logo

شبهات حول إقامة الحدود


بتاريخ : الخميس ، 23 صفر ، 1440 الموافق 01 نوفمبر 2018
بقلم : تيار الاصلاح
شبهات حول إقامة الحدود

الإسلام منظومة متكاملة للإصلاح، ورؤية متكاملة للكون والحياة والدنيا والآخرة، والحدود جزء من هذه المنظومة، ووسيلة من وسائل فاعليتها، تسبقها في هذه الرؤية الإصلاحية مقدمات كثيرة وأركان متعددة، ثم يأتي تطبيق الحدود كمرحلة أخيرة؛ ليتم هيكل هذه المنظومة، فليست الحدود إذن المقدمة، ولا الغالبة على الرؤية الإسلامية للإصلاح.

ولقد جاء الأمر بوجوب تطبيق الشريعة الإسلامية والعمل بها، وإنفاذها على الأمة فردًا وجماعة، لإعطاء الحقوق لأهلها، ونصوص الشريعة التي جاءت بذلك كثيرة جدًا؛ منها قول الله عز وجل: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]، ومن ذلك قول الله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، ومن ذلك قول الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]، ومن ذلك قول الله عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].

ونجد السنة المشرفة جاءت بمثل ذلك؛ أي بلزوم جادة الحق والصواب، والأخذ بما جاءت به الشريعة، ولزوم تطبيقه على الفرد والجماعة، ففي حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} [التوبة:31] قال: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه»(1)، فدل ذلك على أن اتباع غير شريعة الإسلام معناه اتخاذ غير الله عز وجل معبودًا وإلهًا، ودل على وجوب التزام شريعة الإسلام وإنفاذها، وتطبيقها على الفرد والجماعة، فإن المسلمين إذا التزموا بذلك سيكون خيرًا لهم في دينهم ودنياهم.

لكن يدعي بعض المشككين أن التشريع الجنائي في الإسلام ينطوي على وحشية وهمجية وقسوة، تهدر كرامة الإنسان، ومن ثَم فهو، في ظنهم، اعتداء على حقوق الإنسان، ومخالفة للمعايير التي تنادي بها المنظمات الدولية للحفاظ على الإنسان وحقوقه، ويهدفون من وراء ذلك إلى الطعن في كفاءة التشريع الإسلامي ومناسبته للإنسان.

ويغفل هؤلاء عن حقيقة هامة؛ أن الذي شرع هذه الحدود هو الله سبحانه وتعالى خالق البشرية، وهو أدرى بما يصلحهم وما يصلح لهم، ألا يعلمُ مَن خلق وهو اللطيف الخبير؟

أترى رب العزة يميل إلى القسوة على عباده، أم أنه بهم رءوف رحيم؟

والناس في الزمن الحاضر، وفي كل زمن، ينظرون نظرةً جزئية إلى مصلحة خاصة أو مصلحة عامة في فترة زمنية محدودة، ولو أنهم نظروا إلى مصلحةِ الفرد على المدى الطويل، وعلى مستوى المجتمع كله، أو على مستوى الجماعات والأمم لغيَّروا، ولكن الإنسان بطبيعة تكوينه قاصرٌ على أن يُحِيط بكل الزوايا التي تفيد المجتمع والفرد، وخالقُ البشر هو وحده الذي يحيط بكل ذلك، وهو المنَزَّه عن كل نقص أو قصور، كما أنه المنَزَّه عن أن يكون له غرض خاص أو مصلحة خاصة.

ومع هذا، فإن المجرِم في المجتمعات التي لا تطبق شرع الله ينال عقوباتٍ أقسى مما يناله في ظل الحدود الإسلامية؛ إذ إن المجتمع يقف أمام المعتدي محاولًا أن يمنعه من جريمته؛ وبالتالي فإن المجرم يستخدم ذكاءه، ويستخدم القوة في صورةٍ أقسى ضد المجتمع، فينال المجرمُ من صراعه مع المجتمع أضعافَ العقوبة الإلهية، ويلاقي المجتمعُ الذي لم يَسِرْ على منهج الله تعالى ألوانًا من المتاعب الجسمية والنفسية، إلى جانب أعداد من الضحايا، وفقدان الأمن والاطمئنان(2).

