الإصلاح بين الحقيقة والادعاء
لقد كان الغرض الأكبر للقرآن العظيم هو إصلاح الأمة بأسرها، فإصلاح كفارها بدعوتهم إلى الإيمان، ونبذ العبادة الضالة، واتباع الإيمان والإسلام، وإصلاح المؤمنين بتقويم أخلاقهم، وتثبيتهم على هداهم، وإرشادهم إلى طريق النجاح وتزكية نفوسهم.
الإصلاح من المنظور الإسلامي باختصار هو: تصويب ما اعوج في ممارسة أمور الدين والدنيا، والعودة بها إلى الأصل الذي لم يلحقه فساد الزوائد والمحدثات،وهو التغيير إلى الأفضل، والصلاح ضد الفساد، والإصلاح ضد الإفساد.
أما المصلح فهو الذي يتعدى دوره مدار نفسه ليشمل مجتمعه وأمته، فينطلق ليصلح ما فسد حيث يمكنه ذلك، وحيث تخوله مؤهلاته لذلك، ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ومن الطبيعي أن يكون من يتصدى للإصلاح ممن يتصفون بصفات الصلاح، فالإصلاح إنما يقوم على أكتاف الصالحين المصلحين.
قدوة المصلحين:
إن الله جلت قدرته اختار خير الناس وأزكاهم لإصلاح شئون العباد النفسية والدنيوية والأخروية؛ وهم الأنبياء والرسل، السادة الصالحون المصلحون، حيث بُعثوا ببرنامج شامل للإصلاح، فقادوا سفينة الإصلاح بحكمة وسلام مبشرين ومنذرين، وقاموا بواجبهم أحسن قيام، وطهَّروا الأرض من الفساد والظلم والإجرام، وحولوها إلى مجتمعات رحمة وأخوة وسلام، ولقد عُرفت الرسالات السماوية بأنها رسالات إصلاحية، قال سيدنا شعيب عليه السلام لقومه:{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، وهو الذي قال لقومه: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}[الأعراف:85]، وقال سيدنا موسى لأخيه هارون عليهما السلام لما ذهب إلى الطور: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدينَ}[الأعراف:142].
خلفاء الرسل في الإصلاح:
وبعد ذهاب الرسل قام بمهمة الإصلاح وقمْعِ الفساد ورثَتُهم الأوفياء من العلماء والدعاة والأولياء، حيث اقتفَوْا سبيل الرسل وما بدلوا تبديلًا، فها هم قوم قارون الصالحون جعلوا ينصحونه لمَّا طغى وبغى قائلين له:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:77]، ولقد تصدَّى رجال الإصلاح الأوفياء، عبر التاريخ، للمفسدين، وقطعوا الطريق عليهم، ووقفوا في وجوههم لئلا ينتشر الفساد، وتَعُمَّ أضراره، وتصابَ الدنيا كلها بويلاته، قال الله عز وجل: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}[البقرة:251].
ولما طال العهد بالناس، وابتعدوا عن زمن الرسالات والرسل، ضَعُف الإيمان وبليَ في القلوب، وفترت الهمم، وضعفت الإرادات، ومالت الأفئدة إلى الشر، وسقطت النفوس في المنكرات، فكثُرت الفواحش والرذائل بكل أنواعها، وفسدت أحوال الأمة عبر القرون، وقلَّ المصلحون حتى تحكَّم المفسدون في أزِمَّة الأمور، وأرادوها حياة فاسدة كاسدة، واكتفى من بقي فيهم الخير من هذه الأمة بإصلاح أحوال أنفسهم، فمالوا إلى الزوايا والتكايا والخلوات ومجالس الذكر والمجاهدة، منقطعين إلى ربهم، يشكون إليه فساد العباد ونكد الحياة.
إن السبيل الوحيد للإصلاح هو شريعة الله، الخالدة العادلة الصالحة لكل زمان ومكان وإنسان، المنزَّلة من خالق الإنسان، الذي يعلم ما يصلح له وما يضره، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك:14]، والذي يعلم المصلح من المدَّعي، {وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}[البقرة:22].
