logo

الدعوة في المحن والشدائد


بتاريخ : الجمعة ، 18 شعبان ، 1436 الموافق 05 يونيو 2015
بقلم : تيار الاصلاح
الدعوة في المحن والشدائد

الصراع بين أهل الحق والباطل مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو طريق التمحيص للمؤمنين الدعاة، ورحم الله صحبة النبي صلى الله عليه وسلم في صراعهم مع الباطل، وانتصارهم عليه، ونشر الخير للبشرية، يقول سبحانه: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)} [العنكبوت:1-2].

 

فالابتلاء طبيعة في الدعوات، والصبر عليها طبيعة الأنبياء والصالحين، ولقد صبر الدعاة بفضل الله على الابتلاء الهائل الذي تعرَّضوا له، ويتعرضون له، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].

 

سئل الإمام الشافعي: يا أبا عبد الله، أيهما أفضل للرجل: أن يمكن أو يبتلى؟

 

فقال الإمام الشافعي: لا يُمكَّن حتى يُبتلى، فإن الله ابتلى نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ فلما صبروا مكَّنهم(1).

 

قال النبي صلى الله عليه وسلم لورقة بن نوفل: «أَوَمُخرجي هم؟!»، قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا(2)، فانظر إلى هذه القاعدة: (لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا أوذي)، فهذه سنة الله ماضية.

 

والحق سبحانه لا يُقَدِّر شرًا محضًا ليس فيه خير؛ بل كل ما قدر؛ وإن ظهر لنا أنه شر كله، فإن من وراءه من الخير ما لا يعلمه إلا الله؛ كتكفير السيئات، ورفعة الدرجات، وتمحيص المؤمنين، وتبصيرهم بعيوبهم، وكشف ما يخطط لهم، أو دفع شر أعظم مما حل بهم؛ كحفظ دينهم، ولو ذهب شيء من دنياهم، ونحو ذلك من المصالح التي لا تخطر على البال.

 

ثمرة الإيمان بالقضاء والقدر:

 

هدوء القلب، وراحة البدن والنفس والأعصاب، ومفارقة الهم والحزن, فلا تمزق ولا توتر عصبي، ولا شذوذ، ولا انفصام، وإنما رضاء وسكينة وسعادة وراحة وطمأنينة، وبرد اليقين، وقرة العين، وهناء الضمير، وانشراح الصدر.

 

إن الإنسان الذي يؤمن بالقضاء والقدر؛ ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن الأمة لو اجتمعت لن تضره إلا بشيء قد كتبه الله عليه, وأنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها؛ هذا الإنسان هو أسعد الناس.

 

وهيهات هيهات أن تقوم لدعوة الحق قائمة، وأن تبقى مبادئ الخير في خير؛ دون أن يكون هناك من يتحمّل المحنة في سبيلها، وينصرها، ويدفع ثمن ذلك؛ إذ إن سَدَنَةَ الشر وأهل الباطل لن يتركوا أنصار الحق والخير، وسيبذلون غاية ما يستطيعونه لصرف هؤلاء عن حقهم، أو لإلحاق الأذى بهم، وإذًا لا بد من وجود أناس قد روّضوا أنفسهم، واستعدوا لحمل الأمانة، والصبر على الشدائد والمحن، والتضحية بالغالي والنفيس في سبيل إيمانهم وعقيدتهم.

ومن هنا جاءت الآيات الكريمة تهيئ نفوس المؤمنين للصبر على البلاء، وتبيّن أن التعرض للفتنة مقترن بالانتماء إلى هذا الدين، وأن الله تعالى لن يدع المؤمنين حتى يمحصهم بالجهاد والابتلاء(3).

قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142].

 

والذين يحسبون إذًا أنهم يمكن أن يعملوا للإسلام، ويشترطوا السلامة من كل شدة وامتحان مخطئون.

 

روى البخاري عن أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بُردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيُجعلُ فيها، ثم يُؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه، ما يصدُّه ذلك عن دينه، والله ليُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»(4).

 

ففي هذا الجواب توطين للنفوس على الصبر، وتأكيد أن المحنة سنة جارية، وأن الأمم السابقة امتُحِنت بأشد أنواع المحن فصبرت، ولا ينبغي أن يكون أبناء هذه الأمة أقل صبرًا، وأن الفرج آتٍ، والنصر قادم بإذن الله.

سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أشد بلاءً؟ قال: «الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل»(5).