ولقد أثار أعداء الإسلام كثيرًا من الشبهات حول الحدود الشرعية، فمن تلك الشُّبَه:

الشبهة الأولى: قالوا: إن إقامة الحدود فيه ضرب من القسوة التي تتنافى مع الإنسانية الرحيمة، التي تساير المدنية الحديثة والحضارة الراقية.

وجوه إبطال الشبهة:

أولًا: أن العقوبة ليست مكافأة على عمل مبرور، وإنما هي جزاء مقرر على ارتكاب جريمة، يقصد به الإيلام والردع، وإذا لم تكن العقوبة مؤلمة فليس لتطبيقها أي أثر في الزجر والردع، حتى تأديب الرجل ولده؛ لا بد أن يكون فيه شيء من الإيلام والقسوة، ليتأتى تأديبه وإصلاحه.

ولا شك أن الإنسان يتمنى ألا توجد في المجتمع جريمة أبدًا؛ حتى لا توجد عقوبات أصلًا؛ بحيث يفهم كل فرد ما له فيقتصر عليه، وما عليه فيؤديه عن طواعية واختيار، ولكن هذا حلم لا يمكن أن يتحقق، ورغبة خيالية تصطدم بالواقع المعاش، فهناك نفوس جاهلة حمقاء لا تلتزم بما لها وما عليها، ونفوس شريرة ظالمة قد تأصّل فيها الإجرام والإفساد، وسعت للإضرار بالآخرين وبخسهم حقوقهم.

والحياة لا يمكن أن تستقيم وتنتظم إلا بالالتزام، واحترام حقوق الآخرين، وعدم المضارة بهم، فمن خرج عن هذا الالتزام، وسعى للإضرار بنفسه وبغيره، كان ردعه واجبًا عقلًا وشرعًا، ولا ردع إلا بقسوة وإيلام، واسم العقوبة مشتق من العقاب، ولا يكون العقاب عقابًا إذا كان موسومًا بالرخاوة والضعف.

فعنصر القسوة، إذًا، يمثل الركن الأساسي لمعنى العقوبة، فلو فُقدت القسوة فُقدت معها العقوبة بدون شك.

وإن الذي يحدد هذه الدرجة هو تصور مدى خطورة الجريمة التي استلزمتها؛ أي أن القسوة يجب أن تكون ملائمة للجريمة، فتزيد بزيادة خطورتها وشدة آثارها، وتنقص بنقص ذلك.

فإذا كان في الناس من يصف العقوبات الشرعية بقسوة زائدة على مقتضى هذه القاعدة، التي لا خلاف فيها؛ فسبب ذلك أنهم يخطئون في تقويم خطورة الجرائم التي رتبت عليها هذه العقوبات، دون أن يعتبروا في ذلك نظرة المشرِّع لها وتقويمه لخطورتها، والحكمة في تغليظ العقوبات الشرعية التي توصف بالوحشية والهمجية، من قتل القاتل، ورجم الزاني، وقطع السارق، وغيرها من العقوبات المقدرة ظاهرة جلية، فإن هذه الجرائم هي أمهات المفاسد، وكل واحدة منها تتضمن اعتداءً على واحدة أو أكثر من المصالح الخمس الكبرى، والتي أجمعت الشرائع والعقلاء في كل زمان على وجوب حفظها وصيانتها؛ لأنها لا يمكن أن تستقيم الحياة بدونها.

ثانيًا: أن هؤلاء الطاعنين في هذه العقوبات قد اعتبروا مصلحة المجرم، ونسوا مصلحة المجتمع، وأشفقوا على الجاني وأهملوا الضحية، واستكثروا العقوبة وغفلوا عن قسوة الجريمة، ولو أنهم قرنوا العقوبة بالجريمة، ولاحظوا الاثنتين معًا؛ لخرجوا موقنين بالعدالة في العقوبات الشرعية، ومساواتها لجرائمها.

