كيف نتعامل مع القرآن
القلوب تقسوا، والنفوس تضعف، والأرواح تصدأ وتهبط، ولكن لا علاج لها إلا بالقرآن، ولا سعادة ولا طمأنينة لها إلا بالحياة مع القرآن، فالحياة معه هي حياة عظيمة ذات طعم خاص، وإحساس خاص، لا يدركها إلا من أنار الله بصيرته فوفقه للتأمل في آياته، والتفكر في كلامه المنزّل على خير خلقه وصفوة رسله صلى الله عليه وسلم، لأنها حياة مع الحي سبحانه وتعالى، والحياة مع الحي القيوم جل جلاله لا شك أنها حياة راقية وفريدة، حياة يشعر من يعيش في ظلها بأنه وجد السعادة المنشودة، والكنز المفقود، والسكينة والطمأنينة التي يبحث عنها، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، حياة يعرف من يعيش فيها قيمته، وسر تكريم الله سبحانه وتعالى له، لأنها تصلك بربك، وتربطك بنسبك العريق ورابطتك الإيمانية حين تعيش مع الله، ومع أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.
إن الحياة مع القرآن حياة مع الكون كله، بكل ما فيه من آيات ومعجزات ومخلوقات وصور بديعة، يقول الله سبحانه وتعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]، ويخبر سبحانه وتعالى أن الحياة مع القرآن تزيد صاحبها إيمانًا وخشوعًا وثقة بالله وتوكلًا عليه فيقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، أي: زادتهم قوة في التصديق، وشدة في الإذعان، ورسوخًا في اليقين، ونشاطًا في الأعمال الصالحة، وسعة في العلم والمعرفة.
إن هذا القرآن بهذه المنزلة عند الله تعالى، ونحن كذلك بهذا المستوى من الحاجة إليه في كل شئوننا؛ فلا يمكن أن نعتقد عقيدةً إلا وأصلها في القرآن، ولا يمكن أن نطبق حكمًا إلا وأصله في القرآن، وكل ما نرجوه في الآخرة لا سبيل لنا إلى معرفته إلا بالقرآن، وما معه من السنة وهي البيان، هذا القرآن الذي هو كلام ربنا، وهو الناسخ لكل ما نزل من عنده سبحانه وتعالى، وهو كلام الله بلفظه ومعناه، يعرض عنه الناس ويتخذونه ظهريًا وراء ظهورهم، ويعدلون عنه إلى كلام الناس، فهذا من العجائب العجيبة، وقد بين الله ذلك في قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30].
لقد هجروا القرآن الذي نزله الله على عبده لينذرهم، ويبصرهم، هجروه فلم يفتحوا له أسماعهم إذ كانوا يتقون أن يجتذبهم فلا يملكون لقلوبهم عنه ردًا، وهجروه فلم يتدبروه ليدركوا الحق من خلاله، ويجدوا الهدي على نوره، وهجروه فلم يجعلوه دستور حياتهم، وقد جاء ليكون منهاج حياة يقودها إلى أقوم طريق (1).
فلذلك لا بد أن نكون صادقين في تعاملنا مع هذا القرآن، وأن نقدمه على كل ما سواه، وأن نتخذه حبلًا بيننا وبين الله، فلا صلة لنا بالله إلا عن طريقه، فهو حبل الله المتين وصراطه المستقيم.
يقول ابن القيم رحمه الله: إن القرآن الكريم هو الكفيل بمصالح العباد في المعاش والمعاد، والموصل لهم إلى سبيل الرشد، فالحقيقة والطريقة والأذواق والمواجيد الصحيحة كلها لا تُقتبس إلا من مشكاته، ولا تُستثمر إلا من شجراته (2).
إننا نحتاج إلى إعادة النظر في طريقة تعاملنا مع القرآن الكريم لنرقى إلى مستوى القرآن الكريم، ونتخلق بأخلاق القرآن، وندرك الخطاب القرآني وهدايته لنتبصر به نورًا وصراطًا مستقيمًا، يقول الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 15- 16].
