أحب الدعاة إلى الله أنفعهم للناس
خرج من قريته بعد أن تآمر القوم على قتله، خرج منها وهو خائف متلفت، يتوقع الشر في كل لحظة، هارب يسعى بكل طاقته، ليس معه مال وليس معه متاع، حتى انتهى به المطاف إلى قرية، فوصل وقد أنهكه التعب والجوع والظمأ، وما كاد يجلس على الأرض ليستريح من عناء السفر المتعب حتى رأى منظرًا استفز فيه شهامته ورجولته ونخوته ودينه، فماذا رأى؟ رأى فتاتين عفيفتين طاهرتين تتحاشيان الاختلاط بالرجال، معهما أغنامهما؛ وعلى الرغم من أنه لا يعرفهما وليس له حاجة عندهما؛ إلا أنه رأى أنها فرصة لأن يكسب الأجر عند الله بقضاء حاجتهما، وعلى الرغم من حرارة الجو وما كان يعانيه من تعب السفر إلا أنه بادر لقضاء حاجتهما فسقى لهما، ثم بعد أن أنجز تلك المهمة لم يطلب منهما أجرة ما عمل أو انتظر منهما كلمة شكر، إنما تولى إلى الظل ليستظل من تلك الحرارة الشديدة.
أعلمتم من هو ذلك الشاب، إنه رسول من أولي العزم من الرسل، إنه كليم الله موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، خلد الله لنا عمله ذلك في كتابه إلى يوم القيامة، ليظل علمًا للبشرية في مجال قضاء حوائج الناس، واستمعوا لربكم يقص عليكم ذلك الموقف: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)} [القصص:21-24].
قضاء حوائج الناس خُلق أصحاب الفطرة السليمة، ومن باب أولى أن تكون سجية المتقين والدعاة والعلماء.
إن من أخص خصائص الداعية أنه متحرك الحركة المنافية للخمول والسكون، فالحركة ولود، والسكون عقيم، والحركة هي الحياة، والسكون هو الموت.
يقول الجيلاني: «الحركة بداية، والسكون نهاية»، فالأشياء لا تسكن إلا إذا وصلت إلى نهايتها وخمدت وماتت، لكن الحركة تكون بداية لما بعدها، فهي تلد ما بعدها، والحركة هي الحد الفاصل بين عهد الرقابة وبين عهد حمل الأمانة بعزم وحزم ووفاء، فبالحركة انتشر المسلمون الأوائل مثل شعاع الشمس في أقطار الأرض يفتحون البلاد، ويفتحون قلوب العباد، ويدعون إلى التوحيد، ويحطمون الطواغيت، ويقودون الناس إلى الجنة، وبالحركة صاروا في ظلمات الحياة سراجًا وهاجًا، فإذا بالباطل قد صار رمادًا بعد التهاب وخامدًا بعد حركة.
يقول الشافعي رحمه الله تعالى:
إني رأيت وقــــــوف المـــــــــــــاء يفســــــــــــــده إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب
والأسد لولا فراق الأرض ما افترست والســـــهم لـــــولا فراق القوس لم يُصب
والشمــــس لو وقـــــفت في الفلك دائمة لملها النـــاس من عجــــم ومن عـــرب
هذه الحركة التي نتكلم عنها هي في الحقيقة عبارة عن عملية قيامة وبعث لروح الإنسان ولنفس الإنسان، فكما أن القيامة والبعث والنشور فيها إحياء للموات، وبعث للحياة والحركة من جديد؛ فكذلك حركة الداعية هي عبارة عن قيامة وبعث في الروح.
وهذا المصطلح إنما هو من القرآن الكريم؛ لأن الله تعالى أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأمة، ونبأه بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} [المزمل:1-2]، وأرسله بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2)} [المدثر:1-2]، فهذه الآية هي التي انتقل بها النبي صلى الله عليه وسلم من النبوة إلى الرسالة، وهي قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2)}، وتأمل كلمة {قُمْ} فإنها تفيد القيام والحركة.
ونفس هذا المعنى موجود في مثل قوله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46]، ففي هذه الآية إشارة، أيضًا، إلى هذه القيامة، ونفس المعنى ذكره الله عز وجل في شأن أصحاب الكهف، فقال سبحانه: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14] فهي حركة، هذه القيامة الروحية واليقظة القلبية من أول منازل الطريق تستدعي الحركة في سبيل الدعوة، فليست هي أول منازل طريق التوبة؛ لأن الإنسان لا يتوب إلا بعدما يفيق ويستيقظ قلبه أولًا، فهو يستيقظ من النوم، ثم بعد ذلك يفكر في التوبة(1).
