logo

كيف نتعامل مع المخطئ؟


بتاريخ : الاثنين ، 11 جمادى الأول ، 1444 الموافق 05 ديسمبر 2022
بقلم : تيار الاصلاح
كيف نتعامل مع المخطئ؟

عامل الناس على أنهم بشر يخطئون ويصيبون، وليسوا ملائكة معصومين، قال صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون» (1).

فلا تسرف في العتاب، ولا تعنف في الخطاب، قبل أن تعرف الدوافع والأسباب، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه عن سبب وقوعه في خطئه وذكر عظيم فضله، وأنه يحتمل منه ما لا يحتمل من غيره، ولقد جعلها سنة اقتفى أثره فيها من بعده من قادة الدعوة في التعامل مع المخطئين؛ فأبو بكر رضي الله عنه يغفر لمسطح خطاءه ويرد عليه فضله وصلته.

وهناك معايير في محاسبة الرائد لأفراده على أخطائهم، ينبغي أن تكون واضحة، إذ بواسطتها يستطيع أن يزن الأسلوب والوسيلة التي يستخدمها في عملية المحاسبة كمًا وكيفًا وهي:

أولًا: التفريق بين المخطئ الجاهل والمخطئ عن علم:

ومن القصص الواضحة في هذا؛ ما حدث لمعاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، لما جاء إلى المدينة من البادية، ولم يكن يدري عن تحريم الكلام في الصلاة، قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم؟ تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله، ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» (2).

قال النووي: فيه بيان ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظيم الخلق الذي شهد الله تعالى له به، ورفقه بالجاهل، ورأفته بأمته وشفقته عليهم، وفيه التخلق بخلقه صلى الله عليه وسلم في الرفق بالجاهل، وحسن تعليمه، واللطف به، وتقريب الصواب إلى فهمه (3).

فالجاهل يحتاج إلى تعليم، وصاحب الشبهة يحتاج إلى بيان، والغافل يحتاج إلى تذكير، والمصرّ يحتاج إلى وعظ، فلا يسوغ أن يسوّى بين العالم بالحكم والجاهل به في المعاملة والإنكار، بل إن الشدة على الجاهل كثيرًا ما تحمله على النفور ورفض الانقياد، بخلاف ما لو علّمه أولًا بالحكمة واللين؛ لأن الجاهل عند نفسه لا يرى أنه مخطئ، فلسان حاله يقول لمن يُنكر عليه: أفلا علمتني قبل أن تهاجمني.

وقد يُجانب المُخطئ الصواب وهو لا يشعر؛ بل قد يظنّ نفسه مصيبًا فيُراعى لأجل ذلك: جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن المغيرة بن شعبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكل طعاما، ثم أقيمت الصلاة، فقام، وقد كان توضأ قبل ذلك، فأتيته بماء ليتوضأ منه، فانتهرني وقال: «وراءك»، فساءني والله ذلك، ثم صلى، فشكوت ذلك إلى عمر، فقال: يا نبي الله إن المغيرة قد شق عليه انتهارك إياه، وخشي أن يكون في نفسك عليه شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس عليه في نفسي شيء إلا خير، ولكن أتاني بماء لأتوضأ، وإنما أكلت طعامًا، ولو فعلت فعل ذلك الناس بعدي» (4).

ويُلاحظ هنا أن تخطئة النبي صلى الله عليه وسلم لمثل هؤلاء الصحابة الأجلاء لم تكن لتؤثر في نفوسهم تأثيرًا سلبيًا فتحملهم على كره أو نفور؛ بل إنها كانت تؤثر في نفوسهم تأثيرًا إيجابيًا، فيبقى الواحد منهم بعد تخطئته من النبي صلى الله عليه وسلم وجلًا مشفقًا متهمًا نفسه، يعيش في حرج عظيم لا يسرِّي عنه إلا أن يتأكد من رضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه.

