قواعد في الولاء والبراء
الولاء والبراء ركن ركين وأصل أصيل في عقيدة أهل السنة؛ فبها يكون ولاء العبد لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولدينه وللمؤمنين، ويكون البراء من أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأهل السنة هم أكثر الخلق تطبيقًا لقضية الولاء والبراء، فهم يوالون في الله تعالى ويتبرَّؤون لله تعالى، معيارهم ومقياسهم واحد، وهو مدى التزام مَنْ يُوالون بمنهج الله تعالى والتمسُّك بالعقيدة الصحيحة؛ مُعلين بذلك أواصر المودَّة والرحمة والمحبة في الله على كلِّ ما عداها من عصبيةٍ أو قبليةٍ أو حتى رحم.
ولقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم خير مَثَلٍ في هذا الأمر؛ ومن ذلك ما أورده ابن كثير رحمه الله في سبب نزول الآية، حيث قال: أُنزلت هذه الآية: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ...} إلى آخرها [المجادلة: 22]، في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، حين قَتَل أباه يوم بدر.
وقيل في قوله: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ}: نزلت في أبي عبيدة، قتل أباه يوم بدر، {أَوْ أَبْنَاءَهُمْ}: في الصديق، هَمَّ يومئذٍ بقتل ابنه عبدِ الرحمن، {أَوْ إِخْوَانَهُمْ}: في مصعب بن عمير، قَتَل أخاه عبيد بن عمير يومئذٍ {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}: في عمر، قَتَل قريبًا له يومئذٍ أيضًا، وفي حمزةَ وعليٍّ وعبيدةَ بنِ الحارث، قَتَلوا عتبةَ وشيبةَ والوليدَ بنَ عتبة يومئذٍ، والله أعلم (1).
قلت: ومن هذا القبيل حين استشار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في أُسارى بدر، فأشار الصديق بأن يفادوا، فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين، وهم بنو العمِّ والعشيرة، ولعلَّ اللهَ أنْ يهديهم.
وقال عمر: لا أرى ما رأى يا رسول الله، هل تُمكِّنني من فلانٍ -قريب لعمر- فأقتله، وتمكِّن عليًّا من عقيلٍ، وتمكِّن فلانًا من فلانٍ؛ ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادةٌ للمشركين... القصة بكمالها (2).
لقد طارت الدعوات الملحدة والمشبوهة لتقضي على هذا الأصل الأصيل، فنادى قوم بالأخوة وبالإنسانية والمساواة، وأن الدين لله، والوطن ليس لله، ويعبرون عنه بقولهم: الدين لله والوطن للجميع، والله يقول: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: ١٨٩].
يقول شيخ الاسلام بن تيمية: إن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله يقتضي ألا يحب إلا لله ولا يبغض إلى لله ولا يوالي إلا لله ولا يعادي إلا لله، وأن يحب ما أحبه الله ويبغض ما أبغضه الله (3).
والولاء والبراء ليس إيمانًا فحسب؛ بل هو أوثق عرى الإيمان؛ لأن الحب في الله والبغض في الله متفرع عن حب الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان» (4).
والولاء والبراء يحمل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا لم يكن هناك فرق بين الحق والباطل، ولا بين المؤمن والكافر، ولا بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان، يقول الإمام أحمد بن حنبل: وإلا كيف يبين للرجل ما هو عليه إذا لم ير منكرًا ولا جفوة من صديق (5).
أصل الولاء الحب والنصرة، وأصل البراء البعد والبغض، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أصل الموالاة هي المحبة، كما أن أصل المعاداة البغض، فإن التحاب يوجب التقارب والاتفاق، والتباغض يوجب التباعد والاختلاف (6).
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].
