logo

المفهوم الصحيح للعبادة


بتاريخ : الخميس ، 26 ذو الحجة ، 1442 الموافق 05 أغسطس 2021
بقلم : تيار الاصلاح
المفهوم الصحيح للعبادة

تنبع أهمية العبادة من كونها الغاية التي خلق الله الخلق لأجلها، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ولأجل تحقيق هذه الغاية واقعًا في حياة الناس بعث اللهُ الرسل، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

وقد لخص العلماء تعريف العبادة بقولهم: كل ما يحبه الله ويرضاه من الأفعال والأقوال الظاهرة والباطنة، فمثال الأفعال الظاهرة الصلاة، ومثال الأقوال الظاهرة التسبيح، ومثال الأقوال والأفعال الباطنة الإيمان بالله وخشيته والتوكل عليه، والحب والبغض في الله.

إن أصل العبادة في اللغة: الطاعة والخضوع والتذلل كما قال الجوهري وغيره.

أما مفهوم العبادة في الشرع فمفهوم واسع شامل، ومن خلال هذا الفهم النير لمفهوم العبادة في الإسلام نعلم خطأ من يُقْصرون العبادة على بعض الجوانب الروحية من الإسلام، فالهدف الذي خلق الإنسان من أجله هو عبادة الله، وعبادة الله تشمل الدين كله، وتشمل الحياة كلها، فالإنسان المسلم عليه أن يكون عبدًا لله طوال حياته، طوال ليله ونهاره، وطوال الشهور والسنوات، وليست العبادة هي تلك التي تؤدى في أوقات محددة لا تستغرق إلا وقتًا يسيرًا في حياة الإنسان، فالمسلم يستمر في عبادة الله حتى يفارق هذه الدنيا، قال الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبكَ حَتى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].

إن المفهوم الحق للعبادة ينسجم مع النظرة الواعية في فهم الإسلام فهمًا صحيحًا قائمًا على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومبنيًا على فهم السلف الصالح لهذا الدين بعمومه وشموله، وأنه يغطي جميع جوانب الحياة وليس قاصرًا على جانب واحد منها مع إهمال الجوانب الأخرى.

إن من يظن أن مجرد الصلاة والصيام والحج وبعض الأذكار هي الدين كله، وهي العبادة كلها؛ لا شك أن مخطئ خطأً كبيرًا في تصوره لحقيقة الدين وفهمه لحقيقة العبادة.

لا شك أن الصلاة والصيام والحج من أعظم الشعائر، ومن أركان الإسلام، ولكنها تبقى جزءًا من هذا البناء العظيم، ومن هذا النظام الشامل لجميع نواحي الحياة، بما في ذلك الأمور التي يظنها كثير من الناس من الأمور البسيطة، وقد يعتبرها بعضهم لا علاقة للدين بها؛ كقضاء الشهوة.

إن العبودية لله تعني القبول بوجود ووحدانية الله، ومعرفة صفاته العليا وأسمائه الحسنى والإقرار بجلاله وعظمته والالتفات عن عبادة كل معبود سواه، وصرف العمر سعيًا لنيل رضاه.

إن الذين يستهترون بخالقهم ولا يبالون بأمره ولا يقيمون وزنًا للغاية من خلقهم ولا يأبهون لما سيؤول إليه أمرهم في الحياة الآخرة، سيقال لهم يوم القيامة على وجه التوبيخ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].

ولأن الإنسان خلق ليكون عبدًا لله فهو مطالب بمعرفة كيفية هذه العبادة، وقد جاءت الإشارة إلى هذا في القرآن: {لِكُل أُمةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبكَ إِنكَ لَعَلَى هُدًى مسْتَقِيمٍ} [الحج: 67].

ولتحقيق هذه الغاية يتعين على الإنسان وفي كل لحظة من وجوده أن يُؤْثِر رضا ربه على إشباع رغباته وأهوائه، لأن المرء يغدو من دون ذلك عبدًا للشهوات تستهويه فينقاد لها: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43].

