لطفه سبحانه بعباده
من أسماء الله تعالى اللطيف، وقد كرر ذكره في القرآن؛ ليركن قارئه إلى الله تعالى، ويطمئن للطفه سبحانه مهما عظمت الكروب والشدائد، وازدادت الأخطار والمخاوف؛ ذلك أن علم المؤمن بلطف الله تعالى به يعينه على ذلك كله.
ولاسم الله اللطيف معانٍ كثيرة، تختلف على طرقها الأفهام، وتتفق لحقيقتها القلوب والأبصار، وورد في معناه: البَر بعباده، الرفيق بهم، العالم بخفايا الأمور ودقائقها، واللطيف هو الذي إذا ناديته لباك، وإذا قصدته آواك، وإذا أحببته أدناك، وإذا أطعته كفاك، وإذا عصيته أعفاك، وإذا أعرضت عنه دعاك، وإذا قربت منه هداك، يقول الملك في كتابه: {اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ القَوِيُّ العَزِيزُ} [الشورى: ١٩].
لطف الله إما ظاهر نتبع الأمور تحليلًا، ورؤية منظمة فندركه، وإما خفي لا ندركه لا بالتحليل ولا بالتنظيم؛ فالأمر خارج حساباتنا الإنسانية، وربما تظهر الحكمة بعد مدة وربما لا.
ولطف الله بنا بر ليس بعده طلب، وفوز لا تعلوه غاية، فإن الله بقدرته وعظمته يحيط بنا وبدقائق أحوالنا، ويطلع على ما في قلوبنا من هموم وآلام، وما في نفوسنا من ضعف وعجز، يعرف أحلامنا وآمالنا، فيتكرم بلطفه ويجود علينا، وييسر لنا ما حسبناه عسيرًا مستعقدًا، فيكون لطفه عطاءً، أو يحيل بيننا وبين ما رغبنا فيمنعه حكمة وعلمًا منه، فيكون لطفه منع في ظاهره عطاء في جوهره؛ إذ منعنا الشر وأبدلنا الخير، يقول ابن عطاء الله السكندري: ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، إن فتح لك باب الفهم في المنع عاد المنع عين العطاء، إنما يؤلمك المنع لعدم فهمك عن الله فيه، ربما فتح لك باب الطاعة وما فتح لك باب القبول، وربما قضى عليك بالذنب فكان سببًا في الوصول، معصية أورثت ذلًا وافتقارًا خير من طاعة أورثت عزًّا واستكبارًا (1).
قال الرازي: اعلم أنهم اختلفوا في اللطيف فقال بعضهم: المراد العالم، وقال آخرون: بل المراد من يكون فاعلًا للأشياء اللطيفة التي تخفى كيفية عملها على أكثر الفاعلين، ولهذا يقال: إن لطف الله بعباده عجيب ويراد به دقائق تدبيره لهم وفيهم، وهذا الوجه أقرب وإلا لكان ذكر الخبير بعده تكرارًا (2).
ألم تر أن السياق القرآني لاسم الله اللطيف جاء مقترنًا بصفة أخرى في أكثر من موضع وهي الخبير العليم، منها {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج: ٦٣]، فالله خبير عليم بأمورنا كلها، كبيرة وصغيرة، يرفق بالإنسان بمقتضى علمه وقدرته، فكم من أمرٍ استصعبناه وخِلناه محنة كبيرة، وضائقة عسيرة، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهَوا شَيْئًا وَهُوَ خَيرٌ لَكُم وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُم وَاللهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لَا تَعلَمُونَ} [البقرة: ٢١٦].
وبعد ذلك تبين أنه عين الخير، وأفضل السبل، ولولاه لقضت علينا أمنياتنا الأخرى، فلطف الله إما ظاهر نتبع الأمور تحليلًا ورؤية منظمة فندركه، وإما خفي لا ندركه لا بالتحليل ولا بالتنظيم؛ فالأمر خارج حساباتنا الإنسانية، وربما تظهر الحكمة بعد مدة وربما لا، المهم في الأمرين، سواء أدركنا لطف الله وحكمته بعقولنا أو لا، أن نحمد الله وندعوه؛ يقينًا منا أن قدر الله لنا نحن المؤمنين كله خير.
