logo

خذ العفو


بتاريخ : الجمعة ، 20 ربيع الأول ، 1439 الموافق 08 ديسمبر 2017
بقلم : تيار الاصلاح
خذ العفو

أخلاق الناس وطبائعهم ليست واحدة؛ بل هم متفاوتون؛ منهم الهادئ السمح المتزن الخلوق الرفيق اللطيف الليِّن، ومنهم الشديد الغليظ العنيف، ومنهم الواقع في الأمور المصادمة للأخلاق تمام المصادمة؛ فهم ليسوا على درجة واحدة.

ومطلوب من المسلم أن يهيئ نفسه، في ملاقاته للناس ومقابلته لهم واحتكاكه بهم، للتعامل مع أصنافٍ وأجناس وأخلاق متباينات، فمن يعاملهم ليسوا على مستوى واحد؛ بل بينهم تفاوت، ولهذا جاء هذا التوجيه المبارك: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} [الأعراف:199].

لا تنتظر المثالية في الأخلاق من كل من تلقاه وكلّ من تتعامل معه؛ بل الناس فيهم، في هذا الباب، تفاوت عظيم، فإذا هيَّأت نفسك هذه التهيئة، أن تأخذ بالعفو وما سمحت به أخلاق الناس وتيسَّر لهم القيام به، سعِدتَ في هذه الحياة، أما إذا كنت تنتظر من كل من تلقاه أن يكون مثاليًا في أخلاقه وفي تعاملاته لن تجد ذلك؛ لأن الناس طبائع وأجناس؛ منهم سريع الغضب، منهم سريع الانفعال، منهم الهادئ، منهم الرزين، منهم العنيف، منهم الغليظ، إلى آخره، فهيئ نفسك لملاقاة هذه الأنواع والأصناف المتباينة من الأخلاق، وخذ ما سمحت به نفوس الناس منها.

قال السعدي رحمه الله: «هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس، وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل به الناس أن يأخذ العفو؛ أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم؛ بل يشكر من كل أحد ما قابله به، من قول وفعل جميل أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم، ويغض طرفه عن نقصهم»(1).

خذ العفو الميسر الممكن من أخلاق الناس في المعاشرة والصحبة، ولا تطلب إليهم الكمال، ولا تكلفهم الشاق من الأخلاق، واعف عن أخطائهم وضعفهم ونقصهم، كل ذلك في المعاملات الشخصية لا في العقيدة الدينية، ولا في الواجبات الشرعية، فليس في عقيدة الإسلام ولا شريعة الله يكون التغاضي والتسامح.

ولكن في الأخذ والعطاء والصحبة والجوار، وبذلك تمضي الحياة سهلة لينة، فالإغضاء عن الضعف البشري، والعطف عليه، والسماحة معه، واجب الكبار الأقوياء تجاه الصغار الضعفاء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم راع وهاد ومعلم ومرب، فهو أولى الناس بالسماحة واليسر والإغضاء، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم، لم يغضب لنفسه قط، فإذا كان في دين الله لم يقم لغضبه شيء! وكل أصحاب الدعوة مأمورون بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتعامل مع النفوس البشرية لهدايتها يقتضي سَعة صدر، وسماحة طبع، ويسرًا وتيسيرًا في غير تهاون ولا تفريط في دين الله(2).

وقال مجاهد: «يعني خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تحسس»؛ مثل قبول الأعذار، والعفو والمساهلة، وترك الاستقصاء في البحث، والتفتيش عن حقائق بواطنهم.

والعفو ما عفا من أخلاق الناس وما تيسر، يعني خذ من الناس ما تيسر، ولا تنتظر من الناس أن يكونوا لك على ما تريد في كل شيء، من أراد أن يكون الناس له على ما يريد في كل شيء فاته كل شيء، ولكن خذ ما تيسر، عامل الناس بما إن جاءك قبلت، وإن فاتك لم تغضب، ولهذا قال: «ما قال لشيء لم أفعله: أَلَا فعلتَ كذا وكذا»(3)، وهذا من حسن خلقه عليه الصلاة والسلام(4).

ففي أخذه العفو من أخلاقهم احتمال أذاهم، وترك ما لك من الحق عليهم، فأخذ العفو ألَّا تطلب ما تركوه من حقك، وألا تنهاهم فيما تعدوا فيه الحد فيك، وإذا لم تأمرهم ولم تنههم فيما يتعلق(5).

ولذلك قال تعالى: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:237].

قال ابن عاشور: «ومعنى كون العفو أقرب للتقوى أن العفو أقرب إلى صفة التقوى من التمسك بالحق؛ لأن التمسك بالحق لا ينافي التقوى، لكنه يؤذن بتصلب صاحبه وشدته، والعفو يؤذن بسماحة صاحبه ورحمته، والقلب المطبوع على السماحة والرحمة أقرب إلى التقوى من القلب الصلب الشديد؛ لأن التقوى تقرب بمقدار قوة الوازع، والوازع شرعي وطبيعي، وفي القلب المفطور على الرأفة والسماحة لين يزعه عن المظالم والقساوة، فتكون التقوى أقرب إليه؛ لكثرة أسبابها فيه»(6).