إن نفع عبادة المؤمن يعود إليه هو لا إلى الله، لأن الله غير محتاج لصلاة العبد أو عبادته أو أعماله الصالحة، وقد عبر القرآن عن هذه الحقيقة في قوله تعالى: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِن اللهَ لَغَنِي عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6].

إن مفهوم العبادة في الإسلام مفهوم واسع شامل لكل نواحي الحياة، وأن كل عمل يصدر عن المسلم يمكن أن يكون عبادة إذا توفرت فيه بعض الشروط وأولاها أن يكون العمل خالصًا لله تعالى، فإذا قصد العامل أن يغني أسرته وينفع الناس فعمله عبادة، وثانيها أن يكون العمل ضمن حدود الشرع، فلا يجوز للمسلم أن يعمل فيما حرم الله، فينبغي أن يكون على حسب ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وثالثها أن يكون عمله غير شاغل له عن القيام بما أوجب الله عليه، فإذا تحققت هذه الشروط كان العمل عبادة لله تعالى (1).

شمولية مفهوم العبادة في الإسلام:

إن الناظرَ في القرآن والسنة النبوية، سيرى أن العبادةَ تختلف تمامًا في معناها ومفهومها عن ذلك المفهوم الذي نَعنيه عند ذكر كلمة (العبادة)؛ ذلك أن القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة قد ذكَرا العبادة بشمولية مُطلقة؛ فقد تكلَّما عن أن العبادة تشمل كلَّ جزئية من جزئيات حياة الإنسان، ولكن يشترط في ذلك: الإيمان بالله عز وجل وإخلاص النية له سبحانه وتعالى، وأن يكون عملًا مما يرضى عنه الله عز وجل.

يقول الله جل وعلا في سورة الذاريات: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ويقول الله جل وعلا في سورة الأنعام: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].

إن المتدبِّر لهاتين الآيتين، سيرى أن العبادة المقصودة من الآية الأولى، وشمولية إخلاص النيات في الآية الثانية؛ هي الأدلة الدامغة على أن العبادة في الإسلام شاملةٌ لكل جزئية من جزئيات حياتنا، والضابط في ذلك: أن تكون مما يرضى اللهُ عز وجل عنه، وأن يُخلص في فعْلها.

فأما الآية الأولى، فليس المقصود بها الشعائرَ التعبدية فحسب، بل المقصود كما وضَّح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عند حديثه عن مفهوم العبادة قائلًا: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الباطنة والظاهرة، وهذا هو المفهوم العام الذي أتكلم عنه، ونَفهم من خلاله الآية الثانية؛ إذ ليس المقصود من الآيتين أن يظلَّ الإنسان قابعًا في المسجدِ يصلي ويصوم ويقرأ القرآن؛ لكي يحقِّق المقصد من خَلقِه كما في الآية الأولى، ولتكون حياته كلُّها لله عز وجل كما في الآية الثانية، بل إن المقصود أن هناك عباداتٍ أساسيةً، وهي الأشياء التي أمرنا الإسلام بفعْلها، والأشياء التي نهانا الإسلام عن إتيانها.

وهناك عبادات فرعية، هي في الأصل من المباحات التي يفعلها الإنسانُ في يومه وليلته، لكنها قد تُحوَّل إلى عبادة عند وجود الضوابط سابقة الذِّكر.

فإن إخلاص النيات قد يُحوِّل العادة إلى عبادة، وقد يُحول عدمُ إخلاص النيات العبادةَ إلى عادة، فلا يُؤجر عليها الإنسانُ؛ ولذلك كانت النية الصالحة هي الفيصل في هذا الأمر.

ومن ثم؛ فينبغي أن يعتقد الإنسان اعتقادًا جازمًا أنه إن عمِل أي عمل يَرضى الله عنه، ويُخلص فيه النية لله عز وجل أنه مأجورٌ عليه، بل إنه عبادة من العبادات التي يتقرَّب بها إلى الله عز وجل، ولذلك كان أحد الصحابة يقول: إني لأحتسب نَومتي كما أحتسب قَومتي (2).