من شروط نجاح الداعية في دعوته، والتي تمكنه من النفاذ بدعوته في المجتمع الذي يعيش فيه؛ قيامه بخدمة الآخرين والعمل على قضاء حوائجهم.
قال ابن القيِّم رحمه الله: «وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم، على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها، على أن التقرب إلى رب العالمين، والبر والإحسان إلى خلقه، من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر، فما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمه بمثل طاعته والإحسان إلى خلقه»(2).
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلًا جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله: «أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد (يعني مسجد المدينة) شهرًا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام»(3).
ولعل هذا التوجيه النبوي هو ما دفع ابن عباس رضي الله عنه للخروج من معتكفه لقضاء حاجة أخ له في الله, وهو ما استند عليه فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله للقول: «قضاء حوائج المسلمين أهم من الاعتكاف؛ لأن نفعها متعدٍ، والنفع المتعدي أفضل من النفع القاصر، إلا إذا كان النفع القاصر من مهمات الإسلام وواجباته»(4) .
وعن أنس أن امرأة كان في عقلها شيء، فقالت: «يا رسول الله، إن لي إليك حاجة»، فقال: «يا أم فلان، انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك»، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها(5).
بل إن درجة اهتمام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقضاء حوائج المسلمين وصلت إلى حد الاستماع لحاجة أحدهم بعد إقامة الصلاة, ورسول الله صلى الله عليه وسلم في محرابه, فقد ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت الصلاة تقام، فيكلم النبي صلى الله عليه وسلم الرجل في حاجة تكون له، فيقوم بينه وبين القبلة، فما يزال قائمًا يكلمه، فربما رأيت بعض القوم لينعس من طول قيام النبي صلى الله عليه وسلم له(6).
فالدعوة ليست منبرًا لعرض الأفكار والنظريات، والداعية ليس (مذياعًا) يردد الأفكار المجردة فحسب؛ بل إن الدعوة والداعية يجب أن ينتقلا نقلة نوعية تجعلهما يعيشان هموم الناس، ويحملان بقسط وافر من هذه الهموم.
وهذا الأمر ليس من قبيل الدعاية والمتاجرة والاستغلال كما هو الشأن لدى الجمعيات التبشيرية وغيرها، وإنما هو مبدأ في صلب المنهج الإسلامي، لا يصلح الإسلام إلا به.
وإن كان صحيحًا أن الداعية لن يسع الناس بماله وجهده وخدماته، ولكن ليس من الصحة في شيء اعتباره حائلًا بينه وبين قيامه بما يستطيع، فالمطلوب منه ابتداء القيام ببذل ما يستطيع من جهد، فإن قصر به جهد عوضه وأكمله بحسن الخلق، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه، وحسن الخلق»(7)، والإيمان نفسه يجب أن يدفع الداعية إلى أن يحب لغيره ما يحب لنفسه، وهذا لن يكون إلا بالسعي في شئونهم وقضاء حوائجهم.
إن الداعية بحق هو الذي يعيش لسواه لا لنفسه، ويكون ديدنه الدوران حول مجتمعه وحول المسلمين وليس حول ذاته، وهو الذي يعمل على توفير الراحة للآخرين ولو على حساب راحته؛ بل إن الداعية بحق هو الذي تسعده سعادة الآخرين وتشقيه شقاوتهم، يرتاح إذا ارتاحوا، ويطمئن إذا اطمأنوا، ويسعد إذا سعدوا.
فإذا قامت هذه الوشائج بين الداعية وبين الناس تحقق الوصال والاتصال، وتحقق التأثر والأثر، ونجحت المهمة، وآتت الدعوة أكلها بإذن ربها، وإن كان غير ذلك لم تكن دعوته ولم يكن داعية.
إن من الأسباب الرئيسية لركود الدعوة أو جمودها أو عقمها أحيانًا اكتفاء أصحابها بالإطلال على الناس في المناسبات بمكتوبات أو مقولات، والدعوة الناجحة هي الدعوة الموصولة بقضايا الناس؛ لأنها ستكون عند ذلك موصولة بقلوبهم ومشاعرهم.
إن قضايا الناس كثيرة ومتشعبة؛ فمنها الخاص ومنها العام، ومنها النفسي ومنها الحسي، ومنها التافه ومنها المهم، والداعية يجب أن تكون معالجته لها بحسب الأولويات والأهميات.