فإذا استحضرنا مثلًا فعل السارق وهو يسير في جنح الظلام متخفيًا، ينقب الجدار، ويكسر القفل، ويُشهر السلاح، ويروّع الآمنين، هاتكًا حرمة البيوت، وعازمًا على قتل من يقاومه، وكثيرًا ما تقع جريمة القتل كوسيلة يتذرع بها السارق إلى إتمام سرقته، أو الفرار من تبعاتها فيقتل من غير تمييز.

وإذا تصورنا حالة النساء والأطفال في البيت وهم يستيقظون ويفتحون أعينهم على وجه السارق المرعب الشرس، وهو شاهر سلاحه يهدد من يواجهه.

وتصورنا ما يُحدثه فعل السارق من قلق عند الناس جميعًا، وتعطيل لحركتهم، وبث للرعب في نفوسهم، وإذهاب لطاقاتهم في حماية أموالهم، وتأمينها بالمغاليق والأقفال؛ لأن السارق يبغي المال، وهو موجود عندهم جميعًا، فهم معرضون لإجرامه دون تمييز.

وهكذا الشأن في بقية العقوبات، علينا أن نستحضر جرائمها، وما فيها من أخطار وأضرار، وظلم واعتداء، حتى نستيقن أن الله تعالى قد شرع لكل جريمة ما يناسبها، وجعل الجزاء من جنس العمل، وما ربك بظلام للعبيد.

ثالثًا: أن الله تعالى أراد للناس أن يعيشوا آمنين مطمئنين، ولن يتيسر لهم ذلك إلا ببتر الفاسدين وقطع دابرهم، وهذه سنة الله في خلقه؛ فإن الإنسان إذا كان فيه عضو فاسد، لا علاج له إلا بقطعه كله أو بعضه، فلا مناص من الإقدام على ذلك.

ولكنها قسوة هي عين الحكمة والرحمة والمصلحة، وبخاصة إذا قيست بما يترتب على تركها من هلاك وتلف، وما ينشأ عنها من آلام وأوجاع تفوق مصلحة بقائها، والمجتمع هو الجسم كله، وما الفرد الفاسد إلا عضو من أعضائه.

رابعًا: أن الإسلام قبل أن يستأصل هؤلاء المجرمين، ويقرر عليهم العقوبات الرادعة؛ قد أعذر إليهم، حيث قدم لهم من وسائل التربية والوقاية ما كان يكفي لإبعادهم عن الجريمة التي اقترفوها؛ لو كانت لهم قلوب تعقل، أو نفوس ترحم.

ثم إنه لا يطبقها أبدًا حتى يضمن أن الفرد الذي ارتكب الجريمة قد ارتكبها دون مسوّغ ولا شبهة اضطرار، فوقوعه فيها بعد كل هذا دليل على فساده وشذوذه، واستحقاقه للعقوبات الرادعة المؤلمة.

كما أنها تكفل أفرادها بفتح أبواب العمل الكريم لمن يستطيعه، وتمكين كل قادر من أن يعمل بمقدار طاقته، وتهيئة الفرص المتساوية للجميع.

وبذلك يمنع الإسلام الدوافع المعقولة للسرقة، فإن وقعت بعد ذلك فإنه يتحقق من ثبوتها، وانتفاء موانعها، وعدم وجود شبهة تسقطها، كأن يرتكبها بدافع الحاجة والاضطرار(3).

وهكذا شأن الإسلام في بقية العقوبات، يعمل على وقاية المجتمع أولًا من دوافع الجريمة، ثم يدرأ الحدود بالشبهات زيادة في الاحتياط.

خامسًا: أن الغاية الكبرى من هذه العقوبات هو التخويف والردع الذي يمنع وقوعها ابتداءً، ولا يُحْوِج إلى اللجوء إليها إلا في أضيق الحدود، فإن هؤلاء الذين يشنعون بهذه العقوبات يتصورون، خطأً، أنها كالعقوبات الوضعية، ستطبق كل يوم، وعلى أعداد غفيرة من الناس، فيتصورون، في المجتمع الإسلامي، مجزرة هائلة؛ هذا يُجلَد، وهذا يُقطع، وهذا يُرجم.

