logo

عزيز عليه ما عنتم


بتاريخ : الاثنين ، 26 ذو الحجة ، 1443 الموافق 25 يوليو 2022
بقلم : تيار الاصلاح
عزيز عليه ما عنتم

قال عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، لم يركز دين، أو تشريع، أو مجتمع، أو قوم على قضية الأخلاق مثل ما فعل الإسلام، فالأخلاق تحتل منزلة عظيمة، ومكانة عالية، وحجر الزاوية في البناء الإنساني الذي يريد دين الفطرة أن يصوغه.

وكي لا تكون دعوة الإسلام إلى حسن الخلق منقطعة عن المرجع، جاء حسن الخلق في أبهى معانيه، وأكمل صوره، متمثلًا في شخصية نبي الإسلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الذي لم يوجد شخص في تاريخ الإنسانية قاطبة تم توثيق حياته بتفاصيلها ودقائقها، مثل ما وثِّقت حياته صلى الله عليه وسلم، وفي هذا أكبر دليل على الإرادة الربانية لهذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم كي يكون دفترًا أبيضًا ناصعًا بالنور والبهاء، تستلهم الإنسانية وخصوصًا المسلمون منه معاني النبل والسمو الإنساني، فقد كان يتحرك تحت مرأى العالم نائمًا ومستيقظًا، صغيرًا وكبيرًا، مريضًا وصحيحًا، في بيته، ومع أصحابه، وفي خلوته، كل ذلك من أجل أن ترى البشرية الإعجاز الربّاني الذي تمثل في خُلُقه صلى الله عليه وسلم، ومن أجل أن ينقاد أولو الألباب إلى دعوة الحق، فيفوزوا ويفلحوا.

ولذلك جاءت الآية الكريمة في سورة التوبة تتحدث عن بعض أوجه مناقبه وشمائله وخصائصه العظيمة صلى الله عليه وسلم، وتمتع النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المستوى العالي من حسن الخلق يشكل بذاته دعوة عملية لكل من يؤمن به ويتبعه إلى أن يرتقي بخلقه، ويعلو بها.

من تلك الخصائص والشمائل تفكيره بالمسلمين؛ بل بالبشرية جمعاء وخوفه عليها من الوقوع في المشقة والعَنَت، وكذلك الحرص الشديد على وصول أنوار الهداية والتوحيد لكل الناس، استنقاذًا لهم من هلاك محقق في حال ابتعادهم عن رسالة الله تبارك وتعالى لهم.

ثم تتوج هذه الخصال في الآية الكريمة بالرأفة والرحمة التي يختزنها النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، وشدة حرصه عليهم، وعلى ألا يمسهم أي مكروه.

لقد بلغ حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أمته مبلغًا عظيمًا، كما قال أبو ذر رضي الله عنه: تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علمًا قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُين لكم» (1).

ومن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أمته خوفه عليهم الهلاك في الدنيا والآخرة، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وهم يقتحمون فيها» (2).

قال ابن حجر: وفي الحديث ما كان فيه صلى الله عليه وسلم من الرأفة والرحمة والحرص على نجاة الأمة كما قال تعالى: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (3).

قال النووي: مقصود الحديث؛ أنه صلى الله عليه وسلم شبه تساقط الجاهلين والمخالفين بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة، وحرصهم على الوقوع في ذلك مع منعه إياهم وقبضه على مواضع المنع منهم؛ بتساقط الفراش في نار الدنيا لهواه، وضعف تمييزه، فكلاهما حريص على هلاك نفسه، ساع في ذلك لجهله (4).

حرص نبينا صلى الله عليه وسلم على أن يتمتع الناس بحياة سعيدة طيبة، لكن للأسف الناس يعرضون عن شريعته وعن سنته، حتى إن كثيرًا من المنتسبين إلى الإسلام تجدهم أبعد ما يكونون عن السنة النبوية ظاهرًا وباطنًا، فيصابون بأنواع القلق والاضطراب والشقاء في الحياة الدنيا قبل الآخرة!

ومن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أمته بكاؤه عليها وشدة خوفه من وقوعها في العذاب، كما في الحديث الصحيح؛ عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي..} [إبراهيم: 36]، وقال عيسى عليه السلام: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، فرفع يديه وقال: «اللهم أمتي أمتي» وبكى، فقال الله عز وجل: «يا جبريل اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فسله ما يبكيك؟» فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله: «يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك» (5).

