أينقص الدين وأنت حي
الدين أمانة {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72]، الدين كرامتك وقيمتك وهمك، الدين نسبك وصهرك وشرفك، الدين مسئوليتك الشخصية والمهنية والأخلاقية، الدين كيانك وذاتك وحياتك {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]، وسوف تسأل عنه، ماذا عملت به، وماذا قدمت له؟
ومما يؤلم الأفئدة ويحير العقول الراشدة أن ترى بعض طلبة العلم يقضون الساعات الطوال في ترف فكري ومشاغبات ثقافية يبددون بها أوقاتهم، والأمة أحوج ما تكون إلى علمهم وعملهم.
وكم يؤلمني عندما أرى طالب العلم قد اعتزل الناس ليخلو إلى كتبه دون أن يؤدي زكاة علمه، وفي الجانب الآخر أرى من جنود ابليس من خالط الناس وصبر على أذاهم في سبيل نشر باطله وترويج ضلاله وفساده.
قال أبو بكر الصديق لما منعوا الزكاة: أينقص –الدين- وأنا حي؟ كلا والله، فهل ينقص وأنت حي، هل ينقص الدين في بيتك وفى منطقتك وفى أرضك وفى كل العالم؟ نعم ينقص، لأنك لم تحمله ولم تعش له ولم تدافع عنه.
أينقص الدين من أطرافه وأنت تنام قرير العين، هانئ النفس، مرتاح الضمير؟ أترضى بالدنية في دينك وبك رمق من عيش، أو بين جوانحك عرق ينبض بالحياة؟ أما أيقظتك صيحة النملة في أهلها: {يَأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18]. أما أحرجتك غيرة الهدهد على جناب التوحيد، وهو ينادي بالوعيد: {أَلَّا يَسْجُدُوا للهِ} [النمل: 25]، أما أحيت قلبك لهفة الميت على قومه بقوله: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس: 26].
أم أخافتك حمحمات الباطل، فقعدت تلملم أطرافك من شدة الفزع؟ كيف تنام ملء عينيك وعواء الذئاب من حولك؟
لقد علا صوت الباطل، وظهرت خفايا الرزايا، وقام قائم البدعة لينعق بما كان يتوارى به بين الزوايا، وأطل الشرك برأسه البغيض، وأطبقت الفتن على القلوب، وأنت تغط في سبات عميق، فمتى تفيق؟
أراك ركنت للراحة والدعة، واشتغلت بالعرض الفاني، وانغمست في فضول المساكن والملابس والمراكب والمطاعم والمشارب، فقل لي: متى تشبع؟ أو لعلك انكفأت على نفسك تجمع من المسائل العلمية فروع الفروع، والكثير من الناس أضاعوا أصول الأصول، فيا لك من جموع منوع.
انفض عنك غبار الكسل، واطرد عن جفنك خدر الوسن، فميدان الدعوة إلى الله تعالى يناديك، أحوج ما يكون إليك، فجد بما لديك، جعلت فداك، قبل أن يصل داعي الضلالة إليك، فيدركك الهلاك.
لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجفت قلوب المسلمين وأصابت العرب زلزلة عظيمة، وعظم الخطب، واشتد الحال، ونجم النفاق، وارتد من ارتد من أحياء العرب، وظهر مدعو النبوة، وامتنع قوم عن أداء الزكاة، ولم يبق للجمعة مقام في بلد سوى مكة والمدينة والطائف وبعض بطون القبائل.
وأصبح وضع الدولة وبناتها من الصحابة وقت الردة، كما قالت عائشة رضي الله عنها: كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية؛ لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم، وقلتهم وكثرة عدوهم، وهو تصوير دقيق لحالة الخطر القصوى لإحاطة الأعداء بهم من كل جانب.
عندها وقف ذلك الرجل، نحيف الجسم، غائر العينين، إلا أنه قوي الإيمان، عظيم الإرادة، عالي الهمة، كان ذلك الرجل هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه الخليفة الذي بايعه المسلمون منذ أيام قليلة.