إن كل عمل اجتماعي نافع يعده الإسلام عبادة من أفضل العبادات، ما دام قصد فاعله الخير لا تصيّد الثناء واكتساب السمعة الزائفة عند الناس؛ فكل عمل يمسح به الإنسان دمعة محزون، أو يخفف به كربة مكروب، أو يضمد به جراح منكوب، أو يسد به رمق محروم، أو يشد به أزر مظلوم، أو يقيل به عثرة مغلوب، أو يقضي به دين غارم مثقل، أو يأخذ بيد فقير متعفف ذي عيال، أو يهدي حائرًا، أو يعلم جاهلًا، أو يؤوي غريبًا، أو يدفع شرًا عن مخلوق، أو أذى عن طريق، أو يسوق نفعًا إلى ذي كبد رطبة، فهو عبادة وقربة إلى الله إذا صحت فيه النية.

أعمال كثيرة من هذا النوع جعلها الإسلام من عبادة الرحمن، وشعب الإيمان، وموجبات المثوبة عند الله.

فليست الصلاة أو الصيام أو الذكر والدعاء هي فقط التي تكتب لك عبادة في يومك وتستوجب بها الأجر عند ربك، كلا إنك تستطيع في اليوم الواحد أن تضيف إلى ميزان عبادتك وحسناتك أشياء كثيرة، لها ثقلها وقيمتها في تقدير الحق تبارك وتعالى، وإن بدت عندك هينة خفيفة في الميزان.

ويقول عليه الصلاة والسلام في عيادة المريض وما لها من مكانة عند الله، لما فيها من تخفيف ومواساة «من عاد مريضًا ناداه منادٍ من السماء: طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلًا» (3).

ويروي لنا النبي صلى الله عليه وسلم مشهدًا من المشاهد البديعة العميقة يوم القيامة، في صورة حوار بين الله وعباده، فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك؟ وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك؟ وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان، فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم استسقيتك، فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك؟ وأنت رب العالمين، قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي» (4).

وعن أبي ذر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوي أعمالها النخاعة تكون في المسجد، لا تدفن» (5).

والإسلام لا يستحب هذه الأعمال ويحمدها فحسب، بل هو يدعو إليها، ويحث عليها، ويأمر بها، ويجعلها من الواجبات اليومية على المسلم، التي تقربه إلى الجنة، وتبعده عن النار، وهو تارة يسميها صدقة وطورًا يسميها صلاة، وهي على كل حال عبادة وقربة إلى الله الكريم.

ولم يجعل الإسلام هذه العبادة موقوتة بزمان أو مرهونة بمكان، كما لم يجعل هذه العبادة أو الضريبة مالية فينفرد بها الأغنياء، ولا بدنية فيختص بها الأقوياء، ولا ثقافية فيتميز بها المتعلمون، ولكنه جعلها ضريبة إنسانية عامة، يؤديها كل إنسان على قدر طاقته، ويشترك فيها الفقير والغني، والضعيف والقوي، والأمي والمتعلم.

وقد وردت أحاديث عديدة تجعل تبسّم المرء في وجه أخيه صدقة، وإسماع الأصم، وهداية الأعمى، وإرشاد الحيران، ودلالة المستدل على حاجته، والسعي بشدة الساقين مع اللهفان المستغيث، والحمل بشدة الذراعين مع الضعيف، وما يدور في هذا الفلك من الأعمال، عدّه رسول الإسلام عبادة كريمة، وصدقة طيبة.

وأفق الخير والنفع الذي يعيش المسلم في دائرته ليس خاصًا بالإنسان وحده، وإنما يتسع فيشمل كل كائن حي في الوجود، حتى الطير والحيوان، فكل إحسان يسديه إليه أو أذى يدفعه عنه عبادة تقربه إلى الله، وتوجب له رضاه، وفي هذه الدائرة الرحبة من أعمال البر التي شملت الإنسان وغير الإنسان، يجد المهتمون بالعبادة، الراغبون في الإكثار منها، والمهتمون بخدمة المجتمع والإحسان إلى الخلق أيضًا، ما يشبع نهمهم ويتجاوب مع أشواقهم، بدلًا من أن ينحصروا في عبادات الصوامع وحدها وينقطعوا عن ركب الحياة.

