logo

أهمية التيسير في الدعوة


بتاريخ : الأحد ، 19 محرّم ، 1437 الموافق 01 نوفمبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
أهمية التيسير في الدعوة

قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، هذا الدين كله، بتكاليفه وعباداته وشرائعه، ملحوظ فيه فطرة الإنسان وطاقته، ملحوظ فيه تلبيته تلك الفطرة، وإطلاق هذه الطاقة، والاتجاه بها إلى البناء والاستعلاء، فلا تبقى حبيسة كالبخار المكتوم، ولا تنطلق انطلاق الحيوان الغشيم.

وفي قوله تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى} [الأعلى:8]، تقرير لطبيعة هذا الدين، وحقيقة هذه الدعوة، ودورها في حياة البشر، وموضعها في نظام الوجود، وإن هاتين الكلمتين: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى}، لتشتملان على حقيقة من أضخم حقائق هذه العقيدة، وحقائق هذا الوجود أيضًا، فهي تصل طبيعة هذا الرسول بطبيعة هذه العقيدة بطبيعة هذا الوجود، الوجود الخارج من يد القدرة في يسر، السائر في طريقه بيسر، المتجه إلى غايته بيسر، فهي انطلاقة من نور تشير إلى أبعاد وآماد وآفاق من الحقيقة ليس لها حدود.

إن الذي ييسره الله لليسرى ليمضي في حياته كلها ميسرًا، يمضي مع هذا الوجود المتناسق التركيب والحركة والاتجاه إلى الله، فلا يصطدم إلا مع المنحرفين عن خط هذا الوجود الكبير، وهم لا وزن لهم ولا حساب حين يقاسون إلى هذا الوجود الكبير، يمضي في حركة يسيرة لطيفة هينة لينة مع الوجود كله، ومع الأحداث والأشياء والأشخاص، ومع القدر الذي يصرف الأحداث والأشياء والأشخاص، اليسر في يده، واليسر في لسانه، واليسر في خطوه، واليسر في عمله، واليسر في تصوره، واليسر في تفكيره، واليسر في أخذه للأمور، واليسر في علاجه للأمور، اليسر مع نفسه، واليسر مع غيره.

وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أمره، ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، كما روت عنه عائشة رضي الله عنها، وكما قالت عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا في بيته ألين الناس، بسامًا ضحاكًا»(1)، وفي صحيح البخاري: «كانت الأمة تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت»(2)! وفي هديه صلى الله عليه وسلم في اللباس والطعام والفراش وغيرها ما يعبر عن اختيار اليسر وقلة التكلف البتة.

جاء في زاد المعاد، عن هديه صلى الله عليه وسلم في ملابسه: «كانت له عمامة تسمى (السحاب) كساها عليًا، وكان يلبسها ويلبس تحتها القلنسوة، وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة، ويلبس العمامة بغير قلنسوة، وكان إذا اعتم أرخى عمامته بين كتفيه، وعن عمر بن حريث قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء، قد أرخى طرفها بين كتفيه»(3)، فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائمًا بين كتفيه، وقد يقال: إنه دخل مكة وعليه أهبة القتال والمغفر على رأسه، فلبس في كل موطن ما يناسبه.

وفي فصل آخر قال: «والصواب أن أفضل الطرق طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي سنها، وأمر بها، ورغب فيها، وداوم عليها، وهي أن هديه في اللباس أن يلبس ما تيسر من اللباس، من الصوف تارة، والقطن تارة، والكتان تارة، ولبس البرود اليمانية والبرد الأخضر، ولبس الجبة والقباء والقميص والسراويل والإزار والرداء والخف والنعل، وأرخى الذؤابة من خلفه تارة، وتركها تارة... إلخ».

وقال في هديه في الطعام: «وكذلك كان هديه صلى الله عليه وسلم وسيرته في الطعام، لا يرد موجودًا ولا يتكلف مفقودًا، فما قرب إليه شيء من الطيبات إلا أكله، إلا أن تعافه نفسه فيتركه من غير تحريم، وما عاب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه، كما ترك أكل الضب لما لم يعتده، ولم يحرمه على الأمة؛ بل أكل على مائدته وهو ينظر، وأكل الحلوى والعسل، وكان يحبهما، وأكل الرطب والتمر، وشرب اللبن خالصًا ومشوبًا، والسويق، والعسل بالماء، وشرب نقيع التمر، وأكل الخزبرة، وهي حساء يتخذ من اللبن والدقيق، وأكل القثاء بالرطب، وأكل الأقط، وأكل التمر بالخبز، وأكل الخبز بالخل، وأكل القديد، وأكل الدباء المطبوخة، وكان يحبها، وأكل المسلوقة، وأكل الثريد بالسمن، وأكل الجبن، وأكل الخبز بالزيت، وأكل البطيخ بالرطب، وأكل التمر بالزبد، وكان يحبه، ولم يكن يرد طيبًا ولا يتكلفه؛ بل كان هديه أكل ما تيسر، فإن أعوزه صبر... إلخ».