ويُلاحظ في هذه القصة كذلك أن تخطئة النبي صلى الله عليه وسلم للمغيرة لم تكن غضبًا من شخص المغيرة؛ ولكن شفقة على الناس، وتبيينًا لهم حتى لا يظنوا ما ليس بواجب واجبًا؛ فيقعوا في الحرج.

ثانيًا: التفريق بين الخطأ الناتج عن اجتهاد صاحبه وبين خطأ العمد والغفلة والتقصير:

ولا شكّ أن الأول ليس بملوم؛ بل إنه يؤجر أجرًا واحدًا إذا أخلص واجتهد، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجر واحد» (5).

وهذا بخلاف المخطئ عن عمد وتقصير فلا يستويان، فالأول يعلّم ويناصح بخلاف الثاني فإنه يوعظ ويُنكر عليه.

ويجب أن يكون الاجتهاد الذي يُعذر به صاحبه اجتهادًا سائغًا من شخص مؤهل، بخلاف من يفتي بغير علم أو لا يُراعي الأحوال، ولذلك اشتد إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على المخطئين في قصة صاحب الشجّة، فقد روى أبو داود في سننه، عن جابر رضي الله عنه، قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلًا منا حجر، فشجه في رأسه، فاحتلم فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، قال: «قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال» (6).

قال الإمام الخطابي في هذا الحديث: من العلم أنه عابهم بالفتوى بغير علم، وألحق بهم الوعيد بأن دعا عليهم، وجعلهم في الإثم قتلة له (7).

عن أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلًا قال: لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقال لا إله إلا الله وقتلته؟!» قلت يا رسول انما قالها خوفًا من السلاح، قال: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا؟ من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟» فمازال يكررها حتى تمنيت أن لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم (8).

لقد كان الناس يستفتونه عليه الصلاة والسلام، في الوقائع فيفتيهم، وترفع إليه القضايا فيقضي فيها، ويرى الفعل الحسن فيستحسنه ويثني على فاعله ويرى الفعل المغاير فينكره، ويتعلم منه أصحابه رضوان الله عليهم ذلك، ويرويه بعضهم لبعضهم الآخر فيشيع بين الآخرين، وقد يختلفون فيتحاورون فيما اختلفوا فيه بدافع الحرص، دون أن يجاوزا ذلك إلى التنازع والشقاق، وتراشق الاتهامات وتبادل الطعون لأنهم بالرجوع إلى كتاب الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم يحسمون أي خلاف دون أن تبقى أية رواسب يمكن أن تلقي ظلالها على أخوّتهم (9).

وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» (10)، فلم يعتبر هذا الثالث معذورًا.

ومن الأمور التي تضبط درجة إنكار الخطأ مراعاة البيئة التي حصل فيها الخطأ؛ مثل انتشار السنة أو البدعة، وكذلك مدى استشراء المنكر أو وجود من يفتي بجوازه من الجهلة أو المتساهلين ممن يراهم الناس شيئًا.

ثالثًا: إرادة المخطئ للخير لا تمنع من الإنكار عليه:

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس، فسأل عنه، قالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، قال: «مروه فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه» (11).

قال القاضي رحمه الله: أمره صلى الله عليه وسلم بالوفاء بالصوم والمخالفة فيما عداه، فدل على أن النذر لا يصح إلا فيما فيه قربة (12).

فلما نذر عبادة غير مشروعة من الصمت والقيام والتضحية أمره بفعل المشروع وهو الصوم في حقه ونهاه عن فعل غير المشروع.

عن عمرو بن يحيى، قال: سمعت أبي، يحدث، عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قبل صلاة الغداة، فإذا خرج، مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن قلنا: لا، بعد. فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج، قمنا إليه جميعًا، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته ولم أر -والحمد لله- إلا خيرًا، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصا، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئًا انتظار رأيك أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم، ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصا نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم أو مفتتحو باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن «قومًا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم»، وايم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم.

فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج (13).