وقف أبو بكر الصديق رضي الله عنه لم يعتره اليأس ولم يستحوذ عليه القنوط، وإنما واجه هذه الأحداث الجسام كلها بإيمان راسخ وعزيمة ثابتة وتفاؤل عظيم، وهو الذي قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جاء يعاتبه على قتال مانعي الزكاة: رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك، جبارًا في الجاهلية، خوارًا في الإسلام؟! ماذا عسيت أن أتألفهم، بشعر مفتعل أم بسحر مفترى؟ هيهات هيهات، والله لأقاتلنَّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها (1).
وهو الذي قال للدنيا قولته الخالدة: إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقص وأنا حي؟ أينقص وأنا حي؟ (2)، أي: إن ذلك غير ممكن ولا أقبل به أبدًا ما دمت حيًا، ثم أعلنها صريحة وبهمة عالية وبنفسية تحطم صخور اليأس: والله لأقاتلنهم ما استمسك السيف في يدي، ولو لم يبق في القرى غيري.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: توفي النبي صلى الله عليه وسلم فنزل بأبي بكر ما لو نزل بالجبال لهاضها، اشرأب النفاق بالمدينة، وارتدت العرب، فوالله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبو بكر بحظها وفنائها في الإسلام (3).
يومها وقف الصديق -فداه أبي وأمي- كالجبل الأشم سدًا منيعًا أمام تيار الردة، صارخًا من أعماق قلبه متوكلًا على ربه قائلًا: قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقص الدين وأنا حي؟
أينقص الدين وأنا حي؟؛ يا لها من كلمة فاض بها لسانه، ونطق بها جنانه، كلمة ترسم منهجًا واضحًا لما يجب أن يكون عليه كل فرد من أفراد هذه الأمة؛ علو في الهمة، قوة في التوكل، ثبات على الحق.
إن الأحزان والمصائب تشحذ الهمم وتصنع الرجال، فإن لم تحفزنا المصائب وتعلي هممنا الآلام والأحزان فما الذي يُعلينا؟ وما الذي يوقظنا؟
إن العبارة على قصرها تكشف عن نفسية أبي بكر وتفكيره، وتلخص شخصيته بأنه الاقتداء الشديد بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأبو بكر الصديق يريد أن يسلم الإسلام للخليفة الذي بعده كما استلمه من النبي صلى الله عليه وسلم، دون زيادة أو نقصان، فلا يمكن أن يقبل بأن ينقص أي نقص من الدين الذي استلمه من النبي عليه السلام، مهما كان.
بعض الدعاة يعتذر عن عدم تنفيذ المهام بأتفه الأسباب والمعوقات؛ كالنسيان والنوم والانشغال بالدنيا وضغوط الحياة، ويتعامل مع الواقع الذي تمر به الأمة كأنه يشرب كوبًا من الشاي وهو نائم علي السرير، قرير العين، مسترخي العضلات، لا يشعر بأنه في أزمة، ولا أن الأمة تغرق، وأنه لا بد من رفع أعلي درجات الاستعداد وحالة الطوارئ، والله تعالى يقول في كتابه: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَةٍ}، {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}، وقال تعالى لموسى: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا}.
فإن الحجج والمعاذير والمبررات والمسوغات التي يذكرها البعض إن راجت علي الناس لا تروج علي الله، قال تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} [القيامة: 14- 15].
هكذا كان حال الصديق -كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها- وهو ممسك بزمام القيادة، واضح الرؤية، قوي العزيمة، شديد المضاء، صائب الرأي، فوالله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بحظها وعنائها وفضلها.
