logo

مراتب الهداية في كتاب الله


بتاريخ : الخميس ، 26 ربيع الأول ، 1442 الموافق 12 نوفمبر 2020
بقلم : تيار الاصلاح
مراتب الهداية في كتاب الله

الهداية نعمة ومنّ وفضل من الله تعالى: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ} [النساء: 94] يعني: كنتم ضُلالًا فمنَّ الله عليكم بالهداية، وقال سبحانه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: «يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضُلالًا، فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟» (1).

فلو شاء الله جمع الناس على الهدى، وجعلهم أمة واحدة على التوحيد، وعلى الحق، ولكن اقتضت حكمته أن يقسمهم هذه القسمة، وقال: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم» (2).

قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].

ويقول سبحانه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت: 17].

فالهداية فضل منه يوفق الله إليها من أراد هدايته، ويمده بأسباب ذلك، ويعينه عليه.

وتنقسم الهداية في القرآن الكريم إلى نوعيين رئيسيين:

الأول هو الهداية التكوينية، والهداية التكوينية هي تجهيز المخلوق وتزويده بما يوصله للهدف الذي خلق من أجله، فنحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق المخلوقات لغاية وهدف، فلا يتصور ولا يمكن أنْ يكون هناك شيء خلقه تعالى من دون هدف وغاية وحكمة من خلقه، لأنه عز وجل منزه عن العبثية واللهو واللعب، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الأنبياء: 16]، فكل مخلوق خلق لغاية وهدف، والهداية التكوينية هي تزويد هذه المخلوقات بأجهزة وغرائز، أو يلهمها سبحانه وتعالى بإلهامات أو يوحي إليها بإيحاءات، وعن طريق ذلك تسلك طريقها في الوصول إلى هدفها وغايتها المنشودة التي خلقت من أجلها، وهذه الهداية عامة تشمل كافة المخلوقات، وقد صرّح الحق بذلك في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 2- 3]، وقوله: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50].

فكل مخلوق قد استفاد من هذه الهداية، ومن أمثلتها في المخلوقات ما في النمل، ويحدثنا ابن القيم عن نوع آخر من مخلوقات الله، ويبين لنا هداية الله لها في معاشها فيقول: وهذا النمل من أهدى الحيوانات، وهدايتها من أعجب شيء، فإن النملة الصغيرة تخرج من بيتها وتطلب قوتها، وإن بعدت عليها الطريق، فإذا ظفرت به حملته وساقته في طرق معوجة بعيدة ذات صعود وهبوط في غاية من التوعر حتى تصل إلى بيوتها، فتخزن فيها أقواتها في وقت الإمكان.

فإذا خزنتها عمدت إلى ما ينبت منها ففلقته فلقتين؛ لئلا ينبت فإن كان ينبت مع فلقه باثنتين فلقته بأربعة، فإذا أصابه بلل وخافت عليه العفن والفساد انتظرت به يومًا ذا شمس فخرجت به، فنشرته على أبواب بيوتها، ثم أعادته إليها، ولا تتغذى منها نملة مما جمعه غيرها.

 ويكفي في هداية النمل ما حكاه الله سبحانه في القرآن عن النملة التي سمع سليمان كلامها وخطابها لأصحابها بقولها: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18]، فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه من خاطبته، ثم أتت بالاسم المبهم، ثم أتبعته بما يثبته من اسم الجنس إرادة العموم، ثم أمرتهم بأن يدخلوا مساكنهم فيتحصنون من العسكر، ثم أخبرت عن سبب هذا الدخول، وهو خشية أن يصيبهم مضرّة الجيش، فيحطمهم سليمان وجنوده، ثم اعتذرت عن نبي الله وجنوده بأنهم لا يشعرون بذلك، وهذا من أعجب الهداية.