وفي سياقنا نحن الدنيوي، فإننا غارقون في لطف الله، والحكايات والقصص التي عاشها كل منا كثيرة متنوعة، أتذكر أنت كم مرة ضاقت بك السبل، وتقطعت بك الأسباب، وخِلت نفسك غارقًا لا مفر؟ ولكن لطف الله تدخل في اللحظة الأخيرة، وأنجاك من كل ما كنت تخشاه، في دراستك أو عملك، في أولادك وأهلك، في كل دقائق الحياة يغمرنا فضل لطف الله، ويجعل لوجودنا شكلًا آخر، ألا يستحق ذلك أن نشكر الله حق الشكر؟ ونعبده مخلصين، مقرين له بالكرم والفضل ظاهرًا وباطنًا؟
ومظاهر اللطف لا حصر لها، وعلى قدر دقة اللطف تكون دقة مأتاه وإحصائه، فهو اللطيف الذي إذا ناديته لبّاك، وإذا قصدته آواك، وإذا أحببته أدناك، وإذا أطعته كافاك وإذا أعطيته وأقرضته من فضله وماله الذي منحك عافاك، وإذا أعرضت عنه دعاك، فهو القائل: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» (3)، وكلها مظاهر لطف، وهو المنادى: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ} [النور: 31]، والرسول صلى الله عليه وسلم هو القائل: «أما والله لله أشد فرحًا بتوبة عبده، من الرجل براحلته» (4)، وإذا قربت من الله هداك (5).
فالله لطيف بعباده، سبحانه وتعالى هو القريب منهم؛ يغفر ذنوبهم ويتوب عليهم، وهو الذي تكفل بهم من غير عوض أو حاجة، فيسر أسبابهم، وقدر أرزاقهم، وهداهم لما يصلحهم، فنعمته عليهم سابغة، وحكمته فيهم بالغة، يحب عباده الموحدين، ويتقبل صالح أعمالهم، ويقربهم وينصرهم على عدوهم، ويعاملهم بعطف ورحمة وإحسان، ويدعو من خالفه إلى التوبة والإيمان، فهو الرفيق المحسن في خفاء وستر، يحاسب المؤمنين بفضله ورحمته، ويحاسب المخالفين بعدله وحكمته، ترغيبًا لهم في توحيده وعبادته، وحلمًا منه؛ ليدخلوا في طاعته.
فسبحان الله اللطيف بالبر والفاجر؛ حيث لم يقتلهم جوعًا بمعاصيهم، واللطيف بهم في أرزاقهم؛ حيث جعل رزق العبد من الطيبات، وقدَّر جميع رزقه، ولم يدفعه إليه مرة واحدة فيبذره، كما أن من لطفه أن يقدر لهم أرزاقهم بعلمه بمصلحتهم، لا بحسب مرادهم، فقد يريدون شيئًا وغيره أصلح، فيقدر لهم الأصلح وإن كرهوه؛ لطفًا بهم.
ولطفه سبحانه يدور على معنيين عظيمين يحتاجهما المؤمن، وهما: أن علمه سبحانه دقَّ ولطف حتى أدرك السرائر والضمائر والخفايا، والمعنى الثاني: أنه يوصل لعباده المؤمنين مصالحهم، ويدفع عنهم ما أهمهم من أخطارهم بطرق لا يشعرون بها ولا يتوقعونها، وكم في هذين المعنيين من طمأنينة لقلوب المؤمنين، وربط عليها، وتثبيت لها.
وفي المعنى الأول آيات عدة تدل على دقة علم الله تعالى؛ {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام: 102- 103].
وفي آية أخرى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 13- 14].
