logo

الدعاة وفقه السنن الربانية


بتاريخ : الاثنين ، 25 صفر ، 1437 الموافق 07 ديسمبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
الدعاة وفقه السنن الربانية

لقد وجه القرآن الكريم المسلمين عامة والدعاة خاصة نحو الوعي بعالم الشهادة، فحثهم على النظر والتدبر والاستقراء؛ للكشف على قوانين المادة وسنن الاجتماع، كما نبّه إلى أهمية التعرف على السنن التاريخية، والإفادة من ذلك في الاعتبار وبناء الحضارة، وكيفية المحافظة عليها من السقوط.

إن القرآن الكريم غني بالجوانب الحضارية التي تتكفل بأن تنشئ أمة وتحيي جيلًا، وتقود الناس إلى طريق الله رب العالمين، لكن الأزمة ليست في غياب المنهج الذي يضبط، ولكن في العقل الذي يدرك، والقلب الذي يعي، والجوارح التي تعمل وتنفذ.

والسنن مجموعة القوانين التي يسير وفقها الوجود كله، وتتحرك بمقتضاها الحياة، وإن الدعوة القرآنية الدائمة إلى استنطاق التاريخ واستقراء الحوادث والأسباب وأخذ العبر والدروس منها؛ هي إشارة قرآنية واضحة إلى ضرورة استيعاب القوانين والسنن الربانية في مسيرة الأمم والمجتمعات، فالتأمل في أحوال الأمم هو من أجل اكتشاف السنن الثابتة التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، إذ يقول تبارك وتعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ} [آل عمران:137].

وهناك إرادة ربانية متجهة إلى بيان السنن التي تحكمت في مسار الأمم عبر التاريخ، إذ يقول تبارك وتعالى: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26].

وقد أرشد القرآن الكريم إلى هذه السنن، فذكرها نصًّا في بعض الأحيان؛ كقوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137]، وأحيانًا أخرى فهمت من النص دلالة وفحوى؛ كقوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام:10]، وذكرها تارة مضافة إلى الله؛ كقوله تعالى: {سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:85]، وذكرها تارة أخرى مضافة إلى أقوام؛ كقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [الكهف:55].

فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف، والأمور لا تمضي جزافًا إنما هي تتبع هذه النواميس، فإذا هم درسوها، وأدركوا مغازيها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام، واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق، ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، لينالوا النصر والتمكين بدون الأخذ بأسباب النصر، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول.

إن الله سبحانه يتلطف مع عباده فيبين لهم حكمة تشريعاته لهم، ويطلعهم على ما في المنهج الذي يريده لحياتهم من خير ويسر، إنه يكرمهم سبحانه وهو يرفعهم إلى هذا الأفق، الأفق الذي يحدثهم فيه، ليبين لهم حكمة ما يشرعه لهم، وليقول لهم: إنه يريد أن يبين لهم {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}.

يريد الله ليكشف لكم عن حكمته، ويريد لكم أن تروا هذه الحكمة، وأن تتدبروها، وأن تقبلوا عليها مفتوحي الأعين والعقول والقلوب، فهي ليست معميات ولا ألغازًا، وهي ليست تحكمًا لا علة له ولا غاية، وأنتم أهل لإدراك حكمتها، وأهل لبيان هذه الحكمة لكم، وهو تكريم للإنسان، يدرك مداه من يحسون حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، فيدركون مدى هذا التلطف الكريم(1).

وهذه السنن صارمة؛ تتسم بالاطراد والشمول والثبات، قال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]، وقال تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء:77].

وسنن الله كثيرة لا تقع تحت حصر، منها ما نعرفه ومنها ما نجهله، وقد نعرفه بعد البحث، ومنها ما لا يحيط بعلمه إلا الله، ذلك أن السنن ليس ما نعرفه فقط؛ وإنما ما لا نعرفه أيضًا، وما لا نعرفه أكثر كثيرًا مما نعرفه(2).

