصدها ونيات أصحابها، وبيان ذلك فيما يلي:

أ- قوم يذكرون الله تعالى، تكبيرًا وتهليلًا وتسبيحًا.

ب- استعملوا في ذكرهم حصى كـ (وسيلة) لعد هذا التكبير والتسبيح.

ج- نياتهم في عملهم هذا حسنة، يريدون به عبادة الله وذكره وتعظيمه.

د- ومع ذلك أنكر عليهم ابن مسعود هذا العمل ضمن هذه الوسيلة؛ لأنه لم يعهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم وجود المقتضي له في عصره.

هـ- رتب على عملهم المحدث هذا الإثم لمخالفتهم السنة، ومواقعتهم البدعة.

و- لم يجعل رضي الله عنه حسن نياتهم سبيلًا للتغاضي عن عملهم، أو دليلًا على صحة فعلهم؛ إذ النية الحسنة لا تجعل البدعة سنة، ولا القبيح حسنًا؛ بل لا بد أن يكون مع النية الحسنة والإخلاص موافقة للسنة، ومتابعة للسلف(48).

وعن سعيد بن المسيب رحمه الله أنه رأى رجلًا يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين، يكثر فيهما الركوع والسجود فنهاه، فقال: «يا أبا محمد، يعذبني الله على الصلاة؟»، قال: «لا، ولكن يعذبك على خلاف السنة»(49).

قال الألباني رحمه الله: «وهذا من بدائع أجوبة سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى، وهو سلاح قوي على المبتدعة، الذين يستحسنون كثيرًا من البدع باسم أنها ذكر وصلاة، ثم ينكرون على أهل السنة إنكار ذلك عليهم، ويتهمونهم بأنهم ينكرون الذكر والصلاة!! وهم في الحقيقة إنما ينكرون خلافهم للسنة في الذكر والصلاة ونحو ذلك»(50).

وقال رجل للإمام مالك: «يا أبا عبد الله، من أين أحرم؟»، قال: «من ذي الحلَيفة، من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم»، فقال: «إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر»، قال: «لا تفعل؛ فإني أخشى عليك الفتنة»، فقال: «وأي فتنة في هذه؟! إنما هي أميال أزيدها»، قال: «وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، النور:63](51).

فهذه الأدلة تدل على أن إخلاص أولئك في نيتهم لم يمنع الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعين ومن تبعهم من الإنكار عليهم بسبب عدم متابعتهم في أعمالهم تلك للرسول صلى الله عليه وسلم.

قواعد في معرفة البدع:

حاول عدد من الباحثين تقصي ضوابط التعرف على البدع، ومما ذكروه من قواعد في هذا الباب ما يلي:

1- العادة المحضة لا يدخلها الابتداع:

من مقررات اعتقاد أهل السنة اعتقادهم الحكمة في أفعال الله تعالى، فربنا سبحانه حكيم عليم بمصالح خلقه، لا يأمر بشيء إلا لحكمة قد يعرفها العباد وقد يجهلونها.

فالأحكام الشرعية الواضحة العلة والحكمة كالبيع والنكاح ونحوها، تسمى: عادات، أو أمور عادية، وأما المجهولة العلة التي شرعت من أجلها، وإن علمنا شيئًا من مصالحها، فهذه هي التعبديات أو الأمور التعبدية، فالعبادات لا إشكال أن الإحداث فيها ابتداع مذموم كما تقدم.

وأما العادات فإنها إن تمحضت عادة ولم يكن فيها شائبة تعبد لم يدخلها الابتداع، وإن كان فيها شائبة تعبد فقد يدخلها الابتداع في هذه الشائبة.

ومثال ذلك النكاح، فإنه من العاديات، فإن أحدث في الذي ليس فيه شائبة تعبد منه لم يكن بدعة مذمومة؛ مثل إقامة الزواجات في أماكن معينة، وكالتوسع في التكاليف، أو اتخاذ عادة في الاجتماع له، ونحو ذلك.

وأما إن حصل الإحداث في الذي فيه شائبة التعبد منه، فهو بدعة، كما لو ألغى المهر عن الزوج، وألزمته به المرأة؛ لأن الشرع قيد النكاح بمثل هذا القيد، فلم يكن للمكلف اختيار فيه، بخلاف الأول، فالعادة من حيث هي عادة لا بدعة فيها، ومن حيث التعبد بها أو وضعها وضع التعبد تدخلها البدعة.

وإذا فعلت العاديات على جهة تخالف الشرع، ووضعت على الناس كالدين الموضوع والأمر المحتوم عليهم دائمًا في أوقات محدودة، على كيفيات مضروبة، بحيث تضاهي المشروع الدائم الذي تحمل عليه العامة، ويؤاخذون به، وتوجب على الممتنع فيه العقوبة كما أخذ الزكاة.

مثال ذلك الضرائب والقوانين الوضعية التي تخالف الشريعة إذا صارت دينًا ونظامًا يتقرب به إلى الله فهي بدعة أما الأنظمة أو القوانين التي لا تخالف الشريعة؛ بل توافق مقاصدها إذا وضعت بما يناسب الزمان والمكان، وحسب ما تقتضيه المصلحة فهذا ليس من البدع في شيء؛ مثل قوانين الإدارة والمرور.

والغرض: أن البدع لا تدخل في العادات إلا إذا قصد بتلك العادات التقرب إلى الله ومضاهاة الشريعة(52).

2- كل عبادة وردت مطلقة فتقييدها بدعة.

فالشرع قد حث على عبادات وأطلق وقت أدائها، فصلاة الليل عبادة مشروعة في كل ليلة، وصيام النفل المطلق مندوب إليه كل يوم، فمتى قيدت هذه العبادة، كأن خص القيام بليلة الجمعة مثلًا، أو الصيام بيوم؛ كالجمعة من كل أسبوع، دون معنى يخصه، فإن تخصيصه بذلك بدعة إضافية.

قال أبو شامة: «لا ينبغي تخصيص العبادات بأوقات لم يخصصها بها الشرع؛ بل يكون جميع أفعال البر مرسلة في جميع الأزمان، ليس لبعضها على بعض فضل إلا ما فضله الشرع، وخصه بنوع من العبادة، فإن كان ذلك اختص بتلك الفضيلة تلك العبادة دون غيرها؛ كصوم يوم عرفة وعاشوراء»(53).

وقال ابن تيمية: «من أحدث عملًا في يوم؛ كإحداث صوم أول خميس من رجب، والصلاة في ليلة تلك الجمعة، فلا بد أن يتبع هذا العمل اعتقاد القلب؛ وذلك لأنه لا بد أن يعتقد أن هذا اليوم أفضل من أمثاله، وأن الصوم فيه مستحب استحبابًا زائدًا...؛ إذ لولا قيام هذا الاعتقاد في قلبه لما انبعث القلب لتخصيص هذا اليوم والليلة»، إلى أن قال: «ومن قال إن الصلاة أو الصوم في هذه الليلة كغيرها، هذا اعتقادي، ومع ذلك فأنا أخصّها، فلا بد أن يكون باعثه إما موافقة غيره، وإما اتباع العادة، وإما خوف اللوم له، ونحو ذلك، وإلا فهو كاذب... فعلمت أن فعل هذه البدع يناقض الاعتقادات الواجبة، وينازع الرسل ما جاءوا به عن الله»(54).

أما لو استند التقييد إلى سبب معقول؛ كجعل قراءة القرآن في وقت معين لكونه أفرغ من الأعمال، أو أهدأ من الأوقات؛ بحيث لو زال هذا السبب لزال التقييد، فإنه لا بأس به، ولا يكون من تقييد العبادة الذي يجعلها بدعة.

3- كل عبادة وردت مقيّدة فإطلاقها بدعة:

تأتي بعض العبادات مقيّدة بسبب معين، أو بمحل معين، فإذا طردها البعض دائمًا، أو في محل غير ما قيدت به، صارت بدعة من هذا الوجه.

مثال ذلك أن الطواف لم يشرع إلا حول الكعبة، ولم يشرع السعي بين جبلين سوى الصفا والمروة، فلو طاف أحد حول غير الكعبة أو سعى بين جبلين آخرين فهذه بدعة.

قال ابن رجب: «وليس ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقًا، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا قائمًا في الشمس فسأل عنه، فقيل: (إنه نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل وأن يصوم)، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقعد ويستظل وأن يتم صومه، فلم يجعل قيامه وبروزه للشمس قربة يوفي بنذرهما...، مع أن الصيام عبادة في مواضع أخرى؛ كالصلاة والأذان والدعاء بعرفة، والبروز للشمس قربة للمحرم، فدل على أنه ليس كل ما كان قربة في موطن يكون قربة في كل المواطن، وإنما يتبع في ذلك ما وردت به الشريعة في مواضعها»(55).

4- تغيير الحدود الشرعية المقدَّرة بدعة:

الأحكام الشرعية الثابتة المقدرة؛ كأنصبة المواريث، وعقوبات ارتكاب موجبات الحدود، جعلها الشارع أحكامًا ثابتة لا تتغيّر ولا تتبدّل، فالتغيير فيها ابتداع في الدين؛ كمن زاد في الصلاة المفروضة، أو نقص منها، أو غير أنصبة الزكاة مثلًا(56).

5-  شروط اعتبار الفعل ذريعة إلى البدعة:

يشترط في أي فعل حتى يعتبر ذريعة مفضية إلى البدعة فيلتحق بها ثلاثة شروط:

1- أن يكون هذا الفعل مفضيًا إلى البدعة، ويكون كذلك بواحد من أمور ثلاثة:

أ‌- إظهار هذا العمل وإشهاره في مجامع الناس؛ كإقامة النافلة جماعة في المساجد، ولا سيما ممن يقتدى به.

ب‌- المداومة على هذا العمل والالتزام به؛ كالتزام قراءة سورة السجدة في فجر الجمعة.

ت‌- اعتقاد فضيلة هذا العمل، وتحري فعله عن قصد وعمد.

 وقد سئل الإمام أحمد: «تكره أن يجتمع القوم يدعون الله ويرفعون أيديهم؟»، قال: «ما أكرهه للإخوان إذا لم يجتمعوا على عمد إلا أن يكثروا»(57).

قال الشاطبي: «وبالجملة؛ فكل عمل أصله ثابت شرعًا إلا أن في إظهار العمل به والمداومة عليه ما يخاف أن يعتقد أنه سنة فتركه مطلوب من باب سد الذرائع»(58).