ولكن الواقع أن هذه العقوبات الرادعة لا تكاد تُنَفذ إلا في نطاق محدود، وعلى أعداد يسيرة غارقة في الفساد، ومتأصلة في الشر والإفساد، وفي إيذاء الأُمة، وزعزعة أمنها واستقرارها.

لقد أعلنت الشريعة الإسلامية أن الحدود تُدرأ بالشبهات، وهي قاعدة فقهية كبرى، أجمع على الأخذ بها جماهير الأئمة والفقهاء.

ومعنى القاعدة: أن أي احتمال لعدم تكامل شروط إقامة الحد يطوف بالمُتَّهم، أو بالظرف الذي تمت فيه الجريمة، يُسقط الحد ويلغي ثبوته، وعلى الحاكم أن يستعيض عنه بما يراه من أنواع العقوبات التعزيرية الأخرى.

وإننا لنتأمل فنجد أن هذه الاحتمالات كثيرة متنوعة لا تكاد تتناهى؛ وننظر فنجد لها التطبيقات الكثيرة والمختلفة في عهد الصحابة والتابعين، كما نجد لها التطبيقات المتنوعة في تخريجات الفقهاء وفتاواهم(4).

الشبهة الثانية: أن العقوبات الشرعية تهمل شخصية المجرم وتأثير البيئة فيه: فهي لا تتفق مع النظرية الحديثة في تحليل نفسية المجرم، وأنه مريض النفس، منحرف المزاج، متأثر بما حوله؛ بل هو ضحية من ضحايا المجتمع، والذي يُعدّ مشتركًا معه، لسبب أو لآخر، فيما أقدم عليه، فكان من العدالة أن يتقاسم معه المسئولية، وأن يعمل على علاجه لا عقابه(5).

دحض هذه الشبهة:

الوجه الأول: أن الظروف المحيطة بالفرد ذات أثر بعيد في تكوينه، والعقد النفسية والأمراض العصبية تدفع أحيانًا إلى الجريمة، ولكن الإنسان مع ذلك ليس كائنًا سلبيًا بحتًا بإزاء هذه الظروف.

إن عيب المحللين النفسيين أنهم، بطبيعة علمهم، ينظرون إلى الطاقة المحركة في الإنسان، وإلى الغرائز الكامنة في ذاته، والتي تدفعه إلى إشباعها والاستجابة لها، ولكنهم لا ينظرون إلى الطاقة الضابطة له، وإلى قدراته العقلية التي كان من المفترض أن تعقله عن الإقدام على ارتكاب الجريمة، والاستجابة المطلقة لهذه الغرائز الدافعة.

إنهم، كما قال محمد قطب، ينظرون إلى الطاقة المحركة، إلى (الدينامو)، ولا ينظرون إلى الطاقة الضابطة، إلى (الفرامل)، مع أنها جزء أصيل من كيان النفس البشرية غير مفروض عليها من الخارج.

إن الطاقة التي تجعل الطفل يضبط إفرازاته فلا يتبول في فراشه بعد سنٍّ معينة، حتى لو لم يدر به أحد؛ لهي ذاتها، أو شبيهة بها، الطاقة التي تضبط انفعالاته وتصرفاته، فلا ينساق دائمًا وراء الشهوة الجامحة، أو وراء النزوة الطارئة.

ولأجل هذا أسقط الإسلام الحدود والقصاص عن الصبيان والمجانين، فلا تقام إلا على من كان بالغًا عاقلًا.

فما دام المجرم بالغًا عاقلًا مختارًا فإن أحواله النفسية وبيئته وثقافته لا تصلح مسوِّغًا لارتكاب الجرائم، والاعتداء على الآخرين.

كما أن هذه الأمور عائمة لا تقوم على أساس متين، ولا يضبطها ضابط معين، ولا حدود تنتهي إليها؛ مما يؤدي إلى إفلات المجرمين من العقاب الرادع، ومن ثم كثرة الجرائم، وانتشار الفوضى، وزعزعة الأمن والاستقرار.