قال النووي: هذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد؛ منها بيان كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته واعتنائه بمصالحهم واهتمامه بأمرهم، ومنها استحباب رفع اليدين في الدعاء، ومنها البشارة العظيمة لهذه الأمة زادها الله تعالى شرفًا بما وعدها الله تعالى بقوله: «سنرضيك في أمتك ولا نسوءك» وهذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة أو أرجاها، ومنها بيان عظم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى وعظيم لطفه سبحانه به صلى الله عليه وسلم، والحكمة في إرسال جبريل لسؤاله صلى الله عليه وسلم إظهار شرف النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه بالمحل الأعلى، فيسترضى ويكرم بما يرضيه والله أعلم (6).

ومن حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخرة على أمته وخوفه عليهم ورحمته لهم أنه يسأل الله تعالى إخراج من وقع في النار من أمته، كما ثبت في حديث الشفاعة الطويل العظيم، أن الناس يأتون يوم القيامة إلى بعض الأنبياء فكل منهم يقول: نفسي نفسَي، ثم يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيشفع للناس في القضاء وفي إخراج أهل الكبائر من أمته من النار، كما قال صلى الله عليه وسلم: « فيأتوني فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأنطلق، فآتي تحت العرش، فأقع ساجدًا لربي، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده، وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه لأحد قبلي، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقال: يا محمد، أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، والذي نفس محمد بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى» (7).

فسبحان الله! كم بين قول الرسل عليهم السلام: «نفسي نفسي»، وبين قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «أمتي أمتي»، من معاني عظيمة وأسرار كريمة؟

وقوله تعالى: {عَزِيز عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي يعز عليه الشيء الذي يعْنِت أُمَّته ويشق عليها ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه أنه قال: «بعثت بِالحنيفية السمحة» (8)، وقوله عز وجل: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي على هدايتكم ووصول النَّفع الدنيوي والأُخروي إليكم (9).

هناك شخص عطوف رحيم يفكر بنا ويهتم بنا على الدوام، فقد بُعث رحمة، وهذه الرحمة مستمرة للعالمين، كما ورد في القرآن الكريم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].

إن هذا النبي الحريص على الأمة الرؤوف الرحيم بها لهو حقيق بأن يطاع، وأن يقتفى أثره وتتبع سنته ويستمسك بحبله ويعظم أمره، ويدافع عن ملته وشرعته صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.

فمعنى الآية عند أهل التفسير: لقد بعث الله فيكم رسولًا منكم يشقُّ عليه الأمرُ الذي يشقُّ عليكم ويُعنِتكم؛ إذ العَنَت هو: المشقة ولقاء المكروه الشديد، ولا سيما ما يُخاف منه الهلاك، ومنه: عز على فلان الأمر: ثقل واشتد عليه.

وفي تفسير المنار: أي: شديد على طبعه وشعوره المرهف عنتكم؛ لأنه منكم، وهذا يشمل ما يكون في الدنيا، وما يكون في الآخرة، فلا يهون عليه أن يكونوا في دنياهم أمة ضعيفة ذليلة يعنتها أعداؤها بسيادتهم عليها وتحكمهم فيها، ولا أن يكونوا في الآخرة من أصحاب النار (10).

لا يلقي بكم في المهالك، ولا يدفع بكم إلى المهاوي، فإذا هو كلفكم الجهاد، وركوب الصعاب، فما ذلك من هوان بكم عليه، ولا بقسوة في قلبه وغلظة، إنما هي الرحمة في صورة من صورها.

الرحمة بكم من الذل والهوان، والرحمة بكم من الذنب والخطيئة، والحرص عليكم أن يكون لكم شرف حمل الدعوة، وحظ رضوان الله، والجنة التي وعد المتقون (11).

ولا غرابة أن يتصف الحبيب صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة العظيمة، التي تفيض عاطفة وتتجسد رحمة؛ فقد كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن، وفي الصحيح: «إنَّ هذا الدين يُسْر» (12)، وشريعته كلُّها سهلة سمحة كاملة، يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه.

