logo

توريث الدعوة


بتاريخ : الأربعاء ، 8 جمادى الأول ، 1445 الموافق 22 نوفمبر 2023
بقلم : تيار الاصلاح
توريث الدعوة

إن تتابع الأجيال في العمل الدعوي وتوريثه لأفراد قادرين على حمل عبئه والمضي به لهو أمر مهم لا ينبغي أن نغفل عنه أو أن نهمله؛ بل عليه أن يكون على سلم أولويات كل مؤسسة دعوية، وكل داعية في سبيل الله يؤمن بالانتشار الدعوي والاستمرارية في العمل، وإلا كان عاقبة ذلك الانحسار ثم الانقطاع، وهذا ما لا يريده كل عامل لوجه الله لا يبغي جاهًا ولا سمعة.

فالتوريث أن يقدم السابق للاحق خلاصة تجاربه وعصارة حياته الدعوية، ليبدأ اللاحق من نقطة انتهاء السابق، فهذه القضية من أهم القضايا الدعوية؛ لأنها توفر الجهود وتسدد المسيرة ويؤمن معها وبال الزلل والخلل.

قال الله تعالى على لسان زكريا عليه السلام: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)} [مريم: 5- 6]، فزكريا عليه السلام يخاف انقطاع النبوة من نسله، ويريد من يرثه: يرث العلم ويرث النبوة، فالأنبياء لا يورثوا درهمًا ولا دينارًا وإنما العلم والرسالة.

قال صاحب الظلال: صوّر حاله، وقدم رجاءه، ذكر ما يخشاه وعرض ما يطلبه: إنه يخشى مَن بعده، يخشاهم ألا يقوموا على تراثه بما يرضاه، وتراثه هو دعوته التي يقوم عليها -وهو أحد أنبياء بني إسرائيل البارزين- وأهله الذين يرعاهم، ومنهم مريم التي كان قيِّمًا عليها وهي تخدم المحراب الذي يتولاه... وهو يخشى الموالي من ورائه على هذا التراث كله، ويخشى ألا يسيروا فيه سيرته... ذلك ما يخشاه، فأما ما يطلبه فهو الولي الصالح الذي يحسن الوراثة، ويحسن القيام على تراثه، وتراثه النبوة من آبائه وأجداده (1).

إن الصالح يحرص على أن يوّرث ميراثًا حسنًا، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]، فيرث الصلاح والخير والعمل الصالح، وهو كذلك يحرص على أن يُوَّرِث العمل الصالح فيدع أفرادًا صالحين وأعمالًا صالحة، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يشجع الصحابة على ذلك، جاء في صحيح مسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فعمل بها بعده، كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء» (2).

وحرص الصحابة على توريث علومهم التي ورثوها من النبي صلى الله عليه وسلم لمن بعدهم، واستمر عملهم حتى وصلت إلينا، وكيف ورث شيخ الإسلام ابن تيمية علمه إلى تلميذه ابن القيم؟ وكيف ورث الإمام البخاري علمه لتلميذه مسلم بن الحجاج؟

ولعمرك حتى تحافظ على استمرار العمل عليك بنشره، وذلك يوجب عليك تأهيل عاملين أكفاء يقومون بنشره، وتترك لهم المجال للإبداع والتغيير وتحررهم من القيود، ويكون هذا وفق منهجية واضحة من التدريب والتأهيل والتفويض، يستطيعون بعدها البداية من حيث انتهيت.

واعلم أنه لو دخل إلى نفسك أن العمل سيتأثر بانسحابك أو وفاتك فهذا مؤشر على الفشل؛ لأنك لم تهيئ من يقوم بهذا من بعدك.

إن التوريث يجب أن يكون منهجًا لكل داعية ولكل مؤسسة لضمان استمرارها وانتشارها حتى لا ينقطع نسلها (3).

ولنعلم أن التوريث ليس منَّة من جيل على جيل؛ لكنه حق وواجب على كلا الطرفين، إذ واجب على جيل السبق والخبرة أن يحتضن الجيل الجديد في حنو وعطف ويورثه ما منَّ الله به عليه من فضل، ويثق أنه يتقرب بذلك إلى الله، ويُعذر إليه سبحانه، بتوريثه ما فقه لمن بعده من أجيال العمل حتى لا يُصاب بشبهة حبس العلم.