وتأمل كيف عظم الله سبحانه شأن النمل بقوله: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17]، ثم قال: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} [النمل: 18]، فأخبر أنهم بأجمعهم مروا على ذلك الوادي، ودل على أن ذلك الوادي معروفٌ بالنمل كوادي السباع ونحوه، ثم أخبر بما دل على شدة فطنة هذه النملة ودقة معرفتها حيث أمرتهم أن يدخلوا مساكنهم المختصة بهم، فقد عرفت هي والنمل أن لكل طائفة منها مسكنًا لا يدخل عليهم فيه سواهم، ثم قالت: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ}، فجمعت بين اسمه وعينه، وعرفته بهما، وعرفت جنوده وقائدهم، ثم قالت: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18]، فكأنها جمعت بين الاعتذار عن مضرة الجيش بكونهم لا يشعرون وبين لومة أمة النمل حيث لم يأخذوا حذرهم، ويدخلوا مساكنهم، ولذلك تبسم نبي الله ضاحكًا من قولها، وإنه لموضع تعجب وتبسم (3).

الثاني: الهداية التشريعية: وهي إراءة طريق السعادة والدعوة إليه، وتبيان طريق الهلاك والغواية والتحذير منه، فهي هداية خاصة بالموجود العاقل المدرك، مفاضة عليه بواسطة عوامل خارجيّة عن ذاته، وذلك عن طريق الأنبياء والرّسل والكتب السماوية والعلماء والمصلحين وغير ذلك، ومن أمثلتها في القرآن الكريم قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، فهداية القرآن الكريم المشار إليها في هذه الآية هي من سنخ الهداية التشريعية.

وهناك هداية تعرف بالهداية التوفيقية، وهي من أقسام الهداية التكوينية، وهي فيض من الله سبحانه وتعالى يفيضه على العبد الذي اهتدى بالهداية التشريعية، وهي -أي الهداية التوفيقية- مزيد من التوفيق من الله للعبد ينوّر بها قلبه الذي يطوي مسيرة الكمال للوصول إليه سبحانه، فيبصره الله سبحانه بحقائق الأمور، وكلما طوى العبد خطوات في طريق الكمال وجاهد نفسه وبذل قصارى جهده في الالتزام بتعاليم الشرع المقدس يفيض الله عليه من هذه الهداية، وفي القرآن الكريم العديد من الآيات الكريمة التي تشير إلى هذا القسم من الهداية، ومنها قوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} [مريم: 76]، ومنها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]، فالمهتدون بالهداية التشريعية، ونتيجة لاختيارهم طريق الهداية وابتعادهم عن طريق الضلال والغواية ولتقيّدهم عقيدة وعملًا بدين الله الحنيف يكونون في معرض المزيد من اللطف الإلهي، فيهبهم الحق سبحانه المزيد من الهداية، ويظهر لهم من البراهين والأدلّة ما يزيد في إيمانهم ويرسخ من يقينهم، وبهذا يرتقون شيئًا فشيئًا في مراتب الكمال والقرب الإلهي.

قال ابن القيم: إن أفضل ما يقدر الله لعبده وأجل ما يقسمه له؛ الهدى، وأعظم ما يبتليه به ويقدره عليه الضلال، وكل نعمة دون نعمة الهدى، وكل مصيبة دون مصيبة الضلال، وقد اتفقت رسل الله من أولهم إلى آخرهم وكتبه المنزلة عليهم على أنه سبحانه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وأنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأن الهدى والإضلال بيده لا بيد العبد، وأن العبد هو الضال أو المهتدي، فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه.

ولا بد قبل الخوض في تقرير ذلك من ذكر مراتب الهدى في القرآن؛ فأما مراتب الهدى فأربعة:

إحداها: الهدى العام؛ وهو هداية كل نفس إلى مصالح معاشها وما يقيمها، وهذا أعم مراتبه.

المرتبة الثانية: الهدى بمعنى البيان والدلالة والتعليم والدعوة إلى مصالح العبد في معاده، وهذا خاص بالمكلفين، وهذه المرتبة أخص من المرتبة الأولى وأعم من الثالثة.

المرتبة الثالثة: الهداية المستلزمة للاهتداء، وهي هداية التوفيق، ومشيئة الله لعبده الهداية وخلقه دواعي الهدى وإرادته والقدرة عليه للعبد، وهذه الهداية التي لا يقدر عليها إلا الله عز وجل.

المرتبة الرابعة: الهداية يوم المعاد إلى طريق الجنة والنار (4).