والأمر الذي لا مناص منه ولا فائدة بدونه أن يكون ارتباط الحوائج وبذل المساعي بفكر الداعية ودعوته لا بشخصه، وأن يبدأ بهذا الربط، ويسعى له من أول يوم، وإلا كان الاستقطاب حول الشخص وليس حول الفكرة أو الحركة، وهذه قضية مهمة يجب التنبه إليها والحذر منها؛ قبل أن تصبح بابًا للشيطان ووبالًا على الدعوة والداعية.
وإذا كان المنهج الإسلامي قد حض عموم المسلمين وعامتهم على القيام بقضاء حوائج الناس، فإن دعاة الإسلام معنيون بذلك أكثر(8).
فمما ورد عن رسول الله في الحض على قضاء الحوائج قوله: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة»(9)، «لا يزال الله في حاجة العبد ما دام في حاجة أخيه»(10).
أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن، كسوت عورته، أو أشبعت جوعته، أو قضيت حاجته.
وهكذا تتكاثر وتكثر التوجيهات النبوية التي تدعو وتحض على قضاء حوائج المسلمين، وبذل المساعي الخيرة لهم، وإدخال السرور عليهم، ودعاة الإسلام أولى الناس جميعًا بالاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع سنته.
وهذا خير الأمة بعد نبيها الصديق رضي الله عنه، كان يواظب على خدمة عجوز مقعدة، فبعد أن ولي الخلافة ذهب عمر رضي الله عنه لقضاء حوائجها، ظانًا أن أبا بكر ستشغله الخلافة ولو بشكل مؤقت عن ذلك العمل؛ فإذا به يجد أن الخليفة قد سبقه لذلك! وهذا الفاروق عمر رضي الله عنه وهو خليفة وجد وهو يعس بالليل امرأة في حالة المخاض تعاني من آلام الولادة، فحث زوجته على قضاء حاجتها وكسب أجرها، فكانت هي تمرض المرأة في الداخل، وهو في الخارج ينهمك في إنضاج الطعام بالنفخ على الحطب تحت القِدْر، حتى يتخلل الدخان لحيته وتفيض عيناه بالدمع، لا من أثر الدخان الكثيف فحسب؛ بل شكرًا لله أن هيأه وزوجته لقضاء حوائج الناس! فما أشد حرمان من لم يوفق لقضاء حوائج الناس، وأشد منه خسارة وبؤسًا من سعى في تعطيل حوائج الناس.
فضل قضاء حوائج المسلمين:
1- ينال ثواب المجاهد في سبيل الله:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل لله أو القائم الليل الصائم النهار»(11)، فما أعظمه من فضل! وما أعلاه من مقام!
2- حب الله تعالى له:
عن عبد الله بن عمر أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله، وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في هذا المسجد [يعني مسجد المدينة] شهرًا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظًا ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام»(12).
3- من أفضل الأعمال وأعظم الدرجات:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: «أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن، كسوت عورته، أو أشبعت جوعته، أو قضيت حاجته»(13).
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يجري أجره من بعد موته وهو في قبره: من علَّم علمًا، أو أجرى نهرًا، أو حفر بئرًا، أو غرس نخلًا، أو بنى مسجدًا، أو ورث مصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفر له بعد موته»(14).
فهي أنواع كثيرة من الأعمال، متباينة ومتعددة حسب قدرات الناس وحسب حاجاتهم، يقوم بها المسلم تنفعه بعد موته، وهي من أفضل الأعمال.
4- ينال الخيرية:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الناس أنفعهم للناس»(15).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن لله عبادًا اختصهم بالنعم لمنافع العباد، يقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم»(16).
وقال محمد بن المنكدر: «قال بعض أهل العلم عقب إيراده له: وإذا كان الله سبحانه قد غفر لمن سقى كلبًا على شدة ظمأه فكيف بمن سقى العطاش، وأشبع الجياع، وكسا العراة من المسلمين»(17).
5- وجوب دخول الجنة:
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد رأيت رجلًا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس»(18).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان صلى الله عليه وسلم يومًا يجلس مع أصحابه فقال: «من أصبح منكم اليوم صائمًا؟»، قال: أبو بكر: «أنا»، قال صلى الله عليه وسلم: «فمن تبع منكم اليوم جنازة؟»، قال أبو بكر: «أنا»، قال: «فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا»، قال أبو بكر: «أنا»، قال صلى الله عليه وسلم: «فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟»، قال أبو بكر: «أنا»، قال صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة»(19)، أربعة أعمال قام بها المسلم، واحدة منها هي الصيام فهو له، أما اتباع الجنازة، وإطعام المسكين، وعيادة المريض فهي للمسلمين فاستحق الجنة.