الوجه الثاني: أن الشريعة الإسلامية إذْ ترسم أحكامها لمعاقبة الجانحين والمجرمين، لا تنطلق في ذلك من حصر المسئولية فيهم، وتحميلهم وحدهم عاقبة ما أقدموا عليه؛ بل هي تجعل المجتمع مسئولًا في بعض الحالات عن هذه الجرائم التي ارتكبوها، وقاعدة درء الحدود بالشبهات أبلغ تجسيد لهذه الحقيقة، وأوضح برهان عليها.

الوجه الثالث: أن رغبة المعترضين في جعل العقاب كالعلاج للمريض متحققة في العقوبات الشرعية، التي هي مبنية على أساس الرحمة بالمجرم والمجتمع.

ولكن هؤلاء فاتهم أن العلاج لا يُشترط فيه أن يكون لذيذًا تشتهيه النفس، فقد يكون كريهًا مُرًّا، وقد يتضمن إسالة الدماء وقطع الأعضاء، وهو في جميع هذه الصور يبقى علاجًا موصوفًا بالرحمة في حق المريض، خاليًا من الانتقام منه.

كما فات هؤلاء أن العقوبات شُرعت لوقاية المجتمع وتطهيره من جراثيم الأمراض، والأعضاء الفاسدة التي سرت فيها الأمراض المزمنة والمعدية، وغفلوا أو نسوا أن التغاضي عن هذه الأعضاء الفاسدة، والتسامح معها، رغبة في صلاحها وصحتها، سينتج عنه تفاقم المرض واستفحاله، وانتشاره في سائر الجسم، فلم يستصح العضو ولم يسلم الجسم.

وهذا هو الشأن في العقوبات، فقد شُرعت لتكون علاجًا لمن لا يجدي معهم علاج الوعظ والتذكير والإنذار.

إن الشرع الإسلامي ليس متلهفًا على إقامة الحدود، من رجم وجلد وقطع، وليست هذه غايته، ولا وَكْده الأساسي، وإنما هي وسيلة ولبنة في رؤيته المتكاملة للإصلاح، وبرنامجه الرباني لإدارة الحياة، وتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة.

إن كل عقوبة لا بد أن يكون فيها مظهر قسوة أيًا كانت، حتى ضَرْب الرجل لولده تهذيبًا وتأديبًا له فيه نوع من القسوة؛ لأن العقوبة إن لم تشتمل على القسوة فأي أثر لها في الزجر والردع، كما قال الشاعر:

فقسا ليزدجروا ومن يك حازمًا       فليَقْسُ أحيانًا على من يرحم

ثم إن الفعل الذي دعا إلى تلك القسوة المزعومة هو أمر أشدُّ منها قسوة، ولو تركنا العقوبة القاسية بزعمهم لوقعنا في أمر أقسى من العقوبة.

ومثل القسوة التي تشتمل عليها الحدود كمثل الطبيب الذي يستأصل من جسم أخيه الإنسان جزءًا من أجزائه أو عضوًا من أعضائه، أليس في ذلك قسوة؟! وهل يستطيع أن يمارس هذا العمل إلا قلب قوي؟! ولكنها قسوة هي الرحمة بعينها، خاصة إذا قيست بما يترتب على تركها وبقاء العضو المريض، ونار الألم تتوهج وتستشري وتتزايد في جسم المريض.

نحن لا ننكر أن هذه العقوبة من الشدة بمكان، لكن أرأيت كيف أحاطها الشرع الإسلامي بما يجعلها وقائية ردعية أكثر منها عقوبة حقيقية؟ فقد تطلب لإثبات الزنا أربعة شهود عدول، يقرون أنهم رأوا الفعل رأي العين في تفصيل لا نستطيع الخوض فيه؛ مما يجعل إثباته أمرًا صعبًا، وزاد على هذا بأن أحدًا لو اتهم اثنين بوقوع هذه الجريمة منهما، طالبته الحكومة بإحضار أربعة شهود عدول، فإن عجز عن إحضارهم عُد قاذفًا وجُلِد ثمانين جلدة، وقد أوصى الشارع الرحيم بقبول أوهى المعاذير في دفع هذه التهمة؛ ميلًا منه سبحانه وتعالى للعفو عنا لا تعذيبها.