ولكي ينجح المشروع الإصلاحي للمصلحين لا بد لهم من الابتعاد عن المفسدين، وكشْفِ زيفهم للناس؛ لِمَا قاموا به من دور تخريبي تغريبي خرَّب البلاد وأفسد العباد، ولأنهم هم من سبَّب المشاكل وعقَّد الأمور، والعمل بحرية واستقلالية بعيدًا عنهم وعن أجهزتهم، خشية تزكيتهم، والسكوت عن فسادهم، والركون إليهم، والوقوع في شباكهم.
شروط الإصلاح الحقيقي:
ولكي يتحقق الإصلاح لا بد من توفر عدة شروط، ومن أهمها ما يلي:
أولًا: صلاح من يقوم بالإصلاح:
إن فاقد الشيء لا يعطيه، والظل لا يستقيم ما دام العود أعوج، والإصلاح لا يتحقق ما لم يكن واقعًا يعيشه المصلحون، ويجسدونه حيًا في حياتهم، فصلاح القائمين لهذه المهمة في أنفسهم، ونزاهتهم واستقامتهم على الحق ظاهرًا وباطنًا ضروري ليتحقق الإصلاح؛ إذ لا يمكن أن يحقق الإصلاحَ رجالٌ قلوبهم منطوية على الشر، وجوانِحُهم تفور بالفساد والغدر، ونواياهم تفتل في حبل المكر، يكذبون على الناس للوصول إلى غاياتهم، ويدوسون مصالح العامة لتحقيق أهدافهم ونيل مآربهم، قال الله عز وجل: {إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}[يونس:81].
إن الإصلاح لا يحققه إلا ذوو النيات الحسنة، والإيمان الراسخ، والعمل الظاهر الصالح، وذوو الخشية من الله، الذين يعملون بنية أداء الواجب الديني ابتغاء وجه الله، وانتظارًا للجزاء الأخروي قبل الأجر الدنيوي، وسيظل الفساد مستقرًا معششًا في مجتمعاتنا، مهما تغيرت البرامج والأشخاص، ما داموا في بُعْد عن الله، رافضين لمنهج الله، لا تتوفر فيهم هذه الشروط، والتجارب التي مرت بالأجيال خير مثال على ما نقول.
ثانيًا: صوابية المنهج:
وذلك باعتماد المنهج الإسلامي في تربية الناس، وإصلاح سلوكهم، وتقويم اعوجاجهم؛ لإخراج المواطن الصالح في نفسه، المصلح لما حوله، الكانس للفساد الذي خلَّفه المفسدون، يملأ الأرض عدلًا ورحمة وخيرًا، وينشر ثقافة السلام ومبادئ الوئام في المجتمعات الإنسانية، ولا يَتِم ُّهذا إلا إذا تغيرت نفوس الناس وقلوبهم ونياتهم، مما هي عليه من الشر والخديعة والمكر، والطوية السيئة؛ بالتربية والتوجيه، قال الله عز وجل: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرعد:11](1).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض»(2).
إن منهج الإصلاح يجب أن يُؤخذ من القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}[الأعراف:170]، وقال الله جل شأنه: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى}[طه:123-125]، دستور المسلمين الخالد فيه شفاء لأمراض المجتمعات، وحلّ لمشكلاتها، وتنفيس لأزماتها.
ألا وإن الاعتماد على غير هذا الأمر يوسِّع رقعة الفساد، ويعقد الأمور، ويسبب الفوضى والاضطرابات، ويقلب الحقائق، فيصبح المجرم مصلحًا، ويغدو الجاهل الذي يفسد مواطنًا صالحًا مصلحًا، ومؤمنًا تقيًا نقيًا، رغم كونه مهمِّشًا للدين في جل جوانب الحياة، مستضعِفًا لعباد الله الأتقياء، حينذاك تضيع الأمانات، وتُنتَهك الأعراض، وتبدَّدُ أموال الأمة وطاقاتها وثرواتها، ويفسد أبناؤها، وتُهدر كرامة الإنسان في ظل الحكم الجائر، البعيد عن الإسلام وتعاليمه العادلة.
بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم، جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال: «أين [أراه] السائل عن الساعة» قال: ها أنا يا رسول الله، قال: «فإذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة»، قال: كيف إضاعتها؟، قال: «إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة»(3)، ومعنى الحديث أن كل بلاد تولى أمورها من ليسوا أهلًا للمسئولية فانتظر ساعة خرابها وهلاكها.