ولم يزل أبو بكر رضي الله عنه يخطط ويجاهد ويرسل البعوث ويسهر على مصالح الرعية؛ حتى استطاع أن يعيد للمسلمين عزتهم، ولليائسين تفاؤلهم، وللإسلام دولته، وللخلافة هيبتها، في صورة رائعة يرسمها لنا التابعي المخضرم أبو رجاء العطاردي رضي الله عنه، قال: دخلت المدينة فرأيت الناس مجتمعين، ورأيت رجلًا يقبِّل رأس رجل وهو يقول: أنا فداؤك، لولا أنت لهلكنا، فقلت: من المقبِّل ومن المقبَّل؟، قالوا: ذاك عمر يقبل رأس أبي بكر رضي الله عنهما في قتاله أهل الردة، إذ منعوا الزكاة حتى أتوا بها صاغرين (4).
لقد اجتمع للأمة في حاضرها ما لم يجتمع لها فيما مضى من التآمر والمكر من عامة الدول الكبيرة سواء أكانت شرقية أو غربية، وعمل على إفسادها من داخلها أعوانًا ظالمين، فهي ردة ولا أبا بكر لها، فكن أنت أبا بكر أمته في علو همته وعظيم تفاؤله.
إن موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه يعلمنا أن الداعية المجاهد في ميدان المعركة يجب ألا يتملكه القنوط في بناء العزة، وألا يستحوذ عليه اليأس في تحقيق النصر، ما دام يرى ولو بصيص أمل في نهاية النفق الطويل.
وهو أولى بأن يتحلى بالأمل لانتصار دعوته، هو أحق بأن يتصف بالتفاؤل لإعزاز دينه، لقد حزم القرآن الكريم اليـأس وندد باليائسين، وقد أثبت صفحات التاريخ أن للأمم المغلوبة التي تتوق إلى المجد انتفاضات وانتصارات.
إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقص وأنا حي؟ كلمات معدودات غدت من فم أبي بكر الصديق سنة لأصحاب الدعوات ومن انفطرت -وما زالت تنفطر- قلوبهم كلما ادلهمَّ الأمر بأمتهم، وعصفت بها المحن، واشتدت بها الخطوب، وعظمت بها مكائد الظالمين والمجرمين والمستبدين من داخلها وخارجها.
أَيَنقص الدين وأنا حي؟! حروف بسيطة ترسم منهجًا واضحًا لما يجب أن يكون عليه كل فرد من أفراد هذه الأمة؛ علو في الهمة، قوة في التوكل، ثبات على الحق.
أَيَنقص الدين وأنا حي؟! كانت وما زالت شعارًا لرجال الإسلام يستنهضون بها همم الأحرار في كل عصر يذودون بها عن حياض الإسلام ضد مطامع المستعمرين وظلم الظالمين (5).
فكانت من قبلُ شعارًا للإمام أحمد بن حنبل يوم محنة خلق القرآن، وقد وقف وحيدًا كما كان أبو بكر، حتى قال الحافظ علي بن المديني: إِن الله عز وجل أعزَّ هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث؛ أَبو بكر الصديق يوم الردة، وأَحمد بن حنبل يوم المحنة (6).
لقد بدأت المحنة بعدما تولى المأمون الخلافة، وتأثر بفكر المعتزلة وأخذ يقربهم إِليه، فاعتنق المأمون هذه العقيدة الفاسدة؛ وهي القول بخلق القرآن، لكنه تردد في إلزام الناس والعلماء بها، فأشار عليه ابن أبي دؤاد وبعض المخرفين بإظهار القول بخلق القرآن، وإلزام الناس به، فكتب المأمون إلى واليه على بغداد إسحاق بن إبراهيم أن يجمع من بحضرته من القضاة والعلماء، ويلزمهم بالقول بخلق القرآن، ومن أبى حبسه أو عزله أو قتله.
فكانت فتنة عظيمة تضرب صميم الدين ومصدر قوة وانطلاقة المسلمين، واشتدت الفتنة، ولم يثبت فيها سوى أربعة من العلماء، الإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، واثنان آخران ما لبثا أن تراجعا وقالا مثل ما قال الناس.