والتوريث واجب في الوقت ذاته على الجيل الجديد، ليعمل ويصبر ويصابر في سبيل نيل هذا الحق، فلا ينتظر أن يطرق الخير بابه دون جهد وعناء؛ بل عليه أن يبحث عن أهل الفضل وينهل منهم ويتتلمذ على أيديهم، في تواضع طالب العلم وصبر المجاهد، وأن يستشعر أنها أمانة هو محاسب عليها إذا لم يسع جاهدًا لنيلها.

فليكن إذًا شعار الطرفين القاعدة القرآنية العظيمة: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وأن كلًا منهما محاسب عليها إذا قصر في حق الطرف الآخر.

أهميته والحاجة إليه:

إن حاجتنا لفقه التوريث لا تقل عن حاجتنا لنشر العمل والدعوة، إذ إن الوارثين للفهم السليم والعمل المؤسسي هم الذين سينشرون الدعوة ويتحملون التبعات والصعاب في سبيل ما ورثوه، وهم الذين سيتحملون كل عقبات العمل تقربًا إلى الله سبحانه، فإذا أُحسن تربيتهم على فقه التوريث فسوف يحسنون العمل للدين ويحسنون نشره، وتحمل مسؤولياته.

إن في اتباعنا فقه التوريث ضمانًا لاستمرار العمل وتطوره ودفع دماء جديدة في شرايينه، كما أن في الدمج بين الخبرة والشباب في مختلف مجالات العمل إثراءً للعمل وتطوره وعدم جموده، وتواصلًا بين خبرات العمل المختلفة.

فتوريث الدعوة والعمل يستحق أن نضحي في سبيله بجراحاتنا وآلامنا وليكن شعارنا: «لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حُمر النعم» (4).

علينا أيضًا أن نورث المرجعيات الشرعية للعمل قبل توريثنا للأفكار والمعتقدات الفكرية للعمل، فالعمل الإسلامي كله قائم لوجه الله وابتغاء مرضاته، وكذلك يجب أن ترسخ المعاني الإسلامية العظيمة؛ كالإخلاص لله والتجرد له، والأخوة والشورى وقوة الإرادة، والتضحية والجهاد والثبات في النفوس؛ لتتوارثها الأجيال الدعوية.

فإذا فُعِّل التوريث استغلت الطاقات، وتواصلت الأجيال، واتحدت الخبرات وتوحدت الصفوف، وزاد الشعور بالانتماء، وبأهمية الدور والهدف، وهو ما يؤدي إلى ازدهار العمل ونمائه (5).

إن قضية توريث الدعوة، وبناء جيل يحمل هَمَّ الأمة، وصناعة الوارثين المؤمنين بضرورة العمل لهذا الأمل الدائم، والهدف المنشود، والمقصد النبيل، من المسائل المهمة التي ينبغي على الإسلاميين العناية بها، مع جعلها في سلم الأولويات أثناء التخطيط ووضع البرامج، ورسم الإستراتيجيات؛ ذلك أن هذا الأمر هو التعبير الصادق عن حسن الفهم، وديمومة الغيرة، وبركة المضي، وعدم الانقطاع، وأحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل، والانقطاع إشكالية من إشكاليات العمل إن وقع، وتترتب عليه جملة من المشكلات الأخرى على طريق الدعوة.

فالتفكير العميق، والتخطيط الدقيق، والشعور بالمسؤولية، والإحساس بثقل الأمانة، يستلزم بناء جيل يكون قادرًا على المضي على طريق المشروع، وبهذا الجيل تكون الطمأنينة إلى أن المشروع بخير؛ ذلك أن الله تعالى جعل هذا المنهج للبشر، وأمرهم أن يكونوا أدوات الفعل، مع عناية الله تعالى ورعايته، وتوفيقه وعونه؛ فالله يريد منا أن نأخذ بأسباب النصر، وقيم التمكين؛ فالنصر لا يكون للخاملين والكسالى والراقدين والمتواكلين والمقصرين، بل يكون للعابدين العاملين؛ فالسماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].