ولا بد لنا من التنويه هنا بحال الشهود؛ فإن القضاء الإسلامي لا يقبل، وبخاصة في الحدود، شهادة شهود يجمعهم المتقاضون من هنا وهناك؛ بل يشترط فيهم أن يكونوا من أهل العدالة، وفي حادثة الشهادة الآتية بيان لما يجب أن يكون عليه الشاهد في الإسلام من الصفات، وبما كان عليه هذا الأمر عند أسلافنا الأولين من الخطورة.

عن سعيد بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما قال: كان بين أبياتنا رويجل مخدج ضعيف، فلم يرع إلا وهو على أمة من إماء الدار يخبث بها، فرفع شأنه سعد بن عبادة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اجلدوه ضرب مائة سوط»، قالوا: يا نبي الله، هو أضعف من ذلك، لو ضربناه مائة سوط مات، فقال صلى الله عليه وسلم: «فخذوا له عثكالًا فيه مائة شمراخ، فاضربوه ضربة واحدة»(6).

الشبهة الثالثة: قالوا: إن إقامة الحدِّ تقتضي إزهاقًا للأرواح وتقطيعًا للأطراف، وبذلك تفقد البشرية كثيرًا من الطاقات والقوى، وينتشر فيها المشوَّهون والمقطَّعون الذين كانوا يسهمون في الإنتاج والعمل.

الجواب: إن اسم العقوبة مشتق من العقاب، ولا يكون العقاب عقابًا إذا كان موسومًا بالرخاوة والضعف؛ بل يكون لعبًا أو عبثًا أو شيئًا قريبًا من هذا، فالقسوة لا بد أن تتمثل في العقوبة؛ حتى يصح تسميتها بهذا الاسم.

إن القتل وتقطيع الأطراف في الحدود إنما يكون في حالات ضيِّقة محصورة، وهو إزهاق لنفوس شريرة لا تعمل ولا تنتج؛ بل إنها تعطِّل العمل والإنتاج، وتضيِّع على العاملين المنتجين ثمرات أعمالهم وإنتاجهم.

ثم إن إزهاق روح واحدة أو قطع طرف واحد في الحدود يؤدِّي إلى حفظ مئات الأرواح وآلاف الأطراف سليمة طاهرة عاملة منتجة، ثم إننا لا نلاحظ المشوَّهين يكثرون في البلاد التي تقيم الحدود؛ بل يكونون فيها أقل منهم في غيرها؛ بل الأمر بالعكس من ذلك تمامًا؛ فإن الحدود إذا لم تُقم على المجرمين المعتدين كثر المشوَّهون والمعاقون من جراء اعتداءات المجرمين الذين يجدون متنفَّسًا وسندًا عند من ينظر إليهم نظرة العطف والرحمة والحنان، وبذلك تضيع حقوق المعتدى عليهم، وتُهدر كرامتهم، وليس بعد ذلك للمجرمين حدٌّ ينتهون إليه.

المجتمع الذي لا تطبق فيه الحدود الشرعية مجتمع محكوم عليه بالضياع، وأفراده إما عصاة متمردون على أوامر ربهم، أو خائنون لا يأمرون بخير، ولا ينهون عن منكر؛ ومجتمع من هذين العنصرين لا يرجى له فلاح، ولا يتحقق له احترام.

ويتصف المجتمع الذي تقام فيه الحدود بالعفة في القول، والأمانة في المعاملة، واستنكار الفاحشة، والبعد عنها، والرغبة في الاستمتاع بما أحل الله، واجتناب ما حرم الله.

والمجتمع الذي تقام به الحدود الشرعية بمثابة واحة وارفة الظلال، آمنة الحياة، رغيدة العيش، متآلفة، متآخية، بينما نجد البلد الذي لا تقام فيه الحدود على عكس هذا المجتمع تمامًا.

الشبهة الرابعة: إن في إقامة الحدود سلبًا لحق الحياة، وهو حقٌّ مقدَّس لا يجوز لأحد أن يسلبه، فكيف يسوغ لحاكم أن يسلب محكومًا حقَّ الحياة؟!