وقد ذكر الله لهذا النور ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى: أنه يهدي به من اتبع رضوانه سبل السلام؛ أي إن من اتبع منهم ما يرضيه تعالى بالإيمان بهذا النور يهديه -هداية دلالة تصحبها العناية والإعانة- الطرق التي يسلم بها في الدنيا والآخرة من كل ما يرديه ويشقيه، فيقوم في الدنيا بحقوق الله تعالى وحقوق نفسه الروحية والجسدية وحقوق الناس، فيكون متمتعًا بالطيبات مجتنبًا للخبائث، تقيًا مخلصًا، صالحًا مصلحًا، ويكون في الآخرة سعيدًا منعمًا، جامعًا بين النعيم الحسي الجسدي والنعيم الروحي العقلي.
وخلاصة هذه الفائدة أنه يتبع دينًا يجد فيه جميع الطرق الموصلة إلى ما تسلم به النفس من شقاء الدنيا والآخرة، لأنه دين السلام والإخلاص لله ولعباده، دين المساواة والعدل والإحسان والفضل.
الفائدة الثانية: الإخراج من ظلمات الوثنية والخرافات والأوهام التي أفسد بها الرؤساء جميع الأديان واستعبدوا أهلها، إلى نور التوحيد الخالص الذي يحرر صاحبه من رق رؤساء الدين والدنيا، فيكون بين الخلق حرًا كريمًا، وبين يدي الخالق وحده عبدًا خاضعًا، وقوله: {بِإذْنِهِ} فسروه بمشيئته وبتوفيقه.
والإذن العلم، يقال أذن بالشيء: إذا علم به، أي يخرجهم من الظلمات إلى النور بعلمه الذي جعل به هذا القرآن سببًا لانقشاع ظلمات الشرك والضلال من نفس من يهتدي به، واستبدال نور الحق بها، بنسخه وإزالته لها؛ فهو إخراج يجري على سنن الله تعالى في تأثير العقائد الصحيحة والأخلاق والأعمال الصالحة في النفوس، وإصلاحها إياها، لا أنه يحصل بمحض الخلق واستئناف التكوين من غير أن يكون القرآن هو المؤثر فيه.
الفائدة الثالثة: الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو الطريق الموصل إلى المقصد والغاية من الدين في أقرب وقت؛ لأنه طريق لا عوج فيه ولا انحراف، فيبطئ سالكه أو يضل في سيره، وهو أن يكون الاعتصام بالقرآن على الوجه الصحيح الذي أنزله الله تعالى لأجله، كما كان عليه أهل الصدر الأول، قبل ظهور الخلاف والتأويل؛ بأن تكون عقائده وآدابه وأحكامه مؤثرة في تزكية الأنفس وإصلاح القلوب وإحسان الأعمال، وثمرة ذلك سعادة الدنيا والآخرة بحسب سنن الله في خلق الإنسان (3).
تدبر القرآن الكريم:
علينا عباد الله أن نتدبره كما أمرنا الله بذلك، فقد قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29]، وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد: 16]، وقال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2].
إن الذي يساعد على تدبر القرآن الكريم وفهمه إطلاق العقل وسياحته مع معاني الآيات، وخصوصًا عند حِلَق القرآن الكريم حيث تكثر في رمضان ومجالسة العلماء، الذين ينظرون في خطابه، فتخشع القلوب والجوارح، ويتوقف فهم القرآن الكريم على الجمع بين التلاوة والمدارسة للوقوف على المطلوب منه أمرًا ونهيًا، إذ لا بد من قراءة القرآن الكريم قراءة متدبرة واعية تفهم الجملة فهمًا دقيقًا، ويبذل كل امرئ ما يستطيع لوعي معناها وإدراك مقاصدها... ومعنى المدارسة القراءة والفهم والتدبر والتبين لسنن الله في الأنفس والآفاق، ومقومات الشهود الحضاري، ومعرفة الوصايا والأحكام، وأنواع الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وما إلى ذلك مما يحتاج المسلمون إليه لاستئناف دورهم المفقود (4).