وكم من مريد للخير لم يصبه، وهذه عبارة عظيمة جدًا، أهل البدع لا أحد منهم يقول: أنا أريد شرًا، لا أصحاب المسابح الألفية ولا أصحاب الصلوات النارية، ولا أصحاب الأذكار الصمدية، ولا أصحاب اللطيفية، يا لطيف أربعة آلاف وأربعمائة وأربعين مرة! ولا أصحاب البدع المختلفة من الموالد وغيرها.

ولا يقول: أريد بدعة، كلهم يقول: نريد الخير، نريد إحياء القلوب، نريد الذكر والحسنات، نريد الأجر، نريد التحميس، نريد الضبط وهكذا، فقال ابن مسعود: وكم من مريدٍ للخير لم يصبه! أي: فكونكم تريدون الخير، لا يبرر العمل -إذا كان العمل خطأ فالمائة الحسنة لا تبرره، يبقى العمل خطأ ولو كانت النية حسنة.

ليت أصحاب البدع من الصوفية وغيرهم يفقهون هذه الكلمة، النية الحسنة لا تبرر البدعة، تبقى البدعة بدعة، والخطأ خطأ ولو كانت نية حسنة، ولو كان يقصد الخير، ولو قال لك: اجتمعنا في المولد في اثني عشر ربيع الأول لنتذكر سنة محمد صلى الله عليه وسلم وسيرته، ولو كنتم تريدون الخير، ولو كنتم تقصدون إحياء السيرة وتذكرها، يبقى الاحتفال بالمناسبة بدعة، والاجتماع عليها بدعة، ويبقى إظهار الاحتفال والفرح بها عيدٌ مبتدع مخالف، وكم من مريدٍ للخير لم يصبه (14).

رابعًا: العدل وعدم المحاباة في التنبيه على الأخطاء:

لم يمنع كون أسامة بن زيد حبّ النبي صلى الله عليه وسلم وابن حبه أن يشتدّ عليه في الإنكار حينما حاول أن يشفع في حدّ من حدود الله، فقد روت عائشة رضي الله عنها، أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتشفع في حد من حدود الله»، ثم قام فاختطب، ثم قال: «إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (15).

وموقفه عليه الصلاة والسلام من أسامة رضي الله عنه دالّ على عدله، وأن الشرع عنده فوق محبة الأشخاص، والإنسان قد يسامح من يريد في الخطأ على شخصه ولكن لا يملك أن يُسامح أو يُحابي من يخطئ على الشرع.

وبعض الناس إذا أخطأ قريبه أو صاحبه لم يكن إنكاره عليه مثل إنكاره على من لا يعرفه، وربما ظهر تحيز وتمييز غير شرعي في المعاملة بسبب ذلك؛ بل ربما تغاضى عن خطأ صاحبه وشددّ في خطأ غيره.

وعين الرضا عن كلّ عيب كليلة      ولكنّ عين السُّخط تُبْدي المساوئ

وهذا ينعكس على تفسير الأفعال أيضًا، فقد يصدر الفعل من شخص محبوب فيُحمل على محمل، ويصدر مثله من شخص آخر فيُحمل على محمل آخر.

وكل ما سبق مقيد بما إذا استوت الأحوال وإلا فقد يكون هناك تفاوت في الاعتبارات كما سيأتي ذكره.

خامسًا: الحذر من إصلاح خطأٍ يؤدي إلى خطأ أكبر:

من المعلوم أن من قواعد الشريعة تحمّل أدنى المفسدتين لدرء أعلاهما، فقد يسكت الداعي عن خطأ لئلا يؤدي الأمر إلى وقوع خطأ أعظم.

لقد سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن المنافقين، ولم يقتلهم مع ثبوت كفرهم، وصبر على أذاهم لئلا يقول الناس محمد يقتل أصحابه، خصوصًا مع خفاء أمرهم، ولم يهدم النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة ليبنيها على قواعد إبراهيم الخليل؛ من أجل أن قريشًا كانوا حديثي عهد بجاهلية، وخشي عليه الصلاة والسلام أن لا تحتمل ذلك عقولهم، وتَرَك البنيان على ما فيه من النقص، والباب على ارتفاعه وإغلاقه عن العامة، مع أن في ذلك نوعًا من الظلم.