ذات ليلة تسلل النبي صلى الله عليه وسلم برفق من فراش عائشة رضي الله عنها لئلا يوقظها، أراد أن يستغفر لأهل البقيع بأمر من الله تعالى فلحقته عائشة متخفية تنظر ماذا يفعل، فلما انحرف راجعًا رجعت عائشة، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فسبقته إلى فراشها كأنها نائمة لكن أنفاسها من الهرولة عالية، فسألها ما بها، فلم تخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: «لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير»، فأخبرته وقالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله (6).
قال تعالى: {اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} [الشورى: 19]، لطيف أي: بالغ في اللطف والعلم وإيقاع الإحسان، {بِعِبَادِهِ} وقال ابن عباس: حق بهم، وقال عكرمة: بارّ بهم، وقال السدي: رفيق بهم، وقال القشيري: اللطيف: العالم بدقائق الأمور وغوامضها، وقال الرازي: هو اسم مركب من علم ورحمة ورفق خفي، أما لطفه بالمؤمنين فواضح، وأما الكافر فأقل لطفه به أنه لا يعاجله في الدنيا ولا يعذبه فوق ما يستحق في الأخرى، وقال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعًا بمعاصيهم بدليل قوله تعالى: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} أي: مهما شاء على سبيل من السعة والضيق أو التوسعة لا مانع له من شيء من ذلك، فكل من رزقه الله تعالى من مؤمن وكافر وذي روح فهو ممن يشاء الله تعالى أن يرزقه، قال جعفر الصادق: اللطف في الرزق من وجهين؛ أحدهما: أنه جعل رزقك من الطيبات والثاني: أنه لم يدفعه إليك مرة واحدة (7).
اعلم أن لطفه سبحانه بعباده لا ينحصر ولا ينفك عنه مخلوق، من ظن انفكاك لطف الله عن قدره فذلك لقصور نظره، فمِن لطفه سبحانه بخلقه: أنه أعطاهم فوق الكفاية، وكلَّفهم دون الطاقة.
ومِن لطفه سبحانه: تسهيله الأرزاق، وتيسير الارتفاق، فلو تفكّر الإنسان في اللقمة التي توضع بين يديه، ماذا عمل فيها من العوالم العلوية والسفلية لتحقق بغاية عجزه، وتيقن بوجود لطفه، وكذا ما يحتاج إليه من مشروب، وملبوس، ومطعوم.
ومن لطفه سبحانه: توفيق الطاعات، وتسهيل العبادات، وتيسير الموافقات.
ومن لطفه سبحانه: حفظ التوحيد في القلوب، واطلاعها على مكاشفة الغيوب، وصيانة العقائد عن الارتياب، وسلامة القلوب عن الاضطراب.
ومن لطفه سبحانه: إبهام العاقبة لئلا يتكلوا أو ييأسوا.
ومن لطفه سبحانه بالعبد: إخفاء أجله عليه لئلا يستوحش إن كان قد دنا أجله.
ومن لطفه سبحانه بخواصه: ستر عيوبهم، ومحو ذنوبهم، حتى وصلهم بما منه إليهم، لا بما منهم إليه، فكشف لهم عن أسرار ذاته، وأنوار صفاته، فشاهدوه جهرًا، وعبدوه شكرًا (8).
ومن لطف الله بعبده أن يجعل رزقه حلالًا في راحة وقناعة يحصل به المقصود ولا يشغله عما خلق له من العبادة والعلم والعمل؛ بل يعينه على ذلك، ويفرغه ويريح خاطره وأعضاءه، ولهذا من لطف الله تعالى لعبده أنه ربما طمحت نفسه لسبب من الأسباب الدنيوية التي يظن فيها إدراك بغيته فيعلم الله تعالى أنها تضره وتصده عما ينفعه فيحول بينه وبينها، فيظل العبد كارهًا، ولم يدر أن ربه قد لطف به حيث أبقى له الأمر النافع وصرف عنه الأمر الضار، ولهذا كان الرضى بالقضاء في مثل هذه الأشياء من أعلى المنازل.