وهكذا في الشؤون كلها، وكم يفرح الأعداء بغفلة الصالحين، ويطربون لها، ويصفقون ويفرحون، بقدر ذلك يحزن غيرهم من الناشطين الفاعلين، ويتألمون من الذين يأخذون بأسباب القوة، وتجميع الشيب والشباب، من الذكور والإناث على مشروع الخير، من خلال عمل مؤسسي ناضج.

أنواع التوريث:

النوع الأول: لقاء الدعاة والعلماء والصالحين:

إن من أعظم طرق التوريث المخالطةَ المباشرة مع الدعاة والعلماء العاملين والصالحين، فإن أكثر هؤلاء لم يترك مذكرات، ولم يورث كتبًا ولا رسائل ولا تجارب مكتوبة، فإن ماتوا ماتت معهم تجاربهم وعلومهم إلا من شاء الله تعالى أن يبقي له ميراثًا تتناقله الأجيال.

وسبيل تعويض ذلك هو الاستفادة من أولئك العظماء في حياتهم، والمكوث معهم والأخذ منهم، فهذه وراثتهم.

النوع الثاني: كتب الذكريات أو المذكرات:

من المصادر الثرية بالتجارب التي تستحق الاعتناء بالتوريث وتوقيف الأجيال عليها كتب الذكريات أو المذكرات، وذلك لأن أصحابها سطَّروا فيها عصارة تجربتهم وخلاصة حياتهم، بعد أن خبروا الحياة وخبرتهم، وعاركوها وعركتهم، وواجهوا مواقف كثيرة خرجوا منها بنجاح أو فشل، وبلوا الناس وعرفوهم، فجاءت تلك الكتب على ما يشتهي القارئ ويحب غالبًا.

والمذكرات في كل المجتمعات والبيئات ثروة طائلة يعتنى بها وتبرز وتدرس؛ بل إنها تكون محطَّ أنظار الباحثين الاجتماعيين والناظرين المتدبرين في أحوال وسنن الحياة، والمؤرخين الذين يربطون بتاريخهم الماضي بالحاضر والذاهب بالآتي.

هذا وإنه في ديارنا العربية قصور كبير في التعامل مع المذكرات كتابة وقراءة، أما القراءة فلانصراف أكثر الناس عن قراءة كل نافع مفيد في المجالات الأدبية والاجتماعية والتاريخية والدعوية وغيرها، وأما كتابة الذكريات والمذكرات فإن أكثر العظماء عندنا منصرفون عن هذه الكتابة لسبب أو لآخر، فيموت الواحد منهم عندما يموت وقد خلَّف حسرة في النفوس من ضياع تجارب كثيرة تناقلتها الألسن والأذهان، ثم أصبحت في طيِّ النسيان كلها أو أكثرها، نعم إن بعض العظماء لا يتمكن من كتابة مذكراته لأنه غير آمن أن يؤاخذ بسببها، لكن ما لا يدرك جُلُّه لا يترك كله، ويمكن لكاتب الذكريات أن يكتب قدرًا كبيرًا من تجاربه من غير حرج ولا قلق (6).

النوع الثالث: اللوائح:

اللوائح تضبط قضية التوريث أيما ضبط، وتنقل للأجيال الخبرة على وجه ليس فيه إفراط ولا تفريط، وقضية اللوائح والاعتناء بها قضية مهملة في المؤسسات الدعوية إلا قليلًا منها، وذلك في المؤسسات الحكومية والشعبية، وإن كانت الحكومية أحسن حالًا من أختها قليلًا، فتجد تلك المؤسسات والهيئات إذا تغير موظَّفوها أو مسؤولوها فإن مَن يأتي بعدهم يبدأ من المكان الذي ابتدأ منه سلفه، ويقع في الأخطاء نفسها التي وقع فيها مَن قبله، وذلك في مجالات التوظيف، وإدارة الأعمال، والتعامل مع الآخرين، ووضع الخطط، إلخ.