يربي القرآن وعي المسلم بحقيقة أعدائه، وحقيقة المعركة التي يخوضها معهم ويخوضونها معه، إنها معركة العقيدة، فالعقيدة هي القضية القائمة بين المسلم وكل أعدائه.. وهم يعادونه لعقيدته ودينه، قبل أي شيء آخر، وهم يعادونه هذا العداء الذي لا يهدأ لأنهم هم فاسقون عن دين الله، ومن ثم يكرهون كل من يستقيم على دين الله: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ} فهذه هي العقدة وهذه هي الدوافع الأصيلة! وقيمة هذا المنهج، وقيمة هذه التوجيهات الأساسية فيه عظيمة، فإخلاص الولاء لله ولرسوله ولدينه وللجماعة المسلمة القائمة على هذا الأساس، ومعرفة طبيعة المعركة وطبيعة الأعداء فيها.. أمران مهمان سواء في تحقيق شرائط الإيمان أو في التربية الشخصية للمسلم، أو في التنظيم الحركي للجماعة المسلمة..
فالذين يحملون راية هذه العقيدة لا يكونون مؤمنين بها أصلًا، ولا يكونون في ذواتهم شيئًا، ولا يحققون في واقع الأرض أمرًا ما لم تتم في نفوسهم المفاصلة الكاملة بينهم وبين سائر المعسكرات التي لا ترفع رايتهم، وما لم يتمحض ولاؤهم لله ورسوله ولقيادتهم الخاصة المؤمنة به، وما لم يعرفوا طبيعة أعدائهم وبواعثهم وطبيعة المعركة التي يخوضونها معهم، وما لم يستيقنوا أنهم جميعًا إلب عليهم، وأن بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة والعقيدة الإسلامية على السواء (7).
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: أصل الموالاة: الحب، وأصل المعاداة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة، كالنصرة والأنس والمعاونة وكالجهاد والهجرة، ونحو ذلك من الأعمال (8).
والولاء للكفار على قسمين:
أولهما: التولي؛ وضابطه أن يكون محبة ونصرة من أجل دين الكفار وعقيدتهم، فمن أحب الكافر لدينه أو عقيدته، أو نصر الكافر لدينه أو عقيدته كفر، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 144]، وقال تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28].
ثانيهما: الموالاة الظاهرة للكفار بأن تكون محبة أهل الشرك والأوثان لأجل الدنيا ولا تكون معها نصرة، وهذه لا تخرج عن الإسلام، يقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة، فتكون ذنبًا ينقص به إيمانه ولا يكون كافرًا، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] (9).
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن عن الآية: فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان ووصفه وتناوله النهي بعمومه وله خصوص السبب (10).
ومن مظاهر موالاة الكفار التشبه بهم، والتسمي بأسمائهم، ومشاركتهم في أعيادهم وتهنئتهم بها، ومدحهم والإشادة بهم، وبما هم عليه من الحضارة دون النظر إلى عقائدهم الباطلة ودينهم الفاسد.
قال تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57]، قال العلامة الشوكاني: هذا النهي عن موالاة المتخذين للدين هزؤًا ولعبًا يعم كل من حصل منه ذلك من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع المنتمين إلى الإسلام (11).
إن سماحة الإسلام مع أهل الكتاب شيء، واتخاذهم أولياء شيء آخر، ولكنها يختلطان على بعض المسلمين، الذين لم تتضح في نفوسهم الرؤية الكاملة لحقيقة هذا الدين ووظيفته، بوصفه حركة منهجية واقعية، تتجه إلى إنشاء واقع في الأرض، وفق التصور الإسلامي الذي يختلف في طبيعته عن سائر التصورات التي تعرفها البشرية وتصطدم- من ثم- بالتصورات والأوضاع المخالفة، كما تصطدم بشهوات الناس وانحرافهم وفسوقهم عن منهج الله، وتدخل في معركة لا حيلة فيها، ولا بد منها، لإنشاء ذلك الواقع الجديد الذي تريده، وتتحرك إليه حركة إيجابية فاعلة منشئة..
وهؤلاء الذين تختلط عليهم تلك الحقيقة ينقصهم الحس النقي بحقيقة العقيدة، كما ينقصهم الوعي الذكي لطبيعة المعركة وطبيعة موقف أهل الكتاب فيها، ويغفلون عن التوجيهات القرآنية الواضحة الصريحة فيها، فيخلطون بين دعوة الإسلام إلى السماحة في معاملة أهل الكتاب والبر بهم في المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه (12).
