logo

كمال العبودية


بتاريخ : الأربعاء ، 3 ذو الحجة ، 1444 الموافق 21 يونيو 2023
بقلم : تيار الاصلاح
كمال العبودية

العبادة تجمع أصلين؛ غاية الحب بغاية الذل والخضوع... والتعبد: التذلل والخضوع، فمن أحببته ولم تكن خاضعًا له، لم تكن عابدًا له، ومن خضعت له بلا محبة، لم تكن عابدًا له، حتى تكون محبًا خاضعًا، ومن هاهنا كان المنكرون محبة العباد لربهم منكرين حقيقة العبودية، والمنكرون لكونه محبوبًا لهم، بل هو غاية مطلوبهم ووجهه الأعلى نهاية بغيتهم؛ منكرين لكونه إلهًا، وإن أقروا بكونه ربًا للعالمين وخالقًا لهم، فهذا غاية توحيدهم (1).

قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران: 31]، فجعل اتباع رسوله مشروطًا بمحبتهم لله، وشرطًا لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه وتحققه بتحققه، فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة، فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وانتفاء المتابعة ملزم لانتفاء محبة الله لهم، فيستحيل إذًا ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.

ودل على أن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم: هي حب الله ورسوله، وطاعة أمره، ولا يكفي ذلك في العبودية، حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما، فلا يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه البتة، ولا يهديه الله.

قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ، فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ} [التوبة: 24].

فكل من قدّم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه.

أو معاملة أحدهم على معاملة الله، فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإن قاله بلسانه فهو كذب منه، وإخبار بخلاف ما هو عليه، وكذلك من قدم حكم أحد على حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فذلك المقدّم عنده أحب من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم (2).

قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 55- 56].

إن إخلاص الدين لله، وتقرير عبودية البشر له، إن هي إلا فرع من إسلام الوجود كله، وعبودية الوجود كله لسلطانه؛ وهذا هو الإيحاء الذي يستهدف المنهج القرآني تقريره وتعميقه في القلب البشري، وأيما قلب أو عقل يتجه بوعي ويقظة إلى هذا الكون ونواميسه المستسرة، وظواهره الناطقة بتلك النواميس المستسرة، لا بد يستشعر تأثيرًا لا يرد سلطانه؛ ولا بد يهتز من أعماقه بالشعور القاهر بوجود المدبر المقدر صاحب الخلق والأمر، وهذه هي الخطوة الأولى لدفع هذا القلب إلى الاستجابة لداعي الله؛ والاستسلام لسلطانه الذي يستسلم له هذا الوجود كله ولا يتخطاه .

ومن ثم يتخذ المنهج القرآني من هذا الوجود مجاله الأول لتجلية حقيقة الألوهية؛ وتعبيد البشر لربهم وحده، وإشعار قلوبهم وكيانهم كله حقيقة العبودية، وتذوق طعمها الحقيقي في استسلام الواثق المطمئن؛ الذي يستشعر أن كل ما حوله وكل من حوله من خلق الله، يتجاوب وإياه! (3).

إنه ليس البرهان العقلي وحده هو الذي يستهدفه المنهج القرآني باستعراض عبودية الوجود لله، وتسخيره بأمره، واستسلام هذا الوجود في طواعية ويسر ودقة وعمق لأمره وحكمه، إنما هو مذاق آخر -وراء البرهان العقلي ومع هذا البرهان العقلي- مذاق المشاركة مع الوجود والتجاوب، ومذاق الطمأنينة واليسر؛ والانسياق مع موكب الإيمان الشامل.

إنه مذاق العبودية الراضية، التي لا يسوقها القسر، ولا يحركها القهر، إنما تحركها -قبل الأمر والتكليف- عاطفة الود والطمأنينة والتناسق مع الوجود كله، فلا تفكر في التهرب من الأمر، ولا التفلت من القهر؛ لأنها إنما تلبي حاجتها الفطرية في الاستسلام الجميل المريح، الاستسلام لله الذي يرفع الجباه عن الدينونة لغيره أو العبودية لسواه، الاستسلام الرفيع الكريم لرب العالمين.