إن المنهج القرآني كوَّن رجالًا ربانيين، سجل التاريخ مواقفهم الإصلاحية بفخر، بعثهم الله إلى الأمة في حالة أزماتها، فأصلحوا أوضاعها وداوَوْا أمراضها، وحلُّوا مشاكلها، وخلَّصوها مما كانت تعاني منه، إنهم كنوز في الأمة مخبوءة، وأدوية نافعة، رجال المواقف والجد والحزم والحسم والعزم، أعطَوْا قبل أن يأخذوا، وأدَّوا واجباتهم قبل أن يطلبوا حقوقهم.
ثالثًا: عدم تكرار التجارب السابقة الفاشلة:
ولكي يتحقق الإصلاح لا بد من الابتعاد عن كل النظريات والبرامج البشرية الوضعية، والإيديولوجيات الغربية البعيدة عن الشِّرْعة الإلهية والمنهاج النبوي، التي أثبتت التجارب فشلها وعدم صلاحيتها؛ حيث لم تؤد إلا لضياع الإنسانية وهلاكها، وتبعيتها للقوى المعادية للإسلام والمسلمين، وتِيهِها في بحر من الفتن، ولم تأت بما ينشده الإنسان.
رابعًا: قابلية وفاعلية السواد الأعظم:
إن نجاح مشاريع الإصلاح رهين بقابلية السواد الأعظم من الناس لها، والالتزام بها ونشرها، والتضحية من أجلها، وحمْل مشروعها، والعمل من أجلها، والدفاع عنها، فصلاحُ الأشخاص لا يكفي مع صلاح الوسيلة؛ إذ كم من نبي بُعث في قومه وهو صالح ومنهجه صالح، إلا أن مشروعه الإصلاحي لم ينجح لعدم قبول قومه له، وعدم تضحيتهم من أجله(4).
وظيفة الرسل وسنتهم وملتهم إرادة الإصلاح بحسب القدرة والإمكان، فيأتون بتحصيل المصالح وتكميلها، أو بتحصيل ما يقدر عليه منها، وبدفع المفاسد وتقليلها، ويراعون المصالح العامة على المصالح الخاصة، وحقيقة المصلحة هي التي تصلح بها أحوال العباد، وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية، فعلى العبد أن يقيم من الإصلاح في نفسه وفي غيره ما يقدر عليه(5).
صفات المصلحين:
إن القرآن الكريم مليء بالنماذج الحيّة التي تمثل أنموذج الشخصية الإصلاحية من الأنبياء والمصلحين، الذين جعلهم القرآن بمثابة مؤسسة علمية كبيرة، تعطي الضوء على كل ما يحتاجه المصلح في ميدان إصلاحه، ومن خلال السماع إلى قصص المصلحين في القرآن الكريم ندرك أهمية هذه الصفات، وهذه الصفات شروط في تحقيق الإصلاح العام، لمن أراده، ومن أهم هذه الصفات:
1- وضوح النيّة:
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا}[الإنسان:9]، وقوله: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:109]، وقوله سبحانه: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الأحقاف:21]، فكانت نياتهم في تغيير الواقع لله تعالى فقط، وكل يعقب على نيته بلسانه الخاص، فعندما قاوموا الإفساد في العبادات والاقتصاد والأخلاق والحكم قد بينوا نياتهم؛ لذا وقع أجرهم على الله، {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}[الأعراف:17](6).
2- التوكل والثقة والصبر واليقين:
لكل من هذه الكلمات معانٍ ذات أهمية، فهي مقومات لبناء النفس والأمم، ولم يأت نبي ولا مصلح إلَّا زود بهذه المقومات لأداء رسالته الإصلاحية، فاذا لم يتحل المصلح بهذه العناصر فليس بإمكانه أن يجتاز المرحلة؛ بل المراحل، منصورًا، فلسان كل مصلح في القرآن:وما توفيقي إلا بالله؛ فهو القادر على إنجاح مسعاي(7).