 

النبي صلى الله عليه وسلم في الشعب:

 

كان الإسلام ثورة على الجاهلية من أول يوم، ثورة استهدفت نسف القواعد التي قام عليها المجتمع الجاهلي، فليس من طبيعة الإسلام أن يهادن الأوضاع الخربة، أو يعمد إلى ترميمها وإصلاحها، وإنما يعتمد سياسة الهدم والبناء، هدم الجاهلية بكل مرافقها، وبناء الحياة الإسلامية بجميع مقتضياتها، وإذا كانت هذه طبيعة الدعوة التي نهض بها النبي صلى الله عليه وسلم، فبديهي أن تستأسد قوى الجاهلية وتستميت في الدفاع عن كيانها المهدد بالنسف والدمار.

 

عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله عز وجل إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط»(6).

 

فطريق الدعوة هو طريق الابتلاء، فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل الدعوة وهو في العبادة في غار حراء يتعبد، قالوا عنه الصادق الأمين، لكن لمَّا جهر بالدعوة قالوا: (ساحر، مجنون، كذاب، كاهن...).

 

واجتمعوا على مقاطعة بني هاشم وبني المطلب اقتصاديًا واجتماعيًا، وكتبوا في ذلك كتابًا ألّا يزوجوا إليهم، ولا يتزوجوا منهم، ولا يبيعوهم شيئًا، ولا يبتاعوا منهم شيئًا، ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتى يُسلّموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعُلّقت هذه الصحيفة الظالمة في جوف الكعبة؛ تأكيدًا على التزام بنودها.

 

سارع المشركون في تطبيق هذا الحصار عمليًا، فلم يتركوا طعامًا يدخل مكة ولا بيعًا إلا بادروا فاشتروه بأضعاف ثمنه؛ حتى لا يشتريه بنو هاشم، ولا يبيعوهم شيئًا مما عندهم أبدًا، وهكذا قلَّ الطعام، ونقص الزاد، وجهد المسلمون وأقاربهم وحلفائهم من هذا الحصار والتضييق الاقتصادي.

 

أما أبو طالب، عمّ النبي صلى الله عليه وسلم، فقد وقف موقفًا عظيمًا في حماية النبي صلى الله عليه وسلم، كان يبيت الليل مستيقظًا، يحمل سلاحه، ويطوف في الشِّعب مع جماعة من بني هاشم، ثم ينامون النهار، وكان أبو طالب يأمر حمزة والعباس أن يرابطا على مدخل الشِّعب ليرصدا تحركات المشركين، خوفًا من غدرة أو غيلة تستهدف حياة ابن أخيه؛ بل بلغ من خوفه وحرصه على حياة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينام على فراشه، ويأمر أحد بنيه أن ينام مكان النبي صلى الله عليه وسلم.

 

مضت الأيام والأشهر، وحال المسلمين المحاصرين يزداد من سوء إلى أسوء، وعمَّ الجوع بين أهل الشِّعب، وندر الكلام، وقلت الحركة، وكان يُسمع من وراء الشِّعب أصوات النساء والصبيان يتضاغون من الجوع، وبلغ بالناس من الخماصة شيء لا يكاد يصدَّق، حتى أكلوا كل ما يمكن أكله.

 

يحدث هذا في الشِّعب، وأهل مكة مقيمون في ديارهم، مطمئنون منعّمون.

 

ومن المواقف المذكورة أيام الحصار: أن بعض المشركين كان يتعاطف مع أرحامه المحصورين هناك، فكانوا يرسلون إليهم حملات إغاثية ليلًا, يستخفون بها عن أعين قريش، فكان أحد المشركين، وهو هشام بن عمرو العامري، يحمل البعير بالطعام والثياب، ويأخذ بخطام البعير حتى يقف على رأس الشِّعب، ثم يخلع خطام البعير ويطلقه في الشعب.

 

ومع ما أصاب المسلمين من الجهد والبلاء في الشِّعب إلا أن هذا البلاء لم يكن شرًا محضًا؛ بل كان يحمل في طياته من الخيرية للدعوة المحمدية ما لا يدركه البشر بعقولهم، فمع ما في هذا البلاء من رفعة الدرجات، وتكفير السيئات لأهل الإيمان، إلا أن هذه المقاطعة والتجويع القهري كانت حدثًا إعلاميًا تسامَع له العرب، وتساءلوا عن سبب هذه المحاصرة الاقتصادية، والتي أخرجت قريشًا عن رشدها ووقارها، فجعل العرب في غير مكة يتلقّطون أخبار هذا النبي صلى الله عليه وسلم، ويتلهّفون لمعرفة حقيقة دعوته، فكان ذلك الحصار سببًا في أن تخرج الدعوة المحمدية من إقليمية مكة، إلى عالمية الجزيرة العربية آنذاك.