وقد نفى الله عز وجل قصد الشقاء في إنزال القرآن وتشريع الأحكام، قال الله تعالى: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)} [طه: 1-3].

قال الشيخ السعدي رحمه الله: أي: ليس المقصود بالوحي وإنزال القرآن عليك وشرع الشريعة لِتشقَى بذلك، ويكون في الشريعة تكليف يشقّ على المكلَّفين، وتعجز عنه قوى العاملين، وإنَّما الوحي والقرآن والشرع، شَرَعه الرحيم الرحمن، وجَعَلَه موصِلًا للسعادة والفلاح والفوز، وسهَّله غايةَ التسهيل، ويسّر كلّ طرقه وأبوابه، وجعله غذاء للقلوب والأرواح، وراحة للأبدان، فتلقّته الفطر السليمة والعقول المستقيمة بالقبول والإذعان، لعلمها بما احتوى عليه من الخير في الدنيا والآخرة، ولهذا قال: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى}: إلا ليتذكر من يخشى الله تعالى، فيتذكر ما فيه من الترغيب والترهيب إلى أجلّ المطالب فيعمل بذلك، ومن الترهيب عن الشقاء والخسران فيرهب منه، ويتذكر به الأحكام الحسنة الشرعيّة المفصّلة التي كان مستقرًا في عقله حسنُها مجملًا، فوافق التفصيلُ ما يجده في فطرته وعقله، ولهذا سمّاه الله تذكرة، والتّذكرة لشيء كان موجودًا، إلا أنّ صاحبه غافلٌ عنه (13)

بل إن رحمته صلى الله عليه وسلم لا تقف عند حد مؤمنِ أمتِه، بل حتى كافرهم، كان محلّ الرحمةِ وعزةِ العنتِ؛ كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 21].

قال الإمام الطبري مرجحًا عمومَ الآية على قول من خصصها بالمؤمنين: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ ابن عباس؛ وذلك أن الله عمَّ بالخبر عن نبيّ الله أنه عزيز عليه ما عنت قومَه، ولم يخصص أهل الإيمان به، فكان صلى الله عليه وسلم -كما جاء الخبرُ من- الله به، عزيزٌ عليه عَنَتُ جمعهم.

فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يوصف صلى الله عليه وسلم بأنه كان عزيزًا عليه عنتُ جميعهم، وهو يقتل كفَّارَهم، ويسبي ذراريهم، ويسلبهم أموالهم؟ قيل: إن إسلامهم، لو كانوا أسلموا، كان أحبَّ إليه من إقامتهم على كفرهم وتكذيبهم إياه، حتى يستحقوا ذلك من الله، وإنما وصفه الله جل ثناؤه بأنه عزيزٌ عليه عنتهم؛ لأنه كان عزيزًا عليه أن يأتوا ما يُعنتهم، وذلك أن يضلُّوا فيستوجبوا العنت من الله بالقتل والسبي (14).

ومن يتأمل آيات القرآن الكريم؛ يجد مصداقَ ذلك في وصف الله عز وجل شعورَ نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بسبب السيءِ من ردود الفعل من أهل الكفر، كالتي وصف الله تعالى في قوله سبحانه: {وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} [لقمان: 23]، وقوله جل وعلا: {وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [آل عمران: 176]، وقوله سبحانه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يقُولُونَ} [الأنعام: 33]، وقوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].

ومن يتأمل سيرته صلى الله عليه وسلم يلحظ ذلك جليًّا، حتى عاتبه ربه في موضوع أسرى بدر، كما في آية الأنفال؛ وفي موضوع لقاء كبراء قريش في سورة عبس وتولى، مع أنه كان مجتهدًا في رفع العنت عنهم، متحريًا الصواب في دعوتهم، وأمثلة ذلك في السيرة العطرة من الكثرة بمكان.

ومن ذلك: أمره صلى الله عليه وسلم لثمامة بن أثال رضي الله عنه برفع المقاطعة الاقتصادية النجدية عن مكة.

ومن ذلك أيضًا: فكُّه الحصارَ عن الطائف كما في الصحيحين، مع أن التقارير العسكرية التي ترتفع للقيادة النبوية تؤكِّد قرب الفتح؛ طمعًا في إسلامهم.