وقال عن هديه في نومه وانتباهه: «كان ينام على فراشه تارة، وعلى النطع تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة، وعلى السرير تارة بين رماله، وتارة على كساء أسود»(4).

وأحاديثه التي تحض على اليسر والسماحة والرفق في تناول الأمور، وفي أولها أمر العقيدة وتكاليفها، كثيرة جدًا يصعب تقصيها؛ من هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه»(5)، «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قومًا شددوا على أنفسهم فشدد عليهم»(6)، «يسروا ولا تعسروا»(7).

وفي التعامل: «رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى»(8)، «المؤمن يألف ويؤلف»(9)، «إن أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم»(10).

ومن اللمحات العميقة الدلالة كراهيته صلى الله عليه وسلم للعسر والصعوبة حتى في الأسماء وسمات الوجوه؛ مما يوحي بحقيقة فطرته، وصنع ربه بها، وتيسيره لليسرى انطباعًا وتكوينًا.

عن سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله عنه أنه جاء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما اسمك؟»، قال: حزن (أي: صعب وعر)، قال: «بل أنت سهل»، قال: لا أغير اسمًا سمانيه أبي! قال ابن المسيب رحمه الله: فما زالت فينا حزونة بعد!(11)، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اسم عاصية وسماها جميلة(12)، ومن قوله: «إن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق»(13).

فهو الحس المرهف الذي يلمح الوعورة والشدة حتى في الأسماء والملامح فينفر منها، ويميل بها إلى اليسر والهوادة، وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها صفحات من السماحة واليسر والهوادة واللين والتوفيق إلى اليسر في تناول الأمور جميعًا.

وهذا مثل من علاجه للنفوس، يكشف عن طريقته صلى الله عليه وسلم وطبيعته: جاءه أعرابي يومًا يطلب منه شيئًا فأعطاه، قال له: «أحسنت إليك؟»، قال الأعرابي: لا، ولا أجملت! فغضب المسلمون، وقاموا إليه، فأشار إليهم أن كفوا، ثم دخل منزله، وأرسل إلى الأعرابي، وزاده شيئًا، ثم قال: «أحسنت إليك؟»، قال: نعم، فجزاك الله من أهل ومن عشيرة خيرًا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك، فإذا أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي، حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك»، قال: نعم، فلما كان الغداة جاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذ الأعرابي قال ما قال، فزدناه، فزعم أنه رضي، أكذلك؟»، فقال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا.

فقال صلى الله عليه وسلم: «إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه، فتبعها الناس، فلم يزيدوها إلا نفورًا، فناداهم صاحب الناقة: خلوا بيني وبين ناقتي، فإني أرفق بها وأعلم، فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض، فردها هونًا هونًا، حتى جاءت واستناخت، وشد عليها رحلها، واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار»(14).

فهكذا كان أخذه صلى الله عليه وسلم للنفوس الشاردة، بهذه البساطة، وبهذا اليسر، وبهذا الرفق، وبهذا التوفيق، والنماذج شتى في سيرته كلها، وهي من التيسير لليسرى كما بشره ربه ووفقه في حياته وفي دعوته وفي أموره جميعًا.

هذه الشخصية الكريمة الحبيبة الميسرة لليسرى كانت كذلك لكي تحمل إلى البشرية هذه الدعوة، فتكون طبيعتها من طبيعتها، وحقيقتها من حقيقتها، وتكون كفاء للأمانة الضخمة التي حملتها، بتيسير الله وتوفيقه، على ضخامتها، حيث تتحول الرسالة بهذا التيسير من عبء مثقل إلى عمل محبب، ورياضة جميلة، وفراح وانشراح.

وفي صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وصفة وظيفته التي جاء ليؤديها، ورد في القرآن الكريم: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ} [الأنبياء:107]، {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]، فقد جاء صلى الله عليه وسلم رحمة للبشرية، جاء ميسرًا يضع عن كواهل الناس الأثقال والأغلال التي كتبت عليهم، حينما شددوا فشدد عليهم.

