القيم الأخلاقية في الهجرة النبوية
أظلنا العام الهجري الجديد، ويعيد المسلم النظر إلى تاريخ الهجرة النبوية الأولى على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وما ارتسمت بها من معان أخلاقية تحتاجها الأمة الإسلامية اليوم، من ذلك: التضحية، الإيثار، الإخاء.. وما انبثق بعد الاستقرار في المدينة من مبادرات مختلفة من المؤمنين، دروس أخلاقية نبيلة نتعلمها من الجيل الأول في هجرتهم سواء قبل الهجرة أو أثناءها أو بعدها.
وحين قال عليه الصلاة والسلام: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» (1)، فإن الظاهر منه أن الهجرة توقفت إلى الأبد مع بقاء الجهاد.
قال الخطابي وغيره: كانت الهجرة فرضًا في أول الإسلام على من أسلم؛ لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع، فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجًا، فسقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو، انتهى.
وكانت الحكمة أيضًا في وجوب الهجرة على من أسلم ليسلم من أذى ذويه من الكفار، فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه، وفيهم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] الآية، وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر وقدر على الخروج منها، وقد روى النسائي من طريق بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده مرفوعًا: « لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعدما أسلم عملًا، أو يفارق المشركين إلى المسلمين» (2)، ولأبي داود من حديث سمرة مرفوعًا: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» (3)، وهذا محمول على من لم يأمن على دينه (4).
وحيال ذلك اجتهد العلماء، هل المقصود هنا الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة من بلاد الكفر؟ أم كان جوابًا على شكاية بعض الأعراب من شدة حمى المدينة ولأوائها؟ أم كانت الهجرة فرضًا في بداية الإسلام لهدف اجتماع المسلمين في مكان واحد، وإقامة الدولة الإسلامية؟ هذه التساؤلات واردة لكن قوله: «ولكن جهاد ونية»، استثنى من الهجرة الجهاد، لأن الهجرة من بلاد المنبت والمولد إلى بلاد الغربة فيها كلفة وتعب وبذل المهج، وهي نوع من الجهاد في التعريف المختار.
والهجرة التي نفاها الحديث هنا الهجرة المخصوصة التي كانت من مكة المكرمة قبل الفتح، لأن مكة حين فتحت صارت بلاد الإسلام، لا تجوز الهجرة منها بعد ذلك، ولا ينسحب هذا الحكم على جميع الأحوال، ما لم يتحد السبب، فإن الهجرة من بلاد الكفر تبقى واجبة شرعًا حين لا يتمكن المسلم من القيام بأمور دينه، وتكون العبرة هنا بالأمن في الدين والنفس، والحديث إذًا في هذا الإطار محكم لأنه وردت معه أسباب، ومتى ارتفعت هذه الأسباب رجع الحكم إلى الأصل.
إن بقاء الهجرة وهي نوع من الجهاد يجرنا إلى دراسة نماذج أخلاقية من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصطحابها معنا في حياتنا اليومية، نبذل قصارى جهدنا في تعلمها وتطبيقها وتعليمها لكل من حولنا.
إن الهجرة النبوية غيرت مجرى تاريخ الدعوة الإسلامية، من مرحلة الضعف حين كانت يد الأعداء من مشركي قريش وغيرهم تناوش دعوة الإسلام، إلى مرحلة التمكين وتأسيس دولة الإيمان والعقيدة، واستقرت بذلك تعاليم ديننا بعقائده وشرائعه وأخلاقياته، ولكن الشيء الذي يجب على كل واحد منا أن يسأل نفسه ماذا يمكن أن نتعلم من هذه الحادثة التاريخية؟
نتعلم من هذه الهجرة جوانب أخلاقية رائعة، من ذلك التضحية، حين ترك الناس أهاليهم وأموالهم وأوطانهم في الله، لإعلاء كلمة الله، والرغبة في نيل مرضاة الله، محفزات عبدت طريق الهجرة على الصحابة، صهيب الرومي مثلًا يتخلى عن أمواله لقريش ليفسح المجال أمامه للهجرة، وأم المؤمنين أم سلمة يفرق بينها وبين زوجها أبي سلمة، وابنها من أجل الهجرة.
إن المعالي لا تنال بالأماني، وأن الدعوات لا تقوم إلا على ألوان البذل والتضحيات، وأشرف التضحيات وأسماها ما كان ابتغاء وجه الله تعالى. ولقد كانت الهجرة في ذاتها نوعا من أرقى أنواع التضحية.
قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور، وسخاوة النفوس، والنصيحة للأمة، وبهذه الخصال بلغ من بلغ، لا بكثرة الاجتهاد في الصوم والصلاة (5).
لقد عاش الصحابة في حادث الهجرة التضحية في أروع صورها، وسجل القرآن لهم فيها روعة الفداء، وصدق التضحية، وقوة الإيمان، وثبات اليقين.
لقد عاشوا هذا المعنى في كل حركاتهم وسكناتهم، وبذلوا في سبيل دينهم الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، وبذلوا الجهد الجهيد والوقت الثمين.
لم تشغلهم الأموال والأعمال، ولا الزوجات والأولاد عن الخروج في سبيل الله، ونصرة الدين، ضحوا بكل شيء -نعم بكل شيء- حتى تبقى راية الإسلام خفاقة، ولتبقى كلمة التوحيد تتردد في جنبات هذا الكون.
زوج يفارق زوجته، وأب يفارق أبناءه، وابن يفارق والديه، ورجل يبيع نفسه لله، وآخر يقدم ماله، وكلهم جميعًا تركوا الديار والأوطان، والأموال والأقارب والخلان، كل ذلك في سبيل رضا الرحمن وإعلاء كلمة الواحد الديان.
لقد علمنا الصحابة الكرام عليهم الرحمة والرضوان أن التضحية والإيثار صفات أهل السبق والإيمان، وأن دين الله أغلى من كل شيء، وأن إقامة هذا الدين والتمكين له في الأرض لا يكون بالأماني، وأن النصر لا يتأتى للقاعدين الخاملين، وإنما النصر مقرون بالبذل والتضحية والفداء والعطاء.
إن حجم العداوات والتحديات التي يقابلها الإسلام وأهله في هذا الزمان تستوجب كثيرًا من مثل هذه التضحيات، ولا يمكن تحرير المقدسات والذود عن الدين والعرض، والوطن والأرض بالخطب والمقالات والمؤتمرات والاجتماعات، ولكن بالاستعداد والإعداد، والجهد والجهاد، جهود صادقة، وتضحيات غالية، وعمل دؤوب يسترجع المفقود ويحقق المنشود، {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].
وحقيقة أخرى تتعلق بتلك الحقيقة الأولى، وهو أن التضحيات لا تضيع أبدًا، وما بذل في سبيل الله لا يذهب سدى، فمن ضحى بالنفس يحوز الفردوس، ومن ضحى بالمال فالله يخلفه أضعافًا مضاعفة، ومن ضحى بوقته بورك له في عمره، ومن بذل حياته لله رخيصة عوضه الله أحسن العوض {وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران: 157] (6).
نحن بحاجة إلى إحياء تضحية أسماء بنت أبي بكر، الأنثى الحامل في شهرها الأخير، لم تتعلل أسماء بظروفها الصحية وتعتذر عن هذه المهمة الشاقة، لقد كانت جزءًا من عملية الهجرة، كان عليها أن تقطع شوارع مكة بين العيون الحاقدة والأنفس التي تتلمظ للثأر، وتَمضي أسماء بعيدًا بعيدًا جنوب مكة في أعلى الجبل تنقل الزاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
نحتاج تضحية مثل تضحية علي بن أبي طالب يوم نام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنه ممتحن بالموت قتلًا على ذلك الفراش، فلم تمنعه معرفته بهذا المصير أن يجود بنفسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل بعد التضحية بالنفس تضحية؟ وهل بعد الجود بالنفس شيء.
نتعلم من الهجرة الإخاء والإيثار، كانت الأخوة بين المهاجرين والأنصار بلغت ذروتها، وتميزت بالإيثار والتعفف، كان الأنصاري يخير أخاه من المهاجرين أن يأخذ من أمواله ما يشاء، وكان المهاجري يتعفف أن يطلب بهلع وجشع! وصف القرآن الكريم خليقة المهاجرين بقوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273]، وقال في حق الأنصار: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
قال السعدي: ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم، الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خُلُقٍ زكِّي، ومحبة لله تعالى مقدمة على شهوات النفس ولذاتها (7).
