logo

تاريخ الدعوة الإسلامية


بتاريخ : الاثنين ، 15 رمضان ، 1437 الموافق 20 يونيو 2016
بقلم : تيار الاصلاح
تاريخ الدعوة الإسلامية

إن هذا الدين دين الله عز وجل، وهو ناصره ومؤيده، وهو الذي امتحن عباده بنصرته ونشره، وهو غني عنهم، وسيعزه سواءً تقدموا بحمل مسئوليتهم أو تأخروا وتقاعسوا، فإن الله عز وجل لا يعجزه البدل ولا يعجزه الخلف، وهو القائل في محكم كتابه: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4]، وهذه الأمة أمة واحدة، كما قال الله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، وإن العاملين لدين الله عز وجل الداعين إليه في مختلف العصور سلسلة واحدة.

فالأنبياء كلهم على طريق واحد ومنهج واحد، وإنما يختلفون فيما ينزل إليهم من الشرائع والأحكام، لا في أصل التوحيد والعقائد، ولذلك قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13].

فالدين واحد، والعاملون له في مختلف العصور سلسلة واحدة، والتجربة فيه تجربة واحدة، فهذا الأثر وهذا الطريق هو المسلوك من لدن نوح عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن الناس يتفاوتون في تحمل مسئولياتهم وفي القيام بها، وكذلك بعض البيئات والواقع الذي يعيشه الناس يختلف تارات اختلافًا ليس عائدًا إلى نفس المنهج، وإنما هو عائد إلى حياة الناس وما هم فيه(1).

إن تاريخ الدعوة ربط أحداث الماضي بوقائع الزمن الحاضر، وإنارة طريق المستقبل؛ ليعيش الدعاة متخذين قدوتهم الرواد الأوائل الذين هداهم الله، وليكونوا لمن بعدهم المثل والأسوة، حتى تعود الأمة الإسلامية لعهدها الأول، وتصير بحق خير أمة في العالمين.

إن هذا الفن يعطينا التصور المطلوب عن كيفية نشر الإسلام، مثبتة بتعيين حوادثها والأشخاص الذين شاركوا فيها، مقرونة بالتوقيت؛ مما يعين على الاستفادة الكاملة من هذه المادة(2).

وعلم التاريخ من العلوم الهامة ذات الفائدة القصوى للإنسان؛ لأنه يتخذ الماضي موضوعًا لدراسته، ويعيش مع الوقائع والأحداث وفق منهج وصفي، يعتمد الحياد والموضوعية، ويجمع الأحداث والوقائع من مصادرها الصحيحة، ويحللها بأمانة، وينسقها على أسس عقلية متكاملة؛ لتنطق بكافة جوانب الحدث، وتصوره أمام الناس، وبذلك يعرف التاريخ بواقعه، ويظهر الماضي بأشخاصه، وأعماله، وحيويته، ويتمكن الباحث من استخلاص الدروس والعبر، ويتحقق له الهدف المنشود.

ويحتاج علم التاريخ بصورة عامة إلى عقلية عالمة، تبحث عن الحقائق، وتلتزم بالحق، بعيدًا عن التحيز والتأثير، وتنأى بذاتها عن توجيه الأحداث لخدمة أهدافها الذاتية، وخصائصها الثقافية، أو الدينية، أو الجنسية.

فوائد معرفة تاريخ الدعوة:

وعلم التاريخ وفق هذا المنهج يساعد في إعطاء صورة صحيحة لتاريخ البشر، ويساهم في وضع منهج للحاضر، والتخطيط للمستقبل، ويؤدي إلى حياة طيبة للعمران البشري.

وعلم (تاريخ الدعوة) فرع من علم التاريخ العام، يهتم برصد جانب معين من الأحداث والوقائع الماضية، وهو الجانب المتصل بالدين، وحركته، وحيويته في حياة الناس؛ ولذلك نراه يعايش دعوات الله تعالى على طول الزمن، فيحدد موضوعاتها التي بلغتها للناس، ويعرف وسائلها في البلاغ والدعوة، ويوضح ما دار حولها من نقاش ونزاع، ويبين موقف المدعوين منها، سواء آمنوا بها أو لم يؤمنوا.

إن أي نشاط ديني للفرق والمذاهب والجماعات المتنوعة هو جزء من اهتمام تاريخ الدعوة، مهما كان أثرها وجدواها في تنمية المجتمع وتقدمه، أو تخلفه وتقهقره.