وفي صفة الرسالة التي حملها ورد: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، {وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها} [البقرة:286]، {ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة:6]، فقد جاءت هذه الرسالة ميسرة في حدود الطاقة، لا تكلف الناس حرجًا ولا مشقة، وسرى هذا اليسر في روحها كما سرى في تكاليفها {فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها} [الروم:30].

وحيثما سار الإنسان مع هذه العقيدة وجد اليسر ومراعاة الطاقة البشرية، والحالات المختلفة للإنسان، والظروف التي يصادفها في جميع البيئات والأحوال، العقيدة ذاتها سهلة التصور، إله واحد ليس كمثله شيء، أبدع كل شيء، وهداه إلى غاية وجوده، وأرسل رسلًا تذكر الناس بغاية وجودهم، وتردهم إلى الله الذي خلقهم، والتكاليف بعد ذلك كلها تنبثق من هذه العقيدة في تناسق مطلق لا عوج فيه ولا انحراف.

وعلى الناس أن يأتوا منها بما في طوقهم بلا حرج ولا مشقة: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه»(15)، والمنهي عنه لا حرج فيه في حالة الضرورة: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، وبين هذه الحدود الواسعة تنحصر جميع التكاليف.

ومن ثم التقت طبيعة الرسول بطبيعة الرسالة، والتقت حقيقة الداعي بحقيقة الدعوة، في هذه السمة الأصيلة البارزة، وكذلك كانت الأمة التي جاءها الرسول الميسر بالرسالة الميسرة، فهي الأمة الوسط، وهي الأمة المرحومة الحاملة للرحمة، الميسرة الحاملة لليسر، تتفق فطرتها هذه مع فطرة هذا الوجود الكبير(16).

فهذا هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه، وهدي من سلك سبيلهم من المؤمنين، فمن سلك سبيل المؤمنين سلم ونجا, ومن ترك سبيلهم زاغ وهلك، فإذا تبين لك هذا عرفت أنه هو الحق, وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، فمن بلغته هذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم زعم أن الأخذ بها من باب الترخص, ومن أخذ بالترخص فقد تزندق, فقد أعظم الفرية على الله, وسلك غير سبيل المؤمنين.

التيسير من أعظم خصائص دين الإسلام، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه؛ كما في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الدين يسرٌ، ولن يشاد َّالدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة»(17)، ودين الإسلام لم يأتِ ليضع الآصارَ والأغلال في أعناق أتباعه؛ بل جاء ليضعها عنهم، ويكلفهم من العمل ما يُطيقون.

وكان لمطرف بن عبد الله بن الشخير ابن قد اجتهد في العبادة، فقال له أبوه: «خير الأمور أوسطها؛ الحسنة بين السيئتين, وشر السير الحقحقة»، قال أبو عبيد: يعني: أن الغلو في العبادة سيئة, والتقصير سيئة, والاقتصاد بينهما حسنة، قال: والحقحقة: أن يلح في السير, حتى تقوم عليه راحلته وتعطب, فيبقى منقطعًا به سفره.

وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق, ولا تبغّض إلى نفسك عبادة الله, فإن المنبتّ لا سفرًا قطع ولا ظهرًا أبقى, فاعمل عمل امرئ يظن أنه لن يموت إلا هرمًا, واحذر حذر امرئ يحذر أن يموت غدًا»(18).

وعندما قال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا»، قال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم»، ثم قال: «ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه»(19).

فمن تحقق هذا, وتأمله حق التأمل, ثم رأى بعد ذلك أن طريقة أهل البدع والأهواء، من الخوارج والمعتزلة وغيرهم ممن تشدد في هذا الدين, وغلا فيه, وتكلف باجتهاده ورأيه, وسلك طريقة التعسير والتضييق والعنت والحرج, وظن أنها أهدى وأفضل من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وأنها أحسن وأكمل, فقد قام به ناقض من نواقض الإسلام(20).

عن أبي هريرة أن أعرابيًا دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فصلى، قال ابن عبدة: ركعتين، ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد تحجرت واسعًا»، ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع الناس إليه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه سجلًا من ماء»، أو قال: «ذنوبًا من ماء»(21).

وعن عِمْرانَ بنِ حُصَين رضي الله عنه قال: كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم... الحديث، وفيه: ثم نزل صلى الله عليه وسلم فدعا بالوَضوء فتوضأ، ونودي بالصلاة فصلى بالناس، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزلٍ لم يصلِّ مع القوم، قال: «ما منعك يا فلان أن تصلِّيَ مع القوم؟» قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: «عليك بالصعيد فإنه يكفيك...» الحديث(22).