هذا الاستسلام هو الذي يمثل معنى الإيمان، ويعطيه طعمه ومذاقه، وهذه العبودية هي التي تحقق معنى الإسلام، وتعطيه حيويته وروحه، وهي هي القاعدة التي لا بد أن تقام وتستقر، قبل التكليف والأمر؛ وقبل الشعائر والشرائع، ومن ثم هذه العناية الكبرى بإنشائها وتقريرها وتعميقها وتثبيتها في المنهج القرآني الحكيم (4).

اعلم أن تكليف الشرع في العبادات قسمان، منها ما يكون أصله معقولًا إلا أن تفاصيله لا تكون معقولة؛ مثل الصلاة، فإن أصلها معقول؛ وهو تعظيم الله، أما كيفية الصلاة فغير معقولة، وكذا الزكاة؛ أصلها دفع حاجة الفقير، وكيفيتها غير معقولة، والصوم أصله معقول؛ وهو قهر النفس وكيفيته غير معقولة، أما الحج فهو سفر إلى موضع معين على كيفيات مخصوصة، فالحكمة في كيفيات هذه العبادات غير معقولة وأصلها غير معلومة.

إذا عرفت هذا فنقول: قال المحققون إن الإتيان بهذا النوع من العبادة أدل على كمال العبودية والخضوع والانقياد من الإتيان بالنوع الأول، وذلك لأن الآتي بالنوع الأول يحتمل أنه إنما أتى به لما عرف بعقله من وجوه المنافع فيه، أما الآتي بالنوع الثاني فإنه لا يأتي به إلا لمجرد الانقياد والطاعة والعبودية (5).

إن كمال التعبد أن ينقاد الإنسان لله عز وجل، سواء عرف السبب والحكمة في المشروعية أم لم يعرف، فعلى المؤمن إذا قيل له افعل؛ أن يقول: سمعنا وأطعنا، وإن عرفت الحكمة فهو نور على نور، وإن لم تعرف فالحكمة أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ولهذا قال الله في كتابه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وسئلت عائشة رضي الله عنها لماذا تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة، فقالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة، كأنها رضي الله عنها تقول: إن وظيفة المؤمن أن يعمل بالشرع، سواء عرف الحكمة أم لم يعرفها، وهذا هو الصواب (6).

فعلى كل عاقل أن يكون له عبدًا منقادًا خاضعًا لأوامره ومراضيه، محترزًا عن مساخطه ومناهيه ليستحق المدح والثناء بقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة: 285]، فإن كمال الربوبية في الواجب يستلزم كمال العبودية في الممكن، وكمال العبودية في الممكن يستتبع كمال الرحمة عليه وذلك قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها} [البقرة: 286] إلى آخر السورة (7).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا عبد» (8)، أي: كامل في العبودية لله، سمى نفسه بذلك تنبيهًا على أنه مختص به منقاد لأمره لا يخالفه في شيء، وكمال العبودية في الحرية عما سوى الله، وهو مختص بهذه الكرامة (9).

وإنما امتاز عليه الصلاة والسلام عن البشر بالرسالة والفضيلة وكمال العبودية لله، فهو أكمل الخلق عبودية لله، وأخشاهم لله، وأتقاهم له.

قالوا: وكمال العبودية أن يتسع قلب العبد لشهود معبوده ومراعاة آداب عبوديته، فلا يشغله أحد الأمرين عن الآخر، وهذا موجود في الشاهد، فإن الرجل إذا عمل عملًا للسلطان مثلًا بين يديه وهو ناظر إليه يشاهده؛ فإن قلبه يتسع لمراعاة عمله وإتقانه وشهود إقبال السلطان عليه ورؤيته له، بل هذا شأن كل محب يعمل لمحبوبه عملًا بين يديه أو في غيبته (10).

والشريعة الإسلامية تقوم على أصلين؛ الأصل الأول تعظيم الخالق عز وجل، والأصل الثاني الإحسان إلى الخلق، وبهذا تظهر عظمة الرسالة الإسلامية الخاتمة في أن كمال العبودية يكون بين الجمع بين تعظيم الخالق والإحسان إلى المخلوقين، أو الجمع بين حقوق الخالق علينا وحقوق المخلوقين، وأن التقصير في حقوق المخلوقين هو تقصير في حقوق الخالق، حتى جاء في الحديث القدسي: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك؟ وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك؟ وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان، فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم استسقيتك، فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك؟ وأنت رب العالمين، قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي» (11).