فينبغي إذًا على كل من كان على رأس هذه المؤسسات أن يعتني كل الاعتناء بأن يستفيد من جهود من قبله، ولو لم تكن على هيئة لوائح مكتوبة منضبطة، ثم يجتهد في وضع اللوائح التي تضبط عمل مؤسسته في جميع المجالات، وليورث ذلك لمن يجيء بعده؛ فإن العمل الدعوي لن يرتقي إلا على أمثال هذا الصنيع أو ما يقاربه (7).

النوع الرابع: الاعتناء بمؤلفات الدعاة الأوائل:

الدعاة عندما يكتبون إنما يضعون عصارة تجاربهم في مؤلفاتهم، ويقصُّون على الأجيال قصة كفاحهم وعملهم في دعوتهم، أو يُبَيِنُون لهم كيف يخطون الخطى الواثقة لاستعادة المجد لأمتهم، والملاحظ أن كثيرًا من شباب الدعاة قد انصرف كليًا أو جزئيًا عن مؤلفات أولئك الأئمة، وأن عددًا كبيرًا من هؤلاء يجهل حتى أسماء تلك الكتب، أو أنه قد اطلع عليها منذ سنوات طويلة خلت فلم يعد يتذكر ما سطَّروه فيها (8).

إن مما لا شك فيه أن هذه الأمة خرَّجت من الدعاة والعلماء والفقهاء والمحدِّثين والمصلحين والوعَّاظ الزاهدين وغيرهم مما لا يحصرهم كتاب، وهؤلاء عاشوا في ظروف مختلفة وأماكن متباعدة، ومع شعوب مختلفة وأجناس متعددة، فعلّموها ودعوها إلى الخير والإصلاح، وأمروها بالمعروف ونهوها عن المنكر، وواجهوا في سبيل ذلك مشاكل ومصاعب، وابتكروا من الأساليب ما عالجوا ما كان يَجِدّ من المشاكل، فأصبح عند كل قوم أو بلد أو جيل تجربة لعلمائه وفقهائه ومصلحيه ووعاظه، وكانت هذه التجارب ينقلها التلاميذ عن الشيوخ فيزيدون عليها ويحسنون فيها.

إن تجارب هؤلاء الدعاة على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم وتخصصاتهم معين ثَرُّ لا ينضب، على الدعاة أن يبحثوا عن هذه الأساليب ويستفيدوا منها ويُحسِّنوها (9).

إن تضييع تلك الكتب لهو إهمال لقضية التوريث الدعوي برمتها، ودليل على هوان أولئك الأعلام على دعاة هذا العصر، الذين لو عقلوا لوضعوا تلك المؤلفات في الموضع اللائق بها، ولأسَّسوا لها اللجان والمراكز التي تستخلص أهمَّ ما فيها وتنشره ليطَّلع عليه أهل هذا الزمان وليورِّثوه لمن بعدهم التوريث اللائق المطلوب (10).

وكان العلماء يعرفون أهمية هذا الأمر، فربما خصُّوا بعض طلبتهم بوراثة علمهم أو أن الطالب قد نبغ بين طلاب شيخه فعرف وخُصّ به؛ وهذا كان حال جماعة من السلف والخلف رحمهم الله تعالى.

نظرة تاريخية:

لقد ورثت الأمة الإسلامية الرسالة وتحملت أعبائها، ونقل القرآن الكريم للنبي صلى الله عليه وسلم خبرات الأنبياء السابقين، وتحدث أيضًا عن الأمم السابقة وكيف كانت نهايتهم، وللعلم فإن توارث الأمة الإسلامية للدعوة والعقيدة لهو تأكيد لمدى الترابط والتلازم بين الماضي والحاضر.

وأن وراثة هذا التراث لا تقوم على قرابة الدم والجنس؛ ولكن على قرابة الإيمان والعقيدة، فمن آمن بهذه العقيدة ورعاها في أي جيل ومن أي قبيل فهو أحق بها من أبناء الصلب وأقرباء العصب! فالدين دين الله، وليس بين الله وبين أحد من عباده نسب ولا صهر!!