دحض الشبهة: إن الله سبحانه وتعالى الذي شرع الحدود في الشريعة الإلهية أرحم بعباده وبالناس جميعًا من أنفسهم، وهو أدرى وأعلم بما يصلحهم وينفعهم، ويحقق الأمن والخير لهم.

إن العقوبات البديلة عن الحدود الشرعية في القوانين الوضعية لم تحقق الهدف المطلوب، فانتشرت ظاهرة الجريمة، وكثر المجرمون، وتفننوا في ابتكار عجائب الإجرام وألوانه بما لا يكاد يصدق به عقل.

إن الشارع الحكيم الذي منح حقَّ الحياة وقدَّسه، وجعل الدماء والأموال والأعراض محرَّمة بين الناس - هو الذي أكَّد ذلك التقديس والاحترام بإقامة الحدود، والمحدود الذي استحق الرجم أو القتل هو الذي جنى على نفسه لأنه لم يحترم حق غيره، وعلى نفسها جنت براقش، ولو أنه احترم حق الحياة في غيره لحفظ له حق الحياة في نفسه، وقد قرر الله تعالى في كتبه السابقة وفي القرآن الكريم: {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا...} الآية [المائدة:32].

فالمعتدي على حق الحياة في غيره يُعدُّ معتديًا على حق الحياة في نفسه.

ولقد أخطأ دعاة حقوق الإنسان حينما رأوا أن تطبيق العقوبة الشرعية، بشروطها وضوابطها وموازينها العادلة، يتنافى مع حقوق الإنسان، كما أخطئوا في محاولة الرأفة بشخص معين لذاته، وليس هو في الواقع أهلًا للرأفة، وأي نفع في مراعاة المصلحة الشخصية وإهدار مصلحة الجماعة، والاعتداء على المصلحة العامة؛ وما يؤدي إليه من فقدان الأمن والاستقرار، وانتشار ظاهرة القلق والخوف، وعدم الاطمئنان على الحياة، وحق الجماعة المقدس في حفظ العقائد، والأعراض والأنفس، والعقول والأموال من أي اعتداء عليها؟!

ومن ثَم فالعقوبات الشرعية أدوات فعالة للقضاء على الجريمة والمجرمين، ونشر الأمن والاستقرار في المجتمع، والواقع الأليم مُر في أرقى دول العالم تحضرًا؛ كأمريكا وبريطانيا؛ حيث تزداد نسبة الإجرام، وقد قال سبحانه وتعالى: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)} [الأنعام:155](7).

الشبهة الخامسة: قالوا: إن إقامة الحدود تقهقرٌ بالإنسانية الراقية، وانتكاس بها، ورجعة إلى عهود الظلام الدامس والقرون الوسطى.

دحض هذه الشبهة:

1– أن العاقل المنصف لا يزن الأحكام والتشريعات بالزمان الذي صدرت فيه أو نُقلت منه، ولكن الميزان الذي تُقَوّم به هو مدى صلاحيتها، وتحقيقها للغاية المبتغاة منها، وعليه؛ فليس كل قديم مردودًا، ولا كل جديد مقبولًا، ولا كل ما نشأ في البادية فاسدًا، ولا كل ما نشأ في الحضر صالحًا.

2- أنَّ مصدر هذا التشريع ليس بقعة من بقاع الأرض، ولا اجتهادًا بشريًا قاصرًا، وإنما هو شريعة الله التي أنزلها هدى ورحمة للعالمين؛ عربهم وعجمهم، باديهم وحاضرهم، أولهم وآخرهم، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28]، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158].

3- أنَّ تعلق هؤلاء بالجديد ونبذهم للقديم ليس مبنيًا على منطق عقلي سليم، وإنما هو استجابة لوهم من الأوهام النفسية التي تتعلق بالجديد، أيًا كان نوعه؛ ظنًا منها بأنه لا يزال يحتفظ بذخره ومكنون خيراته، وتعاف القديم، مهما كان نوعه أيضًا؛ لتبرمها به، وتوهمها بأن الزمن قد استحلب خيراته، وقضى على فوائده، وأن العقل البشري لا بد أن يكون قد تجاوزه إلى ما هو أجدى وأنفع.