ومن سنن الله تعالى في الهداية والإضلال: أنه حكم عدل، لا يضل إلا من يستحق الإضلال، والله منزه عن الظلم، والظلم وضع الشيء في غير موضعه، كتعذيب المطيع، هذا وضع الشيء في غير موضعه، وضع العذاب في موضع التقوى والطاعة، هذا ظلم، فالله منزه عن الظلم، وقد نزه نفسه عنه، وحرمه على نفسه سبحانه وتعالى.

ومن أسمائه الحسنى: العدل، ومن عدله سبحانه وتعالى أنه أنزل الكتب، وأرسل الرسل، وأزاح العلل، وجعل الأسماع والأبصار والعقول لتفهم وتعقل، ماذا أنزل عليها، ومن أجلها، ووفق من شاء بمزيد عناية، وأراد من نفسه أن يعينه، وأن يوفقه، فكان فضلًا منه عليه، وخذل من ليس بأهل للتوفيق، فكان عدلًا فيه.

كان أبو جهل وعمر بن الخطاب مشركين، كلاهما استمعا للقرآن، وكلاهما رأى من الآيات الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، فكان عمر أحب إلى الله من أبي جهل، عمر استكان واتبع، وأسلم وأطاع، ولو بعد إعراض، لكن في النهاية أطاع، وأبو جهل أعرض واستكبر، واستمر على الإعراض، وخرج للقتال، وجرد سيفه ضد الحق، فلما كان من أبي جهل الاستكبار والعتو والتمرد، وكان من عمر الاستكانة والطاعة والاهتداء، والإسلام والدخول، والرغبة، أضل الله ذاك، ووفق هذا، فكانت الاستجابة لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب، فكان أحبهما إليه عمر» (5).

فإذًا، الهداية والإضلال ليست جزافًا، الله قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء: 65].

لكن هؤلاء لهم صفات: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} [البقرة: 27]، وقال سبحانه: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27]، فكذلك منهم عمل.

ونتحدث عن كل مرتبة بشيء من التوضيح والبيان:

المرتبة الأولى: الهداية العامة:

وهي هداية كل نفس إلى مصالح معاشها وما يقيمها، وهذه أعم مراتب الهداية. قال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 1– 3]، فذكر سبحانه أربعة أمور عامة: الخلق، والتسوية، والتقدير، والهداية.

والمراد بالهداية العامة هنا: الهداية العامة لمصالح الحيوان في معاشه، ليس المراد هداية الإيمان والضلال بمشيئته، وهو نظير قوله: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، أي: هدى كل شيء إلى ما يفيده في حياته الدنيا.

فأعطاه خلقه، أي أوجده في الحياة، وهداه هداية التعليم والدلالة على سبيل بقائه وما يحفظه ويقيمه.

ويطلق على هذا النوع أيضًا: الهداية العامة التكوينية، وهي التي أعدّها اللَّه سبحانه وتعالى في طبيعة كلّ موجود حيث تسري بطبعها أو باختيارها نحو كمالها، فالفأرة تفرّ من الهرة ولا تفرّ من الشاة، والنّمل يهتدي إلى تشكيل جمعية وحكومة، والطفل يهتدي إلى ثدي أمه، فكلُّ شيء في الوجود مجهّز بما يهديه إلى الغاية التي خُلق لها؛ قال تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50].

المرتبة الثانية: هداية الإرشاد:

المرتبة الثانية من مراتب الهداية، هداية الإرشاد والبيان للمكلفين، وهذه الهداية لا تستلزم حصول التوفيق واتّباع الحق، وإن كان حصولها شرطا في التوفيق أو سببا فيه، لكن حصول الشرط لا يستلزم حصول المشروط بالضرورة.

بمعنى أن التوفيق من شرطه حدوث العلم؛ فالعلم شرط لحصول التوفيق، لكن قد يحدث العلم وهو الشرط، ولا يحصل المشروط، وهو التوفيق، فكم من شخص يعلم أمر الله ومراده، لكنه لا يتبعه.

ومن أمثلة هذا المرتبة في القرآن قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت: 17].

وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 115].