وعلى هذا فالولاء هو حب ونصرة لله عز وجل ولأوليائه، وكل من دخل في الإسلام له حظ من ولاية الله -قلَّت أو كثرت- ما يستحق بها من الحب والنصرة، وقد أمر بالولاء له ولأوليائه: قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)} [المائدة 55- 56].
ويحسن أن نبين أولًا معنى الولاية التي ينهى الله الذين آمنوا أن تكون بينهم وبين اليهود والنصارى.
إنها تعني التناصر والتحالف معهم، ولا تتعلق بمعنى اتباعهم في دينهم، فبعيد جدًا أن يكون بين المسلمين من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في الدين، إنما هو ولاء التحالف والتناصر، الذي كان يلتبس على المسلمين أمره، فيحسبون أنه جائز لهم، بحكم ما كان واقعًا من تشابك المصالح والأواصر، ومن قيام هذا الولاء بينهم وبين جماعات من اليهود قبل الإسلام، وفي أوائل العهد بقيام الإسلام في المدينة، حتى نهاهم الله عنه وأمر بإبطاله، بعد ما تبين عدم إمكان قيام الولاء والتحالف والتناصر بين المسلمين واليهود في المدينة..
وهذا المعنى معروف محدد في التعبيرات القرآنية، وقد جاء في صدد الكلام عن العلاقة بين المسلمين في المدينة والمسلمين الذين لم يهاجروا إلى دار الإسلام، فقال الله سبحانه: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا}، وطبيعي أن المقصود هنا ليس الولاية في الدين. فالمسلم ولي المسلم في الدين على كل حال.
إنما المقصود هو ولاية التناصر والتعاون، فهي التي لا تقوم بين المسلمين في دار الإسلام والمسلمين الذين لم يهاجروا إليهم.. وهذا اللون من الولاية هو الذي تمنع هذه الآيات أن يقوم بين الذين آمنوا وبين اليهود والنصارى بحال، بعد ما كان قائمًا بينهم أول العهد في المدينة (13).
وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].
وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم: مثل الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (14).
وهذه الموالاة لها مظاهرها ومقتضياتها وحقوقها:
أَولًا: الهجرة من بلاد الكفر إِلى بلاد المسلمين، ويستثنى من ذلك المستضعف، ومَن لا يستطيع الهجرة لأسباب شرعية، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)} [النساء: 97 - 101].
عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله» (15).
ويترتب عليه أن يقاتل المسلمون لاستنقاذ الضعاف من إخوانهم المسلمين، الذين لا يستطيعون الهجرة من دار الحرب وراية الكفر، وضمهم إلى الجماعة المسلمة في دار الإسلام، كي لا يفتنوا عن دينهم، ولا يستظلوا براية غير راية الإسلام، ولا يخضعوا لنظام غير نظامه، ثم لكي يتمتعوا بالنظام الإسلامي الرفيع، وبالحياة في المجتمع الإسلامي النظيف، وهو حق كل مسلم، والحرمان منه حرمان من أكبر نعم الله في الأرض، ومن أفضل طيبات الحياة: {وَمَا لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75] (16).
ثانيًا: نصرة المسلمين، ومعاونتهم بالنفس والمال واللسان، ومشاركتهم في أَفراحهم وأَحزانهم.
عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» (17).
ثالثًا: أن يحب للمسلمين ما يحبه لنفسه؛ من الخير ودفع الشر، وعدم السخرية منهم، والحرص على محبتهم ومجالستهم ومشاورتهم.
عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (18).
رابعًا: أداء حقوقهم من عيادة المريض، واتباع الجنائز، والرفق بهم، والدعاء والاستغفار لهم، والسلام عليهم، وعدم غشهم في المعاملة، ولا أكل أموالهم بالباطل.
عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع فذكر: عيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ورد السلام، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإبرار المقسم (19).
خامسًا: عدم التجسس عليهم، ونقل أَخبارهم وأَسرارهم إِلى عدوهم، وكف الأَذى عنهم، وإصلاح ذات بينهم.
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا» (20).