وقد أشاعت هذه المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في بداية ونشأة المجتمع المسلم الوليد في المدينة المنورة عواطف ومشاعر الحب، وملأته بأروع الأمثلة من حسن الضيافة والاستقبال، والبذل والعطاء، والحب والإيثار، وجعلته جسدًا واحدًا في السراء والضراء، والآلام والآمال (8).
كانت الأخوة بين المهاجرين والأنصار بلغت ذروتها، وتميزت بالإيثار والتعفف، كان الأنصاري يخير أخاه من المهاجرين أن يأخذ من أمواله ما يشاء، وكان المهاجري يتعفف أن يطلب بهلع وجشع هذا التآخي، وصل المرتبة المثالية حين كان الصحابة يتوارثون بينهم، ويتناصرون دون أرحامهم من المشركين، ويفضلون إخوانهم من المسلمين على ذوي القرابة الحقيقية من غير المسلمين، فكانت أخوة الإيمان والعقيدة أوثق لديهم.
يروي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في حديث صحيح، وصفه لحال المسلمين في بدايات الإسلام، يقول ابن عمر: لقد أتى علينا زمان -أو قال: حين- وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، ثم الآن الدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «كم من جار متعلق بجاره يوم القيامة يقول: يا رب، هذا أغلق بابه دوني، فمنع معروفه» (9).
قام الأنصار بعرض نخيلهم على النبي صلى الله عليه وسلم ليقسم الثمر بينهم وبين إخوانهم المهاجرين، ويقومون هم بالعمل، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه المهاجرون، فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا قومًا أبذل من كثير ولا أحسن مواساة من قليل من قوم نزلنا بين أظهرهم، لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم» (10).
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: «لا»، فقال: «تكفونا المئونة ونشرككم في الثمرة»، قالوا: سمعنا وأطعنا (11).
وهذا الحديث يفيد أن الأنصار عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى قسمة أموالهم بينهم وبين إخوانهم المهاجرين، وقد كانت أموالهم هي النخيل، فأبَىَ النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد أمرًا تكون فيه المواساة مع عدم زوال ملكية الأنصار أموالهم منهم، فقال الأنصار للمهاجرين: «تكفوننا المؤونة»، أي العمل في النخيل من سقيها وإصلاحها، ونشرككم في الثمرة، فلما قالوا ذلك رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا الرأي ضمن سد حاجة المهاجرين مع الإرفاق بالأنصار فأقرهم على ذلك، فقالوا جميعًا: سمعنا وأطعنا.
بلغ من تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار أن ميراث الأنصاري كان يؤول بعد وفاته إلى أخيه المهاجر كذوي رحمه، وقد استمرّ العمل بذلك زمنًا، حتى فتح الله لهم أبواب الخير من غنائم الحرب وغيرها، فنسخ الله تعالى العمل بهذا الحكم، وأرجع نظام الإرث إلى ما كان عليه، فقد ذكر ابن سعد في الطبقات عن موسى بن ضمرة بن سعيد عن أبيه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة آخى بين المهاجرين بعضهم لبعض، وآخى بين المهاجرين والأنصار، آخى بينهم على الحق والمواساة، ويتوارثون بعد الممات دون ذوي الأرحام، فلما كانت وقعة بدر وأنزل الله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]، فنسخت الآية ما كان قبلها، وانقطعت المؤاخاة في الميراث، ورجع كل إنسان إلى نسبه وورثه ذوو رحمه (12).
نتعلم من هذه النماذج القليلة الأخلاق الاجتماعية التي تمثلها هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، ولنا أن نقارن بينها وبين وحال الأمة الإسلامية اليوم! ونحن نستحضر مواقف الصحابة وأدوارهم في حادثة الهجرة، وبناء الدولة الإسلامية.
هل نحن مجتمعون على كلمة واحدة أو متفرقون تبعًا للانتماءات والحركات، والنزوات، واللغات، والجنسيات؟ هل قدمنا يد العون والنصرة كما يلزم للمسلمين المغزوين في ديارهم؟ وهل إخلاصنا لديننا وعقيدتنا أقوى أم إخلاصنا للحركات، والشخصيات، والأفكار؟
تساؤلات متعددة يجب على كل مسلم مكلف أن يفكر عنها، ونجاهد أنفسنا على القيام بهذه الفضائل، ونراعي حقوق أنفسنا ومن حولنا من أبناء المسلمين (13).