هذه الحقائق التي تمثل شطرًا من الخطوط الأساسية في التصور الإسلامي، يجلوها القرآن الكريم هنا في نسق من الأداء عجيب، وفي عرض من الترتيب والتعبير بديع.. يسير بنا خطوة خطوة من لدن إبراهيم عليه السلام منذ أن ابتلاه ربه واختبره فاستحق اختياره واصطفاءه، وتنصيبه للناس إمامًا.. إلى أن نشأت الأمة المسلمة المؤمنة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم استجابة من الله لدعوة إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت الحرام، فاستحقت وراثة هذه الأمانة دون ذرية إبراهيم جميعًا، بذلك السبب الوحيد الذي تقوم عليه وراثة العقيدة، سبب الإيمان بالرسالة، وحسن القيام عليها، والاستقامة على تصورها الصحيح.

فمن استقام على هذه العقيدة الواحدة فهو وريثها، ووريث عهودها وبشاراتها، ومن فسق عنها، ورغب بنفسه عن ملة إبراهيم، فقد فسق عن عهد الله، وقد فقد وراثته لهذا العهد وبشاراته.

عندئذ تسقط كل دعاوى اليهود والنصارى في اصطفائهم واجتبائهم، لمجرد أنهم أبناء إبراهيم وحفدته، وهم ورثته وخلفاؤه! لقد سقطت عنهم الوراثة منذ ما انحرفوا عن هذه العقيدة.. وعندئذ تسقط كذلك كل دعاوى قريش في الاستئثار بالبيت الحرام وشرف القيام عليه وعمارته، لأنهم قد فقدوا حقهم في وراثة باني هذا البيت ورافع قواعده بانحرافهم عن عقيدته (11).

وهذا الأمر الكبير {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5]، كان لا بد له من جيل يحمله، ويعمل على تطبيقه؛ ليكون واقعًا عمليًا، بهذه الثلة التي تحمل مبادئه وتعاليمه، وتلتزم به.

فعمل النبي صلى الله عليه وسلم على صناعة هذا الجيل «حامل المشروع»، حتى كان ذلك الجيل الرباني الفريد، جيل الصحابة الكرام، رضوان الله عليهم أجمعين، وذلك من خلال أطوار متدرجة: الدعوة سرًا، فكان عامة الصحابة يخفون إسلامهم وعبادتهم ودعوتهم واجتماعهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمع مع المسلمين سرًا؛ نظرًا لصالحهم وصالح الإسلام، وكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي على الصفا، وكانت بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم، فكان أن اتخذها مركزًا لدعوته، ولاجتماعه بالمسلمين (12).

قال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29].

هذا الجيل المتميز هو الذي حمل عبء الدعوة، وهَمَّ العمل الإسلامي، بجانب نبيهم ورسولهم، فهم الذين آمنوا وصدقوا، وآووا ونصروا، وضحوا وبذلوا، فكانوا منارات كبرى في خدمة هذا الدين، والجهاد من أجل نصرته، هم الذين صبروا وصابروا ورابطوا، وتحملوا المشاق الكبيرة، وثبتوا في مواجهة الباطل والطاغوت، هم الذين نقلوا القرآن الكريم لمن بعدهم، وهم العدول الذين بلَّغوا سُنة النبي صلى الله عليه وسلم لمن بعدهم، وهم الذين نشروا الدين في آفاق الدنيا، وقبور كثير منهم منتشرة في البلدان، برهان على هذا الذي ندندن حوله.

والصحابة الكرام، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون، حملوا على عاتقهم حركة المضي على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسير على قدمه؛ فكانوا نعم من حمل هذه الأمانة وأدى حق الله تعالى فيها.

ومن جهود الصحابة المباركة ما خلَّفوه من جيل، حملوا عنهم معالم الدين، ونهضوا بتكاليف الدعوة؛ ليكون على درب الفلاح والنجاح، وتعاقب الأجيال (جيل التابعين ومن تبعهم من بعدهم)؛ فكان منهم أولئك الأعلام الذين حملوا عبء الأمانة، من أمثال الحسن البصري، وأويس بن عامر القرني، وسعيد بن المسيب، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والليث، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه.