4- أن هذه الشبهة جاءت من قياس العقوبات الشرعية على العقوبات الوضعية التي تتطور مع الزمن، ويحصل فيها التغيير والتبديل بين الحين والحين، تلافيًا لما فيها من الأخطاء، وتحقيقًا لما هو أجدى وأكمل.

وما دامت القوانين تُلغى أو تُعدل فلِم لا نفعل مثل ذلك في العقوبات الشرعية؟ وهذه نظرة خاطئة إلى الشريعة الإسلامية.

5- أن تحقيق هذه العقوبات الشرعية للأمن، وحمايتها لمصالح الناس، ومكافحتها للجرائم، على مدى القرون الماضية التي طبقت فيها، مع اختلاف البيئات والثقافات والأجناس - دليل على أنها تشريع من حكيم خبير، وأنه لا يمكن أن يقوم غيرها مقامها، ولا أن يحقق الثمرة التي تتحقق من خلالها(8).

أيهما أقسى: قطع يد السارق، وتركه بعد ذلك يتمتع بحريته، ويعيش بين أهله وولده، أم حبسه على هذا الوجه الذي يسلبه حريته وكرامته وإنسانيته؟! فضلًا عن أن وضعه في السجن، تنفيذًا للعقوبة السالبة للحرية طوال المدة المحكوم بها، محرومًا من حريته، بعيدًا عن أهله وذويه، يكون كالحيوان الذي يوضع في قفص، أو كالميت في قبره(9).

إن هؤلاء يركزون النظر على شدة العقوبة، ويتناسون فظاعة الجريمة، وآثارها الخطيرة على المجتمع؛ إنهم يتباكون على يد سارق أثيم تقطع، ولا تهمهم جريمة السرقة، ومضاعفاتها الخطيرة، فكم من جرائم ارتكبت في سبيل السرقة! وكم من جرائم اعتداء على الأشخاص وإحداث عاهات جسام وقعت على الأبرياء بسبب السرقة، وكم من أموال اغتصبت، وثروات سلبت، وناس تشردوا بسبب السطو على أموالهم، ومصدر رزقهم! كل ذلك لم يخطر ببال المشفقين على أيد قليلة تقطع في سبيل أمن المجموع واستقراره.

كما أن الجرائم الخطيرة لا يفلح في صدها ومقاومة أخطارها إلا عقوبات شديدة فعالة، والعقاب الناجع هو الذي ينتصر على الجريمة، وليس ذلك الذي تنتصر عليه الجريمة.

يقول الشيخ الغزالي: «إن الجرأة على الحدود التي شرع الله لعباده جزء من تملق المدنية العصرية، وقوانينها المحدثة، وأوروبا لن تطرب لكلام أجمل في أذنيها نغمًا من انسلاخ المسلمين عن دينهم، عقيدة وشريعة، ثم إن أمر العقيدة والشريعة سواء.

والعقل المدخول الذي يريد منا أن نتأول نصوص الفقه التشريعي، في الحدود والقصاص والمعاملات، سوف يطلب منا غدًا أن نتأول كذلك نصوص الإسلام الأخرى في الصلاة والزكاة والحج، فليست هذه أَوْلى من تلك بوقف التنفيذ؛ بل إذا سرنا على منطق التعطيل فإن العبادات ستسبق المعاملات إلى أودية الفناء»(10).

***

_______________

(1) أخرجه الترمذي (3095).

(2) شبهة: قسوة الحدود الإسلامية، شبكة الألوكة.

(3) دحض الشبهات التي تثار حول العقوبات الشرعية، مجلة البيان (العدد:193).

(4) طريق العودة إلى الإسلام، محمد البوطي.

(5) دحض الشبهات التي تثار حول العقوبات الشرعية، مجلة البيان (العدد:193).

(6) أخرجه أحمد (21985).

(7) ادعاء وحشية التشريع الجنائي في الإسلام، موقع: بيان الإسلام.

(8) دحض الشبهات التي تثار حول العقوبات الشرعية، مجلة البيان (العدد:193).

(9) التشريع الجنائي الإسلامي، ص655.

(10) من هنا نعلم، ص25-26.