ومن لطف الله بعبده إذا قدر له طاعة جليلة لا تنال إلا بأعوان أن يقدر له أعوانًا عليها ومساعدين على حملها، قال موسى عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)} [طه: 29- 35]، وكذلك امتن على عيسى بقوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111].
وامتن على سيد الخلق في قوله: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]، وهذا لطف لعبده خارج عن قدرته، ومن هذا لطف الله بالهادين إذا قيض الله من يهتدي بهداهم ويقبل إرشادهم، فتتضاعف بذلك الخيرات والأجور التي لا يدركها العبد بمجرد فعله؛ بل هي مشروطة بأمر خارجي.
ومن لطف الله بعبده أن يعطي عبده من الأولاد، والأموال، والأزواج ما به تقر عينه في الدنيا، ويحصل له السرور، ثم يبتليه ببعض ذلك ويأخذه، ويعوضه عليه الأجر العظيم إذا صبر واحتسب، فنعمة الله عليه بأخذه على هذا الوجه أعظم من نعمته عليه في وجوده وقضاء مجرد وطره الدنيوي منه، وهذا أيضًا خير وأجر خارج عن أحوال العبد بنفسه؛ بل هو لطف من الله له قيض له أسبابًا أعاضه عليها الثواب الجزيل والأجر الجميل.
ومن لطف الله بعبده أن يبتليه ببعض المصائب فيوفقه للقيام بوظيفة الصبر فيها؛ فينيله درجات عالية لا يدركها بعمله، وقد يشدد عليه الابتلاء بذلك، كما فعل بأيوب عليه السلام، ويوجد في قلبه حلاوة روح الرجاء وتأميل الرحمة وكشف الضر، فيخف ألمه وتنشط نفسه، ولهذا من لطف الله بالمؤمنين أن جعل في قلوبهم احتساب الأجر فخفت مصائبهم وهان ما يلقون من المشاق في حصول مرضاته.
ومن لطف الله بعبده المؤمن الضعيف أن يعافيه من أسباب الابتلاء التي تضعف إيمانه وتنقص إيقانه، كما أن من لطفه بالمؤمن القوي تهيئة أسباب الابتلاء والامتحان ويعينه عليها ويحملها عنه، ويزداد بذلك إيمانه ويعظم أجره، فسبحان اللطيف في ابتلائه وعافيته وعطائه ومنعه.
ومن لطف الله بعبده أن يسعى لكمال نفسه مع أقرب طريق يوصله إلى ذلك، مع وجود غيرها من الطرق التي تبعد عليه، فييسر عليه التعلم من كتاب أو معلم يكون حصول المقصود به أقرب وأسهل، وكذلك ييسره لعبادة يفعلها بحالة اليسر والسهولة وعدم التعويق عن غيرها مما ينفعه فهذا من اللطف.
ومن لطفه بعبده الحبيب عنده إذا مالت نفسه مع شهوات النفس الضارة، واسترسلت في ذلك أن ينقصها عليه ويكدرها، فلا يكاد يتناول منها شيئًا إلا مقرونًا بالمكدرات محشوًا بالغصص لئلا يميل معها كل الميل، كما أن من لطفه به أن يلذذ له التقربات ويحلي له الطاعات ليميل إليها كل الميل.
ومن لطيف لطف الله بعبده أن يأجره على أعمال لم يعملها؛ بل عزم عليها، فيعزم على قربة من القرب ثم تنحل عزيمته لسبب من الأسباب فلا يفعلها؛ فيحصل له أجرها، فانظر كيف لطف الله به فأوقعها في قلبه وأدارها في ضميره، وقد علم تعالى أنه لا يفعلها سوقًا لبره لعبده وإحسانه بكل طريق.