سادسًا: الانضمام إِلى جماعة المسلمين، وعدم التفرق عنهم، والتعاون معهم على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إن داء الأمة منها، كامن في جوفها، ودواؤها في يدها إن رامت عافية وشفاءً، فمصيبتنا في أنفسنا أعظم من مصيبتنا بأيدي أعدائنا، ولو اعتصمنا بحبل الله حقًّا ما أدالهم الله علينا، لكننا خذلنا ديننا فخَذَلَنَا، ولو عُدنا لرِحابه ورِياضه كما أُمرنا، لعادت لنا عزتنا وشموخنا، ولقد استطال أهل النفاق، وصال أهل الكتاب، وشمتت أمم الشرك، حتى كادت أن تقول بلسان حالها: وعَدَلْنا مَيلَ بدرٍ فاعتدل.
لقد جاءت الشريعة بالتأكيد على ضرورة الاجتماع، وسد كل ذرائع النزاع والافتراق المذموم بالقول والعمل، وأول الاجتماع هو اجتماع القلوب على المحبة في الله، والأخوة في دينه؛ ومن وصاياه صلى الله عليه وسلم: «وكونوا عباد الله إخوانًا»، ويكفيك إيجاب الله تعالى على نفسه الكريمة المقدسة بأن يحب من أحب فيه، فيا لها من كرامة ومنَّة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ» (21).
البراء بغض وعداوة:
وقد أمر الله بالبراءة من الكفر والكافرين، ونهى عن اتخاذهم أولياء، قال تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران 28]، وقال أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 144].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].
وهذه البراءة لها مظاهرها ومقتضياتها:
أولًا: بغض الشرك والكفر وأَهله، وعداوة الكافرين والمشركين، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].
ثانيًا: هجر بلاد الكفر، وعدم السفر إِليها إِلا لضرورة مع القدرة على إِظهار شعائر الدِّين.
السفر إلى بلادهم مع قلة العلم، وقلة البصيرة فيه ضرر كبير، وخطر عظيم، فإن الشرك بالله بينهم ظاهر، والمعاصي بينهم ظاهرة من الزنا، وشرب الخمور وغير ذلك، فالسفر إلى بلادهم ولا سيما مع قلة العلم، وقلة الرقيب، من أعظم الأسباب في الوقوع في الباطل، واتباع ما يدعو إليه الشيطان من الشبهات الباطلة، والشهوات المحرمة، وقد سافر كثير إليهم من أجل الدراسة، أو السياحة، أو العمل أو غير ذلك فرجعوا بشرٍ عظيم، وانحراف شديد، وربما رجع بعضهم بغير دينه إلا من سلمه الله ورحمه، وهم القليل.
فالإقامة ببلاد الكفار من الأسباب الموجبة لفساد الدين، وضياع الخلق، ومعلومٌ ما في هذه البلاد من انحلال، وفساد، وضياع إلى أبعد الحدود، وأقصى الغايات، وضرر الإقامة بهذه البلاد أكبر من نفعها؛ وذلك لما فيها من مجاورة الكافرين، وما قد يقتضيه من التعامل معهم بالحرام، والتأثر بأخلاقهم، ومعاملاتهم، وكثرة مشاهدة المنكرات العظيمة.
ثالثًا: عدم التشبه بهم فيما هو من خصائصهم، دينًا ودنيا؛ لأَنَّ ذلك يورث نوعًا من المودة والموالاة في الباطن، والمحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر.
والأصل أن التشبه بالكافرين فيما يختصون به في دينهم من لباسهم وأعيادهم وعباداتهم أنه محرم، وقد يكون كفرًا، إن كان تشبهًا مطلقًا في كل شيء، وقد يكون مكروهًا في بعض صوره، كالرطانة، وهي التكلم بالأعجمية، وكإفراد يوم عاشوراء بالصوم للتشبه باليهود.
قال شيخ الإسلام: وهذا الحديث -يعني حديث: «ومن تشبه بقوم فهو منهم»- أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} وهو نظير ما سنذكره عن عبد الله بن عمرو أنه قال: من بنى بأرض المشركين، وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة، فقد يحمل هذا على التشبه المطلق فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك، وقد يحمل على أنه منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفرًا، أو معصية، أو شعارًا لها كان حكمه كذلك (22).