فلا بد من تدبره وتفهم معانيه، ولا يمكن أن يعلم الإنسان أنه مائدة الله في الأرض، وأنه أحدث الكتب بالله عهدًا، فيعرض عنه ولا يتدبره؛ لأنه بذلك يتنازل عن حقه من مائدة الله، وأنتم تعرفون حاجتنا جميعًا إلى العلاقة بربنا، فلذلك مائدة الله سبحانه وتعالى بين أيديكم وهي هذا القرآن، فعليكم أن تقبلوا على مائدة الله غاية الإقبال وأن تتدبروه، والتدبر له مستويان:
المستوى الأول: تدبر المحبة، من لا يستطيع فهمه كغير الناطقين بالعربية، تدبرهم إنما يكون بمحبته، أن يقرؤوه محبين له، وأن تتعلق به نفوسهم غاية التعلق، فمحبة الإنسان للقرآن، وتعلق قلبه به هو مستوىً من مستويات المحبة، ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد المحبة للقرآن والتأثر به، وكان أصحابه كذلك شديد التأثر بالقرآن، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قام الليل بآية واحدة من القرآن {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118].
وفي حديث ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه فقال: «اقرأ عليّ القرآن»، فقلت: يا رسول الله! كيف أقرأه عليك وعليك أنزل؟ قال: «إني أحب أن أسمعه من غيري»، قال: فقرأت عليه سورة النساء، فلما بلغت قول الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا (42)} [النساء:41-42]، قال: «حسبك»، فنظرت فإذا عيناه تهملان (5).
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لما سمع أبا موسى الأشعري يقرأ القرآن ويرتله في المسجد في الليل أعجب بصوته، فقال: «لقد أوتيت هذا مزمارًا من مزامير آل داود»، فلما علم أبو موسى بذلك قال: لو كنت أعلم أنك تستمع إليّ لحبرته لك تحبيرًا (6).
إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعلمون أن هذا القرآن خطاب لهم، فهم يتطلبون منه أمورهم كلها، فكل شئونهم تؤخذ من القرآن، ما يعتقدونه بقلوبهم يأخذونه من القرآن، وما يتلفظون به بألسنتهم يأخذونه من القرآن، وما يعملون به بجوارحهم يأخذونه من القرآن.
المستوى الثاني: تدبر معانيه وتفهمها:
والتدبر الثاني: هو تدبر معانيه وتفهمها، فالإنسان له حظ من الرزق لا يدري أين يجده، وهذا الحظ من الرزق من أعظمه ما يفتح الله به على قلب الإنسان من العلوم النافعة، فيمكن أن يكون الإنسان ضعيف المستوى في العلوم كلها، ولكن الله يرزقه في القرآن فهمًا لم يعطه أحدًا قبله؛ ولذلك أخرج البخاري في الصحيح عن أبي جحيفة، قال: قلت لعلي بن أبي طالب: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة، قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر (7).
فـعلي رضي الله عنه هنا ذكر الفهم الذي يؤتيه الله رجلًا في كتابه وهو مستمر باق إلى يوم القيامة حتى يرفع الله القرآن، وهذا الفهم يتفاوت الناس فيه بحسب أرزاقهم، وكل إنسان يمكن أن يرزق فيه رزقًا لم ينله من قبله، وقد نال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهمًا عجيبًا في القرآن، فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما حكم أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه على امرأة أتت بولد لستة أشهر فحكم عليها بالرجم، قال علي: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى قال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، ثم قال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]، فكم تراه ترك لمدة الحمل؟ قال: لم يترك لمدة الحمل إلا ستة أشهر، ففهم علي من الجمع بين الآيتين أن أقل مدة الحمل ستة أشهر؛ لأن الله تعالى يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، وثلاثون شهرًا إذا انتزع منها حولان كاملان وهما مدة الفصال أي: الإرضاع لم يبق إلا ستة أشهر، فكان ذلك أقل مدة الحمل، فأجمع الصحابة على ذلك، فقد يكون في البطن ستة أشهر، والرضاع أربعة وعشرين شهرًا، فذلك تمام ما قال الله: ثلاثون شهرًا، فخلى عنها عمر (8).