2- أن يكون إفضاء هذا العمل إلى البدعة مقطوعًا به أو غالبًا، أما إن كان إفضاء هذا الفعل إلى البدعة حسب العادة نادرًا أو قليلًا فإنه لا عبرة بالقليل النادر؛ لأن الأحكام تبنى على الغالب.

3- ألَّا يترتب على اعتبار هذه الذريعة المفضية إلى البدعة بسدها والمنع منها مفسدة أخرى أعظم من مفسدة البدعة، فإذا كان كذلك قدم أدنى المفسدتين دفعًا لأعلاهما.

مثال ذلك: أن الإمام أحمد قيل له عن بعض الأمراء أنه أنفق على مصحف ألف دينار، فقال: «دعهم فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب»، قال ابن تيمية رحمه الله تعليقًا على ذلك: «مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة، وإنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة وفيه مفسدة كُرِه لأجلها، فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا وإلَّا اعتاضوا بفساد لا صلاح فيه؛ مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور؛ من كتب الأسمار أو الأشعار أو حكمة فارس والروم»(59).

معاملة المبتدع:

الكلام على الناس، والحكم على أقوالهم وأفعالهم، وتقرير طريقة التعامل معهم، أو الموقف منهم مبناه العدل، والتزام أُصول وقواعد منهج أهل السنة.

 قال سبحانه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، وحَرّم الله تعالى إيذاء المؤمنين أو الإساءة إليهم فقال: " {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58].

قال ابن تيمية: «ولما كان أتباع الأنبياء هم أهل العلم والعدل، كان كلام أهل الإسلام والسنة مع الكفار وأهل البدع بالعلم والعدل، لا بالظن وما تهوى الأنفس»(60).

ويمكننا من خلال تلمس مواقف وأقوال أهل العلم أن نبين معالم أساسية لطريقة التعامل مع المبتدع والموقف منه:

1- فأول هذه القواعد أن البدع متفاوتة وليست مرتبة واحدة:

وهذا سبق بيانه، وأصحاب البدع الذين خالفوا السنة في أصول عظيمة ليسوا كمن خالفها في أمور دقيقة، وبناءً عليه يراعى في التعامل مع أصحاب البدع مدى مخالفة بدعهم للسنة.

قال ابن تيمية: «وأصحاب ابن كُلّاب؛ كالحارث المحاسبي، وأبي العباس القلانسي ونحوهما خير من الأشعرية، وكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل»(61).

وقال: «متكلمة أهل الإثبات من الكلابية والكرامية والأشعرية... فهؤلاء في الجملة لا يطعنون في السلف؛ بل قد يوافقونهم في أكثر جمل مقالاتهم، لكن من كان بالحديث من هؤلاء أعلم كان بمذهب السلف أعلم، وله أتبع، وإنما يوجد تعظيم السلف عند كل طائفة بقدر استنانها وقلة ابتداعها»(62).

2- إقامة الحجة شرط في التبديع:

فمن أتى ببدعة سواء كانت مكفرة أو دونها فإنه لا يُحْكم عليه بمقتضى هذه البدعة حتى تقام عليه الحجة، يقول ابن تيمية: «إني من أعظم الناس نهيًا أن يُنسب مُعَين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أُخرى، وإني أقرر أن الله غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العلمية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية»(63).

3- لا يلزم أن يكون غير المبتدع أفضل منه:

فالتفاوت في درجات العباد والتفاضل بينهم يكون بحسب تفاضلهم في الأعمال الصالحة، وما يقوم بقلوبهم من إيمان وصدق وإخلاص، والمبتدع مع أنه قد لا يأثم ببدعته، إذا كان متأوّلًا مجتهدًا أو لم تقم عليه الحجّة مثلًا، فإنه لو كان آثمًا ببدعته فإن إثمه فيها كسائر المعاصي التي تقع من العباد.

يقول ابن تيمية: «وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكًا، فإن المنازع قد يكون مجتهدًا مخطئًا يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته»(64).

فليس مجرد عدم الابتداع معيارًا للتفضيل، وإن كان من أسباب الفضل؛ لأن الشخص الواحد قد يجتمع فيه ما يثاب عليه وما يعاقب عليه، والعبرة بالراجح منهما.

يقول ابن تيمية: «وإذا اجتمع في شخص واحد خير وشر، وطاعة وفجور، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بقدر ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة»(65).

وهذا باب من العدل والإنصاف عظيم يمتاز به أهل السنة.

4- لا يلزم من وقوع الشخص في بدعة، ولا من انتسابه لطريقة مبتدعة أن يخرج عن أهل السنة:

إذ ارتكابه للبدعة متى كان عن اجتهاد تأول لا يجعله مبتدعًا آثمًا، مع أنه ينكر عليه ويبيّن خطؤه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإن حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»(66).

وقد قرر ابن تيمية أن كثيرًا من مجتهدي السلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة لسبب من الأسباب، وهذا جعلهم معذورين، يشملهم قول الله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286].

والبدع غير المغلظة لا يكون مرتكبها خارجًا عن أهل السنة وعن الفرقة الناجية، ولو كان آثمًا ببدعته، قال ابن تيمية: «وأما المرجئة فليسوا من هذه البدع المغلظة؛ بل دخل في قولهم طوائف من أهل الفقه والعبادة، وما كانوا يُعَدّون إلا من أهل السنة، حتى تغلّظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلظة»(67).

ومن كان قوله واعتقاده موافقًا لمنهج أهل السنة فإنه لا يخرج عنه بمجرد انتسابه لطائفة معينة تخالف أهل السنة؛ إذ العبرة بالحقائق والمعاني لا بمجرد الانتسابات والألقاب.

5- مراعاة المصالح والمفاسد:

الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، وهي ترجح خير الخيرين وتدفع شر الشرين، ولا يسوغ في هذه الشريعة دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع الضرر الخفيف بتحصيل ضرر عظيم.

وهذا الضابط يراعى، مع ما سبق، في طريقة الإنكار والاحتساب، وفي الاجتماع أو الاتفاق على شيء مخصوص؛ ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف، والمختار بن أبي عبيد الثقفي وغيرهما؛ لأن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فسادًا من الاقتداء بإمام فاجر أو مبتدع.

وعلى كل حال فالنظر للمصالح والمفاسد من أصول التعامل مع المبتدع، فينظر في العمل هل مصلحته راجحة بحيث يفضي إلى ضعف الشر، فيكون مشروعًا، أو أنه يزيد الشر فلا يكون مشروعًا، وهذا بلا شك يتفاوت بتفاوت الأحوال والمصالح(68).

(2) الرد على شبهات القائلين بالبدعة الحسنة في الدين

الشبهة الأولى: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» [رواه مسلم].

وجه الشبهة: أن النبي شرع لأمته؛ بل ندبهم إلى السنة الحسنة في الدين، وما ذاك إلا تقرير للبدعة الحسنة!!

الجواب: من وجوه:

الوجه الأول: هذا زعم باطل، وفهم خاطئ، ويرجع ذلك إلى أنهم أخذوا الحديث وفصلوه عن مناسبته التي قيل فيها، وعن السبب الذي كان من أجله، شأنهم كمن قرأ الآية: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّين} ووقف عندها ولم يكمل نهايتها.

وبالرجوع إلى أصل الحديث نجد أن سبب الحديث هو تصدق بعض الصحابة، بتوجيه من النبي على فقراء مضر، وذلك لشدة فقرهم وحاجتهم(69).

فما فعله الأنصاري إنما هو ابتداؤه الصدقة في تلك الحادثة، والصدقة مشروعة من قبل النص، فالصحابي هنا لم يأت ببدعة حسنة، وإنما أحيا سنة تركها الناس.

يبين ذلك ويؤكده أن الرسول لم يقل من ابتدع بدعة حسنة، وإنما قال: «من سن سنة حسنة»، والسنة غير البدعة، السنة هي ما كان موافقًا للكتاب والسنة، موافقًا للدليل، فمن عمل بالسنة التي دل عليها الكتاب والسنة يكون له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة؛ يعني: من أحيا هذه السنة وعلمها للناس وبينها للناس وعملوا بها اقتداءً به فإنه يكون له من الأجر مثل أجورهم.

والغرض أنه ليس بمبتدع، وليس من الابتداع في شيء من ابتدأ عملًا هو مشروع في الأصل؛ كالنصيحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدقة، وغيرها؛ ليكون هو بمنزلة القدوة والداعية إلى هذا العمل.

وليس من البدعة في شيء فعل ما كان وسيلة لعمل مشروع؛ مثل: اختراع وبناء الملاجئ والمستشفيات لإيواء اليتامى والبائسين، ومثل: المعاهد الدينية، والماء السبيل في الميادين العامة لشرب الناس، ومثل: جمعية الإسعاف، وغير ذلك.

وقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.

هذا، وقد نبه العلماء إلى هذه المغالطة من هؤلاء المبتدعة في فهم هذا الحديث، وحذروا من فهمهم هذا لتسويغ البدع، قديمًا وحديثًا(70).

الوجه الثالث: لا يمكن أن يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنةً حسنة» أي من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة؛ لأن بهذا يكون معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة»: كل سنة ضلالة، فمن جعل هذا هو معنى ذاك فقد أبعد النجعة، وحَرَّف الكلم عن مواضعه.

الوجه الرابع: لو كان هذا الذي يفهمه الناس الفهمَ الصحيح للحديث لصار في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن رغب عن سنتي فليس مني» تناقض واضح، وتحريض على الإعراض عن السنة، وثناء منه على من رغب عن سنته.

فبينما يقول صلى الله عليه وسلم: «فعليكم بسنتي» داعيًا إلى التمسك بها، والعض عليها بالنواجذ، والقبض على الجمر يدعونا هنا إلى الأخذ بأي سنة يسنها من شاء من المسلمين، لا بالتقيد بسنته وحده!

الشبهة الثانية: ورد في الخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح» [أخرجه أحمد وغيره].

الجواب: من وجوه:

الوجه الأول: أن هذا الأثر لا يصح مرفوعًا؛ بل هو موقوف على ابن مسعود، فليس بحجة(71).