رابعًا: أَلا يناصِرَ الكفار، ولا يمدحهم، ولا يعينهم على المسلمين، ولا يَرْكَن إِليهم، ولا يتخذهم بطانة له يحفظون سره، ويقومون بأهم أَعماله.
وقد حكى غير واحد من أهل العلم إجماع العلماء على أن إعانة الكفار على المسلمين، محبة لهم، ورغبة في انتصارهم على الإسلام وأهله، كفر مخرج من الملة.
أما أن يعين الكفار على المسلمين بأي إعانة، ويكون الحامل له على ذلك مصلحة شخصية، أو خوفًا، أو عداوة دنيوية بينه وبين من يقاتله الكفار من المسلمين، فهذه الإعانة محرمة، وكبيرة من كبائر الذنوب، ولكنها ليست من الكفر المخرج من الملة.
خامسًا: أَلا يشاركهم في أَعيادهم وأَفراحهم، ولا يهنئهم عليها، وكذلك لا يعظمهم ولا يخاطبهم؛ بالسيد والمولى، ونحوها.
سادسًا: عدم التحاكم إِليهم، أَو الرضى بحكمهم، وترك اتباع أَهوائهم ومتابعتهم في أَي أَمر من أمورهم؛ لِأَنَّ متابعتهم يعني ترك حكم الله ورسوله (23).
الولاء والبراء من لوازم التوحيد والإيمان:
التوحيدُ ولاءٌ وبراءٌ، ولاءٌ لله عبادةً ومحبةً، ولأوليائه محبةً ونصرةً، وبراءٌ من المعبودات الباطلة والعابدين لها، نفيٌ وإثباتٌ، وهذا حقيقة لا إله إلا الله، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256].
بل جعل ذلك شرطًا في الإيمان، كما قال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّه والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُون (81)} [المائدة: 80- 81].
الناس في الولاء والبراء مراتب:
الناسُ في الولاء والبراء على ثلاثة أقسام: ولاء من غير براء، وبراء من غير ولاء، وولاء وبراء.
فأما القسم الأول: فهم أصحاب الولاء من غير براء، والذين يحبون محبة خالصة لا معاداة معها، وهم المؤمنون الخلص من الأنبياء والصديقين والشهداءِ والصالحين، قال الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)} [المائدة: 55- 56].
وأما القسم الثاني: فهم أصحاب البراء من غير ولاء، وهم من يبغض ويعادى بغضًا ومعاداةً خالصين لا محبة ولا موالاة معهما، وهم الكفارُ الخُلَّصُ من الكفار والمشركين والمنافقين والمرتدين والملحدين على اختلاف أجناسهم، قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22].
وأما القسم الثالث: أصحاب الجمع بين الولاء والبراء، وهم الذين يحبون من وجهٍ ويُبغَضُون من وجه، فتجتمع فيه المحبة والعداوة وهم عصاة المؤمنين، يُحَبونَ لما معهم من الإيمان، ويُبْغَضونَ لما فيهم من المعصية التي هي دون الكفر والشرك.
قال شيخ الإسلام: إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية وسنةٌ وبدعةٌ، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، كاللص تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، وهذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم (24).
--------------
(1) تفسير ابن كثير (8/ 54).
(2) نفس المصدر.
(3) الاحتجاج بالقدر (ص: 62).
(4) أخرجه أبو داود (4681).
(5) غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (1/ 220).
(6) قاعدة في المحبة (ص: 387).
(7) في ظلال القرآن (2/ 908).
(8) الدرر السنية (2/ 157).
(9) مجموع الفتاوى (7/ 523).
(10) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 473).
(11) فتح القدير (ص: 412).
(12) في ظلال القرآن (2/ 909).
(13) في ظلال القرآن (2/ 909).
(14) أخرجه مسلم (2586).
(15) أخرجه أبو داود (2787).
(16) في ظلال القرآن (1/ 564).
(17) أخرجه البخاري (2442)، ومسلم (2580).
(18) أخرجه البخاري (13).
(19) أخرجه البخاري (2445).
(20) أخرجه البخاري (6064).
(21) أخرجه ابن حبان (575).
(22) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 271).
(23) قواعد في الولاء والبراء/ هيئة الشام الإسلامية.
(24) مجموع الفتاوى (28/ 209).