 

خرج سيد البشر صلى الله عليه وسلم هو ومن معه من الشِّعب ومحنة الحصار، وهم أصلب إيمانًا وأشدّ ثباتًا على الدين، وهكذا الأحداث والابتلاءات تصنع للأمة الرجال، وتخرج للمستقبل الأبطال(7).

 

وعن سعد رضي الله عنه قال: «كنا قومًا يصيبنا ظلف العيش بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدته، فلما أصابنا البلاء اعترفنا لذلك، ومَرَنَّا عليه، وصبرنا له، ولقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خرجت من الليل أبول، وإذا أنا أسمع بقعقعة شيء تحت بولي، فإذا قطعة جلد بعير، فأخذتها فغسلتها، ثم أحرقتها فوضعتها بين حجرين، ثم استففتها، وشربت عليها من الماء، فقويت عليها ثلاثًا»(8).

 

يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى: «وفي أيام الشِّعب، كان المسلمون يلقون غيرهم في موسم الحج، ولم تشغلهم آلامهم عن تبليغ الدعوة، وعرضها على كل وافد؛ فإنّ الاضطهاد لا يقتل الدعوات؛ بل يزيد جذورها عمقًا، وفروعها امتدادًا؛ وقد كسب الإسلام أنصارًا كثرًا في هذه المرحلة، وكسب، إلى جانب ذلك، أنّ المشركين قد بدءوا ينقسمون على أنفسهم، ويتساءلون عن صواب ما فعلوا، وشرع فريق منهم يعمل على إبطال هذه المقاطعة، ونقض الصحيفة التي تضمنتها»(9).

 

وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملَكَ الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد، ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين»،فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا»(10).

 

يوسف عليه السلام في السجن:

 

الدعوة لا تحدها أرض، ولا يقيدها مكان، وإنما الداعية الناجح هو كالشمس تشرق في كل مكان، تمد الكائنات، بفضل الله، بالحرارة والضياء، وكما قال الإمام ابن تيمية يوم أن سجنوه: «إن سجنوني فسجني خلوة، وإن نفوني فنفيي سياحة، وإن عذبوني فجنتي معي، إن جنتي في قلبي وأنَّى لهم الوصول إليها».

 

إن المسلم الذي تغلغلت الدعوة في شغاف قلبه لا يفتر لحظة واحدة عن دعوة الناس إلى دين الله تعالى، مهما كانت الظروف قاسية، والأحوال مضطربة، والأمن مفقودًا؛ بل ينتهز كل فرصة مناسبة لتبليغ دعوة الله تعالى، هذا نبي الله تعالى يوسف عليه السلام حينما زُجَّ به في السجن ظلمًا، واجتمع بالسجناء في السجن، فلم يندب حظه، ولم تشغله هذه الحياة المظلمة عن دعوة التوحيد وتبليغها للناس، ومحاربة الشرك وعبادة غير الله، والخضوع لأي مخلوق(11).

 

قال تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف:35].

 

دخل السجن مظلومًا، ولكنه ما ضن على البشرية بالجواب الشافي لإنقاذهم من المجاعة، والعمل على الاستقرار الاقتصادي، ولما خرج أصبح وزير مصر العامل على رفعتها.

 

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36].

 

لقد اشتهر بالجود والأمانة، وصدق الحديث، وكثرة العبادة، يعزي الحزين في السجن، ويعود المريض، ويداوي الجريح، حتى استأنس به أهل السجن، وأحبوه حبًا عظيمًا.

 

لقد غمر إحسان يوسف، وحسن خلقه البعيد والقريب، والعدو والحبيب، وكيف لا وهو الصديق الذي تعهده ربه، فأنبته من سلالة الأنبياء الطاهرين المحسنين.