قال الشيخ الألباني: «إن من عجائب الدنيا أن يحتج بعض الناس بهذا الحديث على أن في الدين بدعةً حسنةً، وأن الدليل على حسنها اعتياد المسلمين لها!! ولقد صار من الأمرِ المعهود أن يبادر هؤلاء إلى الاستدلال بهذا الحديث عندما تثار هذه المسألة، وخفي عليهم أن هذا الحديث موقوف، أي على الصحابي، فلا يجوز أن يحتج به في معارضة النصوص المرفوعة، أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، القاطعة في أن كل بدعةٍ ضلالة، كما صح عنه»(72).

الوجه الثاني: أنه من حيث المعنى باطل؛ لسببين:

الأول: أنه يناقض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا واحدة»(73)، ثم خصها بمن كانوا على مثل ما كان عليه هو وأصحابه.

الثاني: أنه يقتضي كون العمل حسنًا عند بعض الناس يصح التقرب به إلى الله تعالى، قبيحًا عند البعض الآخر لا يصح التقرب به، وهذا الأثر يعمل به فيما لم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة؛ كالإجماع، وخصوصًا إجماع الصحابة.

الوجه الثالث: على افتراض صلاحية الاحتجاجِ به، فإن المراد به إجماع الصحابة واتفاقهم على أمر، كما يدل عليه السياق.

ويؤيده استدلال ابن مسعود به على إجماع الصحابة على انتخاب أبي بكر خليفةً، حيث قال: «إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيئ»(74).

وروى الحاكم الجملة الأخيرة، وزاد: «وقد رأى الصحابة جميعًا أن يستخلفوا أبا بكر»، وعليه؛ فاللام في (المسلمون) ليس للاستغراق كما يتوهمون؛ بل للعهد.

وإذا سلمنا أنها للاستغراق فليس المراد به قطعًا كل فردٍ من المسلمين ولو كان جاهلًا لا يفقه من العلم شيئًا؛ فلا بد إذن من أن يحمل على أهل العلم منهم(75).

وعلى القول بأن الحديث يقصد به آحاد المسلمين أو بعضهم، فيحمل لزومًا على استحسان ما جرى به عرف من الأعراف التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، من باب القاعدة المجمع عليها: (العرف محكم)، لا فيما يخالف الشرع وينابذ السنة(76).

الوجه الرابع: كيف يستدل بكلام هذا الصحابي الجليل على تحسين شيء من البدع، مع أنه كان من أشد الصحابة نهيًا عن البدع وتحذيرًا منها، وهو القائل كما مر معنا: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، عليكم بالأمر العتيق»(77).

الشبهة الثالثة: يقول البعض أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» مخصص لحديث: «كل بدعة ضلالة» ومبين للمراد منه؛ إذ لو كانت البدعة ضلالة بدون استثناء لقال الحديث: من أحدث في أمرنا هذا شيئًا فهو رد!! لكن لما قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» أفاد أن المحدث نوعان: ما ليس من الدين؛ بأن كان مخالفًا لقواعده ودلائله؛ فهو مردود، وهو البدعة الضلالة، وما هو من الدين، بأن شهد له أصل، وأيده دليل؛ فهو صحيح مقبول، وهو السنة الحسنة!!

الجواب:

معلوم من قواعد العلم ومبادئه أن روايات الأحاديث النبوية يفسر بعضها بعضًا، ويشرح بعضها ما غمض من بعضها الآخر، فهذه الرواية يوضحها ويزيل لبسها المتوهم فيها ما يلي:

أولًا: الرواية الأخرى للحديث نفسه، وهي: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»، فهذا إيضاح جلي للرواية ذاتها، يكشف صورة العمل المحدث المردود، ويبين أنه كل عمل ليس عليه الدين؛ فهذا شامل للكيفية والصفة والهيئة إذا لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

إذ إعراب ليس عليه أمرنا أنها في محل نصبِ صفةٍ لـ عملًا، فصفة المحدَثِ أنه ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: أن تطبيق السلف وفهمهم، وهم القوم لا يشقى الآخذ بقولهم، لهذا الحديث لم يكن على هذا الوجه المستنكر، وإنما كان على الجادة الموافقة لأصول اللغة، وقواعد الاستدلال، ففي روايات كثيرة عنهم رحمهم الله تراهم ينكرون أعمالًا مشروعة الأصل محدثة الكيفية والصفة، ويصفونها بالابتداع(78).

الشبهة الرابعة: قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «نعمت البدعة هذه»‏‏ [رواه البخاري] فهذا يدل على تقسيم البدعة إلى حسنة ممدوحة، وسيئة مردودة!

الجواب من وجوه:

الأول: لو سلمنا جدلًا بصحة دلالته على ما أرادوا من تحسين البدع، مع أن هذا لا يسلم، فانه لا يجوز أن يعارض كلام رسول الله  صلى الله عليه وسلم القائل: «كل بدعةٍ ضلالة»، بكلام أحد من الناس، كائنًا من كان.

قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبوبكر وعمر».

الثاني: أن عمر بن الخطاب قال هذه الكلمة حين جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح، وصلاة التراويح ليست بدعةً في الشريعة؛ بل هي سنة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله إياها في الجماعة؛ فقد صلاها في الجماعة في أول شهر رمضـان ليلتين؛ بل ثلاثًا.

وقال: «من قام مع الإمام حتى يَنصرف، فإنه يعدل قيام ليلة»(79)، كما قام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح.

وبهذا الحديث احتج احمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها في حال الانفراد.

بل إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون التراويح في عهد عمر قبل أن يقول كلمته هذه، فقد روى البخاري ومالك وغيرهما عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: «خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاعًا متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: (إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحدٍ لكان أمثل)، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارِئهم، قال عمر: (نعمت البدعة هذه)».

الثالث: مفهوم البدعة الشرعية لا ينطبق على فعل عمر، وإنما أراد بقوله المذكور البدعة اللغوية، فالبدعة في الشرع لا تستخدم إلا في موضع الذم، بخلاف اللغة فإن كل ما أحدث على غير مثال سابق بدعة، سواء أكان محمودًا أو مذمومًا.

وعلى هذا حمل العلماء قول عمر، وبهذا الفهم فهموا؛ فقد قال الإمام ابن كثير رحمه الله: «البدعة على قسمين: تارة تكون بدعة شرعية؛ كقوله: كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وتارة تكون بدعة لغوية؛ كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم: (نعمت البدعة هذه)»(80).

وقال ابن رجب: «وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية...»، ثم ذكر رحمه الله قول عمر(81).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأما قول عمر: (نعمت البدعة هذه)‏‏ فأكثر المحتجين بهذا لو أردنا أن نثبت حكمًا بقول عمر الذي لم يخالف فيه لقالوا: (قول الصاحب ليس بحجةٍ!)، فكيف يكون حجةً لهم في خلاف قول رسول الله؟! ومن اعتقد أن قول الصاحب حجة فلا يعتقده إذا خالف الحديث، فعلى التقديرين: لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب»(82).

الشبهة الخامسة: ما فعله عثمان رضي الله عنه من الأذان الثاني يوم الجمعة، وما ذاك إلا من قبيل البدعة الحسنة!!

الجواب من وجوه:

الأول: قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ»(83).

وما ذلك إلا لأن سنتهم كانت من فهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم متبعون وليسوا مبتدعين؛ ولأنهم فهموا السنة في الجملة والتفصيل على وجه قد يخفى على غيرهم، فهم يعرفون الناسخ والمنسوخ من السنة، فاحتاج العلماء للنظر في عمل الخلفاء ليعرفوا السنة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الثاني: أن عثمان رضي الله عنه لم يزد ولم ينقص عما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخترع أذانًا، وإنما كل ما فعله هو تغيير المكان لمجرد تعميم الإعلان لمن هم بعيدون عن المسجد على المكان الذي يسمى الزوراء، والذي هو مجاور للسوق، ويبعد عن المسجد نحو ألف ذراع؛ ليسمع أهل السوق الأذان نظرًا لاتساع العمران، وكثرة السكان عما كان عليه الحال في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الأذان الأول والثاني في وقت واحد وفي مكانين مختلفين.

الثالث: إنما  فعل عثمان ذلك لمصلحة، وهو أن الناس عندما كثروا، وتباعدت منازلهم عن المسجد؛ رأى هذا الأذان نافعًا لاتساعها وكثرة أهلها، فيدعوهم ذلك إلى الاستعداد، يدل على ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن السائب بن يزيد أنه قال: «كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما، فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء».

وقد نقل القرطبي عن الماوردي قوله: «فأما الأذان الأول فمحدث، فعله عثمان ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها»(84).

 فمن صرف النظر عن هذه العلة، وتمسك بأذان عثمان مطلقًا لا يكون مقتديًا به؛ بل هو مخالف له حيث لم ينظر بعين الاعتبار إلى تلك العلة، التي لولاها لما كان لعثمان أن يزيد على سنته عليه الصلاة والسلام وسنة الخليفتين من بعده.

ولهذا قال الإمام الشافعي: «وقد كان عطاء ينكر أن يكون عثمان أحدثه، ويقول: أحدثه معاوية، وأيهما كان فالأمر الذي كان على عهد رسول الله أحب إلي، فإن أذن جماعة من المؤذنين والإمام على المنبر، وأذن كما يؤذن اليوم أذان قبل أذان المؤذنين إذا جلس الإمام على المنبر كرهت ذلك له، ولا يفسد شيء من صلاته»(85).

ففعل عثمان يعتبر من المصلحة المرسلة، (والمصلحة المرسَلة في تعريف الأصوليين هي: «الأوصاف التي تلائم تصرفات الشارع ومقاصده، ولكن لم يشهد لها دليل معين من الشرع بالاعتبار أو الإلغاء، ويحصل من ربط الحكم بها جلب مصلحةٍ أو دفع مفسدةٍ عن الناس».

وسميت مرسلة لعدم وجود ما يوافقها أو يخالفها في الشرع؛ أي: أرسلت إرسالًا وأطلقت إطلاقًا، والضابط الذي تتميز به المصلحة المرسلة من البدع المحدثة هو ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: «والضابط في هذا، والله أعلم، أن يقال: إن الناس لا يحدثون شيئًا إلا لأنهم يرونه مصلحةً؛ إذ لو اعتقدوه مفسدةً لم يحدثوه؛ فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين.