إن علم تاريخ الدعوة يبحث موضوعه في إطار منهج علم التاريخ العام, وبذلك يقدم فوائد جليلة للدعوة إلى الله تعالى في العصر الحديث؛ لأنه يقدم أحداث الماضي رصيدًا للحاضر، وتوجيهًا للمستقبل، ويكفي الدعاة أن يعرفوا الحاضر صورة مكشوفة، ويحيطوا بالإنسان المدعو ظاهرًا وباطنًا؛ لأنهم بدراسة التاريخ يفهمون نفوس الناس، وأخلاقهم، وخواطرهم، واتجاهاتهم، ومواقفهم التي سيتخذونها إزاء الدعوة التي ستوجه إليهم.

والدعاة حين يعلمون ذلك عن الناس يمكنهم اختيار ما يطلبونه من الناس، وطريقة الطلب، ووسيلة الخطاب، ومنهج الدعوة والبلاغ(3).

يقول سيد قطب: «إن تاريخ الدعوة يصور طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان في نفوس البشر، ويعرض نموذجًا مكررًا للقلوب المستعدة للإيمان، ونموذجًا مكررًا للقلوب المستعدة للكفر أيضًا»(4).

ويقول: «واجه الموكب الكريم من الرسل البشرية بدعوة واحدة، وعقيدة واحدة، وكذلك واجهت الجاهلية دعوة الرسل مواجهة واحدة، وكما أن دعوة الرسل لم تتبدل، فكذلك مواجهة الجاهلية لم تتبدل، إنها حقيقة تستوقف النظر، ويجب الاستفادة بها»(5).

يقول الأستاذ محمد قطب: «كتابة التاريخ البشري من زاوية الرصد الإسلامي ضرورة لازمة للأمة الإسلامية، وليست نافلة يمكن إسقاطها، أو الاستغناء عنها، والعلماء المسلمون مدعوون للقيام بنصيبهم في هذا الجهد الشاق؛ ليبنوا للمستقبل الطريق الصحيح»(6).

ومراجعة تاريخ الدعوة إلى الله في القرآن، على أيدي جميع الرسل والأنبياء، يعطينا اليقين الجازم بأن فتح الله ونصره، وتحقيق وعد الله، بغلبة رسله والذين آمنوا معهم، لم يقع مرة واحدة قبل تميز العصبة المسلمة ومفاصلتها لقومها، على العقيدة، وعلى منهج الحياة، وانفصالها بعقيدتها ودينها عن عقيدة الجاهلية ودينها.

وطريق هذه الدعوة واحد، ولن يكون في شأنها إلا ما كان على عهود رسل الله جميعًا، الذين اختارهم الله ورباهم وأرسلهم(7).

إن الذي يدرس تاريخ الدعوة الإسلامية، ونشوء الدولة الإسلامية ومؤسساتها العامة، وفي مقدمة هذه المؤسسات الجيش الإسلامي، القوة الضاربة للدولة، يلاحظ أن هناك تطورًا سريعًا جدًّا في مجال القوة العسكرية؛ إذ بلغ عدد المقاتلين في غزوة بدر الكبرى ثلاثمائة وثلاثة عشر مقاتلًا، وفي غزوة أحد بلغ سبعمائة مقاتل تقريبًا، وفي غزوة الأحزاب ثلاثة آلاف مقاتل، وفي غزوة فتح مكة عشرة آلاف مقاتل، وفي غزوة حنين بلغ العدد اثني عشر ألف مقاتل، وأخيرًا بلغ عدد المقاتلين في تبوك ثلاثين ألف مقاتل أو يزيد.

وإن الدارس يلاحظ هذا التطور السريع اللافت للنظر في مجال سلاح الفرسان, ففي غزوة بدر كان عدد الفرسان فارسين في بعض الروايات، وفي غزوة أحد لم يتجاوز عدد الفرسان ما كان في بدر, ويقفز العدد بعد ست سنوات فقط إلى عشرة آلاف فارس، وهذا يعود إلى انتشار الإسلام في الجزيرة العربية, وبخاصة في البادية؛ ذلك لأن أهلها يهتمون باقتناء الخيول وتربيتها أكثر من أبناء المدن»(8).

ولقد حفل تاريخ الدعوة الإسلامية وتطورها بنماذج فريدة من الدعاة المدافعين عن الإسلام، تمكنوا من قديمهم، وتسلحوا بأسلحة عصرهم، فلم يتهيبوا ميدان النزال؛ بل اقتحموا وصالوا وجالوا، وغلبوا ورفعوا راية الحق عالية، يقذفون الباطل من تحتها بقذائف لم تكن لتخطئ مقاتله.