شروط العبادة:

إن عمل الإنسان في معاشه عبادة بشروط، وأعجب من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم يجعل الأعمال الدنيوية التي يقوم بها الإنسان لمعيشته، والسعي على نفسه وأهله، من أبواب العبادة والقربات إلى الله، وإن لم يتعد نفعها دائرته الشخصية والأسرية، فالزارع في حقله، والعامل في مصنعه، والتاجر في متجره، والموظف في مكتبه، وكل ذي حرفة في حرفته، يستطيع أن يجعل من عمله المعاشي صلاة وجهادًا في سبيل الله، إذا التزم فيه الشروط الآتية:

- أن يكون العمل مشروعًا في نظر الإسلام، أما الأعمال التي ينكرها الدين كالعمل في الربا والحانات، والمراقص ونحوها، فلا تكون ولن تكون عبادة أبدًا، «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا» (6).

- أن تصحبه النية الصالحة؛ نية المسلم إعفاف نفسه، وإغناء أسرته، ونفع أمته، وعمارة الأرض، كما أمر الله.

- أن يؤدي العمل بإتقان وإحسان، ففي الحديث: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» (7).

- أن يلتزم فيه حدود الله فلا يظلم ولا يخون، ولا يغش ولا يجور على حق غيره.

- ألا يشغله عمله الدنيوي عن واجباته الدينية كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9]، وفي قوله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور: 37].

إذا راعى المسلم هذه الأمور كان في سعيه عابدًا، وإن لم يكن في محراب، مبتهلًا إلى الله وإن لم يكن في صومعة.

عن كعب بن عجرة قال: مر علي النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله؟ (أي الجهاد لإعلاء كلمة الله، وكان أفضل العبادات عندهم) فقال: «إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان» (8).

ويخلع القرآن على السعي في مناكب الأرض، طلب الزرق، تسمية جميلة موحية برضا الله، فيسمي ذلك الابتغاء من فضل الله، مثل قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ} [الجمعة: 10]، {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، ويقرن المسافرين للرزق بالمجاهدين لله في سياق واحد إذ يقول: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ} [المزمل: 20].

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في فضل الزرع والغرس وما يجلب لصاحبه من مثوبة عند الله: «ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة» (9).

وفي ظل هذه التعاليم لا يجوز للمسلم، ولا يتصور منه، أن يكون عالة على غيره، أو عبئًا على المجتمع، يأخذ من الحياة ولا يعطيها، ويعتزل الناس والحياة باسم التفرغ للعبادة أو التبتل؛ بل يندفع بغير وازع خارجي إلى كل ميادين الحياة منتجًا متقنًا متفوقًا، وهو يوقن أنه في صلاة وجهاد (10).

إن نفس المؤمن لا تستكين، وهمته لا تلين، وكلما سكنت نفسه أحدث لها نشاطًا وقال لها: يا نفس، أبشري فقد قرب المنزل ودنا التلاقي فلا تنقطعي في الطريق دون الوصول، فيحال بينك وبين منازل الأحبة.

أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد تغلغل وترسخ حب العبادة في قلبه، وأعظم مظهر لعبادته أنه كان مسلمًا وجهه لله في جميع الحالات، كان يخشى الله في جميع أحواله ويذكره دائمًا ويستغفره فيقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (11).

كان يتعبد الله في الليل ويصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يقوم مصليًا حتى تنتفخ قدماه فيقال له: يا رسول الله، تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» (12).

لما كانت حياة السلف كلها عبادة، تزاحمت بينهم العبادات، بم يبدءون؟ وماذا يُقدِّمون؟ فأجاب العالم الرباني ابن القيم رحمه الله تعالى: إن أفضل الأعمال أحبها إلى الله وأرضاها له عز وجل في ذلك الوقت، ثم يفصّلُ قائلًا: فالأفضل في وقت حلول الضيف القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذا في أداء حقوق الزوجة، والأفضل في أوقات السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر، والأفضل في أوقات الأذان ترك ما هو فيه من ورد والاشتغال بإجابة المؤذن، والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجد والنصح في إقامتها والمبادرة إليها، والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج الاشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلواتك، والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته وحضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلوتك، والأفضل في وقت نزول النوازل وإيتاء الناس لك أداءُ واجب الصبر مع خلطتك بهم وعدم هربك منهم.