 

ولم يكن ليوسف عليه السلام أن يغفل دعوة التوحيد؛ فهؤلاء جهلة، ولهم حق علينا أن نعلمهم أمر دينهم، قوم لم يرد عليهم من يعلمهم الدين ولا التوحيد، فعلى نبي الله يوسف وعلى سائر الدعاة أن يُعَلِّموا أمثال هؤلاء الدين الحق؛ إذ الدعوة إلى الله لازمة، ثم هي شرف لفاعلها، فهي عمل المرسلين عليهم الصلاة والسلام: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، فلم يمتنع يوسف لكونه في السجن من أن يبلغ دعوة الله ودين الله الحق، وما صده سجنه عن ذلك أبدًا؛ بل أدى الرسالة صلى الله عليه وسلم كما أداها إخوانه من المرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولم يمنعه السجن من إبلاغ دعوة الله بين يدي تأويل الرؤيا.

وينتهز الداعية يوسف عليه السلام فرصة لقائه مع السجناء ليبث دعوته والعقيدة الصحيحة، فكونه سجينًا لا يمنعه من التبليغ، ويبدأ يوسف بإظهار إمكانياته الباهرة، والمعجزة التي تفضّل الله بها عليه، فيكسب ثقتهما من أول حديث معهما، وهكذا يجب أن يكون الداعية، يتحدث بفضل الله عليه ونعمه؛ حتى يرغب الناس في عبادة ربه الكريم، ثم بعد هذا الرفق بالدعوة يبدأ عرض عقيدته، ويكشف عن فساد اعتقادهما وقومهما: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)} [يوسف:39-40].

 

فالأمور يقدم أهمها ثم الأهم؛ «لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم»(12)، وثَم رجل يخبر بأنه سيصلب، وتأكل الطير من رأسه، فليُذَكِّر مثل هذا بشيء عساه أن ينتفع به قبل الممات، كما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يفعل، فلقد عاد النبي عليه الصلاة والسلام غلامًا يهوديًا كان يخدمه، فقال له: «يا غلام، قل: لا إله إلا الله»، فنظر الغلام إلى أبيه كأنه يستأذنه، فقال أبوه: أطع أبا القاسم، فقال الغلام: لا إله إلا الله، ثم مات، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «الحمد لله الذي أنقذه بي من النار»(13).

 

وهذا مقام ليوسف عليه السلام يفسر فيه رؤيا، وفي تفسيرها أن أحدهما سيموت، فجدير به إذًا أن لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة؛ بل يعلمهم وينتفع بذلك، فهو أولى من تعليم الرؤيا، وحينئذ قدم يوسف عليه السلام الأنفع وهو تعليم التوحيد قبل تأويل الرؤيا.

 

إن الداعية المسلم لا يملك نفسه حتى يسوغ له أن يمنح نفسه إجازة، وإنما هو، تمامًا، كنسخة القرآن الكريم حين تُوقَف لله تعالى، وتوضع في مسجد من مساجد الله، فكل داعية موقوف لله، جزء من أجزاء دعوة الله.

نعم يا حملة الدعوة، يجب أن يكون السجن أحب إليكم من طاعة الطغاة.

 

نعم يا علماء الدين، يجب أن يكون السجن أحب إليكم مما يدعونكم إليه الحكام، لتلووا أعناق النصوص، وتحللوا الحرام وتحرموا الحلال .

نعم، يجب أن يكون السجن أحب إلينا من القعود عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

وما تجاوز الأستاذ المودودي أعراف أجيال الدعاة حين صارحنا في تذكرته القيمة، وقال: «إنه من الواجب أن تكون في قلوبكم نار متقدة، تكون في ضرامها، على الأقل، مثل النار التي تتقد في قلوب أحدكم عندما يجد ابنًا له مريضًا؛ ولا تدعه حتى تجره إلى الطبيب، أو عند ما لا يجد في بيته شيئًا يسد رمق حياة أولاده؛ ولا تزال تقلقه وتضطره إلى بذل الجهد والسعي، إنه من الواجب أن تكون في صدوركم عاطفة صادقة تشغلكم في كل حين من أحيانكم بالسعي في سبيل غايتكم، وتعمر قلوبكم بالطمأنينة، وتكسب لعقولكم الإخلاص والتجرد، وتركز عليها جهودكم وأفكاركم، بحيث إن شئونكم الشخصية، وقضاياكم العائلية، إذا استرعت اهتمامكم فلا تلتفتون إليها إلا مكرهين.

 

عليكم بالسعي ألا تنفقوا من أوقاتكم وجهودكم، فتكون معظمها منصرفة لما اتخذتم أنفسكم من الغاية في الحياة، وهذه العاطفة ما لم تكن راسخة في أذهانكم، ملتحمة مع أرواحكم ودمائكم، آخذة عليكم ألبابكم وأفكاركم، فإنكم لا تقدرون أن تحركوا ساكنًا بمجرد أقوالكم».