إن هذا التاريخ ليذكر بالفخر والاعتزاز؛ أمثال أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل رضوان الله عليهم، ويذكر أمثال الحسن البصري، وابن سيرين، وأبي الحسن الأشعري، ويذكر الباقلاني، والغزالي، وابن رشد، ومن إليهم ممن كانوا حصونًا ومعاقل تقف لترد عن الإسلام هجمات الطاعنين والمفترين، ويذكر ابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي، وابن كثير...

ويذكر في عصرنا الحديث محمد بن عبد الوهاب، والأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، والكواكبي، ممن كانوا شهبًا راصدة تنقض على كل من يحاول النيل من الإسلام بالطعن والتشكيك(9).

والمتأمل في تاريخ الدعوة الإسلامية يجد أن أول من تصدى للإسلام هم أصحاب العادات المتوارثة، والتقليد الأعمى، كما حكى الله عز وجل ذلك عنهم في كتابه، في مثل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة:104].

وكم من أبي جهلٍ في تاريخ الدعوة إلى الله، يسمع ويعرض، ويتفنن في الصد عن سبيل الله والأذى للدعاة، ويمكر مكر السيئ، ويتولى وهو فخور بما أوقع من الشر والسوء، وبما أفسد في الأرض، وبما صد عن سبيل الله، وبما مكر لدين الله وعقيدته وكاد!!(10).

وبالنظر في تاريخ الدعوة، نرى جريان القدر الإلهي على الأسباب البشرية غالبًا, حتى لا يتكل الناس، فالمجتهد يفوز، والكسول يخبو، والساعي إلى الحق يصل إليه.

مصادر رئيسية لتاريخ الدعوة:

- القرآن الكريم وعلومه.

- والسنة الإسلامية وشروحها.

- وكتب السيرة المعتمدة، وخاصة ما دوَّنه السالفون الذين تسمح حياتهم الاجتماعية بالثقة والاطمئنان إلى ما كتبوه بوعي وإخلاص.

ومن عناية الله تعالى بالدعوة إلى دينه، أن أنزل قصص الرسل والأنبياء وحيًا على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، متميزة بخصائص القرآن الكريم الثابتة، وهي الصدق، والدقة، وقصد الهداية والخير، في استقامة خالية من العوج والاضطراب.

وبعد تمام الإسلام، وانقطاع الوحي، وانتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى أخذ العلماء والدعاة المسلمون، يواصلون رصد حركة انتشار الإسلام، ويسجلون عملية تبليغ الدعوة إلى الناس، في أرجاء العالم المختلفة، على قدر طاقتهم البشرية.

ومن الأخذ بالأسباب ومراعاة الواقع ما نراه من أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه, فلقد أنكر عليه ابنه عبد الملك عدم إسراعه في إزالة الانحراف مرة واحدة, قال له: لا تعجل يا بني, فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعوه جملة، وتكون من ذا فتنة(11).

خصائص تاريخ الدعوة:

وعلى هذا يمكننا، ونحن مطمئنون، أن نقسم دراسة تاريخ الدعوة إلى ثلاثة أقسام رئيسية، لكل منها خصائصه ومزاياه، وهي:

القسم الأول: ويتضمن تاريخ الدعوة مع رسل الله قبل محمد عليهم جميعًا صلوات الله وسلامه، ومصدر هذا القسم هو القرآن الكريم بصورة رئيسية, فللقرآن الهيمنة على غيره، وكل ما عداه من مصادر أهل الكتاب، أو من الاكتشافات الأثرية، أو من الكتابات القديمة يجب أن تكون متفقة معه، غير متعارضة مع أصوله وأساسياته، ويتميز هذا القسم بعدد من المزايا:

أ- أخباره كلها صادقة، تلازم الحق والصواب, قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13]، وقال تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} [القصص:3]، وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} [المائدة:27].

والنبأ، وهو الخبر المتعلق بأمر هام، موغل في القدم، مثير للوجدان والعواطف، والحق هو الصدق الموافق لما وقع، المطابق للحدث بلا ريب ولا شبهة.

ب- ارتباط تاريخ الدعوة خلال هذا القسم بالوحي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث لا دخل لبشر في تصوير أحداثه، أو الإخبار بوقائعه من عند نفسه؛ لأنه غيب أمام البشر، ولولا القرآن الكريم لغاب تاريخ هذا القسم مع أهميته، قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3]، وقال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44].

وقال تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)} [ص:67-69].

إن قصص القرآن الكريم إخبار عن غيب الماضي، الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، أوحى الله به إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليكون منهجًا يتبع، وطريقًا يسلكه الدعاة إلى الله.

وفي الآيات إشارة إلى أن إدراك مضمون هذا القصص لا يكون إلا بوحي الله تعالى.