المداومة على قراءته:
وكذلك فإن من حق القرآن علينا ألا نهجره في القراءة، فلا بد من حفظ حروفه وحفظ حدوده، فحروفه بقراءة ألفاظه وفيها من الأجر الكبير، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنن الترمذي وغيره أنه قال: «من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» (9)، كل حرف منه بعشر حسنات.
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: «يقال لصاحب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها» (10)، فصعوده في الجنة وارتفاع درجته فيها بحسب ترتيله للقرآن وحفظه له.
وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين مثلًا عجيبًا للمؤمن والمنافق، «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن، مثل الأترجة، ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة، لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن، مثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن، كمثل الحنظلة، ليس لها ريح وطعمها مر» (11).
فلا بد أن يكون المؤمن حريصًا على أن يكون كالأترجة يقرأ القرآن فيحسن الله به ريحه وطعمه، أي: يعلي به منزلته في الباطن والظاهر، وكذلك فإن من حق القرآن: حفظ حدوده، فعلى الإنسان أن يعلم أن هذا الخطاب الموجه إليه من الله سبحانه وتعالى ذو منزلة عظيمة، فأنتم جميعًا إذا قرأتم في القرآن قول الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، لا بد أن تغبطوا موسى بن عمران على هذه المنزلة السابقة الرفيعة حين اتخذه الله كليمًا واجتباه بكلماته، لكن إذا تذكرتم أن هذا القرآن خطاب الله وكلامه وهو موجه إليكم، فقد كلمكم الله أنتم حين خاطبكم بالقرآن، وكل ما تجدونه فيه من الخطاب هو خطاب لكم: (يا أيها الذين آمنوا) تدخلون جميعًا فيها، (يا عبادي) تدخلون جميعًا فيها، {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53]، تدخلون جميعًا فيها، (يا أيها الناس) تدخلون جميعًا في هذا الخطاب، فخطاب الله سبحانه وتعالى لنا لا بد أن نأخذ به، وألا نعرض عنه.
النصيحة لكتاب الله بإقامة حروفه وحدوده:
وكذلك مما يقتضيه تعاملنا مع هذا الكتاب الكريم: أن ننصح له؛ فإن النصيحة له من الإيمان، فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة»، قلنا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» (12)، فلا بد من النصيحة لكتاب الله، والنصيحة له تقتضي أن يحرص الإنسان على إعطاء كل حرف منه حقه ومستحقه، فحقه ما يتعلق بمخرجه، ومستحقه ما يتعلق بصفته، وأن يحرص الإنسان على تحفيظ القرآن للناس، فإن الإنسان إذا كتب في ميزان حسناته حفظ آخر للقرآن أو لبعضه جرى عليه ذلك في قبره وكان يجري عليه كل صباح وكل مساء، وكل من عمل بشيء منه من ذلك الطريق كتب ذلك في كفة حسناته يوم القيامة.
قال ابن حجر: والنصيحة لكتاب الله؛ تعلمه وتعليمه، وإقامة حروفه في التلاوة، وتحريرها في الكتابة، وتفهم معانيه، وحفظ حدوده، والعمل بما فيه، وذب تحريف المبطلين عنه (13).
تعلم معانيه والعمل بها:
وهكذا في التفسير فإن من النصيحة للقرآن أن تعرف معانيه، وذلك بالرجوع إلى تفاسير الراسخين في العلم، فالرجوع إلى كلامهم يفتح أمامك الأبواب للولوج إلى كتاب الله سبحانه وتعالى وفهمه، ومن المؤسف أن يعيش الإنسان عمرًا طويلًا وهو يعلم أن في هذه الدنيا كثيرًا من التفاسير للقرآن ولم يختم منها تفسيرًا واحدًا إلى أن لقي الله، يعيش خمسين سنةً أو ستين سنةً أو سبعين سنة ولم يختم تفسيرًا واحدًا، فهذا من المؤسف جدًا، ومن الذي لا ينبغي للمؤمن ولا للمؤمنة أن يقدم على الله به.