 

وقال ثانية: «اسمحوا لي أن أقول لكم: إذا خطوتم على طريق هذه الدعوة بعاطفة أبرد من تلك العاطفة القلبية التي تجدونها في قلوبكم نحو أزواجكم وأبنائكم وآبائكم وأمهاتكم فإنكم لابد أن تبوءوا بالفشل الذريع، وبفشل لا تتجرأ بعده أجيالنا القادمة على أن تفكر في القيام بحركة مثل هذه إلى مدة غير وجيزة من الزمان، عليكم أن تستعرضوا قوتكم القلبية والأخلاقية قبل أن تهموا بالخطوات الكبيرة»(14).

 

فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، عندما أدخل السجن فرأى المساجين يلعبون النرد والشطرنج، ويضيعون الصلاة، نصحهم وعلمهم، وذكرهم بالله حتى أصلح الله على يديه السجن؛ فتحول سجن المجرمين إلى مركز عبادة وذكر وعلم، حتى إن بعض المساجين كان يخرج من السجن فيختار البقاء مع شيخ الإسلام !

إن الحركة الإسلامية إذ تواجه اليوم ما تواجه من تحديات وضغوط، وهي إذ تكابد ما تكابد من محن وبلاء، ينبغي أن تستوي على يابسة، وتستقيم على صخر، وبالتالي ينبغي أن تنطلق على هدى؛ فلا تتحكم في سيرها الانفعالات، أو تمتد بها العواطف والطفرات.

إن الحركة الإسلامية مدعوةٌ لمواجهة هذه الحرب السافرة على الإسلام وأهله؛ بالصياغة الحسنة لشبابها ورجالها، وبالإعداد الكامل، ثم بالتخطيط الواعي لكل خطوة من خطاها.

والحركة الإسلامية، في العصر الحديث، ينبغي أن تغرس في نفوس عناصرها ودعاتها روح البذل والتضحية؛ بأن تضعهم بين الحين والحين أمام مسئوليات ومهمات تعودهم على الجرأة والتضحية والإقدام، وتستأصل من نفوسهم عوامل الضعف والخوف والانهزام.

إن الحركة الإسلامية مدعوة لتضع في تقديرها وحسابها، في مجالات التربية والتكوين، ثقل المسئولية، وضخامة التبعة التي تنتظرها وتنتظر أفرادها، فتسلك بهم كل ما من شأنه أن يعدهم لحياة المجاهدة والمرابطة والكفاح، وتنأى عما يخلد بهم إلى الأرض، ويعودهم حياة الدعة والخنوع(15).

إن صوت الدعوة المدوّي المجلجل، الآخذ بالقلوب إلى رحاب الإيمان، لا بد أن يثير مكائد الأعداء، وهنا تظهر الحقيقة الابتلائية في أجلّ معانيها، هل سيثبت الدعاة في مواقعهم نتيجة هذه المواجهة والصراع؟ هل يبدّلون ويغيّرون إذا عظم عليهم الخَطب واشتد البلاء؟ إذا حصل لهم سب وسخرية واستهزاء، هل ينعطفون في مسيرتهم الدعوية إلى دروب الإخلاد إلى الأرض وفتنة الحياة؟ كل ذلك سوف تظهر حقيقته إذا مر الدعاة بمراحل الفتنة وأطوار البلاء(16).

_________________

(1) الفوائد، لابن القيم، ص208.

(2)رواه البخاري (3)، ومسلم (160).

(3) المحنة في طريق الدعاة، موقع المختار الإسلامي.

(4) رواه البخاري (6943).

(5) رواه الترمذي (2398).

(6) رواه الترمذي (2396).

(7) حصار الشِّعب، إبراهيم بن صالح العجلان، رابطة ذكر الله.

(8) حياة الصحابة، للكاندهلوي (1/376).

(9) فقه السيرة، للغزالي، ص129.

(10) رواه البخاري (3231)، ومسلم (1795).

(11) السيرة النبوية، عرض وقائع وتحليل أحداث، د. علي الصلابي (1/286).

(12) رواه البخاري (2942).

(13) رواه البخاري (1356).

(14) الرقائق، للراشد (54-55).

(15) المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام،علي بن نايف الشحود، ص52.

(16) الداعية والمؤثرات الابتلائية، خالد الصقعبي.