وهنا تبرز قيمة النظر العميق، في الاستجابة لمطالب فقه الساعة، وواجب الوقت، وفي ذات اللحظة كانت العناية بالنظر المستقبلي، من خلال استشراف المستقبل، بتقدير الحاجة لهذا الفقه في قابل الأيام، ونضرب على هذا مثلًا بالإمام أبي حنيفة، وكيف كان ينتقي حملة المشروع بدقة فائقة، ونظر سديد، ودافع عماده الغيرة على دين الله تعالى؛ فكان أبو يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني، والحسن بن زياد، وزفر، وغيرهم من الأئمة، حتى نشروا هذا العلم العظيم بمدرسة طارت علومها في آفاق الدنيا، بالجهد المخلص الذي بذلوه وأفرغوا فيه الوسع حتى تحقق المراد، وهكذا جيل بعد جيل، تحصل قضية التوريث للديمومة والاستمرار، وما شيوع السند وعلوم التحمل والإجازة إلا نوع من هذا الذي ندندن حوله.

وكم يؤلمني وأنا أقرأ قول من قال من أعلام هذه الأمة عن الإمام الليث: «الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به»؛ ذلك أن جهدًا كبيرًا ضاع في ثنايا الكسل والخمول، وفي هذا دلالة عميقة عن هذا الذي نتحدث عنه، ولما لم يكن أصحاب الليث لم يقوموا به، لم يصل إلينا مذهبه كاملًا، ويا لها من خسارة، والمسؤولية تقع على كاهل جميع من كان في دائرة أمانة المشروع.

والعجيب أن الأمم من حولنا - شرقًا وغربًا- تنبهت إلى هذه القضية المهمة في وقت مبكر، وعقدت مجامع، وأسست مراكز، وعملت كل ما في وسعها للاستفادة التامة من علمائها وأعلامها، فلا يغادرون هذه الحياة إلا وقد حصلت الاستفادة التامة من حياتهم غالبًا، فحبذا لو التفتنا إلى هذا الأمر المهم (13).

وفي عصرنا الحاضر نشعر بلزوم أن نعمل على التفكير الجاد في هذا الشأن، وحاجتنا لهذا الأمر اليوم أكثر من حاجتنا له من ذي قبل؛ إذ اليوم نرى الهجمة الشرسة على هذه الأمة وهويتها ودينها وثوابتها، اليوم نرى قسمًا من المسلمين ليسوا على الطريق المطلوب رغم وجود الخير الكثير في الأمة، لكنها تعاني كثيرًا من الهموم، وتحل بها جملة من المصائب، ومجموعة من الكوارث هنا وهناك، وهذا كله يحتاج إلى عمل جاد، وجهد منظم، وخطوات مدروسة قائمة على قيم الرشد، مع الاستفادة من كل البرامج المعاصرة، واستثمار كل ما هو نافع ومفيد من علوم اليوم.

واليوم على الإسلاميين أن يجعلوا على طاولة تخطيطهم هذا البند المهم في العمل على تكوين جيل قادم يحمل أمانة هذا المشروع الإسلامي، من خلال إعداد القادة، وفي كل المجالات، وضرورة صناعة العلماء الربانيين، ورفد العمل بأجيال جديدة، ودماء حيوية، نطمئن من خلال وجودها على أن الأمة بخير (14).

-----------

(1) في ظلال القرآن (٤/ ٢٣٠٢).

(2) أخرجه مسلم (1017).

(3) حتى لا ينقطع نسل الدعوة/ بصائر.

(4) أخرجه أبو داود (3661).

(5) فقه توريث الخبرة الدعوية/ ومضات.

(6) التوريث الدعوي (ص: 47- 48).

(7) التوريث الدعوي (ص: 55- 56).

(8) التوريث الدعوي (ص: 58).

(9) أسس في الدعوة (ص: ٨٣- ٨٤).

(10) المصدر السابق (ص: 59).

(11) في ظلال القرآن (1/ 111).

(12) الرحيق المختوم (ص: 80).

(13) التوريث الدعوي (ص: 15).

(14) العمل الإسلامي والحاجة لتوريث الدعوة/ رابطة العلماء السوريين.