فينبغي إذن معرفتها وتدبرها واستيعابها والاستفادة منها، لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26]، ومن خلال السنن في كتاب الله، وسنة رسوله نفهم التاريخ على حقيقته، ونعرف عوامل البناء والأمن والاستقرار والتقدم، وعوامل الهدم والخوف والانحطاط والتخلف.

النظر في السنن الإلهية فريضة وضرورة، فهو فريضة للآيات الكريمة التي تحث على النظر والسير والاعتبار بمن خلوا، والتفكر في آثار الذاهبين؛ فالسعيد من وعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه.

وضرورة للظرف الراهن الذي يمر به المسلمون اليوم، ولأمر ما كانت توجيهات القرآن الكريم للمسلمين عقب كل قصة من قصصه في خلاصة نادرة، كأنها اختزال للحدث كله، وإشارة للاحقين للانتفاع من أحوال السابقين، فعندما تقرأ قصة قارون في سورة القصص تجد في نهايتها ما يشبه السنة العامة والقانون المطرد في قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].

وقد انتبه إلى أثر السنن في المجتمعات والاعتبار بها ابن تيمية رحمه الله فقال: «ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا، ولولا القياس واطراد فعله وسنته لم يصح الاعتبار بها؛ لأن الاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم نظيره؛ كالأمثال المضروبة في القرآن»(3).

إن إرشاد الله إيانا إلى أن له في خلقه سننًا يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علمًا من العلوم المدونة؛ لتستديم ما فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه، فيجب على الأمة في مجموعها أن يكون بها قوم يبينون لها سنن الله في خلقه، كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال، والعلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن يحمل عليه في مواضع كثيرة، وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم؛ إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها(4).

أهمية دراسة السنن الربانية:

1- فريضة شرعية وضرورة واقعية:

فقد أنزل الله هذا الكتاب وجعله آخر الكتب، وبين فيه ما لم يبينه في غيره، بين فيه كثيرًا من أحوال الخلق وطبائعهم، والسنن الإلهية في البشر، قص علينا أحسن القصص عن الأمم وسيرها الموافقة لسنته فيها، فلا بد للناظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر؛ في أطوارهم وأدوارهم، ومناشئ اختلاف أحوالهم، من قوة وضعف، وعز وذل، وعلم وجهل، وإيمان وكفر، ومن العلم بأحوال العالَم الكبير؛ علويه وسفليه، ويحتاج في هذا إلى فنون كثيرة، من أهمها التاريخ بأنواعه.

أجمل القرآن الكلام عن الأمم، وعن السنن الإلهية، وعن آياته في السماوات والأرض، وفي الآفاق والأنفس، وهو إجمال صادر عمن أحاط بكل شيء علمًا، وأمرنا بالنظر والتفكر، والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاءً وكمالًا، ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره، لكنا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده لا بما حواه من علم وحكمة(5).

إن إرشاد الله إيانا إلى أن له في خلقه سننًا؛ يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علمًا من العلوم المدونة لنستديم ما فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه، والعلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن سجل عليه في مواضع كثيرة، وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم؛ إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها(6).

2- فهم التاريخ وتحليل الأحداث:

فمن خلال السنن الإلهية نفهم التاريخ، ونفسر أحداثه تفسيرًا شرعيًا سليمًا ينفعنا في تقييم حاضرنا وتوقع مستقبلنا؛ وللأسف كثير من المسلمين اليوم لا يملكون القدرة على ربط النتائج بالأسباب، وكشف اللثام عن حقيقة السنن؛ بل قد يدهشهم الواقع دون تفسير حقيقي لما سيكون في الغد من أحداث، قد تكون سعيدة أو مؤلمة.

أما أصحاب البصائر من أهل العلم فهم يعرفون عوامل البناء والأمن والاستقرار والصحة والرفاهية، وعوامل الهدم والخوف والجوع والمرض، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَ