logo

كيف ندعو إلى الله


بتاريخ : الجمعة ، 17 محرّم ، 1437 الموافق 30 أكتوبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
كيف ندعو إلى الله

إن مهمة الدعوة اليوم أخطر بكثير من مهمتها في الظروف السابقة، فلم تعد مجرد التذكير؛ بل أوشكت أن تكون إعادة البناء، الذي تهاوت أسسه وأوشكت أن تنهار، في الوقت الذي تداعت فيه الأمم على الأمة الإسلامية من كل جانب، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها»، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن»، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت»(1).

وكلنا ثقة أن البناء سيعود بإذن الله، وسيعود شامخًا كما كان، والمبشرات كلها تشير إلى جولة جديدة للإسلام، ممكنة في الأرض، على الرغم من كل الحرب التي تشنها الجاهلية في الأرض كلها على الإسلام، ولكنها مهمة شاقة في الغربة الثانية للإسلام: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ»(2)، مهمة تحتاج إلى شغل فائق وبصيرة نافذة(3).

من أين نبدأ؟

إن تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال، ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمة التي تحاول هذا، أو الفئة التي تدعو إليه على الأقل، إلى (قوة نفسية عظيمة) تتمثل في عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ، وإيمان به، وتقدير له، يعصم من الخطأ فيه، والانحراف عنه، والمساومة عليه، والخديعة بغيره.

على هذه الأركان الأولية، التي هي من خصوص النفوس وحدها، وعلى هذه القوة الروحية الهائلة تُبنَى المبادئ، وتتربى الأمم الناهضة، وتتكون الشعوب الفتية، وتتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة زمنًا طويلًا(4).

وكل شعب فقد هذه الصفات الأربعة، أو على الأقل فقدها قُوَّاده ودعاة الإصلاح فيه، فهو شعب عابث مسكين، لا يصل إلى خير، ولا يحقق أملًا، وحسبه أن يعيش في جو من الأحلام والظنون والأوهام: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس:36] .

هذا هو قانون الله تبارك وتعالى وسنته في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلًا: {إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].

وإذا أردنا أن نتحدث عن أثر الدعاة في زماننا فمن المؤسف أن نقول أن الدعاة لم يعد لهم ذلك الأثر، وذلك للأسباب التالية:

- ضعف السلطة الزمنية، فلم تعد السلطات تؤيدهم وتحميهم.

- قلة الإنصاف، فنرى أن الموجات المادية طغت على الجانب الديني.

وهناك سبب آخر يرجع إلى الدعاة أنفسهم؛ فالدعاة لا يجددون أساليبهم؛ مما يؤدي إلى ملل الناس، وعدم إقبالهم على الدعوة، ولذلك يجب على الدعاة مواكبة التطور في أساليب الدعوة مع الواقع المعاش.

نصائح للدعاة:

على الداعية أن يدرك عدة أمور لكي يستمر في دعوته ويكسب قلوب الناس، ومن أهم هذه النصائح: أن يكون على معرفة شاملة بما يدعو إليه، وأن يتحرى الأسلوب المناسب في الدعوة، وأن تكون الدعوة إلى الله وإحقاق الحق هو هدفه، وليس مجرد العتاب والنقد، فطبيعة الإنسان أنه لا يتقبل النقد والعتاب، فيجب استبدال هذا الأسلوب بالتلطف مع الناس، ومخاطبتهم بما يحبون.

ويجب عليه أن يحسن التصرف والاتصال مع الناس، وذلك بأن يُنْزِل الناس منازلهم، وحسن الاتصال بهم يكون بزيارة مريضهم، وتلبية حاجاتهم، والوقوف إلى جانبهم.

وعليه أيضًا أن يكون ملمًا بتاريخ الحركات حتى يكتسب خبرة؛ ليستطيع مخاطبة كل منهم بالأسلوب الذي يقنعه، وأن يخاطب الناس بما يمكنهم تنفيذه، ويزن ألفاظه جيدًا، فليس كل ما يعرف يقال، وليعلم أن سر النجاح هو إخلاص النية لله تعالى؛ حتى يحصل على توفيقه وعونه(5).

الآداب التي يجب مراعاتها:

هذه الدعوة لا بد لها من ضوابط وآداب ينبغي مراعاتها، ومن هذه الضوابط: وجوب مراعاة التعامل مع كل فئة بحسبها، فمن كان متقبلًا للدعوة فأسلوب التعامل معه يختلف عن أسلوب التعامل مع المعرض عنها، كما يختلف عن أسلوب التعامل مع المحارب لها.

معرفة نفوس المدعوين أولًا قبل دعوتهم، فالناس الذين يخاطبهم الدعاة، من الأنبياء فمن بعدهم، هم على ثلاث أصناف:

الصنف الأول: محب للحق وموافق لك عليه، يريد أن يصل إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، ويريد أن يسير معك في الطريق القويم، لا بد أن تدعوه إلى الله ولا تقل: «انتهيت، علمته الفاتحة، وعرفته بكيفية الصلاة، إذًا فليصبح هو داعية»، لا؛ بل هو مدعو، وكل إنسان مدعو، حتى أكبر العلماء علمًا، فهو مدعو بالنسبة إلى من يعظه أو ينصحه أو يذكره.

الصنف الثاني: الذي يوافقك في الحق، ويؤمن بما تؤمن به وتدين به، ولا يخالفك فيما تدعو إليه، ولكنه في حالة غفلة، وغلبة هوى أو شهوة، أو إعراض عما تريد أن تدعوه إليه.

الصنف الثالث من الناس: هو الصنف المعاند المكابر المعادي لك، إذا دعوته إلى الله سبحانه وتعالى.

ولن تجد من الناس غير هذه الأصناف الثلاثة، وهذه الآية العظيمة قد بينت لنا كيف ندعو الناس بحسب هذه الأحوال، فيقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125]، الحكمة مع من؟ الحكمة مع الراغب في الحق، المتبع له، الساعي إليه، الذي جاءك يسعى وهو يخشى، هذا تدعوه إلى الله بالحكمة، وتعلمه بالحكمة.

فمن جاءك يريد أن يطلب العلم على يديك ليدعو إلى الله، فإن الحكمة هنا أن تبدأ معه بصغار العلم قبل كباره، أن تبدأ معه بالأساسيات والضروريات قبل التفصيلات والتفريعات، أن تبين له أهم هذه العلوم ثم ما يليه ثم المهم... إلخ.

وفي جانب الدعوة تبين له المنكر الأكبر الذي يجتنبه، ثم المنكر الكبير، ثم المكروهات، وفي جانب الواجبات تبين له أول ما يلتزم به ويحرص عليه، ثم ما يليه، ثم الذي يليه وهكذا، وهذا هو أحد جوانب الحكمة معه(6).

ويجب عليه أيضًا توفير الاحترام للآخرين، والتحلي بآداب العلماء، ولا بد لهم من دراسة المحيط الذي يحيط بالمدعوين، فبعض المدعوين يكون متأثرًا بفكرة أو بدعة من الصعب تغيرها، فهؤلاء عليه بالدخول في الموضوع لهم من طريق غير طريق الشيء المقتنعين به؛ أي عليه أن يستدرجهم إلى الحق دون البدء بهدم صنمه.

فعلى الداعية أن يجد مفتاحًا إلى قلوب المدعوين حتى يكسب قلوبهم، فلا يجوز للداعية أن يبيت سلفًا أن كلمته هي العليا، وأن المخالف له كافر أو آثم، فإن رأى الداعية في موقفه ضعفًا فعليه أن يوقف الحوار، ويتحين فرصة أخرى لاستكمال البحث، فإن رأى أن هناك نقاطًا مشتركة بينه وبين المدعوين فعليه أن يتمسك بهذه النقاط المشتركة، ويبين لهم مدى التوافق بينه وبينهم.

إذن فالمهمة العظمى للداعية هي نشر الحق والدعوة إلى الله، وليس مقصوده نشر رأيه بين الناس والدفاع عن فكرته، فهذا هو التعصب بعينة، فعليه إذن اتباع الدليل والبرهان في دعوته، وأن يتجنب الجدل والمراء الباطل فهو في زوال وفناء.

أهمية العمل الجماعي:

من الأمور المهمة التي تقع المسئولية فيها على عاتق الدعاة تقديم الخدمات الاجتماعية، والسعي الدءوب لتلبية حاجات الناس؛ وذلك بزيارة مريضهم، وإغناء فقيرهم، وتزويج عاجزهم، وغيرها الكثير، وهذه الأمور كما لا يخفى عليه لها دور كبير في إنجاح الدعوة العامة، ومن المهم أن ننبه على خطر انشغال الحركات الإسلامية بإقامة الدولة الإسلامية على حساب تقديم الخدمات وإقامة المنشآت(7).

هناك من يدعو إلى الله بإخلاص، هناك من يدعو إلى ذاته بدعوة مغلفة إلى الله عز وجل، الذي يدعو بإخلاص يتبع ولا يبتدع، الذي يدعو إلى ذاته يبتدع ولا يتبع، الذي يدعو إلى الله بإخلاص يتعاون ولا يتنافس، الذي يدعو إلى ذاته يتنافس ولا يتعاون، الذي يدعو إلى الله بإخلاص يقدر ما عند الناس من فضائل ومن علم، والذي يدعو إلى ذاته ينكر ما عند الآخرين.

ما من فرقة ضالة في العالم الإسلامي منذ ظهور الإسلام وحتى يوم القيامة إلا وتتلبس بأربع صفات:

أولًا: تأليه الأشخاص.

ثانيًا: التخفف من التكاليف.

ثالثًا: اعتماد النصوص الضعيفة والموضوعة.

رابعًا: النزعة العدوانية.

فكل متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا بد من أن يدعو إلى الله على بصيرة، فإن لم يفعل فهو ليس متبعًا لرسول الله، هذه حقيقة.

يمكن أن تكون أكبر داعية وأنت صامت؛ لأن الصدق وحده دعوة، والأمانة دعوة، والاستقامة دعوة، والتفوق في الدنيا دعوة، والصبر دعوة، هناك دعاة ناطقون، ودعاة صامتون، ولعل الدعاة الصامتين أشد تأثيرًا في الناس من الدعاة الناطقين.

قواعد الدعوة:

القدوة قبل الدعوة، الإحسان قبل البيان، التيسير لا التعسير، مخاطبة العقل والقلب معًا، التربية لا التعرية، الدليل والتعليل، معرفة الآمر قبل الأمر، التدرج لا الطفرة، المتفق عليه لا المختلف عليه، المبادئ لا الأشخاص، المضامين لا العناوين، الأصول قبل الفروع، هذه بعض قواعد الدعوة، وكلها مستقاة من الكتاب والسنة.

يحب أن تكون طبيبًا متفوقًا، أو مهندسًا، أو من اختصاص نادر، ويمكن أن تحقق كل أهدافك، أما الذين يتعاملون معك فلا يهمهم السلوك الشخصي إطلاقًا، ننتفع بعلم الطبيب دون أن نهتم بأخلاقه أو سلوكه الشخصي، إلا عالم الدين فلا يمكن أن يصغي إليه أحد، ولا يستمع إليه أحد إلا إذا رأوا عمله مطابقًا لقوله.

هناك نفاق اعتقادي؛ أن تقول ما لا تعتقد، وما أكثرهم، وهناك نفاق عملي؛ أن تفعل ما لا تقول، والداعية الصادق هو الذي لا تجد مسافة إطلاقًا بين ما يقول وما يعتقد، وبين ما يقول وبين ما يفعل، التطابق تام(8).

والمسلم في الدعوة إلى الله تعالى يقابل بيئات مختلفة، ويتعامل مع أصناف شتى من الناس، ‏في ظل ظروف متباينة؛ لذا كان المسلم في حاجة ماسة إلى المعرفة بسياسة الدعوة في دعوته الناس إلى ‏دين ربهم العزيز الحميد، السياسة التي يكون هدفها العمل على تحقيق الغاية من الخلق بالطرق المناسبة؛ ‏لتحقيق الهدف في ظل مراعاة البيئات المتعددة، وأصناف الناس، والظروف المحيطة بالداعية والمدعو، ‏وهذا هو الإصلاح الحقيقي الذي يعمد إلى تحقيق المقاصد الحميدة بأقصى قدر ممكن في ظل الأوضاع ‏والظروف القائمة، من غير أن تتدخل تلك الظروف أو الأوضاع، فتحرف مسار المقاصد ‏والأهداف، فإن السياسة الحقة هي عمل ما فيه الصلاح.

الملامح العامة لأساليب وطرائق السياسة الشرعية في الدعوة إلى ‏الله تعالى:‏

1-‏ مراعاة الظروف المحيطة، وأحوال البيئة التي تتم فيها الدعوة، فينبغي على الداعية ‏دراسة البيئة دراسة جيدة، فيعرف عادات الناس وأخلاقهم، ونقاط الضعف والقوة لديهم، كما يعلم ‏عقائدهم وعباداتهم، وما يتعلق بهم، حتى تكون خطواته الدعوية متناسقة مع تلك الأوضاع، للحصول ‏على أكبر قدر من النتائج الحسنة في الدعوة.

وليس معنى ذلك الانحناء أمام هذه الظروف والأحوال، ‏وجعلها تعرض نفسها أو معطياتها على الدعوة, بحيث تؤثر في مضمون الدعوة بالتغيير أو التمييع، ‏ولكن الداعية يتصرف مع مراعاة الظروف، فلا هو يستسلم لهذه الظروف ولا هو يغالبها، إذا كانت ‏أكبر من استطاعته، فتغلبه.

ولنأخذ المثال التطبيقي على ذلك من سيرة الرسولصلى الله عليه وسلم، فعندما أوحى ‏الله إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم‏‏ كانت البيئة المحيطة كلها بيئة شركية، فكانت مواجهتهم له في بادئ ‏الأمر فيها نوع من المغالبة التي لا يستطيعها الإنسان بمفرده، هذا من جانب، ومن الجانب الآخر فقد ‏يموت الداعية أو يقتل قبل أن يتمكن من كسب أحد من الناس ليقوم بمهام الدعوة من بعده، وهذا قد ‏يؤدي في النهاية إلى إفشال المشروع الدعوي برمته، كما أن الرضوخ لهذا الواقع والاستسلام ‏لضغوطه بحيث تكون مهمة الدعوة إجراء بعض الترقيعات على الواقع، والتي قد لا تؤثر كثيرًا، كان ‏في هذا أيضًا انحراف بالدعوة عن طريقها، فماذا فعل الرسول‏ إزاء ذلك الوضع؟

لقد سلك ‏الرسول صلى الله عليه وسلم ‏طريقًا وسطًا بحيث يحافظ على نقاء الدعوة، وتوصيل الحق كاملًا غير منقوص، في الوقت ‏الذي لا يغالب فيه الواقع الذي هو فوق الطاقة المحدودة للفرد، فقد لجأ الرسول‏صلى الله عليه وسلم إلى الدعوة ‏الفردية السرية، فبدأ بدعوة من يأنس فيهم الرشد ورجاحة العقل في إدراك الحق، فحافظ بذلك على ‏نقاء الدعوة، مع أمنه من مضايقات المشركين ومغالبتهم له في أول الأمر، وليس في هذا تقصير من ‏ناحية عدم تعميم الدعوة؛ لأن هذا القدر كان هو الممكن، وكان هذا من السياسة الحكيمة التي اتبعها ‏الرسول في توصيل الدعوة وتبليغها.

وبعض الناس لا يفطنون لذلك؛ فيريد أن يبلغ الشريعة كلها من ‏غير نظر إلى ما حوله، فيصطدم بما يعوقه عن تحقيق قصده، وربما صرفه ذلك العجز عن الدعوة نهائيًا، ‏وهو إنما أُتي من عدم علمه بالسياسة الشرعية في الدعوة، وظنه أن كل ما هو معلوم لديه ينبغي قوله ‏وإذاعته(9).

ولشيخ الإسلام رحمه الله تعالى كلام نفيس في ذلك؛ عما ينبغي على العالِم أن يقوم من البيان ‏والتبليغ، فيقول رحمه الله تعالى: «فالعالِم في البيان والبلاغ كذلك; قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى ‏وقت الت