وقبل ذلك نهى الله تعالى عن سبّ آلهة المشركين مع أنه طاعة وقربة إذا كان ذلك يؤدي إلى سب الله عز وجل وهو أعظم منكر.

فقد يسكت الداعية عن منكر أو يؤجل الإنكار أو يغيّر الوسيلة إذا رأى في ذلك تلافيًا لخطأ أو منكر أكبر، ولا يُعتبر ذلك تقصيرًا ولا تخاذلًا مادام صادق النية لا يخاف في الله لومة لائم، وكان الذي منعه مصلحة الدين لا الخور والجبن.

سادسًا: إدراك الطبيعة التي نشأ عنها الخطأ:

هناك بعض الأخطاء التي لا يمكن إزالتها بالكلية لأمر يتعلق بأصل الخلقة؛ ولكن يمكن تقليلها والتخفيف منها؛ لأن التقويم النهائي يؤدي إلى كارثة كما هو الشأن في المرأة؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء» (16).

قال ابن حجر رحمه الله تعالى: قوله: «بالنساء خيرًا» كأن فيه رمزًا إلى التقويم برفق بحيث لا يُبالغ فيه فيكسر ولا يتركه فيستمر على عوجه.. فيؤخذ منه أن لا يتركها على الاعوجاج إذا تعدّت ما طُبعت عليه من النقص إلى تعاطي المعصية بمباشرتها، أو ترك الواجب؛ وإنما المراد أن يتركها على اعوجاجها في الأمور المباحة، وفي الحديث المداراة لاستمالة النفوس وتألف القلوب، وفيه سياسة النساء بأخذ العفو منهن، والصبر على عوجهن، وأن من رام تقويمهن فاته الانتفاع بهن، مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بها على معاشه فكأنه قال: الاستمتاع بها لا يتمّ إلا بالصبر عليها (17).

سابعًا: التفريق بين الخطأ في حق الشرع والخطأ في حق الشخص:

فإذا كان الدين أغلى عندنا من ذواتنا وجب علينا أن ننتصر له ونحامي عنه ونغضب له أكثر مما نغضب لأنفسنا وننتصر لها، وإن من ضعف الحمية الدينية أن ترى الشخص يغضب لنفسه إذا سبّه أحد ولا يغضب لدين الله إذا اعتدى على جنابه أحد أو تراه يدافع باستحياء وضعف.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسامح من أخطأ عليه كثيرًا، وخصوصًا جُفاة الأعراب تأليفًا لقلوبهم، وأما إذا كان الخطأ على الدين فإنه صلى الله عليه وسلم كان يغضب لله تعالى.

ثامنًا: الإنكار على المخطئ الصغير بما يتناسب مع سنّه:

عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن الحسن بن علي، أخذ تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بالفارسية: «كخ كخ، أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة» (18).

قال المصنف: هذه اللفظة تقال في الشيء الواضح التحريم؛ وإن لم يكن المخاطب عالمًا بذلك، وتقديره، عجب كيف خفي عليك هذا مع ظهور تحريمه، وهذا أبلغ في الزجر من قوله لا تفعل (19).

وبهذا يتبين أن صِغَر الصغير لا يمنع من تصحيح خطئه؛ بل ذلك من إحسان تربيته، وهذا مما ينطبع في ذاكرته ويكون ذخيرة لمستقبله، فالحديث الأول فيه تعليم الطفل الورع، والثاني فيه تعليمه الأدب في الاستئذان، وعدم الاطّلاع على العورات.

تاسعًا: الحذر عند الإنكار على النساء الأجنبيات:

حتى لا يُفهم الإنكار فهمًا خاطئًا، وحتى تؤمن الفتنة فلا يُتساهل في كلام الشاب مع الفتاة الشابة بحجة بيان الخطأ أو الإنكار والتعليم، وكم جرّ هذا من مصائب، وينبغي أن يتاح في هذا المجال دور كبير لأهل الحسبة ومن يقوم معهم بالإنكار من كبار السن.