ثم يقول رحمه الله: ولا يزال العبد متنقلًا بين منازل العبودية، إن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين رأيته معهم، يسير على مراد ربه ولو كانت راحةُ نفسه ولذتها في سواه (13).

إن ما أصاب المسلمين في تاريخهم الطويل وما يصيبنا اليوم من المصائب الكثيرة إنما هو بسب الانحراف في مفهوم العبادة، وتطبيق شرطي العبادة: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

فترك الإخلاص نتج عنه صرف العبادة التي هي لله وحده إلى غيره من الخلق الفقراء ولو كانوا أنبياء أو ملائكةً أو أولياء، يتوسلون بالصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى.

والانحراف في المتابعة نتج عنه ظهور ألوان من العبادة لم يأذن بها الله ولم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، على هيئات وصور وأوراد وأشكال مبتدعة، سواءً أكانت في كيفيتها أو كمها أو هيئتها أو طريقة أدائها أو تمامها أو مكانها، هذه كلها مردودة على أصحابها لأنها تشريع لم يأذن به الله.

حصر بعض الناس العبادة بالشعائر التعبدية فقط، فحين يعبد ينقطع عن العمل، وحين يعمل ينقطع عن العبادة، هذا هو المفهوم السائد، ولسان مقالهم أو حالهم يردد المقولة الجاهلية: ما للدين وحجاب المرأة وعملها؟ ما للدين وسلوكنا الشخصي؟ ما للإسلام وزي المرأة؟ ما للدين والمعاملات الربوية؟

والمقصود عزل الدين عن الحياة وأسره وحصره بين جدران المسجد، لذا تجد بعض المسلمين مصليًا صائمًا قارئًا للقرآن، ثم لا يتورع أن يغش أو يرابي أو يظلم، وتجد المرأة المصلية الصائمة ثم لا تتورع أن تخالف الشرع بسفور أو اختلاط أو زينة محرمة.

المفهوم الواسع للعبادة يجعل المسلم ينبوعًا يفيض بالخير والرحمة يتدفق بالنفع والبركة، فتنشط همته وتقوى عزيمته للعبادة ونصرة الأمة.

إنك تستطيع في اليوم الواحد أن تضع لبنةً صالحة في بناء الأمة، وتضيف إلى ميزان عبادتك وحسناتك أعمالًا عظيمة لها ثقلها وقيمتها في ميزان الآخرة، وإن بدت عندك هينة خفيفة في الميزان.

واستمع قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل يمشي في طريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له» (14).

إن انحصار العمل الصالح في عبادات خاصة جعل بعض طلاب التقوى يشغلون أوقاتهم بتكرير أعمال محدودة، كأنهم لا يرون غيرها وسيلة إلى مرضاة الله وتركوا عمارة الأرض.

مبطلات العبادة:

اتقوا الله واحذروا ما يبطل العبادة أو يُذهب ثوابها:

- ومن ذلك الشرك بالله عز وجل، ومنه الرياء والسمعة، قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].

- ومن ذلك الإحداث في الدين، قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» (15).

- ومن ذلك ظلم الناس والتعدي عليهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فقد جاء في الحديث: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» (16).

- ومن ذلك بعض الكلمات الخبيثة التي ينطق بها الإنسان من غير تفكير في عواقبها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالًا، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا، يهوي بها في جهنم» (17)، وحدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن رجلًا قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك» (18).

وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق، فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فأدخل الجنة» (19).