فما رآه الناس مصلحةً نظر في السبب المحوج إليه: فإن كان السبب المحوج إليه أمرًا حدث بعد النبي لكن من غير تفريط منه فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه، وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائمًا على عهد رسول الله، لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمعارضٍ زال بموته، وأما ما لم يحدث سبب يحوج إليه، أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد فهنا لا يجوز الإحداث، فكل أمرٍ يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله موجودًا، لو كان مصلحة ولم يُفْعَل يُعْلم أنه ليس بمصلحةٍ، وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخالق فقد يكون مصلحةً... الخ»(86).

وخلاصة القول: أن (حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمرٍ ضروري، أو رفع حرجٍ لازم في الدين).

وليست البدع، عند من يدعيها، هكذا بيقين؛ لأن المبتدع إنما يفعل البدع بقصد زيادة التقرب إلى الله، وإن لم يكن هناك حاجة لإحداث ذلك الفعل.

الشبهة السادسة: إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم لأفعال كثير من الصحابة، مع ما فيها من إحداث في الدين وزيادة على التشريع، ولا معنى لذلك إلا كون هذه الأفعال من البدعة الحسنة، وأنها مأذون بها شرعًا! ومن ذلك:

  • إقراره لعمرو بن العاص حين صلى بالصحابة وهو جنب بالتيمم، وذلك لبرودة الجو وخشيته على نفسه، وعندما سأله صلى الله عليه وسلم قال: ذكرت قول الله عز وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}.
  • وحديث الصحابي الذي كان يقرأ بسورة الصمد في كل ركعة، وإقرار الرسول له على ذلك.
  • وإقراره أيضًا للصحابي الذي رقى بالفاتحة.
  • وإقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال، لصلاته ركعتين بعد كل وضوء.
  • وإقراره للصحابي الذي عطس وقال: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى.
  • ولإقراره لخبيب لما صلى ركعتين قبل أن يقتل.

فما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقر صنيعهم، فلنا أن نفعل سننًا حسنة في الإسلام، يحصل بها مزيد من الثواب والأجر، والترغيب في الطاعات.

الجواب:

لا يصح قياس فعل الصحابة في العصر النبوي وقت نزول الوحي على فعلهم بعد انقطاع الوحي، فالوحي كان يقر بعض ما يفعلونه، وأحيانًا لا يقر بعض ما يفعلونه، فكيف بمن بعدهم؟ وهم أعلم الناس بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وما كانوا يفعلونه وقت نزول الوحي وأقره الوحي هذا دليل على أنه من الشرع، ألهمهم الله فعله، وأقرهم النبي على فعلهم.

أما غير الصحابة فمن أين يعلم إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لما أحدثوه وقد مات؟ ومع أنه قد أخبر قبل موته أن كل بدعة في الدين مردودة؟

 هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فلئن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر فعل خبيب وبلال في الصلاة بعد كل وضـوء، فإنه لم يقر البراء بن عازب على خطئه في الدعاء الذي علمه إياه النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت»، ‏‏فقال البراء: فجعلت أستذكرهن: «وبرسولك الذي أرسلت»، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وبنبيك الذي أرسلت»(87).

ولم يقر النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون على التبتل وسماه رهبنة.

ولم يقر الصحابة الذين سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها، فقالوا: «وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر»، قال أحدهم: «أما أنا فأنا أصلي الليل أبدًا»، وقال آخر: «أنا أصوم الدهر ولا أفطر»، وقال آخر: «أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا»، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»(88).

يقول عبد الفتاح أبو غدة، بعد ذكره لقصة خبيب بن عدي: «قال العلامة القسطلاني في «إرشاد الساري» (5/ 165): (وإنما صار فعل خبيب سنةً لأنه فعل ذلك في حياة الشارع واستحسنه).

وقال أيضًا (5/ 261): (وإنما صار ذلك سنةً لأنه فعل في حياته فاستحسنه وأقره).

وقال أيضًا (6/ 314): (واستشكل قوله: أول من سن؛ إذ السنة إنما هي أقوال رسول الله وأفعاله وأحواله، وأجيب بأنه فعلهما في حياته واستحسنهما) انتهى كلام القسطلاني».

ثم قال أبو غدة: «وواضح من حديث أبي هريرة وقصة قتل خبيب فيه أن لفظ (السنة) ولفظَ (سن) معناه: الفعل المشروع المتبوع في الدين، وعلى هذا فلا يصح لمتفقهٍ أن يستدل على سنية صلاة الركعتين عند القتل بأن الحديث جاء فيه لفظ (سن)، فتكون صلاتهما سنةً مستحبةً؛ لأن حكم السنية لصلاة ركعتين هنا استفيد من دليلٍ آخر خارج لفظ (سن) بلا ريب؛ وهو إقرار الرسول لفعله»(89).

وعلى ما سبق، فإن ما أحدثه بعض الصحابة من أمور تعبدية إنما أصبح سنة بإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لا بمجرد فعل الصحابة.

والخلاصة: أن ما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم من فعلهم بعض العبادات التي لم تشرع من قبل الجواب عنه من وجوه:

الأول: أن الدين لم يكمل وقتئذ.

الثاني: أن ما فعلوا في هذا الحين يعتبر اجتهادًا منهم، وقد انقطع بورود النص ولا اجتهاد مع النص.

الثالث: أن حسن ما فعلوا أو قبحه موقف في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أجاز لبعضهم فقد منع عن بعض أخرين.

الرابع: أن من سنته الإقرار، ولا يكون إلا لفعل الصحابة، فإن وافق فعلهم مراد الشرع أقر لهم وإلا فلا؛ وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم انقطع بموته.

الشبهة السابعة: تقسيم البدع إلى حسنة وقبيحة ليس بمحدث، وإنما قال به علماء أجلاء، منهم: الإمام الشافعي، والعز بن عبد السلام، والسيوطي، وغيرهم.

الجواب:

إن تقسيم البدع إلى حسنة وقبيحة تقسيم لا مستند له في الشرع، وكيف يكون له أصل وهو ينافي صريح القرآن وصحيح الأحاديث؟!، وذلك كما في الأدلة التي سبق أن ذكرناها في تحريم البدع والابتداع في الدين.

فتلك الأدلة الصحيحة جاءت كلها بذم البدع مطلقًا، ولم تقسم البدع إلى بدع حسنة مستحبة وإلى بدع سيئة مكروهة.

ويبقى أن كلام هؤلاء الأعلام، إن ثبت عنهم، يحتمل التأويل(90)، كما يحتمل الخطأ، وكل يؤخذ من قوله ويرد عليه، إلا المعصوم، وكلام الناس يحتج له لا به.

فقول الشافعي، إن صح، لا يصح أن يكون معارضًا أو مخصصًا لعموم حديث رسول الله، والشافعي نفسه رحمه الله نقل عنه أصحابه أن قول الصحابي إذا انفرد ليس حجة، ولا يجب على من بعده تقليده، ومع كون ما نسب إلى الإمام الشافعي فيه نظر، بدليل ما في «الرسالة»(91)، فكيف يكون قول الشافعي حجة، وقول الصحابي ليس بحجة؟

وكيف يقول الشافعي رحمه الله بالبدعة الحسنة وهو القائل: «من استحسن فقد شرع»، والقائل في «الرسالة»: «إنما الاستحسان تلذذ»، وعقد فصلًا في كتابه «الأم»‏ بعنوان: (إبطال الاستحسان)(92).

لذلك؛ من أراد أن يفسر كلام الشافعي رحمه الله فليفعل ضمن قواعد وأصول الشافعي، وهذا يقتضي أن يفهم أصوله، وهذا الأمر مشهود في كل العلوم، فمن جهل اصطلاحات أربابها جهل معنى أقاويلهم، وأبعد النجعة في تفسيرها.

إن المتأمل في كلام الشافعي رحمه الله لا يشك أنه قصد بالبدعة المحمودة البدعة في اللغة، وهذا واضح في احتجاج الشافعي رحمه الله بقول عمر رضي الله عنه، وعلى هذا الأصل يفسر كلام الشافعي، وأنه أراد ما أراده عمر بن الخطاب؛ أي: البدعة اللغوية لا الشرعية؛ فإنها كلها ضلالة؛ لأنها تخالف الكتاب والسنة والإجماع والأثر.

ثانيا: أن هذا، أي بذم البدع مطلقًا، هو ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم؛ كما ذكرناه في قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «كل بدعةٍ ضلالة وإن رآها الناس حسنة»، وقال عبد الله بن مسعود: «أيها الناس، إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة، فعليكم بالأمر الأول».

فكلاهما أخذ معنى (البدعة) على عمومه، دون تفريق بين ما يسمى بدعة حسنة أو بدعة سيئة! وهو الذي لا ينبغي سواه.

وقد أجمع السلف الصالح على ذمها وتقبيحها والهروب عنها وعمن اتسم بشيء منها، ولم يقع منهم في ذلك توقف ولا استثناء، فهو، بحسب الاستقراء، إجماع ثابت يدل دلالة واضحة على أن البدع كلها سيئة ليس فيها شيء حسن.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن المحافظة على عموم قول النبي: (كل بدعةٍ ضلالة)‏‏ متعين، وأنه يجب العمل بعمومه»(93).

ثالثًا: أن معرفة البدعة المدعى حسنها متعذرة، لأن الأمر قد يكون ظـاهره طاعة وهو معصية، وقد يكون الأمر بالعكس، وقد يحسن كثير من العقول بمجردها أن تصلي الظهر خمسًا عند النشاط والرغبة في مناجاة الله، ويحسن أن تصلي ركعة عند التعب والإعياء وتراكم الأشغال، وهكذا يقال في سائر الفروض.

فيقال لمحسني البدع أنتم في حاجة شديدة أن تميزوا البدعة الحسنة من القبيحة، ونحن على اتفاق أنه ليس كل ما ظـاهره طـاعة يكون في الواقع طـاعة، ولا كل ما ظـاهره معصية يكون في الواقع معصية، وغـاية الأمر أن يكون هذا المحدث المبتدع دائرًا بين أن يكون حسنًا مثابًا عليه، وأن يكون قبيحًا معاقبًا عليه، وإذا كان كذلك فلا يجوز أن تدعوا أنه من القسم الأول إلا بدليل خارج، والدليل إذا كان من الكتاب أو السنة الصحيحة أو الإجماع فما هو من البدعة، فظهر أن القول بالبدعة الحسنة باطل لتعذر معرفتها.