جاء في مرقاة المفاتيح: أراد به مرض عبده، وإنما أضاف إلى نفسه تشريفًا لذلك العبد، فنزله منزلة ذاته، والحاصل أن من عاد مريضًا لله فكأنه زار الله (12).

وهكذا يُعاتب الله عبده لأنه قصَّر في حقوق المخلوقين، ولا يتسامح في تقصير العبد مع أخيه، إلا أنْ يعفو عنه أخوه الإنسان، حتى وإن كان غير مسلم.

فالإحسان والصدق في معاملة الإنسان مع أخيه الإنسان إنما تعكس الصدق والإحسان مع الخالق عز وجل، وفى الحديث: «لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا..» (13)، والسلام من محاسن الإسلام؛ فإن كل واحد من المتلاقيين يدعو للآخر بالسلامة من الشرور، وبالرحمة والبركة الجالبة لكل خير، ويتبع ذلك من البشاشة وألفاظ التحية المناسبة ما يوجب التآلف والمحبة، ويزيل الوحشة والتقاطع (14).

ففي هذا دليل على أن المحبة من كمال الإيمان، وأنه لا يكمل إيمان العبد حتى يحب أخاه، وأن من أسباب المحبة أن يفشي الإنسان السلام بين إخوانه، أي يظهره ويعلنه، ويسلم على من لقيه من المؤمنين، سواء عرفه أو لم يعرفه، فإن هذا من أسباب المحبة، ولذلك إذا مر بك رجل وسلم عليك أحببته، وإذا أعرض؛ كرهته ولو كان أقرب الناس إليك (15).

وفى الحديث أيضًا: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (16).

معناه: لا يؤمن أحدكم الإيمان التام، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وقال أبو الزناد: ظاهره التساوي وحقيقته التفضيل، لأن الإنسان يحب أن يكون أفضل الناس، فإذا أحب لأخيه مثله، فقد دخل هو في جملة المفضولين، ألا ترى أن الإنسان يجب أن ينتصف من حقه ومظلمته، فإذا كمل إيمانه وكانت لأخيه عنده مظلمة أو حق، بادر إلى إنصافه من نفسه، وآثر الحق، وإن كان عليه فيه بعض المشقة (17).

يجب على المسلم الملتزم بالإسلام ألا ينظر فقط إلى مقدار حرصه على الصلاة والصيام وقراءة القرءان والذكر؛ بل عليه أن يحرص أيضًا على بذل وقته وجهده وماله في الإحسان مع أخيه الإنسان، ولا يَقصُر اهتمامه فقط على تنقية نفسه؛ بل يجب عليه أيضًا الاستغفار عن تقصيره في حقوق أخيه الإنسان، ولاحظ أن القرآن الكريم أكثر من الجمع بين حقوق الله وحقوق الناس؛ ليهتم المسلم برعاية الإثنين معًا، لقد تكرر في القرآن قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، فالصلاة حق الله والزكاة حق الفقراء.

قال ابن عباس رضي الله عنه: ثلاث آيات مقرونة بثلاث، لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها؛ قال تعالى: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه، والثانية قوله تعَالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المزمل: 20]، فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه، والثالثة قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، فمن شكر الله ولم يشكر والديه لم يقبل منه (18).

ومن هذا الجمع بين الإحسان إلى الخالق والإحسان إلى الخلق معًا كقوله تعالى يحض على طعام المسكين: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)} [الحاقة: 25 - 34]، فانظر إلى جريمته تجد أنها ذات شقين تقصير في حق الخالق عز وجل: {لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ} وتقصير في حق المخلوق {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}.

أي: لا يقوم بحق الله عليه من طاعته وعبادته، ولا ينفع خلقه ويؤدي حقهم؛ فإن لله على العباد أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئًا، وللعباد بعضهم على بعض حق الإحسان والمعاونة على البر والتقوى؛ ولهذا أمر الله بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الصلاة، وما ملكت أيمانكم» (19).

قال الرازي: أما قوله: {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} ففيه وجهان أحدهما: أنه لا يحض نفسه على طعام المسكين، وإضافة الطعام إلى المسكين تدل على أن ذلك الطعام حق المسكين، فكأنه منع المسكين مما هو حقه، وذلك يدل على نهاية بخله وقساوة قلبه وخساسة طبعه، والثاني: لا يحض غيره على إطعام ذلك المسكين بسبب أنه لا يعتقد في ذلك الفعل ثوابًا، والحاصل أنه تعالى جعل علم التكذيب بالقيامة الإقدام على إيذاء الضعيف ومنع المعروف، يعني أنه لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد لما صدر عنه ذلك، فموضع الذنب هو التكذيب بالقيامة (20).