إن عبودية الله تقتضي شغل جميع الجوارح والأحاسيس في طاعة الله وامتثال أمره، فيتعبد الله بترك ما يحرم استماعه من كلام أهل الكفر والإلحاد، ويتعبد الله بحفظ البصر عن النظر إلى ما حرم الله، ويستعمله في النظر المشروع؛ كالنظر في المصحف وكتب العلم، ويتعبد الله تعبدًا صحيحًا بجارحة اللسان، وذلك بإشغاله دائمًا بذكر الله وما والاه من الكلم الطيب، ويحفظه عن فضول الكلام مبتعدًا عن قول الزور واللّمز والاغتياب، وينشغل عن ذلك بالكلم الطيب من الذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح بين الناس، ويتعبد الله سبحانه وتعالى بجارحتي اليدين والرجلين فلا يبطش بيديه إلا لله، وفي الله، حسب مرضات الله، ويلاحظ التزام عبودية الله في رجليه حاصرًا مشيه بهما في طاعته ومرضاته، فيسعى بهما إلى إقامة الصلاة في الجمع والجماعات والتكسب للقيام بالواجب، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبّ الْعَـالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162- 163] (20).

مفهوم العبادة عند الصحابة:

فكان المفهوم الصحيح للعبادة في حس الأجيال الأولى أن عبادة الله هي غاية الوجود الإنساني كما فهموا من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ففهموا من هذه الآية أن غاية الوجود كله محصورة في العبادة لا تتعداها إلى شيء غيرها على الإطلاق فالنفي والاستثناء هما أقوى صور القصر في اللسان العربي، كذلك إحساسهم الصادق بعظمة لا إله إلا الله، ومن ثم لم ينحصر مفهوم العبادة في حسهم في نطاق الشعائر التعبدية وحدها، كما انحصر في حس الأجيال المتأخرة التي جاءت بفهم بعيد عن الإسلام، وفهموا أن الشعائر التعبدية ذات مقتضيات، وأنها لا تنتهى بذات نفسها، أي بمجرد أدائها، إنما تصحبها وتتبعها مقتضيات هي التي تعطيها معناها الحقيقي ومهمتها الحقيقية في حياة الأمة المسلمة.

فالكتاب والسنة أعطيا لكل شعيرة لكل من الشعائر التعبدية بعدًا نفسيًا وسلوكيًا لا يقتصر على أدائها؛ بل الأصح أن تقول يبدأ بأدائها ثم يمتد ليشمل مساحة واسعة من حياة الإنسان، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر} [العنكبوت: 45]، وقال أيضًا: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، وقال أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وقال صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (21)، ويقول أيضًا: «رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر» (22).

كان الصحابة رضوان الله عليهم يقومون بالعبادة وهم يمارسون حياتهم في شتى المجالات فيسألون أنفسهم هل هم في موضع يرضى الله أم موضع يسخط الله؟ فإذا كانوا في موضع الرضا حمدوا الله، وإن كانوا على غير ذلك استغفروا الله وتابوا إليه، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمرن: 135].

وكان إحساس المسلم في الجيل الأول بواجبه في الجهاد في سبيل الله كإحساسه بواجبه في الصلاة؛ هنا يعبد الله وهناك يعبد الله، ولا تغنى إحدى العبادتين عن الأخرى؛ لأن كل منهما بمفردها لا تحقق المعنى الكامل للعبادة التي يريدها الله.

وكذلك إحساسه بضرورة الزواج لكي يحصن نفسه من الفاحشة، ولكي يتخذ السبيل لتكثير الأمة المسلمة التي تجاهد لاقتلاع الشرك من الأرض، ونشر التوحيد، وإخراج الناس من عبادة غير الله إلى عبادة الله، وإقامة شريعته وإعلاء كلمته؛ فهو كان إحساس العبادة، ولا يتناقض في حسه معنى العبادة مع الإحساس بمتعة الجسد ما دامت في حلال أباحه الله سبحانه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقة»، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» (23).

وعلموا أن نشاط الجسد الطبيعي هو في الإسلام عبادة؛ ما دام يبتغى به وجه الله، ويلتزم فيه بطاعة الله وأوامره، فحياتهم كلها عبادة تشمل نشاط الروح والعقل والجسد؛ ما دام كله متوجهًا إلى الله، وملتزمًا بما أنزل الله، وفى الوقت ذاته عبادة لا تعنت الإنسان، ولا تكلفه مالا طاقة له به؛ لأنها تأخذ نشاطه الطبيعي، وهذا هو المفهوم الواسع والشامل للعبادة، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162- 163].