وسر البرهان أننا نقول لمن أشار إلى عمل محدث وقال هذه بدعة حسنة: من أين عرفت أنها حسنة ولعلها قبيحة؟

وكم نشاهد من الأعمال ما نظنه حسنًا وهو قبيح، فمثلًا ما يدريك، لولا ما جاء في «صحيح مسلم» عن عقبة بن عامر أنه قال: «ثلاث ساعاتٍ كان رسول الله ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا؛ حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب»، أن الصلاة بعد صلاة الفجر وقبل غروب الشمس وفي وقت الظهيرة غير جائزة؟

وما يدريك، لولا ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «أول ما فرضت الصلاة ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر»، أن إتمام الصلاة في السفر غير جائز، وأن الفاعل لذلك معذب؟ وقد قال بتعذيبه كثير من العلماء.

وما يدريك، لولا قول الرسول بعد أن توضأ ثلاثًا ثلاثًا: «هكذا الوضوء، فمن زاد علَى هذا فقد أساء وظلم»، أن الزيادة في الوضوء كأن يغسل المتوضئ خمسًا لا تجوز.

وما يدريك، لولا ما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال: «ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا» أن قراءة القرآن في الركوع والسجود غير جائزة؛ بل مكروهة، والإمام أبو حنيفة قائل بذلك؟ وكثير في الشريعة ما نظنه طاعة يثاب عليه وهو معصية يعاقب عليه، وكذلك العكس.

رابعًا: أن كثيرًا من الذين قالوا بالبدع الحسنة قد أنكروا أعمالًا في ظاهرها الحسن؛ بل إنك لتجد أحد العلماء يقول في بدعة ما أنها حسنة تجد عالمًا آخر، وهو ممن يقول بالبدع الحسنة، ينكرها أشد الإنكار(94).

خامسًا: يستلزم من القول بالبدع الحسنة لوازم سيئة جدًا:

أحدها: أن تكون هذه البدع المستحبة، حسب زعمهم، من الدين الذي أكمله الله لعباده ورضيه لهم.

وهذا معلوم البطلان بالضرورة؛ لأن الله تعالى لم يأمر عباده بتلك البدع، ولم يأمر بها رسول الله، ولم يفعلها ولا فعلها أحد من الخلفاء الراشدين، ولا غيرهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، وعلى هذا فمن زعم أنه توجد بدع حسنة في الدين فقد قال على الله وعلى كتابه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم.

الثاني: أن يكون النبي وأصحابه رضي الله عنهم قد تركوا العمل بسنن حسنة مباركة محمودة، وهذا مما ينزه عنه رسول الله وأصحابه رضي الله عنهم.

الثالث: أن يكون القائمون بالبدع الحسنة المزعومة قد حصل لهم العمل بسنة حسنة مباركة محمودة لم تحصل للنبي، ولا لأصحابه رضي الله عنهم، وهذا لا يقوله من له أدنى مسكة من عقل و دين(95).

الشبهة الثامنة: الاستدلال بالأدلة العامة الآمرة بفعل الخير، والتزود من الطاعات، والمجازاة على النيات؛ مثل قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، «إنما الأعمال بالنيات»، ونحو ذلك.

الجواب:

قال الإمام الشاطبي ردًا على من يستدل بالأدلة العامة على خلاف فهم السلف والدعاء إلى العمل به على غير الوجه الذي مضوا عليه في العمل به ما ملخصه: «لو كان دليلًا عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء، فعمل الأولين كيف كان مصادم لمقتضى هذا المفهوم ومعارض له، ولو كان ترك العمل.

فما عمل به المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماعِ الأولين، وكل من خالف الإجماع فهو مخطئ، وأمة محمد لا تجتمع على ضلالةٍ، فما كانوا عليه من فعلٍ أو تركٍ فهو السنة والأمر المعتبر، وهو الهدى، وليس ثم إلا صواب أو خطأ، فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ، وهذا كافٍ...

ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة أن النبي نص على علي أنه الخليفة بعده؛ لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه أو عدمِ اعتباره؛ لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ.

وكثيرًا ما تجد أهل البدعِ والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة؛ يحملونهما مذاهبهم، ويغبرون بمشتبهاتهما على العامة، ويظَنون أنهم على شيء»(96).

ثم قال: «فلهذا كله؛ يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به؛ فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل»(97).

وقال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله: «ولا يجوز إحداث تأويل في آيةٍ أو سنةٍ لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة؛ فإن هذا يتضمن أنهم جهِلوا الحق في هذا، وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر»(98)ـ.

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: «إن إحداث القول في تفسير كتاب الله الذي كان السلف والأئمة على خلافه يستلزم أحد أمرين: إما أن يكون خطأ في نفسه، أو تكون أقوال السلف المخالفة له خطأ، ولا يشك عاقل أنه أولى بالغلط والخطأ من قول السلَف»(99).

فإذا وضحت هذه القاعدة ظهر لك أي الفريقين أهدى في المثال الذي صدرنا لك الكلام به! إذ ذاك الدليل العام لم يجرِ عليه عمل السلف رضي الله عنهم أو فهمهم؛ استدلالًا به على الجماعة في غيرِ الوارد؛ كالفرائض أو التراويح ونحوهما، فهو جرى، إذًا، على جزءٍ من أجزاء عمومه لا على جميع أجزائه.

ومثال تطبيقي على ذلك: عن مجاهد قال: «كنت مع ابن عمر، فثوب رجل في الظهر أو العصر، فقال: اخرج بنا؛ فإن هذه بدعة»‏! و«‏معنى التثويب: هؤلاء الذين يقومون على أبواب المساجد، فينادون: الصلاة الصلاة»(100).

فلو جاء أحد قائلًا: هل من ضيرٍ على من ذكر بالصلاة، والله يقول: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذريات:55]؟!

لما قبل قوله؛ بل رد عليه فهمه؛ إذ لم يفهم السلف رضي الله عنهم من هذه الآية هذا الإطلاق وهذا العموم، ومعلوم عن ابن عمر رضي الله عنهما شدة اتباعه، ودقة التزامه.

ومثال آخر وقد مر معنا فيما سبق: وهو ما رواه الترمذي والحاكم وغيرهما عن نافع أن رجلًا عطس إلى جنب ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: «الحمد لله، والسلام على رسوله»، قال ابن عمر: «وأنا أقول: الحمد لله، والسلام على رسول الله»، وليس هكذا علمنا رسول الله، علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حالٍ»،‏ فقد أنكر ابن عمر رضي الله عنهما على هذا الرجل، مع أن عموم قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، تدخل فيه تلك الصلاة ولكن، ما هكذا فهمها الصحابة فمن بعدهم، وما هكذا طبقها السلف الصالح رضي الله عنهم، وفهمهم أولى، ومرتبتهم أعلى.

ورحم الله الإمام الأوزاعي حيث قال: «اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسعك ما وسعهم».

وعليه نقول: «الحذر الحذر من مخالفة الأولين! فلو كان ثَمَّ فضل ما لكان الأولون أحق به، والله المستعان»(101).

الشبهة التاسعة: يقول البعض: إن ترك الرسول للفعل لا يدل على التحريم إلا إذا جاء في ذلك دليل صريح، فكيف يحتج على إنكار البدع الحسنة بحجة أن الرسول لم يفعل ذلك؟!!

الجواب:

أولًا: أن الله تعالى قال فيما امتن به على عباده: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وفي هذه الآية دليل على أنه لا يجوز إحداث البدع؛ لأنها ليست من الدين الذي أكمله الله تعالى لهذه الأمة في حياة نبيها ورضيه لهم.

ثانيًا: أن رسول الله قال: «إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدةً»، قالوا: «من هي يا رسول الله؟»، قال: «ما أنا عليه وأصحابي»(102).

وهذا الحديث يدل على أن إحداث البدع لا يجوز؛ لأنها من الأعمال التي لم يكن عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.

ثالثًا: «من المقرر عند ذوي التحقيق من أهل العلم أن كل عبادةٍ مزعومةٍ لم يشرعها لنا رسول الله بقوله، ولم يتقرب هو بها إلى الله بفعله، فهي مخالفة لسنته؛ لأن السنة على قسمين: سنة فعلية، وسنة تركية، فما تركه من تلك العبادات فمن السنة تركها، ألا ترى مَثلًا أن الأذان للعيدين ولدفن الميت مع كونه ذكرًا وتعظيمًا لله عز وجل لم يجز التقرب به إلى الله عز وجل، وما ذاك إلا لكونه سنة تركها رسول الله.

وقد فهم هذا المعنى أصحابه، فكثر عنهم التحذير من البدع تحذيرًا عامًا؛ كما هو مذكور في موضعه»‏.

ذلك، وأصل قاعدة (السنة التركية) مأخوذ من عدة أدلةٍ؛ منها: حديث الثلاثة نفر الذين جاءوا إلى أزواج رسول الله يسألون عن عبادة الرسول... الخ، وقد ذكرناه فيما سبق، فقد أنكر الرسول عليهم، ورد فعلهم، مع أن أصل العبادات التي أرادوا القيام بها مشروعة، ولكن لما كانت الكيفية والصفة التي قام بها هؤلاء الثلاثة في هذه العبادات (متروكةً) في تطبيق رسول الله وغير واردةٍ فيه أنكر ذلك عليهم.

فهذه ترجمة عملية منه لقوله: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا [ولم يقل من عمل عملًا عليه نهينا] فهو رد»، فهذا عمل مشروع الأصل، لكن ليس عليه أمر النبي وهديه، فهو مردودٌ على صاحبه، غير مقبول منه.

وخلاصة القول: «إن الترك، مع حرصه عليه السلام على إحراز فضيلة النفل، دليل الكراهة» ‏كما قاله الإمام العيني(103).

ومن أمثلة ذلك: ما سبقت الإشارة إليه في أول هذا المبحث: الأذان لصلاة العيد: فالأذان مشروع في أصله، لكن لم يفعله رسول الله ولا أصحابه وتركوه، فتركهم له سنة يجب اتباعهم فيها، وكذا الأذان للاستسقاء والجنازة ونحوهما، فمن فعل من التعبديات والقربات ما تركوه فقد واقع البدعة وتلبس بها.