6- دوام نعم الله واستقرارها:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه إلا جعل إليه شيئًا من حوائج الناس, فإن تبرم بهم فقد عرض تلك النعمة للزوال»(20).
وقيل لجابر بن عبد الله رضي الله عنه: «يا جابر، من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فإن قام بما يجب لله فيها عرضها للدوام والبقاء، وإن لم يقم فيها بما يجب لله عرضها للزوال»(21).
عن ابن عمر رضي الله عنهما: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لله تعالى أقوامًا يختصهم بالنعم لمنافع العباد، ويثبتها عندهم ما نفعوهم، فإذا هم لم ينفعوهم حولها إلى غيرهم»(22).
7- من علامات الخير في الإنسان:
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على ناس جلوس، فقال: «ألا أخبركم بخيركم من شركم؟»، قال: فسكتوا، فقال ذلك ثلاث مرات، فقال رجل: «بلى يا رسول الله، أخبرنا بخيرنا من شرنا»، قال: «خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره، وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره»(23).
8- تظليل الله له يوم القيامة:
وعن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبي اليسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله»(24).
9- من الصدقات الواجبة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة»(25).
ونلاحظ أن الأعمال العبادية والخدمية متداخلة تداخلًا واضحًا لا فاصل بينهما.
عن جابر رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرس غرسًا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة»(26).
وفي الحديث عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس»، قيل: يا رسول الله، ومن أين لنا صدقة نتصدق بها؟ قال: «إن أبواب الخير كثيرة، التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتميط الأذى عن الطريق، وتسمع الأصم، وتهدي الأعمى، وتدل المستدل على حاجته، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف، فهذا كله صدقة منك على نفسك»(27).
وانظر إلى لفظ: وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف، حركة وهمة ونشاط متناهٍ لقضاء الحوائج للآخرين.
10- هي المعروف المطلوب:
عن أبي جُرَيٍّ الْهُجَيْمِيِّ قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إنا قوم من أهل البادية، فعلمنا شيئًا ينفعنا الله به، فقال: «لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط، وإياك وإسبال الإزار؛ فإنه من المخيلة ولا يحبها الله، وإن امرؤ شتمك بما يعلم فيك فلا تشتمه بما تعلم فيه، فإن أجره لك ووباله على من قاله»(28).
هذا التنوع في أعمال المعروف وكثرتها وشمولها من الأعمال الصغيرة؛ مثل إفراغ دلو، إلى نظافة الطريق، إلى البسمة إلى السلام، إلى مؤانسة المستوحش، وكلها في متناول الفقير قبل الغني، والضعيف قبل القوي، والصغير قبل الكبير، وما ذلك إلا لأن هذه العبادة محببة إلى الله تعالى، فسهلها على الناس أجمعين ليقوموا بها.
يا له من ثواب عظيم لعمل قليل في متناول الجميع، شربة ماء تنقذ من عذاب النار.
11- تجاوز الله عنه:
وهذا نوع آخر من الخدمة وقضاء الحوائج، ألا وهو التجاوز عن المعسر، وما أكثر ذلك في زماننا.
فما الذي يحدث لمن تجاوز؟ في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسرًا فتجاوز عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، فلقي الله فتجاوز عنه»(29).
12- علامة من علامات الإيمان:
يقول عوام الناس: الإحساس نعمة، وهذا حق، فمن فقد الإحساس بغيره فقد الإيمان وأخمد جذوته.
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»(30).
فالمؤمن الحق تلمح في بريق عينه بوارق البذل، وتسمع من فلتات لسانه كلمات البر، وتشم بين ثنايا أفعاله رائحة احتراق النفس ليسعد الآخرون، وفناءها ليحيا البائسون، ودفنها في التراب لينبت على إثرها المحرومون(31).
13- لا يعاتبه الله ولا يتحسر يوم القيامة:
لأن الله يعاتب عتابًا يورث حسرة يوم القيامة لمن لا يقدمون ولا يبذلون بخلًا وكسلًا،
كما في الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا بن آدم، مرضت فلم تعدني، قال: يا رب، وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟، يا بن آدم، استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب، كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟، يا بن آدم، استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب، كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي»(32).
فمن زار مريضًا وأطعم جائعًا وسقى ظمأنًا نجي من عتاب الله والحسرة يوم القيامة.