التحاكم إلى القرآن وترك ما سواه:
كذلك من التعامل مع القرآن: أن نعلم أنه الحكم، فهو الحاكم على الناس، فهو حكم الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى سماه حكمًا في القرآن، {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} [الرعد: 37]، فهذا القرآن هو حكم الله سبحانه وتعالى، ولذلك فكل ما عارضه من الأحكام والقوانين فهو مردود على أصحابه، وهو من الشرك البين لقول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ} [الشورى: 21]، فلا تشريع إلا من عند الله سبحانه وتعالى، ولا وحي من عنده بعد القرآن، فلا بد أن يعلم أن جميع العلوم تعرض على القرآن، فما أقره القرآن منها فهو صحيح، وما رده القرآن فهو مردود، وكذلك جميع الأحكام وجميع التصرفات البشرية ترد إلى القرآن، فما حكم القرآن له بالصحة فهو صحيح، وما رده القرآن فهو مردود على صاحبه لا يمكن أن يقبل بوجه من الوجوه.
إعمار البيوت به ليلًا ونهارًا:
كذلك من إحسان التعامل مع القرآن ما يتعلق بالصلاة به، فهذا القرآن من الإعراض عنه أن لا يقوم الناس به الليل، وأن لا يحكموا به في النهار، فهذا من رفعه أن يعرضوا عن التحاكم إليه في النهار، وأن يعرضوا عن القيام به في الليل، فمن حق كل بيت يعيش فيه الإنسان وهو يعلم أنه سيحمل منه إلى القبور أن يعمره بقراءة القرآن والصلاة به، ومن حق كل ليلة تمر عليك يا أخي أن تقرأ فيها بعض القرآن وأن تصلي به، فهذا من حق كل ليلة (14).
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقرأ بآية حتى أصبح، يركع بها ويسجد بها: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، فلما أصبح، قلت: يا رسول الله، ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت، تركع بها وتسجد بها، قال: «إني سألت ربي الشفاعة لأمتي فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئًا» (15).
فلا بد أن يكون للإنسان ورد من القرآن يقرؤه في صلاته كل ليلة، وليبدأ الإنسان بالخفيف اليسير، ثم بعد ذلك إذا تعود عليه زاد، فالازدياد بالخير كلما ازداد العمر بالإنسان وتقدم به مما يدل على القرب والتقريب من الله سبحانه وتعالى.
عرض الإنسان لنفسه على القرآن وتقويمها:
فلذلك يحتاج الإنسان إلى تقويم حياته بالقرآن، وأن يعرض هذا القرآن على نفسه، وهذا العرض طريقته أن يقرأه الإنسان بلسانه فيسمع أذنه، فتنقله الأذن إلى القلب، فيوزعه القلب على الجوارح، إذا مر بأمر عرضه على نفسه: هل هو ممتثل لهذا الأمر أم لا؟ ولا يخلو حينئذ من حالين:
حال يقتضي منه الشكر.
وحال يقتضي منه الاستغفار.
فحال الشكر إذا وجد نفسه قد طبق هذا الأمر الذي أمر به، فليعلم أن ذلك من توفيق الله، وأنه نعمة أنعم الله بها عليه، فلا بد أن يبادر لشكر تلك النعمة ليوفق لأكبر منها، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
وإذا وجد نفسه عاصيًا لذلك الأمر فهذا حال يقتضي منه المبادرة إلى التوبة قبل أن يسخط الله عليه، {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29].
عن حذيفة، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها، يقرأ مترسلًا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع، فجعل يقول: «سبحان ربي العظيم»، فكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثم قال: «سمع الله لمن حمده»، ثم قام طويلًا قريبًا مما ركع، ثم سجد، فقال: «سبحان ربي الأعلى»، فكان سجوده قريبًا من قيامه (16).
ثم بعد هذا إذا جاء النهي أيضًا عرضه على نفسه، فإن كان مجتنبًا فهي نعمة تستحق الشكر، وإن كان غير مجتنب فهي معصية تستحق التوبة والاستغفار، وإن مر بموعظة فلا بد أن يتعظ بها، فالإعراض عن مواعظ الله سبحانه وتعالى يقتضي موت القلوب وقسوتها، وكذلك إذا مر بإرشاد إلى خير أو بذكر لجنة فلا بد أن يسأل الله من ذلك الخير، وإذا مر بوعيد أو بذكر لنار جهنم فلا بد أن يستعيذ بالله من ذلك الشر والوعيد.