قال الحافظ ابن رجب: «... فأما ما اتفق السلف على تركه فلا يجوز العمل به؛ لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يعمل به(104)، فتمام اتباع السنة يكون بترك ما وَرَدَ تركه، وفعل ما وَرَدَ فعله، وإلا فباب البدعة يفتح، عياذًا بالله تعالى.

ولابن القيم رحمه الله تفصيل بديع ماتع فيما نقله الصحابة رضي الله عنهم لتركه؛ قال رحمه الله: «أما نقلهم لتركه فهو نوعان، وكلاهما سنة، أحدهما: تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله؛ كقوله في شهداء أحد: (ولم يغسلهم، ولم يصل عليهم)، وقوله في صلاة العيد: (لم يكن أذان، ولا إقامة، ولا نداء)، وقوله في جمعه صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين: (ولم يسبح بينهما ولا على إثر واحدةٍ منهم)‏... ونظائره.

والثاني: عدم نقلهم لما لو فعله لتوفرت هممهم ودواعيهم، أو أكثرهم أو واحد منهم، على نقله، فحيث لم ينقله واحد منهم ألبتة، ولا حدث به في مجمعٍ أبدًا؛ عُلم أنه لم يكن...».

ثم ذكر رحمه الله عدة أمثلة على ذلك، منها: تركه التلفظ بالنية عند دخول الصلاة، وترك الدعاء بعد الصلاة على هيئة الاجتماع... وغير ذلك، ثم قال: «... ومن ها هنا يعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة؛ فإن تركه سنة كما أن فعله سنة، فإذا استحببنا فعل ما تركه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله ولا فرق»(105).

__________________

(1) رواه مسلم (866)، بدون ذكر: «وكل ضلالة في النار»، ورواه النسائي في سننه (3/ 188-189)، من حديث جابر بن عبد الله بنحوه، انظر: إرواء الغليل (3/ 73).

(2) الحوادث والبدع، ص40.

(3) الاعتصام للشاطبي، ت الهلالي (1/ 49).

(4) المصدر السابق (1/ 51)، (1/ 54).

(5) جامع العلوم والحكم، ت الأرنئوط (2/ 127).

(6) حقيقه السنة والبدعة = الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع، ص88.

(7) مجموع الفتاوى (4/ 107، 108).

(8) فتح الباري (13/ 254)، بتصرف يسير في العبارة.

(9) رواه مسلم (2363).

(10) عقيدة التوحيد وبيان ما يضادها، ص177.

(11) انظر: علم أصول البدع، علي الحلبي.

(12) انظر: الاعتصام للشاطبي، ت الهلالي (1/ 367)، وما بعده.

(13) مجموع الفتاوى (27/ 172).

(14) فتح البارير (4/ 220).

(15) الفتاوى الحديثية، لابن حجر الهيتمي، ص200.

(16) فتاوى السبكي (2/ 549).

(17) مفهوم البدعة عند أئمة الشافعية، منتدى التوحيد.

(18) الإبداع في مضار الابتداع، ص43.

(19) مجلة البحوث الإسلامية (14/ 174).

(20) البدع، لابن وضاح (1/ 37)، الباعث على إنكار البدع والحوادث، ص14.

(21) أخرجه أبو الشيخ في تاريخ أصبهان، والطبراني في الأوسط، والبيهقي في الشعب، بسند صحيح، كما قال الألباني، انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 154)- ح1620.

(22) البدع، لابن وضاح (1/ 36).

(23) الباعث على إنكار البدع والحوادث، ص17، وصححه الألباني، انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ 527).

(24) البدع، لابن وضاح (2/ 78).

(25) مجموع الفتاوى (10/ 565).

(26) القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص82.

(27) سبق تخريجه.

(28) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 93).

(29) رواه البخاري (5063)، ومسلم (1401).

(30) الرسالة (1/ 21).

(31) أصول السنة، لأحمد بن حنبل، ص14.

(32) منازل الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، موسوعة سيرة السلف.

(33) رواه مسلم (1844).

(34) أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (1647) بسند صحيح، انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 416) ح 1803.

(35) رواه ابن ماجه، ت الأرنئوط (1/ 28) ح42، انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 610) ح937.

(36) رواه البخاري (7531)، ومسلم (177).

(37) رواه مسلم (262)، وغيره.

(38) مجموع الفتاوى (31/ 35).

(39) تفسير ابن كثير، ت سلامة (7/ 465).

(40) رواه سنن أبي داود، ت الأرنئوط (162)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (1/ 140) ح(103).

(41) رواه البخاري (1605)، ومسلم (1270).

(42) رواه البخاري (335)، ومسلم (321).

(43) رواه الترمذي، ت بشار (2738)، وصححه الألباني إسناده في إرواء الغليل (3/ 245).

(44) كالغزالي في المنخول، ص476، والمحلي في «جمع الجوامع (2/ 395)» بحاشيته.

(45) رواه البخاري (1608).

(46) المسند (1877).

(47) رواه الدارمي في سننه (210)، انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (5/ 11).

(48) البراهين على ألا بدعة حسنة في الدين، (منتدى الرقية الشرعية، منتديات كل السلفيين).

(49) رواه البيهقى بسند صحيح، إرواء الغليل (2/ 236).

(50) إرواء الغليل (2/236).

(51) ذكره الشاطبي رحمه الله في «الاعتصام (1 / 174)»، الهروي في «ذم الكلام (3 / 115)» عن الزبير بن بكار، انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة، للألباني (1/ 377).

(52) راجع «الاعتصام»، للشاطبي، قواعد لمعرفة البدع، للجيزاني.

(53) الباعث على إنكار البدع والحوادث، ص51.

(54) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 107).

(55) جامع العلوم والحكم، ت الأرنئوط (1/ 178).

(56) نقلًا عن: حقيقة البدعة والموقف من أهلها، د. هاني بن عبد الله بن جبير.

(57) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 140)، قواعد لمعرفة البدعة، منتديات دار الحديث بمأرب.

(58) الاعتصام، للشاطبي، ت الهلالي (1/ 511).

(59) قواعد معرفة البدع، للجيزاني ص54.

(60) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لابن تيمية (1/ 107).

(61) مجموع الفتاوى (3/ 103).

(62) المصدر السابق (4/ 156).

(63) المصدر السابق (3/ 229).

(64) المصدر السابق (3/ 179).

(65) المصدر السابق (28/ 209).

(66) رواه البخاري (7352)، ومسلم (1716).

(67) مجموع الفتاوى (3/ 357).

(68) انظر: حقيقة البدعة والموقف من أهلها، د. هاني بن عبد الله بن جبير.

(69) روى الإمام مسلم من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر؛ بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لِما رأَى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالًا فأذن وأقام فصلى ثم خطب، فقال: «{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1] إلى آخر الآية، {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} والآية التي في الحشر: {اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ} [الحشر:18] تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره»، حتى قال: «ولو بشق تمرةٍ»، فجاء رجل من الأنصار بصرةٍ كادت كفه تعجز عنها؛ بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيتُ كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)».

(70) ومن ذلك ما ذكره الشاطبي رحمه الله، حيث يقول: «ليس المراد بالحديث الاستنان بمعنى الاختراع، وإنما المراد به العمل بما ثبت بالسنة النبوية، وذلك لوجهين:

أحدهما: أن السبب الذي جاء لأجله الحديث هو الصدقة المشروعة؛ بدليل ما في صحيح مسلم...» [ووجه ذلك أن كل ما فعله الأنصاري إنما هو ابتداؤه بالصدقة في تلك الحادثة، والصدقة مشروعة من قبل بالنص، أفترون هذا الصحابي أتى ببدعة حسنة؟! وحث عليها؛ أي على الصدقة، الرسولُ صلى الله عليه وسلم في القصة نفسها؛ وعليه فالسنة الحسنة هي إحياء أمر مشروع لم يعهد العمل به بين الناس لتركهم السنن].

ويدل على هذا حديث: (من أحيا سنة من سنتي فعمل بها الناس كان له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئًا، ومن ابتدع بدعة فعمل بها كان عليه أوزار من عمل بها لا ينقص من أوزار من عمل بها شيئًا) [رواه ابن ماجه].

مع ملاحظة أن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف السنة إليه فقال: (من سنتي) بينما أطلق الكلام في البدعة فقال: ومن ابتدع بدعة ولم يقل بدعة سيئة.

«الوجه الثاني: أن قوله: (من سن في الإسلام سنةً حسنةً)، (ومن سن في الإسلام سنةً سيئةً) لا يمكن حمله على الاختراع من أصلٍ؛ لأن كونها حسنةً أو سيئةً لا يعرف إلا من جهة الشرع؛ لأن التحسين والتقبيح مختص بالشرع، لا مدخل للعقل فيه وهو مذهب جماعة أهل السنة، وإنما يقول به المبتدعة؛ أعني: التحسين والتقبيح بالعقل.

فلزم أن تكون السنة في الحديث إما حسنةً في الشرع، وإما قبيحةً بالشرع، فلا يصدق إلا على مثل الصدقة المذكورة وما أشبهها من السنن المشروعة.

وتبقى السنة السيئة منزلة على المعاصي، التي ثبت بالشرع كونها معاصي؛ كالقتل المنبه عليه في حديث ابن آدم؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري ومسلم: (لا تُقتل نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها)؛ لأنه أول من سن القتل، وعلى البدع؛ لأنه قد ثبت ذمها والنهي عنها بالشرع‏).

(71) قال الزيلعي في «نصب الراية (4/ 133)» نقلًا من «اللمع» للسحيباني (ص28): «غريب مرفوعًا، ولم أجده إلا موقوفًا على ابن مسعود»، وقال ابن الجوزي في «الواهيات»، رقم:452: «هذا الحديث إنما يعرف من كلام ابن مسعودٍ»، وقال ابن عبد الهادي كما في «كشف الخفاء» للعجلوني (2/ 188): «(وروي) مرفوعًا عن أنس بإسنادٍ ساقطٍ، والأصح وقفه على ابن مسعودٍ»، وقال ابن القيم في «الفروسية، ص61»: «ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يضيفه إلى كلامه من لا علم له بالحديث، وإنما هو ثابت عن ابن مسعود»، وقال الألباني في «السلسلة الضعيفة (2/ 17)»: «لا أصل له مرفوعًا، وإنما ورد موقوفًا على ابن مسعود».