ومثله ردُّه صلى الله عليه وسلم لسبي هوازن كما في الصحيح، وما جرى من تداول عظيم بشأن ذلك.

بل لقد كان صلى الله عليه وسلم يعز عليه العنت في التعبد، والزيادة في العمل مما كان يراه شاقًّا على الأمة، كما في الصحيحين، في قصة مراجعته صلى الله عليه وسلم ربَّه في عدد الصلوات المفروضة حتى استقرت على خمس في الفعل وخمسين في الأجر بعد أن كانت خمسين في الفعل والأجر.

ومن ذلك: ما جرى منه بعسفان حين أعلن الفطر عمليًّا في نهار رمضان كما في الصحيحين؛ وذلك حين شعر بأن الصوم في السفر قد شق على أصحابه رضوان الله عليهم.

بل لقد كان صلى الله عليه وسلم يعمل بعض الأعمال من أعمال التعبد، فينقطع عنها خشية أن تفرض على أمته! صلوات ربي وسلامه عليه (15).

وبهذه الصفات الجليلة، التي جزء من شخصيته الفذّة التي صاغها المولى عز وجل، تتمثل القدوة البشرية في شخصه الكريم، ولذلك تمتع الصحابة من بعده بحسن الخلق، والمناقب والشمائل الإسلامية، لأنهم رأوها سلوكًا عمليًا متحققًا في أقوال نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وتقريراته صلى الله عليه وسلم.

وقد ذكرت كتب السيرة أن عمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاصي تواعدوا موضعًا يصبحون عنده، ثم يهاجرون إلى المدينة، فاجتمع عمر وعياش وحبس عنهما هشام، ولما قدما عمر وعياش المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قد هاجر بعد، بل كان لا يزال بمكة المكرمة، قدم أبو جهل بن هشام وأخوه الحارث بن هشام إلى عياش فقالا له: إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك.

حينئذ قال له عمر بن الخطاب: يا عياش إنه والله، إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فقال عياش: أبر قسم أمي ولي هناك مال فأخذه، قال له عمر: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالًا، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما، فلمَّا أبى ذلك قال عمر: أما إذ فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من أمر القوم ريب فانج عليها، فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه، قال: بلي، فأناخ وأناخها ليتحولا عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه رباطًا، ثم دخلا به مكة المكرمة، ففتناه فافتتن.

ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة أنزل الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)} [الزمر: 53- 55].

 ولما نزلت هذه الآيات قال عمر بن الخطاب: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام ابن العاص، قال فقال هشام: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها حتى قلت: اللهم فهمنيها، قال: فألقى الله تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول لأنفسنا ويقال فينا، قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم (16).

أي سمو عظيم عند ابن الخطاب رضي الله عنه لقد حاول، مع أخيه عياش، أعطاه نصف ماله، على ألا يغادر المدينة، وأعطاه ناقته ليفر عليها، ومع هذا كله، فلم يشمت بأخيه، ولم يَتَشَفَّ منه لأنه خالفه، ورفض نصيحته، وألقى برأيه خلف ظهره، إنما كان شعور الحب والوفاء لأخيه هو الذي يسيطر عليه، فما أن نزلت الآية حتى سارع ببعثها إلى أخويه، ولكل المستضعفين هناك ليقوموا بمحاولات جديدة للانضمام إلى المعسكر الإسلامي (17).

 

-------------

(1) أخرجه الطبراني (1647).

(2) أخرجه البخاري (6483).

(3) فتح الباري (11/ 318).

(4) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 246).

(5) أخرجه مسلم (202).

(6) شرح النووي على مسلم (3/ 79).

(7) أخرجه البخاري (4712)، ومسلم (194).

(8) أخرجه أحمد (22291).

(9) تفسير ابن كثير (4/ 241).

(10) تفسير المنار (3/ 369-370).

(11) في ظلال القرآن (3/ 1743).

(12) أخرجه النسائي (5034).

(13) تفسير السعدي (ص: 502).

(14) تفسير الطبري (14/ 586).

(15) عزّ على محمد صلى الله عليه وسلم عنت أمته وضعفها/ صيد الفوائد.

(16) سيرة ابن هشام (1/ 476).

(17) التربية القيادية (2/ 160).