يقول سيد قطب بعد أن وضح أن الصلاح والخير والنماء يكون بقيام الجماعة الخيّرة المهتدية المتجردة، التي تعرف الحق الذي بيّنه الله تعالى، وتعرف أنها مكلفة بدفع الباطل وإقرار الحق في الأرض: «ومن هنا كانت الفئة القليلة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر، ذلك أنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض، وتمكين الصلاح في الحياة، إنها تنتصر لأنها تمثل غاية عليا تستحق الانتصار»(8).
3- الاستعداد:
كان للمصلحين استعدادات كما هو بيّن في القرآن الكريم، وفي جميع المستويات، لكل عبء في الطريق، وهم يوجهون نحو إنقاذ الأمة {أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} [غافر:41]، ونجاة الأمم شيء عظيم، وبناية ضخمة لا بد لها من أساس عظيم، بدءًا من الاستعداد النفسي لبذل الروح وقطرة الدم عند الحاجة، فليست الدعوة جمعية خيرية تقنع بالقليل، والاستعداد للتعب اليومي(9).
4- القدوة:
لا يصل الداعي للإصلاح إلى ما يريد إلَّا من خلال أن يوَطِّن نفسه القدوية، ولا شك أن من توفر فيه الصفات المذكورة، من النية والثقة والتوكل وغيرها، يصبح قدوة، وأن التوحيد مع التوجيه الهادف للمشاعر لن تأتي إلَّا من القدوة الصالحة، التي تتجسد في الدعاة المخلصين، وعلماء المسلمين النابهين، ممن يضربون المثل في التفاني والإخلاص والموضوعية، والقدرة على الإقناع، وجذب الرأي العام نحو قضايا الأمة؛ ليعرف كل مسلم ما خفي وما جهل من أمور دينه ودنياه، وليدرك خطورة وأهمية مشاركته لتخطي المرحلة التي تعيشها الأمة من التخلف والقهر، وتدني وسائلها في مواجهة الصراع الحضاري المفروض عليها فرضًا(10).
5- علو الهمة مع اللطف والألفة:
يندرج هذا تحت ما يسمى بالطاقة الأخلاقية، فالهمة العالية هي التي تصل إلى الهدف المرجو، وبدونها يستحيل تحقيق الغايات، والألفة من أبرز معالم الخلق الحسن ومن أنصح ثمارها، ومن أبرز خصائص الشخص المؤثر الجذاب اللطف والخلق الرفيع، ولا شك أن الشخص السيئ الخلق فرد منفرد إلى أبعد الحدود، وليس من سمات الصالحين، فضلًا عن أن يكون من المصلحين، ومن هنا فقد أكدت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على أهمية التزام السلوك الجذاب المؤلِف، وعلى تجنب السلوك والتصرف المنفِّر، فجاء هذا التحذير الواضح، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران:159]، وقال: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ{ [فصلت:34]، فموسى وعيسى ومحمد، صلوات الله تعالى عليهم أجمعين، كانوا مجمعين لتلك الطاقة الأخلاقية، التي أوصلتهم إلى نفوس فطرية بسبب علو الهمّة واللطف والألفة(11).
6- بعدهم عن التعلق بالدنيا وعن المن على المدعوين :
لم يكن رسل الله عليهم الصلاة والسلام طُلاَّب دنيا، ولا أهل منٍّ أو استكبار حاشاهم، لقد ردَّدَ كثير من الأنبياء عليهم السلام: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:١٠٩]، {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ}[هود:٢٩]، وقال تعالى: {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[هود:٥١].
وهذه نغمة نسمعها من جميع الرسل، وهي جديرة بالعناية، ومقياس صدق الداعي، وبرهان أن دعوته تتصل بالقلب والوجدان، وحسبك أن الله يقول: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)}[يس:20-21].
وهذه الآيات العظيمة تبين عظمة أولئك المصلحين عليهم الصلاة والسلام، فلم يكونوا باحثين عن مناصب أو مراكز دنيوية، كما هو الشأن في كثير من دعاة الإصلاح الأرضي، ولذا كان هذا المنهج الذي قاموا به منهجًا ربانيًا، جاء ليحقق مصالح العباد في الدنيا والآخرة، لا كما يريد أصحاب الغرائز الدنيوية ممن يدعي الإصلاح؛ فيريد أن يرتقي بدعوته إلى أغراضه ومآربه الدنيوية(12).