فهداهم هنا: معناها: هداهم هدى البيان والدلالة والإرشاد والتوجيه، فلم يهتدوا هدى التوفيق والعمل، فكانت النتيجة أن أضلهم عقوبة لهم على ترك الاهتداء أولا بعد أن عرفوا الهدى فأعرضوا عنه، فأعماهم عنه بعد أن أراهم إياه.

وهذا النوع من الهداية لا يختص بالله سبحانه، بل تثبت للرسل عليهم السلام، وللدعاة والمصلحين.

فقد أثبتها الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، أي أنك ترشد وتبين.

لكنه نفى عنه هداية التوفيق الآتية في النوع الثالث، فقال سبحانه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56].

الفرق بين هذه المرتبة والمرتبة السابقة:

المرتبة السابقة عامة للخلق جميعا، مكلفهم وغير مكلفهم.

أما هذه المرتبة، فإنها تخص المكلفين فقط، وهي حجة الله على خلقه التي لا يعذب أحدًا إلا بعد إقامتها عليه قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165].

وقال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)} [الملك: 8- 9]. فأهل النار قد حدثت لهم هذه الهداية، التي هداية البلاغ والإرشاد.

فأقام الله عليهم حجته، بأن أخلى لهم الطريق والقرار للاختيار، وأبلغتهم الرسل بطريق الصراط المستقيم حتى كأنهم يشاهدونه عيانًا، وأقام لهم أسباب الهداية ظاهرًا وباطنًا، ولم يحُل بينهم وبين تلك الأسباب، ومن حال بينه وبين أسباب هذه الهداية منهم لم يعذبه.

فمن الأسباب التي ربما يقدرها الله على العبد فتحول بينه وبين أسباب هذا النوع من الهداية: زوال العقل، أو الصغر الذي لا تمييز معه، أو نشأته بناحية من الأرض لم تبلغه دعوة رسله، فإن هؤلاء لا يعذبهم حتى يقيم عليه حجته.

المرتبة الثالثة: هداية التوفيق والإلهام:

المرتبة الثالثة من مراتب الهداية، هي هداية التوفيق والإلهام، وخلق المشيئة المستلزمة للفعل، وهذه المرتبة أخص من التي قبلها، فالله لا يُعطيها لكل الناس؛ فهو يخص به من يشاء.

وهذه المرتبة تستلزم أمرين:

أحدهما: فعل الرب تعالى وهو الهدى بمعنى هداية التوفيق والإلهام.

وثانيهما: فعل العبد، وهو الاهتداء وهو أثر فعله سبحانه، فهو الهادي والعبد المهتدي؛ قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الكهف: 17].

ولا سبيل إلى وجود الأثر إلا بمؤثره التام، فإن لم يحصل فعل الله، لم يحصل فعل العبد؛ ولهذا قال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [النحل: 37].

هذا النوع خاص بالله تعالى، وهذا النوع من الهداية خاص بالله تعالى وحده، لا يملكه الأنبياء ولا المقربون، ولا أحد من حلقه.

قال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [النحل: 37].

وهذا صريح في أن هذا الهدى ليس له صلى الله عليه وسلم ولو حرص عليه، ولا إلى أحد غير الله، وأن الله سبحانه إذا أضل عبدًا لم يكن لأحد سبيل إلى هدايته كما قال تعالى {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186]. وقال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39].

المرتبة الرابعة: الهداية إلى الجنة والنار

المرتبة الرابعة من مراتب الهداية: الهداية إلى الجنة والنار يوم القيامة:

فأما الهداية إلى الجنة، فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)} [محمد: 4- 6]، فهذه هداية بعد قتلهم، فقيل المعنى: سيهديهم إلى طريق الجنة ويصلح حالهم في الآخرة بإرضاء خصومهم وقبول أعمالهم.

وأما الهداية إلى النار، فقد قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)} [الصافات: 22- 23] (6).

_______________

(1) أخرجه البخاري (4330).

(2) أخرجه مسلم (6737).

(3) هداية النمل وعجائب صنع الله فيه/ عمر سليمان الأشقر.

(4) شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص: 65).

(5) أخرجه الترمذي (3681).

(6) مراتب الهداية في القرآن الكريم/ اسلام اون لاين.