قال الفضيل بن عياض رحمه الله: «إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلًا فقل: يا أخي، اعفُ عنه؛ فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن أنتصر كما أمرني الله عز وجل، فقل له: إن كنت تحسِن أن تنتصر، وإلا فارجع إلى باب العفو؛ فإنه باب واسع، فإنه من عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلِّب الأمور؛ لأن الفتوة هي العفو عن الإخوان»(7).

وهنا ينبغي للداعية أن يعلم أن أسلوب الفظاظة والغلظة والجفاء والشدة لا يساعد على خدمة الدعوة، وإنما يؤدي إلى العكس؛ لذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].

{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}؛ أي بكل قول حسن، وفعل جميل، وخلق كامل للقريب والبعيد، فاجعل ما يأتي إلى الناس منك إما تعليم علم، أو حث على خير، من صلة رحم، أو إصلاح بين الناس، أو نصيحة نافعة، أو رأي مصيب، أو معاونة على بر وتقوى، أو زجر عن قبيح، أو إرشاد إلى تحصيل مصلحة دينية أو دنيوية.

عندما تأخذ بما سمحت به أخلاق الناس أيضًا كن داعيًا رفيقًا ناصحًا، موجهًا بالرفق واللين واللطف إلى كل فضيلة وإلى كل خير، خذ العفو وفي الوقت نفسه مُرْ بالعرف؛ أي بالمعروف من كل قول طيبٍ فاضل وفعل كريم نبيل، ويكون التوجيه رفيقًا من قلبٍ ناصحٍ، حريصٍ على دلالة الناس وهدايتهم إلى الخير؛ فيلقى الناس بالصبر على أخلاقهم، وفي الوقت نفسه يُحسِن التوجيه للناس، يلقى الناس بالصبر على أخلاقهم لأن من لا يصبر على أخلاق الناس ليس مؤهَّلًا لدعوتهم، فالدعوة تحتاج إلى صبرٍ على أخلاق الناس المتفاوتة المتباينة، ولهذا قال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} فيتلقى أخلاق الناس باللِّين، اللطف، المسامحة، غض الطرف، حُسن التعامل، {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} في الوقت نفسه تكون موجهًا.

وهو الخير المعروف الواضح الذي لا يحتاج إلى مناقشة وجدال، والذي تلتقي عليه الفطر السليمة والنفوس المستقيمة، والنفس حين تعتاد هذا المعروف يسلس قيادها بعد ذلك، وتتطوع لألوان من الخير دون تكليف، وما يصد النفس عن الخير شيء مثلما يصدها التعقيد والمشقة والشد في أول معرفتها بالتكاليف! ورياضة النفوس تقتضي أخذها في أول الطريق بالميسور المعروف من هذه التكاليف، حتى يسلس قيادها وتعتاد هي بذاتها النهوض بما فوق ذلك في يسر وطواعية ولين.

{وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} من الجهالة: ضد الرشد، والجهالة ضد العلم، وهما قريب من قريب.

والإعراض يكون بالترك والإهمال، والتهوين من شأن ما يجهلون به من التصرفات والأقوال، والمرور بها مر الكرام، وعدم الدخول معهم في جدال لا ينتهي إلى شيء إلا الشد والجذب، وإضاعة الوقت والجهد.

وقد ينتهي السكوت عنهم، والإعراض عن جهالتهم إلى تذليل نفوسهم وترويضها، بدلًا من الفحش في الرد واللجاج في العناد، فإن لم يؤد إلى هذه النتيجة فيهم، فإنه يعزلهم عن الآخرين الذين في قلوبهم خير، إذ يرون صاحب الدعوة محتملًا معرضًا عن اللغو، ويرون هؤلاء الجاهلين يحمقون ويجهلون فيسقطون من عيونهم ويُعزلون! وما أجدر صاحب الدعوة أن يتبع هذا التوجيه الرباني العليم بدخائل النفوس! ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، وقد يثور غضبه على جهالة الجهال وسفاهة السفهاء وحمق الحمقى، وإذا قدر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد يعجز عنها من وراءه من أصحاب الدعوة(8).

وإنما يجب الإعراض عن السفهاء لأنهم لا يطلبون الحق إذا فقدوه، ولا يأخذون فيما يخالف أهواءهم إذا وجدوه، ولا يرعون عهدًا، ولا يحفظون ودًا، ولا يشكرون من النعمة إلا ما اتصل مدده، فإذا انقطع عاد الشكر كفرًا، واستحال المدح ذمًا(9).