أمر المأمون جنوده أن يقبضوا على الإمامِ أحمدَ بن حنبل ومحمدِ بن نوح، وأن يرسلا إليه، فأُرسلا مقيدين على بعير واحد، فأما محمد بن نوح فمات رحمه الله في الطريق قبل أن يصل إلى المأمون في طرسوس.
وبقي الإمام أحمد بن حنبل وحده، وجاءه رسول من قبل المأمون في الطريق، فقال له: إن الخليفة قد أعد لك سيفًا لم يقتل به أحدًا، وهنا توجه العابد القابض على دينه لله قائلًا: اللهم فإن يكن القرآن كلامك ليس بمخلوق فكفيني مؤنته، فاستجاب الله له ومات المأمون قبل لقائه بالإمام أحمد.
ولكن المحنة ظلت مستمرة فبعد المأمون تولى المعتصم الحكم، وكان على مذهب أبيه المنحرف، فأمر بإحضار الإمام من السجن، وعقدوا مناظرة استمرت ثلاث أيام بينه وبين مشايخ الفتنة، كان فيها الإمام ثابت لم يخشى بطش السلطان وأصر على كلامه، فأمر المعتصم بتعذيبه، وكانوا يتناوبون على جلده فأغشي عليه، ولما أفاق سقطت قطع اللحم الميت من ظهره وكسرت أضلعه وقطعت يداه.
لم تكن المحنة التي مر بها الإمام أحمد حدث غريب على الصالحين العارفين دين الله بحق، فكما قال ورقة بن نوفل للنبي: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي.
وكما كان الإمام رضي الله عنه ثابت كان هناك علماء السلطان الراكعون تحت كرسي السلطان الذي لم يخل زمن منهم، أخذوا يحضروا المعتصم على قتله ليسكتوا صوت الحق الذي يؤرقهم، ووصلت بهم الحقارة والدناءة فقالوا: اقتله ودمه في أعناقنا (7).
وكانت شعارًا لشيخ الإسلام ابن تيمية يوم أن حرض المسلمين على قتال التتار في وقعة شقحب، وجعل يقول: أن الدائرة والهزيمة عليهم، وأن الظفر والنصر للمسلمين، وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينًا، فيقال له: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، وسمعته يقول ذلك، قال: فلما أكثروا علي، قلت: لا تكثروا، كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ، أنهم مهزومون في هذه الكرة، وأن النصر لجيوش الإسلام، قال: وأطمعت بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو، وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر (8).
أَيَنقص الدين وأنا حي؟! إنها شعارٌ لا بد أن يحمله كل مسلم غيور على دينه وأمته، ليلحق بالركب ويكون من أهل الفضل، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» (9).
استشعر واجبك نحو دينك:
فقد قال ربنا في محكم تنزيله: {لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84]، أما نفسك فهي مأمورة بالصدع بالحق والدفاع عن الدين، فعليك أن ترد الظلم والفساد بيدك، وإن لم تستطع فبلسانك وقلمك وتبين الحق للناس، فربما كلمتك يفتح الله بها الطريق لغيرك، وتكون قاعدة تنطلق منها الأجيال القادمة فتحرر الأمة، ولا تحتقر نشر الوعي فالإمام أحمد عُذب وسيد قطب أعدم بسبب كلماتهم؛ فلا تحقرن من المعروف شيء.
وإن لم تستطع فحصن قلبك واملأه إيمانًا بالله وحب الدين، عمق وعيك، كن فردًا مسلمًا واعيًا يحمل هم دينه، واعلم أن الإنسان ليس أمامه سوى طريقين؛ إما طريق نصرة الدين والسير على درب الصالحين، وإما طريق من خذل دينه فأخذاه الله، واعلم أيضًا أن الشجاعة لا تقدم الموت والانبطاح والوهن لا يُأخره، فالحرب كل يوم تشتد على دينك، والنظام العالمي أخرج كل أسلحته ويعمل بكل طاقته، فكيف يطيب القعود وكل عرى الإسلام نقضت.
تعلم، انتفض، اغضب لدينك، فربما تكون أنت الفاتح محرر الأمة (10).