تدبر قصص القرآن الكريم وأمثاله:
وإذا مر بقصص من قصص السابقين، وأمثال يضربها الله للعباد، فعليه أن يتذكر أن هذه الأمثال يضربها الله للناس جميعًا، ولكن لا ينتفع بها إلا الذين يعلمون منهم، كما قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، فالأمثال مضروبة للناس جميعًا، ولكن لا يعقلها إلا من كان من أهل العلم، فلذلك على الإنسان أن يهتم بأمثال القرآن، إذا سمع {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا} [الزمر: 29]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج: 73]، أن يستمع إلى ذلك بقلبه وأن يطبقه في حياته؛ فلهذا قال الله تعالى في هذه الأمثال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، هذه الأمثال منها ما يتعلق بالتوحيد كقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج: 73- 74].
وكذلك قوله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)} [النحل: 75- 76].
وكذلك أمثال الدنيا التي ضرب الله لنا فيها، فقد قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45].
وقال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس: 24].
فهذه الأمثال التي ضربها الله في القرآن من إحسان التعامل مع القرآن أن يهتم بها الإنسان، وأن يعرف مغازيها ومعانيها، وأن يتخذها منهجاً في حياته، فهي تسلية للإنسان عن كل ما يجد.
اتخاذ القرآن رفيقًا حال الضيق والسعة:
ولذلك فهذا القرآن هو الرفيق الذي لا يضل في حياتنا هذه، فالإنسان في حياته بين حالين: بين حال البسط وحال القبض، فحال البسط تأتيه فيه النعم من عند الله تعالى، وحال القبض تزوى عنه النعم فيه، فحال البسط يحتاج فيه الإنسان إلى الشكر والإقبال على الله، وألا يأمن مكر الله، أن يعلم أن حال البسط يأتي بعده حال القبض، ولذلك لا بد أن يأخذ الإنسان من صحته لمرضه، ومن غناه لفقره، ومن حياته لموته، فهذه الأحوال تنتاب الإنسان، وفي المقابل كذلك حال القبض، لا بد أن يدرك فيه الإنسان أنه يأتي بعده البسط، فهو تسلية له عما يصيبه، فإذا مرض الإنسان أو أوذي أو سجن أو ضرب أو أوذي بأي نوع من أنواع الأذى فليعلم أن بعد ذلك أيضاً ما يقابله، فالجميع من عند الله، ولهذا قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 22- 23].
فاتخاذ القرآن أنيسًا للإنسان يزيل عنه الغربة بالكلية، فإنه إذا عاش في ظلال القرآن سيعيش مع الرحمن سبحانه وتعالى، يخدمه الخدمة الخاصة التي هي خدمة عباد الله المقربين، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63]، ولا ينال هذا المقام بالأنس بالله تعالى والتقرب إليه إلا من عاش في ضلال كتاب الله سبحانه وتعالى، يسمعه ويقرأه غضًا كما أنزل، ويتعامل معه هذا التعامل الناصح، ويأخذه عن الله سبحانه وتعالى، ويتلقاه عنه، {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6].
فيبادر الإنسان لامتثال أوامره واجتناب نواهيه قبل أن يرفع، فسيسري عليه فيمحى من القلوب والمصاحف، وقد قال الله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86].
ثم إن العيش في ظلاله يقتضي من الإنسان السعادة الدائمة، فإن الإنسان إذا عاش مع القرآن لا تزعجه الخلوة، إذا بقي وحده كان ذلك أنسًا عظيمًا؛ لأنه بقي للقرآن، فهو يتدبره ويقرأه ولم يكن يستطيع ذلك في جلوته ووجوده بين الناس، وإذا مرض أقبل على القرآن فوجد فيه شفاءً من سقمه، وتسليةً له عن كل ما يصيبه، وإذا أصابته مصيبة ففقد حبيبًا من أحبة أهل الدنيا قرأ القرآن فوجد في ذلك تسليةً وتعزيةً عن كل حبيب.