(72) السلسة الضعيفة (2/ 17).

(73) وهو مروي عن الصحابة: أنس بن مالك، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وجابر، وأبي سعيد الخدري.

(74) أخرجه أحمد (1/ 379).

(75) انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (2/ 18)، ومما يؤكد ما ذكرناه ويزيده وضوحًا الأمور التالية:

1- أنه قد بوب له جماعة من أهل الحديث في (باب الإجماع).

2- استدل به كثير من العلماء على الإجماع، فقال ابن كثير: «وهذا الأثر فيه حكايةُ إجماعٍ عن الصحابة في تقديم الصديق، والأمر كما قاله ابن مسعودٍ»، وقال ابن القيم في الفروسية، ص60، بعد إيراده، ردًا على المستدلين به: «في هذا الأثر دليل على أن ما أجمع عليه المسلمون ورأوه حسنًا فهو عند الله حسن، لا ما رآه بعضهم، فهو حجة عليكم»، وقال ابن قدامة في «روضة الناظر»، ص86: «الخبر دليل على أن الإجماع حجة، ولا خلف فيه».

وقال الشاطبي في «الاعتصام» (2/ 655): «إن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون بجملتهم حسنًا فهو حسن، والأمة لا تجتمع على باطل، فاجتماعهم على حُسْنِ شيءٍ يدل على حسنه شرعًا؛ لأن الإجماع يتضمن دليلًا شرعيًا».

وقال الإمام ابن حزم في «الإحكام في أصول الأحكام» (6/ 197)، بعد أن ذكر أثر ابن مسعود رضي الله عنه: «فهذا هو الإجماع الذي لا يجوز خلافه لو تيقن، وليس ما رآه بعض المسلمين أولى بالاتباع مما رآه غيرهم من المسلمين، ولو كان ذلك لكنا مأمورين بالشيء وضده، وبفعل شيء وتركه معًا، وهذا محال لا سبيل إليه»ـ.

وقال العز بن عبد السلام في «فتاوى العز بن عبد السلام»، ص379: «إن صح الحديث عن رسول الله فالمراد بالمسلمين أهل الإجماع».

وعلى ما سبق نقول لمن استدل بهذا الأثر على أن هناك بدعة حسنة: هل تستطيع أن تأتي ببدعة واحدة أجمع المسلمون على حسنها؟!! إن هذا من المستحيل ولا شك، فليس هناك بدعة أجمع المسلمون على حسنها ولله الحمد.

(76) ولذلك استدل البعض بالحديث على قاعدة اعتبار العرف والعادة، وهذه الأخيرة صحيحة بضوابطها المقررة، لكن الاحتجاج بالحديث على تقرير ذلك فيه نظر، والله أعلم (انظر العرف والعمل في المذهب المالكي، ص59 فما بعدها).

انظر: البراهين على ألا بدعة حسنة في الدين، أبو معاذ السلفي، منتدى: السنة الصحيحة وعلومها.

(77) رواه الدارمي في سننه (211)، وانظر: الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (1/ 551).

(78) البراهين على ألا بدعة حسنة في الدين.

(79) رواه ابن ماجه (1327)، وأبو داود (1375)، والنسائي (1364)، والترمذي (806)، وصححه الألباني في الإرواء (447).

(80) عند تفسير الآية (117) من سورة البقرة.

(81) جامع العلوم والحكم، ص233.

(82) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 95)، والخلاصة: أن غاية ما في هذا تسمية عُمَر تلك بدعةً مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية، وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداءً من غير مثالٍ سابقٍ، وأما البدعة الشرعية فما لم يدل عليه دليل شرعي فالمراد بقول عمر ذلك البدعة اللغوية لا البدعة الشرعية؛ لأن عمر قال ذلك بمناسبة جمعه الناس على إمام واحد في صلاة التراويح، وصلاة التراويح جماعة قد شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث صلاها بأصحابه ليالي، ثم تخلف عنهم خشية أن تفرض عليهم [انظر: صحيح البخاري (2/ 252) من حديث عائشة رضي الله عنها، وبقي الناس يصلونها فرادى وجماعات متفرقة، فجمعهم عمر على إمام واحد كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليالي التي صلاها بهم، فأحيا عمر تلك السنة، فيكون قد أعاد شيئًا قد انقطع، فيعتبر فعله هذا بدعة لغوية لا شرعية؛ لأن البدعة الشرعية محرمة، لا يمكن لعمر ولا لغيره أن يفعلها، وهم يعلمون تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من البدع. انظر: البراهين على ألا بدعة حسنة في الدين.

(83) رواه أحمد (17144)، وأبو داود (4607)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ 526) حديث رقم: 2735.

(84) تفسير القرطبي (18/ 100).

(85) الأم (1/ 224).

(86) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 101).

(87) ‏‏رواه البخاري (2710)، مسلم (247).

(88) رواه البخاري، وسبق تخريجه.

(89) البدعة الشرعية، على موقع المكتبة الشاملة.

(90) الإمام الشافعي أو غيره من أهل السنة يقصدون البدعة في اللغة، وليس الإحداث في الدين، ويدل على هذا أن الإمام الشافعي نفسه يقول: «وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول إلا بالاستدلال»، إلى أن قال: «ولا يقول بما استحسن، فإن القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سبق» [الرسالة، ص504].

وفي هذا يقول ابن رجب: «فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية.

فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لمّا جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال: «نعمت البدعة هذه». [جامع العلوم والحكم، ص252].

وقال الشاطبي في معرض رده على المستحسن للبدع بقول عمر رضي الله عنه، فقال: «إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنها بدعة في المعنى» [الاعتصام (1/ 195)].

ويقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: «كل ما لم يشرع من الدين فهو ضلالة، وما سمي بدعة وثبت حسنه بأدلة الشرع فأحد الأمرين فيه لازم، إما أن يقال ليس ببدعة في الدين، وإن كان يسمى بدعة من حيث اللغة، كما قال: نعمت البدعة هذه» [مجموع الفتاوى (10/ 471)، (22/ 234)].

وكيف يذهب هؤلاء السادة العلماء إلى ما ذهب إليه المتأخرون، وهؤلاء العلماء كان عندهم قاعدة أن الأصل في العبادات الحظر والمنع، والمتقرر عند أهل السنة والجماعة أن العقول لا تستقل بإدراك المشروع على وجه التفصيل؛ ولذلك احتاجت البشرية إلى إرسال الرسل وإنزال الكتب؛ حتى يعرفوا الناس بشرائعهم العقدية والعملية علـى وجــه التفصيـل، فبعث الله الرسل وأنزل الكتب، ولولا الله ثم الرسل لما عرفت البشرية ما يجوز التعبد به لله وما لا يجوز على التفصيل أبدًا، والشريعة لا تتلقى إلا من قبل الرسول، فلا يجوز التعبد لله إلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لأحدٍ أن يخترع من عند نفسه قولًا أو فعلًا ويقول هذا عبادة، فالعبادة لا تثبت إلا بدليل شرعي، ولا تَدَخُّل للعقل في تأسيسها أبدًا، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، فمن ادعى في فعل أو قولٍ أنه عبادة طالبناه بالدليل المثبت لها، فلا تتلقى العبادات إلا من قبل الشرع، وبذلك تعلم حقيقة العبادة وحقيقة البدعة. [انظر: الرد على شبهات من قسم البدعة إلى حسنة وسيئة].

(91) للشافعي، ص597-598.

(92) انظر الرسالة، ص507، الأم‏ (7/ 293-304).

(93) مجموع الفتاوى (10/ 370).

(94) والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:

1- العز بن عبد السلام، وهو من أشهر من قال بتقسيم البدع إلى بدع حسنة وبدع سيئة، يقول في كتاب «الفتاوى»، ص392: «ولا يستحب رفع اليد في القنوت كما لا ترفع في دعاء الفاتحة، ولا في الدعاء بين السجدتين، ولم يصح في ذلك حديث، وكذلك لا ترفع اليدان في دعاء التشهد، ولا يستحب رفع اليدين في الدعاء إلا في المواطن التي رفع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ولا يمسح وجهه بيديه عقيب الدعاء إلا جاهل، ولم تصح الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في القنوت، ولا ينبغي أن يزاد على صلاة رسول الله في القنوت بشيء ولا ينقص».

وقال في «الترغيب عن صلاة الرغائب الموضوعة»، ص7-8: «فإن الشريعة لم ترِد بالتقرب إلى الله تعالى بسجدةٍ منفردةٍ لا سبب لها، فإن القرب لها أسباب، وشرائط، وأوقات، وأركان، لا تصح بدونها، فكما لا يتقرب إلى الله تعالى بالوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة من غير نسكٍ واقعٍ في وقته بأسبابه وشرائطه؛ فكذلك لا يتقرب إليه بسجدةٍ منفردةٍ، وإن كانت قربةً، إذا لم يكن لها سبب صحيح، وكذلك لا يتقرب إلى الله عز وجل بالصلاة والصيام في كل وقتٍ وأوانٍ، وربما تقرب الجاهلون إلى الله تعالى بما هو مبعد عنه، من حيث لا يشعرون».

وهذا الكلام صدر من العز بن عبد السلام رحمه الله أثناء إنكاره لصلاة الرغائب المبتدعة؛ وقد أنكر هذه الصلاة بالإضافة إلى العز بن عبد السلام كثير من العلماء القائلين بالبدعة الحسنة؛ مثل الإمام النووي في «فتاوى الإمام النووي»، ص57، وعبد الله الغماري في «حسن البيان في ليلة النصف من شعبان»، مع العلم أن بعض العلماء قال باستحبابها؛ مثل: ابن الصلاح، وأبو حامد الغزالي في «الإحياء»، وأبو طالب المكي في «قوت القلوب»، وعدُّوها من البدع الحسنة.

وقال أيضًا العز بن عبد السلام كما في «فتاوى العز بن عبد السلام»، ص289: «ومن فعل طـاعة لله تعالى، ثم أهدى ثوابها إلى حي أو ميت لم ينتقل ثوابها إليه؛ إذ {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، فإن شرع في الطاعة ناويًا أن يقع عن ميت لم يقع عنه إلا فيما استثناه الشرع؛ كالصدقة، والصوم، والحج».