وألطف من ذلك أن يقيض لعبده طاعة أخرى غير التي عزم عليها هي أنفع له منها، فيدع العبد الطاعة التي ترضى ربه لطاعة أخرى هي أرضى لله منها؛ فتحصل له المفعولة بالفعل والمعزوم عليها بالنية، وإذا كان من يهاجر إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت قبل حصول مقصوده قد وقع أجره على الله، مع أن قطع الموت بغير اختياره، فكيف بمن قطعت عليه نيته الفاضلة طاعة قد عزم على فعلها، وربما أدار الله في ضمير عبده عدة طاعات كل طاعة لو انفردت لفعلها العبد لكمال رغبته، ولا يمكن فعل شيء منها إلا بتفويت الأخرى، فيوفقه للموازنة بينها وإيثار أفضلها فعلًا مع رجاء حصولها جميعها عزمًا ونية.
وألطف من هذا أن يقدر تعالى لعبده ويبتليه بوجود أسباب المعصية ويوفر له دواعيها وهو تعالى يعلم أنه لا يفعلها؛ ليكون تركه لتلك المعصية التي توفرت أسباب فعلها من أكبر الطاعات، كما لطف بيوسف عليه السلام في مراودة المرأة.
ومن لطف الله بعبده أن يفتح له بابًا من أبواب الخير لم يكن له على بال، وليس ذلك لقلة رغبته فيه؛ وإنما هو غفلة منه وذهول عن ذلك الطريق، فلم يشعر إلا وقد وجد في قلبه الداعي إليه، والملفت إليه ففرح بذلك، وعرف أنها من ألطاف سيده وطرقه التي قيض وصولها إليه، فصرف لها ضميره، ووجه إليها فكره، وأدرك منها ما شاء الله (9).
ومن لطفه سبحانه إيصال المصالح لعباده من حيث لا يشعرون ولا يتوقعون، فجاء في قصة يوسف عليه السلام، فإنه ألقي في الجب وهو مظنة الهلكة، ثم بيع عبدًا وهذا مظنة الاستمرار في العبودية، وقضاء العمر في خدمة من اشتروه، ثم اتهم بامرأة العزيز فسجن، وهذا مظنة البقاء في السجن إلى الموت؛ لقوة العزيز وتمكنه.
ولو نجا يوسف من بعضها لم ينج من جميعها؛ فجب ثم رق ثم سجن، ولكن ألطاف الله عز وجل على غير حسابات البشر؛ إذ جعل ابتلاءات يوسف عليه السلام هي السلم الذي يوصله للمجد والعلياء، والتمكين في الأرض؛ إذ برميه في الجب نقلته القافلة من مكانه في الصحراء إلى المدينة التي بها قصر الملك، وبيعه رقيقًا أوصله إلى بيت العزيز، وفتنة امرأة العزيز به أوصلته إلى السجن، وهو العتبة الأخيرة ليصل إلى الملك عن طريق تعبير رؤياه بعد أن عبر للسجينين رؤياهما.
يقول ابن القيم رحمه الله عن يوسف عليه السلام، وما جرى عليه من الأحداث: فكان ظاهر ما امتُحن به يوسف من مفارقة أبيه، وإلقائه في السجن، وبيعه رقيقًا، ثم مراودة التي هو في بيتها عن نفسه، وكذبها عليه، وسجنه، محنًا ومصائب، وباطنها نعمًا وفتحًا، جعلها الله سببًا لسعادته في الدنيا والآخرة (10).
وفي هذه السلسلة من الابتلاءات التي يكتنفها لطف الله تعالى ويحيط بها من كل جانب بلغ يوسف عليه السلام المنزلة، وجعل على خزائن الأرض، وجيء بأبويه وإخوته إليه، وبعد أن استعرض يوسف لأبيه ما جرى عليه ختم ذلك بما أخبر الله تعالى عنه أنه قال: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 100]، فجعل سبحانه ابتلاءات يوسف ممهدات لرفعة منزلته، وعلو مكانته، وذلك بلطفه سبحانه بحيث لم يشعر يوسف بذلك، ولا شعر به إخوته الذين مكروا به.