ونختم هنا بسؤال: على أي صورة ينبغي للمسلم أن يعبد ربه ليحقق غاية وجوده التي خلقه الله من أجلها وحصر فيها غاية وجوده؟؟

أولًا: يعبد الله بتوحيده، أي بالإقرار بأنه لا إله إلا الله سبحانه المتفرد بالربوبية والألوهية، المتفرد في أسمائه وصفاته وأفعاله، القادر على كل شيء، العالم بكل شيء، الواحد الأحد الفرد الصمد، المنفرد بالبقاء وكل مخلوق منتهى إلى زواله، المقدر للأرزاق والآجال، ثم تأتى الشعائر التعبدية في موضعها بعد الإقرار بلا إله إلا الله، فهي التي تربط القلب ربطًا دائمًا ومتجددًا بالله، وهى محطات التزود التي يتزود فيها الإنسان بالزاد الذى يعينه على بقية الطريق.

ولما طغت الماديات في زماننا انقلبت الموازين واختلفت المفاهيم، حتى ساد بين كثير من المسلمين بأن العبادة هي الشعائر الدينية والفرائض الوقتية، حتى غرقت الأمة بالذل والهوان والضعف والتقهقر، ولا يمكن أن تعود لمجدها وعزتها وقوتها حتى يستقر المفهوم الصحيح للعبادة، ويطبق بشكل دقيق، لأن العمل والتطبيق بعد العلم والفهم.

وعليه يجب أن يكون مفهوم العبادة شامل ومعناها واسع، ولا يقتصر على بعض الطاعات والأفعال والفرائض، فكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة إذا صحت النية وأحبها الله وارتضاها فهي عبادة، فحركاتك وسكناتك وتعاملاتك إذا أحسنت النية فيها فهي عبادة، وكذلك أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، بل تبسمك في وجه أخيك، وإماطة الأذى عن الطريق، والحياء عبادة، وصلة الأرحام وبر الوالدين، وحسن العشرة والأخوة في الله، والصدق في الحديث والتسامح مع الآخرين والصفح عنهم، وحسن الخلق وتجنب مواطن الشبهة والريبة، إلى غير ذلك من التعاملات والسلوكيات والعلاقات الاجتماعية.

فلو عاش الإنسان ومات لله ومع الله وفي سبيل الله بكل أحواله ومراحله وجوانبه، فإنه سيحقق معنى العبودية لله وحده لا شريك له، وتنقص تلك المرتبة بقدر تعلق قلب الإنسان بغير الله عز وجل حتى ينعكس على مجريات حياته.

لذلك يقول عليه الصلاة والسلام: «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة» (24)، وبالمقابل قال عليه الصلاة والسلام: «تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعررف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة» (25).

وإذا كانت العبادة غاية الوجود الإنساني، كما هي غاية كل وجود، فإن مفهومها لا يقتصر على المعنى الخاص الذي يرد إلى الذهن، والذي يضيق نطاقها، حتى يجعلها محصورة بأنواع الشعائر الخاصة التي يؤديها المؤمن، إن حقيقة العبادة تبدو في معنيين: أولهما عام، والأخر خاص .

أما العبادة بالمعنى العام؛ فإنها تعني السير في الحياة ابتغاء رضوان الله، وفق شريعة الله.

فكل عمل يقصد به وجه الله تعالى، والقيام بأداء حق الناس استجابة لطلب الله تعالى بإصلاح الأرض ومنع الفساد فيها، يعد عبادة، وهكذا تتحول أعمال الإنسان مهما حققت له من نفع دنيوي إلى عبادة إذا قصد بها رضاء الله.

فالعبادة ما تكاد تستقر حقيقتها في قلب المسلم، حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وحركة وبناء.

عبادة تستغرق نشاط المسلم؛ بخواطر نفسه، وخلجات قلبه، وأشواق روحه، وميول فطرته، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع الناس..

وبهذا الاستغراق، وهذا الشمول يتحقق معنى الخلافة في الأرض في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30].