وهذا أيضًا مطلب عظيم في باب الأخلاق وجوامع الآداب (أن تعرض عن الجاهل)؛ بمعنى ألَّا تقف عند عباراته الجاهلة، وألفاظه النابية، وكلماته السيئة، ومعاملاته الفظة الغليظة، لا تقف عند هذه التعاملات، ولا تُلقِ لها بالًا؛ بل أعرض عن جهل الجاهلين، وروِّض نفسك على ذلك، أما إذا وقف الإنسان مع جهالة الجهَّال ورُعوناتهم وسوء تصرفاتهم فإنه يتعب في هذه الحياة، ويعاني معاناة شديدة، إن لم يتحول أيضًا إلى جاهل مثلهم، فيجهل عليهم بمثل جهلهم عليه.

ألا لا يجهلن أحد علينا       فنجهل فوق جهل الجاهلين

بل ربما يتحول إلى ملاقاته بجهل أشد من جهله عليه؛ ولهذا الطريقة المثلى أن يُعرِض الإنسان عن الجاهل.

ولقد أمُرُّ على السفيه يسبني       فمضيتُ ثمت قلتُ لا يعنيني

فالإعراض عن الجاهلين، وعدم الوقوف عند جهلهم أو كلماتهم السيئة وألفاظهم النابية هو الذي يريح الإنسان من معاناةٍ في هذه الحياة، وإلا إذا مضيت في ملاقاة الناس وتعاملهم ستجد من يسيء لك التعامل، من يرفع عليك الصوت، من يُغلِظ.

فإذا كنت تريد أن تقف مع كل متعامل من هؤلاء، وتصغي إلى ما يقوله وترهق نفسك بمتابعة أقواله، قال كذا وقال كذا، وتنبري للمجابهة؛ فهذا يرهقك ويؤلم قلبك، وربما يجلب لك في نفسك الهم والغم، بينما إذا أعرضت عن الجاهل وقلت في نفسك: هذا مبتلى بالجهل، مبتلى بكذا، وأنا عافني الله من ذلك، تحمد الله أن عافاك من مثل هذه المعاملات، وتمضي في حياتك بمثل ذلك تسعد، وفي الوقت نفسه تساعد الجاهل على مراجعة نفسه، إذا أعرضت عن ألفاظه وسوء تصرفاته تساعده على مراجعة نفسه.

ولهذا كم من الجاهلين بمثل هذه المعاملة تراجعوا، ولو أن من عاملهم جابههم لتفاقَم الأمر ولعظم الخطب، وقد كان من هدي نبينا عليه الصلاة والسلام إذا خرج من بيته يقول: «اللهم أعوذ بك أن أَضِل أو أُضل، أو أزل أو أُزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي» (10)، وهذه الدعوات العظيمة المباركة، التي كان يدعو بها عليه الصلاة والسلام، مناسبة بل ويحتاج إليها كل من خرج من بيته؛ لماذا؟

لأنه سيواجه أجناسًا من المتعاملين، وأصنافًا من الأخلاق، وأنواعًا من التعاملات، فيحتاج إلى حُسن التجاء إلى الله سبحانه وتعالى بأن يعيذه من أن يَضِل أو يُضَل، أو يَزِل أو يُزَل، أو يَظلِم أو يُظلَم، أو يَجهَل أو يُجهَل عليه، فيستعيذ بالله سبحانه وتعالى من ذلك كله، ويمضي هو في تعاملاته مع الناس في مثل هذه التوجيهات المباركة العظيمة، في هذه الآية الكريمة وغيرها من الآيات والأحاديث، التي تدعو إلى كوامل الآداب وجوامع الأخلاق.

«قال القاضي أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن: قال علماؤنا: هذه الآية من ثلاث كلمات، قد تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات، حتى لم يبق فيها حسنة إلا أوعتها، ولا فضيلة إلا شرحتها، ولا أكرومة إلا افتتحتها، وأخذت الكلمات الثلاث أقسام الإسلام الثلاثة؛ فقوله: {خُذِ الْعَفْو} تولى بالبيان جانب اللين، ونفي الحرج في الأخذ والإعطاء والتكليف، وقوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} تناول جميع المأمورات والمنهيات، وأنهما ما عرف حكمه، واستقر في الشريعة موضعه، واتفقت القلوب على علمه، وقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} تناول جانب الصفح بالصبر، الذي يتأتى للعبد به كل مراد في نفسه وغيره، ولو شرحنا ذلك على التفصيل لكان أسفارًا. 

ومن مباحث البلاغة في الآية أن ما جمعته هذه الكلمات الثلاث من المعاني العالية هو من إعجاز إيجاز القرآن، الذي لا مطمع في مثله لإنس ولا جان، والله أعلم»(11).

وقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، هو المنهج الذي يسلكه النبي مع الناس في أداء رسالته إليهم، من تبعه منهم ومن عصاه على السواء، وهذا المنهج ذو أصول ثلاثة يقوم عليها:

أولها: المياسرة والرفق في أخذ المؤمنين بأحكام الشريعة، فلا إعنات ولا إرهاق في شريعة الله، التي جاءت رحمة لعباده، واستنقاذا لهم من الهلاك، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ}؛ أي: تقبل من الناس ما تسمح به أنفسهم، ويتسع له جهدهم، مما لا يشق عليهم من أمر أو نهي.

وهذا من شأنه أن يوثق العلاقة بين المؤمنين وبين دين الله الذي دخلوا فيه؛ حيث يجدون منه وجهًا سمحًا مشرقًا، يلقاهم بالصفح الجميل إذا هم أذنبوا، ويفتح لهم باب الرضا والقبول إذا هم شردوا وضلوا، ثم تابوا وأنابوا إلى الله من قريب.

وهكذا جاءت شريعة الإسلام رفيقة بالناس، رحيمة بهم، ليس فيها ما يعنتهم أو ينكّل بهم؛ لأنها لم تجئ إليهم نكالًا وانتقامًا، وإنما جاءت إليهم رحمة وإحسانًا(12).

هذه الآية من ثلاث كلمات، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات، فقوله: {خُذِ الْعَفْوَ} دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين، ودخل في قوله: {وَأْمُر بِالْعُرْفِ} صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار.

وفي قوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} الحض على التعلق بالعلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة.

هذه الخصال تحتاج إلى بسط، وقد جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر بن سليم، قال جابر بن سليم أبو جري: «ركبت قَعُودي، ثم أتيت إلى مكة فطلبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنخت قعودي بباب المسجد، فدلوني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو جالس عليه برد من صوف فيه طرائق حمر، فقلت: (السلام عليك يا رسول الله)، فقال: (وعليك السلام)، فقلت: (إنا، معشر أهل البادية، قوم فينا الجفاء، فعلمني كلمات ينفعني الله بها)، قال: (ادن) ثلاثًا، فدنوت فقال: (أعد علَيَّ)، فأعدت عليه، فقال: (اتق الله، ولا تحقرن من المعروف شيئًا، وأن تلقى أخاك بوجه منبسط، وأن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وإن امرؤ سبك بما لا يعلم منك فلا تسبه بما تعلم فيه، فإن الله جاعل لك أجرًا وعليه وزرًا، ولا تسبن شيئًا مما خولك الله تعالى)، قال أبو جري: فوالذي نفسي بيده، ما سببت بعده شاة ولا بعيرًا»(13).

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنكم لا تسعون الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق»(14)، وقال ابن الزبير: «ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس»(15).

عن عبد الله بن عباس قال: «قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولًا كانوا أو شبانًا، فقال عيينة لابن أخيه: (يا بن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه)، قال: (سأستأذن لك عليه)، فاستأذن لعيينة، فلما دخل قال: (يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل)! فغضب عمر حتى هم بأن يقع به، فقال الحر: (يا أمير المؤمنين، إن الله قال لنبيه عليه السلام: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين)، فوالله، ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب الله عز وجل»(16).

فانظر إلى تأثير القرآن في حياتهم، وتهذيبه لنفوسهم، وتقويمه لأخلاقهم، وكفى بكلام الله مؤثرًا ومربيًا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فهل تعي أمتنا دور القرآن في التربية؟ نسأل الله ذلك.

فنظمه بعض الشعراء فقال:

مكـارم الأخـلاق في ثلاثـة       وممن كملت فيه فذلك الفتى

إعطاء من تحرمه ووصل من       تقطعه والعفو عمن اعتدى

فقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} فالمقصود منه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يصبر على سوء أخلاقهم، وألَّا يقابل أقوالهم الركيكة ولا أفعالهم الخسيسة بأمثالها(17).

***

_________________

(1) تفسير السعدي، ص313.

(2) في ظلال القرآن (3/ 1419).

(3) أخرجه أحمد (12784).

(4) شرح رياض الصالحين (3/ 561).

(5) مجموع الفتاوى (16/ 72).

(6) التحرير والتنوير (2/ 465).

(7) أبو نعيم في الحلية (8/ 112).

(8) في ظلال القرآن (3/ 1419).

(9) تفسير المنار (9/ 449).

(10) أخرجه أبو داود (5094).

(11) تفسير المنار (9/ 449).

(12) التفسير القرآني للقرآن (5/ 545).

(13) أخرجه أبو داود الطيالسي (1304).

(14) صحيح الترغيب والترهيب (2661).

(15) تفسير القرطبي (7/ 344-345).

(16) أخرجه البخاري (4642).

(17) تفسير الرازي (15/ 435).