ومن القيم الأخلاقية في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ التنظيم والترتيب للعمل لضمان نجاحه، وترك الاتكالية والاعتماد على القدر، فقد بدأ التخطيط العلمي للهجرة بعرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على الوافدين إلى مكة وعقد بيعة العقبة الأولى والثانية، وبايعهم المصطفى صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والكسل والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألا تأخذهم في الله لومة لائم، وأن ينصروه ويمنعوه إذا قدم إليهم بما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم.
2- أرسل المصطفى صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير ليعلمهم وليمهد البيئة في المدينة المنورة لقدوم المصطفى صلى الله عليه وسلم والمهاجرين.
3- ألمح المصطفى صلى الله عليه وسلم لأبي بكر بالهجرة قائلًا: «على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي» (14)، وهنا استعد أبو بكر للصحبة وحبس نفسه على الهجرة.
4- أمر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة بأن يترك بيته هذه الليلة فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، وهذا قمة الأخذ بالأسباب الدنيوية.
5- تجهيز البعيرين بعلفهما مدة كافية (أربعة أشهر) حتى يتحملا مشقة السفر ووعورة الطريق.
6- اختيار الدليل الخبير بالطريق حتى ولو كان كافرًا، المهم أن يكون عالمًا بالطريق أمينًا، في سلوكه وأخلاقه، وهذا ما أثبتته نتائج الأحداث، فقد سار بهم الدليل في طريق وعرة، بعيدة عن مدارك الكفار والمشركين، حيث استأجر المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلًا من بني الدبك، وهو من بني عبد بن عدي هاديًا خريتًا -والخريت الماهر في الهداية- فدفعا إليه راحلتيهما صبح ثلاث وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق الساحل كما ورد في البخاري.
7- دبر المصطفى صلى الله عليه وسلم من يبيت في فراشه، فلم يترك الفراش خاليًا، حتى لا تبعث مكة في طلب النبي صلى عليه وسلم فور اكتشاف خروجه، حتى إذا اكتشفوا ذلك يكون المصطفى صلى الله عليه وسلم قد دبر أمر نفسه، كما أختار المصطفى صلى الله عليه وسلم لذلك رجلًا شجاعًا شابًا فتيًا قويًا مخلصًا صادقًا شجاعًا، هو الإمام علي رضي الله عنه، حتى لا يخاف من الأعداء ويأتي بحركة مغايرة للمطلوب، وهكذا ظهرت العلمية في أعلى صورها وأجل معانيها في التدابير السابقة واللاحقة بإذن الله.
8- خرج المصطفى صلى الله عليه وسلم من بيته مقنعًا في وقت الظهيرة حيث الحر والقيلولة، وهجوع الناس في ديارهم اتقاء الحر الهاجرة، ومن يعش في القرى والصحراء يعرف خلو الطرقات من المارة في هذا الوقت.
9- وعندما وصل المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر قال له: «أخرج من عندك»، خوفًا من وجود من لا يؤتمن على السر من الخدم والزوار وغيرهم، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله (15)، وقد أثبتت النتائج صدق تصور أبي بكر في أبنائه وحسن تربيتهم.
10- تجهيز المأكل والمشرب والظهر واعداده للرحيل ومشاركة أولاد أبي بكر في الأمر ليستشعروا عظم العمل، ويعذروا والدهم لتركه إياهم.
11- تجهيز الميزانية المالية المطلوبة للرحلة ومشاركة المصطفى صلى الله عليه وسلم في تكاليف الراحلة وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (بالثمن) عندما عرض أبو بكر عليه إحدى الراحلتين.
12- تحديد مكان اللجوء السريع والاختفاء عن الأنظار، فلجأ المصطفى صلى الله عليه وسلم غار ثور، وقد حدد المصطفى صلى الله عليه وسلم مدة ثلاثة أيام للاختباء فيه حتى يهدأ الطلب من مكة، وتكف عن الملاحقة لقناعتها انها عاجزة عن اللحاق به.
13- كتمان الخبر عن الجميع ما عدا آل أبي بكر وسيدنا علي والدليل، وتوزيع المهام عليهم.
14- تكليف عامر بن فهيرة مولى أبي بكر ومحل ثقته أن يتأتى بغنم أبي بكر ليلًا؛ فيتزود الركب من حليبها ولحمها وتقوم بمحو آثار الأقدام من الطريق المأهول إلى الغار.