قال السعدي: ليس في قلبه رحمة يرحم بها الفقراء والمساكين فلا يطعمهم [من ماله] ولا يحض غيره على إطعامهم، لعدم الوازع في قلبه، وذلك لأن مدار السعادة ومادتها أمران: الإخلاص لله، الذي أصله الإيمان بالله، والإحسان إلى الخلق بوجوه الإحسان، الذي من أعظمها، دفع ضرورة المحتاجين بإطعامهم ما يتقوتون به، وهؤلاء لا إخلاص ولا إحسان، فلذلك استحقوا ما استحقوا (21).

وفى سورة المدثر قال تعالى عن أهل النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)} [المدثر: 42 - 44]، فقد كان من أسباب دخولهم النار أنهم جمعوا بين تقصيرهم في حق الله تعالى: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}، وتقصيرهم في حق المخلوقين {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} فلا إخلاص للمعبود، ولا إحسان ولا نفع للخلق المحتاجين.

وأشار القرآن إلى أن إيذاء اليتيم وعدم الاهتمام بمشاكل المسكين هي مقدمات للتكذيب بيوم الحساب؛ يقول تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)} [الماعون: 1- 3].

كما أن القرءان أشار في حديثه عن صفات أصحاب الجنة أنهم اهتموا في الدنيا برعاية حقوق الله ورعاية حقوق المخلوقين معًا؛ فقال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} [الذاريات: 17 - 19]، وفى سورة السجدة {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16].

وتنبغي الإشارة إلى أن الإسلام لا يهتم بالجانب المادي فقط للإحسان، بل يهتم بالجانب المعنوي؛ كما قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263]، وأن الإساءة المعنوية تبطل ثواب الإحسان المادي؛ كما يقول تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264].

إنه الإسلام العظيم الذى يجعل كمال العبودية في الجمع بين الإحسان إلى الخالق والإحسان إلى المخلوق (22).

ومن له بصيرة وخبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه هو وأصحابه رضي الله عنهم، رأى أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينًا وفقهًا.

وأي دين؟ وأي خير؟ وأي علم؟ وأي فقه؟ فيمن يرى الكفر يملأ الأرض وهو صامت ساكن لا يدعو إلى الله، ويرى الجهل قد عمّ وطمّ، ويرى تفشي البدع وهو ساكن لا يتحرك، ساكت لا يأمر ولا ينهى، ويرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وهو بارد القلب، صامت اللسان، ساكن الجوارح.

وهل بلاء الدين إلا من هؤلاء، الذين إن سلمت لهم وظائفهم ورياستهم ومآكلهم فلا مبالاة لهم بما جرى على الدين وأهله، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله، ومقت الله لهم، قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية وهم لا يشعرون، وهي موت قلوبهم، فإن القلب كلما كانت حياته أتم، كان غضبه لله ورسوله ودينه أقوى، وانتصاره للدين أكمل (23).

***

--------

(1) التفسير القيم (ص: 69).

(2) التفسير القيم (ص: 94).

(3) في ظلال القرآن (3/ 1295).

(4) في ظلال القرآن (3/ 1296).

(5) تفسير الرازي (8/ 305).

(6) شرح رياض الصالحين (2/ 319).

(7) تفسير النيسابوري (2/ 85).

(8) أخرجه البزار (5752).

(9) التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 361).

(10) روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص: 291).

(11) أخرجه مسلم (2569).

(12) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/ 1123).

(13) أخرجه أبو داود (5193).

(14) بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار (ص: 81).

(15) شرح رياض الصالحين (3/ 265).

(16) أخرجه البخاري (13)، ومسلم (45).

(17) شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 65).

(18) موسوعة الأخلاق والزهد والرقائق (2/ 26).

(19) تفسير ابن كثير (8/ 216)، والحديث أخرجه أبو داود (5154).

(20) تفسير الرازي (32/ 303).

(21) تفسير السعدي (ص: 884).

(22) كمال العبودية/ يقظة فكر.

(23) موسوعة فقه القلوب (2/ 1707)