إن عالي الهمة لا يستوحش من قلة السالكين، ولا يأبه بقلة الناجين، ولا يلتفت إلى كثرة المخذلين، ولا يكترث بمخالفة الناكبين، قلبه لا يعرف التثاؤب ولا الراحة ولا السكون ولا الترف.
وخسيس الهمة؛ كلما همَّ ليسموا للعوالي، وليرتقي في درجات المعالي، ختم الشيطان على قلبه، وعقد على ناصيته وقال له: عليك ليل طويل فارقد، وكلما سعى للارتقاء بهمته وإقالة عثرته عاجلته جيوش التشويش والأماني، ونادته نفسه الأمارة بالسوء؛ أأنت أكبر أم الواقع؟!
وحين ينتكس الإنسان يهوي إلى الدرك الذي لا يهوي إليه مخلوق قط، حين تصبح البهائم أرفع منه وأقوم، حين يرتكس مع هواه إلى درك لا تملك البهيمة أن ترتكس إليه، وإذا ماتت فيه الغيرة على نفسه وعلى المحارم يصبح أسفل من البهائم.
كان أبو الدرداء رضي الله عنه بدمشق، وسلمان رضي الله عنه بالعراق، فكتب أبو الدرداء إلى سلمان: أن هلُم إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدًا، وإنما يُقدسُ المرءَ عمله (11).
يقول سيد رحمه الله: إن فقه هذا الدين لا ينبثق إلا في أرض الحركة، ولا يؤخذ عن فقيه قاعد حيث تجب الحركة، والذين يعكفون على الكتب والأوراق في هذا الزمان لكي يستنبطوا منها أحكامًا فقهية يجددون بها الفقه الإسلامي أو يطورونه، وهم بعيدون عن الحركة التي تستهدف تحرير الناس من العبودية للعباد، وردهم إلى العبودية لله وحده بتحكيم شريعة الله وحدها، وطرد شرائع الطواغيت؛ هؤلاء لا يفقهون طبيعة هذا الدين، ومن ثم لا يحسنون صياغة فقه هذا الدين (12).
ففي الصحيح عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، وترك نمرة، فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه شيئًا من إذخر، ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يهدبها (13).
في سنة ثلاث وستين وأربعمائة؛ أقبل ملك الروم أرمانيوس في جحافل أمثال الجبال من الروم والكرج والفرنج، وعدد عظيمه، وتجمل هائل، ومعه خمسة وثلاثون ألفًا من البطارقة، مع كل بطريق ما بين ألفي فارس إلى خمسمائة فارس، ومعه من الفرنج خمسة وثلاثون ألفًا، ومن الغُزّ الذين يكونون وراء القسطنطينية خمسة عشر ألفًا، ومعه مئة ألف نقاب وحفار، وألف روزجاري، ومعه أربع عجلة تحمل النعال والمسامير، وألفا عجلة تحمل السلاح والسروج والعرابات والمجانيق، منها منجنيق يمده ألف ومائتا رجل، ومن عزمه -قبحه الله- أن يجتث الإسلام وأهله، وقد اقطع بطارقته البلاد حتى بغداد.
واستوصى نائبها بالخليفة خيرًا، فقال له؛ أرفق بذلك الشيخ فإنه صاحبنا، ثم إذا استوثقت ممالك العراق وخراسان لهم مالوا على الشام وأهله ميلة واحدة فاستعادوه من أيدي المسلمين، واستنقذوه - فيما يزعمون - والقدر يقول: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72].
فالتقاه السلطان ألب أرسلان في جيشه وهم قريب من عشرين ألفًا، في يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة، وخاف السلطان من كثرة جند ملك الروم، وكان الملك «ألب أرسلان» التركي سلطان العراق والعجم يومئذ، قد جمع وجوه مملكته، وقال: قد علمتم ما نزل بالمسلمين فما رأيكم؟، قالوا: رأينا لرأيك تبع، وهذه الجموع لا قبل لأحد بها، قال: وأين المفر؟ لم يبق إلا الموت، فموتوا كرامًا، قالوا: أمّا إذ سمحت بنفسك، فنفوسنا لك لفداء، فعزموا على ملاقاتهم، وقال: نلقاهم في أول بلادي.