15- تكليف عبد الله بن أبي بكر بمهمة الإعلام والتغطية الميدانية لكفار مكة، ونقل صورة ميدانية حقيقية لما يدور في مكة، على أن يأتي كل يوم بحصاده الإخباري.
16- عند الخروج من الغار اختار المصطفى صلى الله وسلم طريق الساحل، ولم يمض الركب في الطريق المعتاد وقد أثبتت النتائج حسن هذا التدبير.
17- دخول أبو بكر أولًا إلى الغار لتهيئته للقائد حتى لا يصاب بأذى، وهذا قمة العلمية وما يفعله الرؤساء حاليًا؛ لأن الحفاظ على القيادة يحفظ المسيرة، أما أبو بكر فهو فرد من المسلمين لا تموت الدعوة في مهدها بموته.
18- تحييد أمر سراقة وتبشيره بأساور كسرى والتمكين مع اعطائه درسًا ماديًا في الإيمان عندما ساخت أقدام فرسه في الرمال فكان أول النهار طالبًا لرسول الله والفدية وفي آخر النهار مدافعًا ومخذلًا عنه، وصارفًا للكفار ومثبطًا لهم عن الاستمرار في البحث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.
19- عندما وصل المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى خيمة أم معبد وبيت المرأة الأخرى طلب منهما شاة ليحلبها ويجلس على ضرعها، وهذا يؤكد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسباب المتاحة من الكائنات الحية وتأكيد علمي عملي على أن الحياة لا تتولد إلا من الحياة.
20- لم يميز رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه عن أبي بكر في اللباس والهيئة، حتى أن أهل المدينة لم يفرقوا بينهما عندما وصلا إليها، وفي هذا زيادة في عدم جذب الأنظار للمصطفى صلى الله عليه وسلم في الطريق.
هذه كانت بعض التدابير العلمية في الهجرة النبوية تثبت أن ديننا دين العلمية الواقعية التجريبية، وأن ما يدعيه البعض من الصوفية أنهم تخطوا الحواجز المادية هو ضرب من الجهل بماهية الإسلام وواقعيته وعلميته وتسخير ونواميس الله في الخلق لصالح الإنسان وباقي المخلوقات الحية في الكرة الأرضية.
وهذا درس خاص لشباب المسلمين يعلمهم الأخذ بالأسباب العلمية في حياتهم الدراسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وعدم التواكل على أسباب لم يبذلوا جهدًا فيها، وإذا فعلنا ذلك أصبحنا قادة خلقية تطبيقةً عمليةً في هذه الحياة الدنيا كما كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم (16).
فينبغي للمؤمن أن يهاجر هجرة روحية ويرتقي في منازل الإيمان ومدارج المعرفة، هجرة فيها إرادة الفرار إلى الله تعالى والاقتراب من صفاته وأسمائه الحسنى، واتباع سنة رسوله الكريم والاقتداء به في أخلاقه وأحواله وجهاديته، قال ابن القيم كلامًا نفيسًا في مصنفه طريق الهجرتين: والهجرة هجرتان: هجرة إلى الله بالطلب والمحبة، والعبودية والتوكل، والإنابة والتسليم والتفويض، والخوف والرجاء، والإقبال عليه، وصدق اللجأ والافتقار في كلِّ نفَسٍ إليه، وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته، الظَّاهرة والباطنة؛ بحيث تكون موافقة لشرعه الذي هو تفصيل محاب الله ومرضاته، ولا يقبل الله من أحدٍ دينًا سواه، وكل عمل سواه فعيش النفس وحظها، لا زاد المعاد (17).
-----------
(1) أخرجه البخاري (2783).
(2) أخرجه النسائي (2568).
(3) أخرجه أبو داود (2645).
(4) فتح الباري لابن حجر (6/ 39).
(5) تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 397).
(6) معالم التضحية في الهجرة المشرفة/ إسلام ويب.
(7) تفسير السعدي (ص: 851).
(8) صور من الحب والإيثار بين المهاجرين والأنصار/ إسلام ويب
(9) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (111).
(10) أخرجه الترمذي (2487).
(11) أخرجه البخاري (2719).
(12) فتح الباري لابن حجر (7/ 270).
(13) القيم الأخلاقية في هجرة الرسول/ إسلام أون لاين.
(14) أخرجه البخاري (3905).
(15) المرجع السابق.
(16) التدابير العلمية في الهجرة النبوية/ موقع إعجاز القرآن والسنة.
(17) طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 7).