قال ابن حجر: فيه: حسن الملاطفة، والرفق في الإنكار.

وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شبَبَةٌ متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا اشتقنا أهلنا، وسألنا عمن تركنا في أهلنا، فأخبرناه، وكان رقيقًا رحيمًا، فقال: «ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم...» الحديث(23).

أثر التيسير في سرعة انتشار الإسلام :

مما لا شك فيه أن للسماحة والتيسير أثرًا واضحًا في سرعة انتشار الإسلام ودوام بقائه بين الأمم والشعوب التي اعتنقته، والتاريخ يشهد أن سرعة امتثال الأمم للشرائع ودوامهم على اتِّباعها، إنما كانت على مقدار اقتراب تلك الشرائع من السماحة والتيسير، فإذا بلغت بعض الشرائع من الشدة حدًا يتجاوز أصل السماحة، لحقت الشدة والمشقة والعنت بأتباعها، ولا يلبثون إلا أن ينصرفوا عنها أو يفرطوا في بعض تعاليمها(24).

أبدية استمرار التيسير في الإسلام:

لقد حافظ الإسلام، ولا يزال، على استدامة وصف السماحة والتيسير لأحكامه، فما من أمر تعتريه شدة أو مشقة غير عادية إلا انفتح أمامه باب التيسير والرخصة والسماحة، حتى لو كان فيه الكفر بالله تعالى ظاهرًا لا حقيقة، قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل:106].

يسر الإسلام مع المسلمين الجدد:

عمل الإسلام على التدرج في دعوة الناس إليه وتكليفهم بتعاليمه وتشريعاته؛ لأن ذلك أدعى إلى قبوله، وترسيخ العمل بتشريعاته وأحكامه وفضائله واحدة بعد الأخرى، ومما يذكر في هذا المقام ما رواه الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: «اُدْعُهم إلى شهادة أن لا اله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم»(25) .

ففي هذا الحديث لم يعمد النبيصلى الله عليه وسلمإلى تكليف المدعوين إلى الإسلام بكل تشريعاته وأحكامه دفعة واحدة، وعلى الفور، وفي وقت واحد، وإنما يسر لهم الأمر، وتدرج معهم شيئًا فشيئًا حتى يرغِّبهم في الإسلام ويحببهم به.

وفي حادثة أخرى رواها أحمد أن شابًا قال: يا رسول الله، ائذن لي في الزنا؟ فصاح الناس به، فقال لهم النبيصلى الله عليه وسلم: «قرِّبوه»، فدنا منه حتى جلس بين يديه، فقال له: «أتحبه لأمك؟»، فقال الشاب: لا، جعلني الله فداك، قال: «كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟»، قال: لا، جعلني الله فداك، قال: «كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟»، حتى ذكر العمة والخالة، والشابُّ يقول في كل مرة: لا، جعلني الله فداك ...، ثم وضع النبيصلى الله عليه وسلميده على صدره وقال: «اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحصِّن فرجه»، قال: فلم يكن شيء أبغض إليه من الزنا(26) .

وهكذا استوعبت سماحة الإسلام هذا الشاب ورغباته الجنسية الجامحة، واستطاع النبي صلى الله عليه وسلمأن يخلصه من صياح أصحابه وإيذائهم له، ويكسـبه فردًا صالحًا وعضوًا نافعًا في المجتمع، وذلك بما بذله معه من حوار هادئ، يعتمد على العقل والمنطق، بعيدًا عن الصياح والعنف والشدة.

أهداف التيسير في الإسلام:

لليسر في الإسلام أهداف عظيمة ومقاصد سامية، ويمكن تقسيم هذه الأهداف إلى عدة أقسام، تكون على النحو التالي:

الأهداف العقدية:

إن الإسلام دين السماحة واليسر، شُرعت أحكامه ليعتنقها أكبر قدر ممكن من البشر، وقد سلك الإسلام في سبيل تحقيق هذا الهدف أسلوب الترهيب تارة، وأسلوب الترغيب تارة أخرى.

وتمثل أسلوب الترهيب في التحذير من عقاب الله الصارم يوم الحساب.

أما أسلوب الترغيب فمن أبرز معالمه اليسر، الذي تنطوي عليه معظم أحكام الشريعة الغراء.

والشريعة الإسلامية بسلوكها هذا الطريق إنما تتمشى مع الطبيعة البشرية، التي تنفر من الصعب، وتمقت التعقيد، وذلك بسبب ما فُطرت عليه من الضعف، كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ ع