ج- واقعية الأحداث في هذا القسم, فليس منها ما لا يتصوره عقل، أو يتناقض مع الفطرة، وطبيعة الإنسان في تصوير هذا القسم دقيقة، واقعية، انظر إلى الإنسان تأتيه الدعوة، فيتنازع الشر والخير، وينتصر هذا أو ذاك، أليس ذلك واقعًا نقرؤه في سائر القصص؟!

لقد قدم هذا القسم التصوير الصادق الواقعي عن إخوة يوسف، وعن ولدي آدم، وعن المؤمنين، وعن الكافرين... وهكذا.

ولو جئنا بقصة قرآنية، وعزلناها عن ذوات أصحابها، وأبعدناها عن زمانها؛ لخيل إلينا أنها قصة من الحاضر؛ لأن الإنسان هو الإنسان، فكأن واقعية الماضي تصوير لما وقع فعلًا، وفهم الحاضر يفيد ترابط وقائع الماضي مع حوادث الحاضر، مع تصورات المستقبل، وذلك أكبر برهان على الواقعية لقصص القرآن الكريم، المتضمن للقسم الأول من تاريخ الدعوة.

د- سموّ أهداف أحداث هذا القسم، حيث دعوته إلى الفضائل، والبعد عن الرذائل، فهو يدعو إلى التوحيد، وطاعة الله، والتخلق بالخلق الكريم, وحين يعرض لموقف فيه فحش, فإنه يعرضه بصورة مختصرة في شكل مقيت يكرهها من يقرؤها، قال تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23].

ومن الآية نرى أنها تعرض الجنس في لحظة ضعف، لا لحظة بطولة, ولحظة تحتاج إلى أن يفيق الإنسان منها ليلتزم الواجب، والطهر، والمحافظة على حق الله وحق الناس.

هـ- الاكتفاء بالقدر المفيد من الأحداث والوقائع؛ ولهذا نجد أن القصص القرآني لا يروي كل الجزئيات عن الماضي، ولا يورد ما يورده مرتبًا مسلسلًا، وإنما يتخير من الحدث ما يفيد، ويذكر من الوقائع ما فيه نفع الإنسان, فأحيانًا يورد اسم المكان، أو يحدد الزمان، أو يوضح عدد الناس، إن كان ذلك يفيد، وأحيانًا يترك ذلك كله، ويذكر سواه في حدود الفائدة المطلوبة، والنفع المقصود.

ومن هنا فعلينا أن نأخذ الفائدة مما ذكره الله تعالى، ونسكت عما سكت عنه؛ لأنه لا حاجة إليه، وقد تتحدث مصادر أهل الكتاب، أو مصادر غيرهم، عن تفصيلات القصة التي سكت القرآن الكريم عنها، وحينئذ تكون تكملة لما يحتاجه الباحث في تاريخ الدعوة، وأخذُها من هذه المصادر عملٌ يؤيده الإسلام ويدعو إليه ما دامت تكمل مسار الحدث، وتتوافق معه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»(12).

وشخصيات الرسل ووظيفتهم البلاغية تمثل معلمًا رئيسيًا في تاريخ الدعوة؛ لأن الرسول، أي رسول، صناعة ربانية، وصفاته بشرية، مثالية، واقعية؛ ولذلك فهم قدوة للدعاة، وأسوة لهم، على الزمن كله.

وحينما يقدم تاريخ الدعوة صفات الرسل، ومزاياهم الخلقية التي تعاملوا بها مع الناس، ومنهجهم في الدعوة، ووعيهم بحقائق الحياة والأحياء، وصدقهم المخلص مع الله، ومع الرسالة، ومع الناس، حينما يفعل ذلك يقدم خدمات جليلة للدعوة في العصر الحديث، وفي كل العصور.

القسم الثاني: ويتضمن تاريخ الدعوة في عصر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أهم الأقسام، وأزهاها؛ بل هو أساس لكل جوانب الدعوة الإسلامية في جميع الأمكنة وسائر الأزمنة إلى يوم القيامة، ومصادر هذا القسم عديدة؛ على رأسها القرآن الكريم، والسنة النبوية، ومرويات الصحابة والتابعين، وكتب التاريخ.

ويتميز هذا القسم بالعديد من المزايا, أهمها:

أ- يشتمل على مزايا القسم السابق، فهو وحي منزل لا ريب فيه, يلائم الفطرة، وينحو نحو الكمال، والسمو، والرفعة؛ بل إنه يعد تاريخًا تطبيقيًا للدعوات السابقة، أخذ منها موضوعها وأهم قضاياها، وخبر من خلالها أسرار الحياة والأحياء، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يورد أحداث الماضي ليستفيد أتباعه منها، ومن ذلك ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»<