ويتجلى لطف الله تعالى أيضًا في رزق العباد، فهو سبحانه خلقهم ويرزقهم، ورزقه لعباده بما يحتسبون وما لا يحتسبون، وبما يظنون وما لا يظنون، وما لا يحتسبونه ولا يظنونه من رزق الله تعالى هو من لطفه سبحانه، قدره لهم من حيث لا يشعرون {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج: 63]، وفي آية أخرى {اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [الشورى: 19]، فرزقه سبحانه لعباده من لطفه بهم، وهو يجريه لهم أيضًا بلطفه عز وجل.
ولو كشف الغطاء عن ألطاف ربنا سبحانه بعباده وبره وصنعه لهم من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون لذابت قلوبهم حبًا له، وشوقًا إليه، ولخروا شكرًا له، ولكن حجب القلوب عن مشاهدة ذلك إخلادها إلى عالم الشهوات، والتعلق بالأسباب، فصدت عن كمال نعيمها، وذلك تقدير العزيز العليم.
وحين يتأمل المؤمن اتصاف الله تعالى باللطف فإنه يوقن بدقة علمه سبحانه، وإحاطته بكل شيء صغيرًا كان أم كبيرًا، فيدعوه ذلك لمراقبته عز وجل، ومحاسبة نفسه على كل قول وفعل.
ولطف الله تعالى بالعبد يحيط به في كل شؤونه وأحيانه، ويسعفه في كل مخاطره، ويؤمنه من كل مخاوفه، ولولا لطف اللطيف الخبير لامتلأت القلوب وحشة وخوفًا ورعبًا، ولما طابت بالحياة عيشًا.
ولطف الله تعالى عام وخاص؛ فالعام يشمل كل خلقه مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم؛ فهو سبحانه خلقهم ويرزقهم ويشفيهم ويعافيهم، ويدفع عنهم؛ لأنه سبحانه ربهم فهو لطيف بهم.
ولطف خاص بأهل الإيمان يحيطهم به، ولا يقدر لهم إلا ما هو خير لهم ولو كرهوه؛ لأنه عليم بما يصلحهم، خبير بما ينفعهم، فإذا أصابهم بما يحبون لطف بهم فرزقهم الشكر عليه ليتضاعف أجرهم، ويبارك لهم فيما رزقهم، وإن أصابهم بما يكرهون لطف بهم فأنزل عليهم الصبر والرضا ليوفوا أجرهم بغير حساب {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
وحري بالعباد أن يشكروه في النعماء، ويصبروا في الضراء، ولا يجزعوا في البلاء؛ فإن الله تعالى لطيف بعباده {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
حين يصيب الناس نقص في أرزاقهم، ويتكالب الأعداء عليهم بشتى مللهم، ويحيطون بهم من جميع جوانبهم، ويؤذونهم أشد الأذى في إخوانهم، ويرومون تبديل دينهم، ومسخ شريعتهم، ويهددونهم ويتوعدونهم، وحين يشتد الكرب، ويعظم الخطب، فإنه لا غنى لأهل الإيمان عن ملاحظة لطف الله تعالى في كل أمر يقع.
ومن لطفه جل وعلا بعبده أن يبتليه أحيانًا ببعض المصائب، ثم يوفقه للقيام بوظيفة الصبر فيها، حتى ينال رفيع الدرجات، ويكرم عبده بأن يوجد في قلبه حلاوة الرجاء، وانتظار الفرج، وكشف الضر، فيخف ألمه وتنشط نفسه، قال ابن القيم رحمه الله: فإن انتظاره ومطالعته وترقبه يخفف حمل المشقة، ولا سيما عند قوة الرجاء، أو القطع بالفرج، فإنه يجد في حشو البلاء من رَوح الفرج ونسيمه وراحته ما هو من خفي الألطاف، وما هو فرج مُعجَّل، وبه وبغيره يعرف معنى اسمه اللطيف (11).