وعلى الآمر الناهي أن يعمل بما غلب على ظنه في جدوى الإنكار، فإن غلب على ظنه النفع تكلم، وإلا أحجم عن الكلام مع سفيهات ربما رمينه ببهتان وهنّ مصرّات على الباطل.

ويبقى حال المجتمع ومكانة الآمر الناهي لها دور أساسي في نجاح عملية الإنكار أو التبليغ وإقامة الحجة، وفيما يلي قصّة:

عن عاصم، عن مولى أبي رهم، واسمه عبيد، أن أبا هريرة، لقي امرأة متطيبة تريد المسجد، فقال: يا أمة الجبار أين تريدين؟ قالت: المسجد، قال: وله تطيبت؟ قالت: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «أيما امرأة تطيبت، ثم خرجت إلى المسجد، لم تقبل لها صلاة حتى تغتسل» (20).

عن أبي هريرة قال: مرت بأبي هريرة امرأة وريحها تعصف، فقال لها: إلى أين تريدين يا أمة الجبار؟ قالت: إلى المسجد قال: تطيبت؟ قالت: نعم قال: فارجعي فاغتسلي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقبل الله من امرأة صلاة خرجت إلى المسجد وريحها تعصف حتى ترجع فتغتسل» (21).

وهناك أمور أخرى تحتاج إلى مراعاة في باب التعامل مع الأخطاء مثل:

- التفريق بين الخطأ الكبير والخطأ الصغير، وقد فرقت الشريعة بين الكبائر والصغائر.

التفريق بين المخطئ صاحب السوابق في عمل الخير والماضي الحسن -الذي يتلاشى خطؤه أو يكاد في بحر حسناته- وبين العاصي المسرف على نفسه، وكذلك فإن صاحب السوابق الحسنة يُحتمل منه ما لا يُحتمل من غيره.

- التفريق بين من وقع منه الخطأ مرارًا وبين من وقع فيه لأول مرة.

- التفريق بين من يتوالى منه حدوث الخطأ وبين من يقع فيه على فترات متباعدة

- التفريق بين المجاهر بالخطأ والمستتر به.

- مراعاة من دينه رقيق ويحتاج إلى تأليف قلب فلا يُغلظ عليه.

- اعتبار حال المخطئ من جهة المكانة والسلطان.

- عدم الانشغال بتصحيح آثار الخطأ وترك معالجة أصل الخطأ وسببه.

- عدم تضخيم الخطأ والمبالغة في تصويره.

- إعطاء الوقت الكافي لتصحيح الخطأ، خصوصًا لمن درج عليه واعتاده زمانًا طويلًا من عمره، هذا مع المتابعة والاستمرار في التنبيه والتصحيح.

- تجنب إشعار المخطئ بأنه خصم، ومراعاة أن كسب الأشخاص أهم من كسب المواقف (22).

-------------

(1) أخرجه ابن ماجه (4251).

(2) أخرجه مسلم (537).

(3) شرح النووي على مسلم (5/ 20).

(4) أخرجه أحمد (18219).

(5) أخرجه الترمذي (1326).

(6) أخرجه أبو داود (336).

(7) عون المعبود وحاشية ابن القيم (1/ 367).

(8) أخرجه مسلم (96).

(9) أدب الاختلاف في الإسلام (ص: 45).

(10) أخرجه أبو داود (3573).

(11) أخرجه البخاري (6704).

(12) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (6/ 2247).

(13) أخرجه الدارمي (210).

(14) دروس للشيخ محمد المنجد (14/ 18)، بترقيم الشاملة آليًا.

(15) أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688).

(16) أخرجه البخاري (3331)، ومسلم (1468).

(17) فتح الباري (9/ 954).

(18) أخرجه البخاري (3072).

(19) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (3/ 129).

(20) أخرجه ابن ماجة (4002).

(21) أخرجه ابن خزيمة (1682).

(22) موقع الإسلام سؤال وجواب (13/ 134)، بترقيم الشاملة آليًا.