ومعروف أن كثيرًا من العلماء قالوا بجواز إهداء كثير من الطاعات للأموات، وإن لم يرد دليل على ذلك؛ وإنما قياسًا على ما ورد!

وقال أيضًا في ص197-199: «أما مسألة الدعاء فقد جاء في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَّم بعض الناس الدعاء فقال في أوله: (قل: اللهم إني أقسم عليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة)، وهذا الحديث إن صح فينبغي أن يكون مقصورًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سيد ولد آدم، وألا يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء؛ لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خُص به تنبيهًا على علو درجته ومرتبته».

وكثير ممن قلده في تقسيم البدع تجده يخالفه في هذه المسألة! فيقول بجواز الإقسام على الله بغير النبي صلى الله عليه وسلم، مع العلم أن الراجح عدم جواز ذلك مطلقًا.

2- الإمام أبو شامة رحمه الله أنكر في «الباعث على إنكار البدع والحوادث» كثيرًا من بدع الجنائز؛ مثل قول القائل أثناء حمل الجنازة: (استغفروا له غفر الله لكم)، كما أنكر أن يكون للجمعة سنة قبلية (ص258-304)، وأنكر كذلك صلاة الرغائب (ص138-196)، وأنكر كذلك صلاة ليلة النصف من شعبان (ص134-138)، ومع كل ذلك قال (ص95) بأن الاحتفال بالمولد النبوي يعتبر بدعة حسنة!

3- وأما الإمام النووي رحمه الله، وهو من القائلين بتقسيم البدع، فقد قال في «المجموع (8/ 102): «قال الشيخ أبو محمد الجويني: رأيت الناس إذا فرغوا من السعي صلوا ركعتين على المروة)، قال: (وذلك حسن، وزيادة طاعة، ولكن لم يثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، هذا كلام أبي محمد، وقال أبو عمرو بن الصلاح: (ينبغي أن يكره ذلك؛ لأنه ابتداء شعار)، وقد قال الشافعي رحمه الله: (ليس في السعي صلاة)»، ثم قال النووي: «وهذا الذي قاله أبو عمرو أظهر، والله أعلم».

وقال أيضًا في «الأذكار»، ص136: «قال الشافعي وأصحابنا رحمهم الله: يُكره الجلوس للتعزية، قالوا: يعني بالجلوس لها: أن يجتمع أهل الميت في بيتٍ ليقصدهم من أراد التعزية؛ بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم، ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها...».

4- وأما السيوطي رحمه الله فقد أنكر في كتابه «الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع» الصلاة في المساجد المبنية على القبور، وكذلك إيقاد السرج على القبور والمزارات (ص134)، وأنكر صلاة الرغائب (ص166)، وأنكر الاجتماع للعزاء (ص288)، وأنكر التلفظ بالنية قبل الصلاة (ص295)، وغير ذلك من البدع، مع أنه قرر في كتابه هذا بأن البدع تنقسم إلى بدع حسنة وبدع سيئة!

5- محمد متولي الشعراوي، المفسر المصري، أنكر رفع الصوت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، كما يفعله كثير من المؤذنين في كثير من البلاد الإسلامية، فقد وُجه إليه سؤال، كما في «الفتاوى»، ص487: «جرت العادة في معظم المساجد أن يؤذن المؤذن، وعقب الانتهاء من الأذان يقول: (الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله) جهرًا، فهل الصلاة على الرسول جهرًا عقب الأذان هي من صلب الأذان، أم أن هذه زيادة عما ورد؟ نرجو الإفادة».

ج: «هذا حب لرسول الله، لكن أنت تحبه بمشقة، هو قال: إذا سمعتم المؤذن وانتهى من أذانه فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، وللمؤذن وللذي سمع نصلي عليه في سرنا، لكن المؤذن ليس له أن يوجد شيئًا بصوت الأذان الأصيل، وبلهجة الأذان الأصلية؛ حتى لا يفهم الناس أن ذلك من صلب الأذان» انتهى كلامه، وفي المقابل نجده يقول بجواز الاحتفال بالمولد النبوي (ص544-545)!

6- أما حسنين محمد مخلوف، مفتي الديار المصرية سابقًا، فيقول بمشروعية رفع الصوت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مِن قِبل المؤذنين بعد الأذان، في كتابه «فتاوى شرعية وبحوث إسلامية» ص265-267؛ مع أنه قال في (ص290) جوابًا على سؤال: «هل في الشريعة الغراء صلاة تسمى صلاة الشكر؟»: «لم يرد في الكتاب ولا في السنة نص يفيد مشروعية هذه الصلاة، لا فرادى ولا جماعة، وأمر العبادات يقتصر فيه على ما ورد عن الشارع، ولا سبيل فيه إلى القياس، ولا مجال فيه للرأي، وإنما الذي أثر عن النبي السجود لله تعالى شكرًا إذا أتاه ما يسره أو بُشر به...».

فظهر بهذه النقول أنه لا يوجد ضابط معين يميز بين البدعة الحسنة، المزعومة، والبدعة السيئة؛ حتى عند القائلين بهذا التقسيم، ولا يسلم الشخص من الوقوع في هذا الاضطراب إلا بمتابعة السنة وترك الابتداع في الدين.

قال عبد الله القصيمي في كتابه «شيوخ الأزهر والزيادة في الدين»، ص20-21: «خاطبتُ يومًا شيخًا من شيوخ الأزهر الذين يقولون: إن في الدين بدعة حسنة، قلت له: (ما الفاصل بين البدعة الحسنة والبدعة القبيحة، الذي يعتمد عليه المسلم فيأخذ الحسن ويترك القبيح؟)، فامتقع لونه وقال (وليته ما قال): (البدعة الحسنة هي الجائزة دينًا، والقبيحة هي الممنوعة دينًا)! قلت له: (ما صنعت شيئًا، بأي شيء نعرف الجائزة والممنوعة؟ وهو سؤالي)، فامتقع أكثر وقال: (الجائزة هي الحسنة، والممنوعة هي السيئة)!! قلت له: (هذا هو الدور الممنوع لدى المعممين كافة؛ إذ لا نعرف الحسن إلا بكونه حلالًا، ولا الحلال إلا بكونه حسنًا، ولا القبيح إلا بكونه حرامًا، ولا الحرام إلا بكونه قبيحًا)، ثم نشط عقله من عقاله وقال: (البدعة الحسنة التي لا ضرر فيها، والقبيحة هي ذات الضرر).

قلت له: (ما تقصد بالضرر؟ أتقصد ضرر الدنيا أم ضرر الدنيا والأخرى، أم ضرر الأخرى فحسب؟ إن قصدت الأول: فأي ضرر في أن نصلي الظهر خمسًا، والمغـرب أربعًا، والفجر ستًا، وأن نجعل السجود في الصلاة قبل الركوع، والركوع قبل القيام، والقيام قبل الجلوس، والتشهد قبل الاستفتاح، وأن نصوم شعبان بدل رمضان إذا خفنا ألا يدركنا رمضان أو يشغلنا شاغل، وأن نصوم في الليل؟ هل في واحدة من هؤلاء ضرر دنيوي تراه؟ لا ضرر سوى مخالفة الشرع، وإن قصدت الثاني والثالث فما العلامة أن هذه الحادثة فيها ضرر علينا في الدار الآخرة وعقاب لفاعليها؟ هذا وأنت من الذين ينفون التقبيح والتحسين العقليين)، فانتهى هنا، والنهاية أن من لم يأخذ بظواهر هذه الأخبار تحير وقال أقوالًا باطلة».

انظر: «البراهين على ألا بدعة حسنة في الدين، والرد على شبه المخالفين»، جمع وإعداد: أبي معاذ السلفي، موقع: صيد الفوائد، وانظر: ملتقى أهل الحديث، تحت عنوان: تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام.

(95) انظر: كشف البدع، والرد على (اللمع)، حوار هادئ مع الأستاذ محمد حسين، (نت).

(96) الموافقات (3/ 72).

(97) المصدر السابق (3/ 77).

(98) الصارم المنكي في الرد على السبكي،‏ ص318.

(99) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (2/ 128).

(100) رواه أبو داود في سننه (538)، بسند حسن.

(101) «يستدل كثير من الناس بالنصوص العامة لتسويغ بدعهم، والتدليل على واقعهم! وهذا خطأ كبير، يناقض قاعدة مهمةً في علم الأصول، سيأتي تقريرها بعد، فمثلًا: لو أن عددًا من الناس قَدِموا مسجدًا للصلاة فيه، فما أن دخلوا حتى اقترح أحدهم عليهم أن يصلوا تحية المسجد جماعة!! فجابهه بعض أصحابه بالإنكار والرد!! فاستدل عليهم المقترِح بحديث صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، فافترقوا رأيين؛ بعضهم وافق على هذا الاستدلال، والبعض الآخر خالف؛ لأن هذا الدليل إنما مورده في غير هذا المقام، فما هو القول الفصل؟

قال الإمام ابن تيمية في «مقدمة في أصول التفسير»، ص8-9: (يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه معاني القرآن، كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، يتناول هذا وهذا، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: (حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن؛ كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم جميعًا)، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة، وقال أنس: (كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلَّ في أعيننا)، وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين، قيل ثمان سنين، ذكره مالك، وذلك أن الله تعالى قال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82]، وقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْل} [المؤمنون:68]، وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن.

وكذلك قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2]، وعقل الكلام متضمن لفهمه، ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك، وأيضًا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابًا في فن من العلم؛ كالطب والحساب، ولا يستشرحوه، فكيف بكلام الله، الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم؟).

انظر: البراهين على ألا بدعة حسنة في الدين والرد على شبه المخالفين، جمع وإعداد: أبي معاذ السلفي، موقع: صيد الفوائد.

(102) رواه الترمذي، ت شاكر (5/ 26)، ح(2641)، وحسنه الألباني، كما في صحيح الجامع (2/ 944).

(103) إعلام أهل العصر، ‏للعظيم آبادي، ص95.

(104) انظر: فضل علم السلف، ص31.

(105) انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 281)، وللشيخ العلامة الشنقيطي مبحثًا ماتعًا في أن الترك فعل؛ فهذا يؤكد أن الترك سنة؛ إذ تعريف السنة أنها: (ما وَرَدَ عن النبي صلى الله عليه وسلم من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو صفة)، انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (6/ 48)، وما بعده.