فمن لطف الله تعالى انكشاف الأعداء وظهورهم على حقيقتهم، وتجلي آيات القرآن في الكفار والمنافقين وكأنها تتنزل هذه الأيام، والوعي بحقيقة الأعداء هو أول مراحل النصر.
ومن لطف الله تعالى ذهاب جميع الأسباب المادية إلا سبب الله تعالى، وانقطاع الحبال إلا حبله، فلا حول للعباد ولا قوة إلا به سبحانه في مقابلة بلائهم، ومواجهة أعدائهم، وهذا سبب لطيف من اللطيف الخبير يرجع الناس لدينهم، ويزيد في إيمانهم وعبادتهم.
وفيها أن الله تعالى بلطفه، وخفاء تقديره على البشر، قد يسوق الأعداء بمكرهم وكيدهم إلى هلاكهم ودمارهم من حيث لا يشعرون، كما قد مكر سبحانه بالمكذبين من الأمم السابقة لما مكروا بالرسل بالمؤمنين.
وما على أهل الإيمان إلا اللجوء لربهم سبحانه، ومراجعة دينهم، وتجديد توبتهم، وملاحظة لطف الله تعالى في كل ما يجري عليهم وعلى أمتهم، وسيبدل الله تعالى حالهم من حيث لا يشعرون، وما ذلك على الله بعزيز.
من مظاهر لطف الله في نزول الابتلاء:
١- أن الله لم يجعله دائمًا لكن رحمة الله ولطفه تتغشاك فسرعان ما يزول ويكون لك الأجر.
٢- أن الله قد أعطاك ومنحك الصبر مع الأجر فينزل البلاء بك وتصبر ولك الأجر.
٣- أن الله قد فتح لك أبواب الدعاء والرجاء والتضرع وكثرة الذكر والخيرات والبركات والبذل والصدقات.
٤- من لطف الله في هذا الوباء أن الله سخر لك من يقوم بك ويخفف عنك من المختصين والمهتمين وذوي الخبرات الكافية، فأرشدهم للرأي السديد وأخذ التدابير، وسخر لهم الإمكانيات والقدرات وأعانهم ووفقهم.
٥- ومن تمام لطف الله بك أن جعلك في معيته وإرادته فيخفف عنك ولك ما أعده لك من الخير والمثوبة والأجر العظيم.
٦- ومن اللطائف أن الله رزقنا الثبات والطمأنينة واليقين والصبر والحلم والرضا والتسليم بقضاء الله وقدره، وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وما أخطئنا لم يكن ليصيبنا.
٧- ومن لطف الله استشعارنا لعظمة الله وقدرته في كونه لتعلم من عظيم قلبك أن الله على كل شيء قدير.
٨- قف في الحقيقة على أبعاد نفسك دون تكلف، ولتعلم أن الله هو الذي خلق الداء وهو الذي يخلق الدواء ويسبب الأسباب ويخلق المسبب وجعل لكل شيء سببًا.
٩- ولتعلم أن الله لا يقضي لعباده إلا بما فيه رحمة وحكمة، فكم من اللطائف والرحمات الكثيرة، والحكم العديدة في هذا الوباء الذي ابتلى الله به عباده ليعرفهم به وليردهم إليه، فمن تعرف على الله في الرخاء عرفه في الشدة (12).
-----------
(1) الحكم العطائية، الحكمة الثامنة والسبعون.
(2) مفاتيح الغيب (30/ 590).
(3) أخرجه ابن حبان (811).
(4) أخرجه مسلم (2746).
(5) تفسير الشعراوي (6/ 3845).
(6) أخرجه مسلم (974).
(7) السراج المنير (3/ 535).
(8) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (5/ 208).
(9) تفسير أسماء الله الحسنى للسعدي (ص: 230- 233).
(10) شفاء العليل (ص: 34).
(11) مدارج السالكين (2/ 166).
(12) لطف الله عند البلاء والوباء/ شبكة المسلم.