لأن الخلافة في الأرض هي عمل هذا الكائن الإنساني، وهي تقتضي ألوانًا من النشاط الحيوي في عمارة الأرض والتعرف إلى قواها وطاقاتها وذخائرها ومكنوناتها، وتحقيق إرادة الله في استخدامها وتنميقها، وترقية الحياة فيها، كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة الله في الأرض، لتحقيق المنهج الإلهي الذي يتناسق مع الناموس الكوني العام.

ومن ثم يتجلى أن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني، أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى، أوسع وأشمل من مجرد الشعائر، وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعًا.

وإن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسين:

الأول: هو استقرار معنى العبودية لله في النفس، أي استقرار الشعور على أن هناك عبدًا وربًا، عبدًا يَعبد، وربًا يُعبد، وأن ليس وراء ذلك شيء، وأن ليس هناك إلا هذا الوضع، وهذا الاعتبار، ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود، وإلا رب واحد، والكل له عبيد.

الثاني: هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة، التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر، ومن كل معنى غير معنى التعبد لله، بهذا وذلك يتحقق معنى العبادة (26).

بهذا المفهوم الشامل المتكامل ينبغي أن نفهم حقيقة العبادة، وأن كل شيء في الحياة مع إخلاص النية وابتغاء مرضاة الله يكون عبادة، فكل مسلم في اختصاصه يستطيع تحقيق ذلك، فالاقتصادي عندما يتحرى الحلال والحرام ويؤصل لذلك ويربط هذا الجانب بالشريعة يكون ذلك له عبادة، وهكذا التاجر الذي يتحرى مصارف الزكاة ومستحقيها بشكل دقيق ويتعامل مع الناس بصدق وبر، والإعلامي المنافح الذي ينصر قضايا المسلمين فله دور كبير في ذلك، والطبيب والمهندس والأستاذ والداعية والكاتب والأديب والشاعر ... إلخ، كما يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي (27).

وكم نحن بحاجة لترسيخ هذه المفاهيم، وتحقيق العبادة على الوجه الصحيح؛ في زمن اضطرب فيه العلم، واختلفت المفاهيم وطغت الماديات، وكثر الهرج وساد الجهل، وضعفت الهمم وقلت الإرادة، وظهر الفساد في البر والبحر، وعم الظلم والفجور، وزلت أقدام وضلت أفهام، وكثر الاختلاف والتناحر، وعمت البلوى والتلون والتفاخر، إذ يقول حبيبنا عليه الصلاة والسلام: «عبادة في الهرج والفتنة كهجرة إلي» (28).

***

_____________

(1) مفهوم العبادة في الإسلام/ أرشيف اسلام أونلاين.

(2) شمولية مفهوم العبادة في الإسلام/ منتديات الألوكة.

(3) أخرجه الترمذي (2008).

(4) أخرجه مسلم (2569).

(5) أخرجه مسلم (553).

(6) أخرجه مسلم (1015).

(7) أخرجه مسلم (1955).

(8) أخرجه الطبراني في الكبير (282).

(9) أخرجه البخاري (2320)، ومسلم (1552).

(10) سعة مفهوم العبادة في الإسلام/ يوسف القرضاوي.

(11) أخرجه البخاري (6307).

(12) أخرجه البخاري (1130)، ومسلم (2819).

(13) مدارج السالكين (1/ 110).

(14) أخرجه البخاري (652)، ومسلم (1914).

(15) أخرجه مسلم (1718).

(16) أخرجه مسلم (2581).

(17) أخرجه البخاري (6478).

(18) أخرجه مسلم (2621).

(19) أخرجه مسلم (1914).

(20) المفهوم والمعنى الواسع للعبادة والطاعة في الإسلام/ موقع مداد.

(21) أخرجه البخاري (1903).

(22) أخرجه ابن ماجه (1690).

(23) أخرجه مسلم (1006).

(24) صحيح الجامع (2926).

(25) صحيح الجامع (2908).

(26) في ظلال القرآن (6/ 3387).

(27) جامع العلوم والحكم (ص: 23).

(28) صحيح الجامع (3974).