كما لم يكونوا ممن إذا علَّم غيره استكبر عليه أو استعبده؛ بل كانوا يرون ذلك انحرافًا عن المقصد الأصلي للإصلاح والتربية والدعوة، وهو طلب الأجر من الله تعالى .
وعلى هذا لا يجوز للدعاة والمربين أن يمنوا على الله أو على أحد من الناس بما يقومون به من نشر الدعوة إلى الله، أو يستكثروا جهادهم في الدعوة، فمهما يقدموا فهو في جنب الله قليل قليل(13).
7- حلمهم عليهم الصلاة والسلام:
قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)}[الأعراف:59-61].
وهنا نتأمل في حال نوح عليه الصلاة والسلام كيف يستمع إلى قومه، وهم يصفونه بما جاء ليخرجهم منه، وكيف لو كان هذا النعت موجهًا لأحد مدعي الإصلاح الأرضي، كيف سيكون الحال، ولكن نوحًا عليه الصلاة والسلام لم يزد أن دافع عن نفسه، ولم يوغر هذا الكلام صدره؛ بل ما زاد إلا نصحًا لهم، وحرصًا على هدايتهم ليلًا ونهارًا، سرًا وجهارًا، وعند نقل الصورة لحال من قد ينتسب للدعوة اليوم أو العلم نجد الفرق الكبير بين ذلك الخلق العظيم وبين أخلاق هؤلاء، أصبح الحديث مع البعض، فضلًا عن النقد والحوار، أحد الشروخات لتلك الشخصية الرفيعة .
8- موافقة العمل للقول :
وهذا يتبين جليًا عند النظر في صفات الرسل المصلحين في القرآن العظيم، يقول شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}[هود:88].
وإن الناظر في سير الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام يتعجب من تلك السيرة الأخاذة، التي لولا عنت المعاندين تكفي في تصديق دعوتهم ورسالتهم واتباعهم، لقد كان من خصائصهم الصدق، والرحمة، والصبر، والتواضع، والحوار، والإنصاف، والأدب، ومخالطة الناس، كل ذلك كان سجية لا تكلفًا .
وعندما نرجع إلى حالنا نرد الطرف وهو حسير، كيف أصبح المنهج الذي ندعو إليه في الغالب عبارات تردد بلا واقع نراه في أحوالنا، إن المحزن أن نجد أن النخبة التي تُعلق بها الآمال بعد الله تعالى أصبحت لا تلتزم بمنهج الأنبياء في الأخلاق والسيرة .
إن أي إصلاح في المجتمع يعتمد على من يمسكون بالكتاب ويقيمون الصلاة؛ لأن المجتمع لا يصلح إلا إذا استدمت أنت صلتك بمن خلقك وخلق المجتمع، وأنزل لك المنهج القويم(14).
إن آفة رجال الدين، حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة، أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون إلى البر ويهملونه، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويؤولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى، ويجدون فتاوى وتأويلات قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان! كما كان يفعل أحبار يهود.
والدعوة إلى البر والمخالفة عنه، في سلوك الداعين إليه، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك، لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها، وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم؛ لأنهم يسمعون قولًا جميلًا، ويشهدون فعلًا قبيحًا، فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل، وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة، وينطفئ في قلوبهم النور الذي يشعه الإيمان، ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال الدين.
إن الكلمة لتنبعث ميتة، وتصل هامدة، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها، ولن يؤمن إنسان بما يقول حقًا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيمًا واقعيًا لما ينطق(15).
9- من الصفات الإيجابية التي يتصف بها المصلحون حبهم للناس، وحرصهم على إصلاح شأنهم، وسعيهم في التقريب بينهم، وإزالة كل ما يضرهم أو يؤذيهم، والقيام بالإصلاح ورَأْبِ الصَّدع، وقد أمر الله المؤمنين بتقواه وإصلاح ذات بينهم بإزالة أسباب الخصام، أو بالتسامح والعفو، أو بالتراضي على وجه من الوجوه الذي يتحقق به الإصلاح ويذهب به الخصام، وتنحل عقدة الفرقة والتنازع، قال الله تعالى مخاطبًا أهل بدر من الصحابة رضوان الله عليهم، حين اختلفوا وتنازعوا فيما بينهم على النفل والغنائم، قال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[الأنفال:1].
قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول ا