ومن المؤسف جدًا أن يمر على الإنسان يوم كامل لم يقرأ فيه شيئًا من القرآن، لا بد أن يحرص كل إنسان منا على ورد يومي من القرآن، وهو الحال المرتحل أن يكون كلما ختم بدأ ختمةً أخرى، فهذا هو الحال المرتحل الذي وعد صاحبه بظل الله سبحانه وتعالى يوم القيامة.
الوقوف عند آيات الله:
علينا عباد الله أن يكون هذا القرآن أنيسًا لنا في كل أحوالنا، ومرجعًا لنا في كل أمورنا، نقف عنده كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث ابن عباس في صحيح البخاري: وكان عمر وقافًا عند كتاب الله، إذا كان في أشد غضبه فووجه بآية من كتاب الله يقف عندها ولا يتجاوزها، فقد غضب غضبًا شديدًا على عيينة بن حصن لما خاطبه بكلام غير مهذب، فجاء ابن أخيه الحر بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى يقول: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين، فما تعداها عمر حين سمعها، وكان عمر وقافًا عند كتاب الله (17).
علينا أن نكون من الوقافين عند كتاب الله تعالى، ومن جودل بكتاب الله تعالى فعليه أن ينقاد له، علينا ألا نضرب بعض القرآن ببعض، وألا نكون من أهل ابتغاء الجدل وابتغاء المتشابه منه، فإن ذلك علامة على مرض القلب، فقد قال الله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] (18).
لقد فقه الصحابة رضي الله عنهم المقام الرفيع للقرآن، فتلوا آياته حق التلاوة، وتدبروا معانيه حق التدبر، فلما فهموه وفقهوه انطلقوا يحملون توجيهاته، ويطبقون أحكامه، ويتحاكمون إليه في أمورهم كلها، فسهَّل الله أمورهم، وأنار دروبهم، ووفقهم لخيري الدنيا والآخرة، وجعلهم سادة الأرض وقادة البشر، بعد أن كانوا أناسًا حائرين تائهين، يحملون اهتمامات محدودة، وتتحكم فيهم العصبية والقبلية، وتشيع بينهم العداوة والبغضاء والسلوكيات الخاطئة، لا يأبه لهم أحد، وليس لهم بين الأمم حساب أو وزن، ولكنهم حين جعلوا القرآن مرتكزهم ومحور حياتهم، وعظموه تعظيمًا شديدًا، وأقبلوا عليه إقبالًا كبيرًا، وعاشوا معه جل أوقاتهم، وتأثروا به في جميع مناحي حياتهم، وأقاموا حياتهم كلها وفق رؤيته ومنهجه، تغيرت قلوبهم وعقولهم وأفعالهم وحياتهم كلها بهذا الكتاب العظيم.
يقول أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم والعمل (19)، وتقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله: تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم (20)، وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران يُعَدُّ فينا عظيمًا (21)، وفي رواية: جد فينا (22)، أي: علت منزلته وعظمت.
---------
(1) في ظلال القرآن (5/ 2561).
(2) مدارج السالكين (ص: 14).
(3) تفسير المنار (6/ 305- 306).
(4) كيف نتعامل مع القرآن (ص: 35).
(5) أخرجه أبو داود (3668).
(6) أخرجه البخاري (5048)، ومسلم (793).
(7) أخرجه البخاري (111).
(8) سنن سعيد بن منصور (2074).
(9) أخرجه الترمذي (2910).
(10) أخرجه ابن حبان (766).
(11) أخرجه البخاري (5427)، ومسلم (797).
(12) أخرجه مسلم (55).
(13) فتح الباري لابن حجر (1/ 138).
(14) كيف نعيش مع القرآن/ للشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي.
(15) أخرجه أحمد (21328).
(16) أخرجه مسلم (772).
(17) أخرجه البخاري (7286).
(18) كيف نعيش مع القرآن/ للشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي.
(19) أخرجه أحمد (23482).
(20) أخرجه سعيد بن منصور (95).
(21) أخرجه أحمد (12216).
(22) أخرجه أحمد (12215).