فخرج في عشرين ألفًا من الأمجاد الشجعان المنتخبين، فلما ساروا مرحلة عرض على عسكره فوجدهم خمسة عشر ألفًا ورجعت خمسة، فلما سار مرحلة ثانية عرض عسكره فإذ هم اثنى عشر ألفًا، فلما واجههم عند الصباح رأى ما أذهل العقول وحير الألباب، وكان المسلمون كالشامة البيضاء في الثور الأسود، ولما التقى الجمعان، وتراءى الكفر والإيمان، واصطدم الجبلان، طلب السلطان الهدنة، قال أرمانوس: لا هدنة إلا ببذل الري -أي البلاد- فحمي السلطان وشاط، فقال إمامه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري؛ إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره، ولعل هذا الفتح باسمك، فالقهم وقت الزوال، وكان يوم جمعة، قال؛ فإنه يكون الخطباء على المنابر وإنهم يدعون للمجاهدين.
فصلوا، وبكى السلطان، ودعا وأمّنوا، وسجد وعفّر وجهه وقال؛ يا أمراء من شاء فلينصرف، فما هاهنا سلطان، وعقد ذنب حصانه بيده، ولبس البياض وتحنّط، وقال؛ ليودع كل واحد صاحبه وليوصي، ففعلوا ذلك، وقال؛ إني عازم على أن أحمل فاحملوا معي، وتواقف الفريقان، وتواجه الفتيان، نزل السلطان عن فرسه وسجد لله عز وجل ومرّغ وجهه في التراب ودعا الله واستنصره.
فأنزل الله نصره على المسلمين، ومنحهم أكتافهم، فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وأُسر ملكهم أرمانوس، وجلس ألبُ أرسلان على كرسي الملك في مضربة في سرادقه على فراشه، وأكل من طعامه ولبس من ثيابه، وأُحضر الملك بين يديه وفي عنقه حبل، فقال؛ ما كنت صانعًا لو ظفرت بي؟، قال: أو تشك أنت في قتلك حينئذ؟، قال ألبُ أرسلان: وأنت أقل في عيني من أن أقتلك، اذهبوا فبيعوه، فطافوا به جميع العسكر والحبل في عنقه، يُنادى عليه بالدراهم والفلوس فما يشتريه أحد، حتى انتهوا في آخر العسكر إلى رجل، فقال: إن بعتمونيه بهذا الكلب، اشتريته، فأخذوه وأخذوا الكلب، وأتوا بهما إلى ألب أرسلان، وأخبروه بما صنعوا به وبما دُفع فيه، فقال: الكلب خير منه، لأنه ينفع وهذا لا ينفع، خذوا الكلب، وادفعوا له هذا الكلب، ثم إنه بعد ذلك أمر بإطلاقه وأن يجعل الكلب قرينه مربوطًا في عنقه، ووكل به من يوصله إلى بلاده، فلما وصل عزلوه عن الملك وكحلوه، فلله الحمد والمنة (14).
***
_____________
(1) جمع الجوامع (14/ 228).
(2) مشكاة المصابيح (3/ 1700).
(3) الإبانة الكبرى (9/ 858).
(4) الرياض النضرة (1/ 130).
(5) أينقص الدين وأنا حي/ قصة الإسلام.
(6) غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (1/ 301).
(7) الإبانة الكبرى (6/ 263).
(8) مدارج السالكين (2/ 458).
(9) أخرجه مسلم (1920).
(10) أينقص الدين وأنا حي/ تبيان.
(11) موطأ مالك (2/ 769).
(12) في ظلال القرآن (3/ 1735).
(13) أخرجه البخاري (3897).
(14) سير أعلام النبلاء للذهبي (18/ 415 - 416) بتصرف.