وكلها أعمال من صنائع المعروف وخدمة الآخرين، فلنسارع في هذه الأعمال الاجتماعية التي تفتح القلوب وتسعد النفوس وترضي الرحمن، وتكشف عنا الهم والغم.
14- العلو في الدنيا والآخرة:
عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله»(33).
أراد أبو ذر الغفاري رضي الله عنه معرفة أنواع نعم الله عليه لتكون يده هي العليا، فألحَّ على النبي صلى الله عليه وسلم في السؤال، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا ينجي العبد من النار؟ قال: «الإيمان بالله»، قلت: يا نبي الله، مع الإيمان عمل؟ قال: «أن ترضخ [تعطي] مما خوَّلك الله، وترضخ مما رزقك الله»، قلت: يا نبي الله، فإن كان فقيرًا لا يجد ما يرضخ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر»، قلت: إن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر؟ قال صلى الله عليه وسلم: «فليعن الأخرق»، قلت: يا نبي الله، أرأيت إن كان لا يحسن أن يصنع؟ قال صلى الله عليه وسلم: «فليعن المظلوم»، قلت: يا نبي الله، أرأيت إن كان ضعيفًا لا يستطيع أن يعين مظلومًا؟ قال: «ما تريد أن تترك لصاحبك من خير؟! ليمسك أذاه عن الناس»، قلت: يا رسول الله، أرأيت إن فعل هذا يدخله الجنة؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ما من مؤمن يطلب خصلةً من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة»(34).
واعلم أن أسعد القلوب هي التي تنبض للآخرين، واعلم أنك عندما تعاون إنسانًا على صعود الجبل فإنك تقترب معه من القمة.
قال الرازي في قوله تعالى: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36]: «معناه إنا نراك تؤثر الإحسان، وتأتي بمكارم الأخلاق وجميع الأفعال الحميدة، قيل: إنه كان يعود مرضاهم، ويؤنس حزينهم، فقالوا: إنك من المحسنين؛ أي في حق الشركاء والأصحاب»(35).
15- حفظ الله لعبده في الدنيا:
كما في الحديث: «قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم، أَنفق أُنفق عليك»، وقال: «يمين الله ملأى [وقال ابن نمير: ملآن] سحاء لا يغيضها شيء الليل والنهار»(36)، وقد قيل: صنائع المعروف تقي مصارع السوء.
قال ابن عباس: «صاحب المعروف لا يقع، فإن وقع وجد متكئًا».
قال عمرو بن العاص: «في كل شيء سَرَفٌ إلا في ابتناء المكارم أو اصطناع المعروف، أو إظهار مروءة».
كان خالد القسري يقول على المنبر: «أيها الناس، عليكم بالمعروف؛ فإن فاعل المعروف لا يعدم جوازيه، وما ضعف عن أدائه الناس قوي الله على جوازيه».
ضوابط شرعية في قضاء الحوائج:
1- الإخلاص في الأعمال وعدم المن بها، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «لا يتم العمل إلا بثلاث: تعجيله، وتصغيره، وستره، فإنه إذا عجله هنَّأه، وإذا صغَّره عظمه، وإذا ستره تممه».
وكان يقال: ستر رجل ما أَولى، ونشر رجل ما أُولي، وقالوا: المنة تهدم الصنيعة.
قال رجل لابن شبرمة: فعلت بفلان كذا وكذا، وفعلت به كذا، فقال: «لا خير في المعروف إذا أحصي».
واعلم أن من علامات الإخلاص استواء المدح والذم من العامة، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال، واقتضاء ثواب الأعمال في الآخرة.
2- إتمام العمل: قال أحد السلف: «رب المعروف أشد من ابتدائه»، والمقصود ب (رُب العمل): تنميته وتعهده، ويقال: الابتداء بالمعروف نافلة، وربه فريضة، أي: إتمامه.
3- وطلب الحاجة من الكريم دون اللئيم: فعندما يطلب منك أي عمل فاعلم أن الحاجة لا تطلب إلا من كريم، وقد أحسن الظن بك من طلب أداء العمل، واستمع إلى قول ابن عباس: «ثلاثة لا أكافئهم: رجل بدأني بالسلام، ورجل وسع لي في المجلس، ورجل اغبرت قدماه في المشي إرادة التسليم علي»، فأما الرابع: فلا يكافئه عني إلا الله عز وجل، قيل: فمن هو؟ قال: «رجل بات ليلته يفكر بمن ينزله، ثم رآني أهلًا لحاجته فأنزلها بي»، أراد بذلك من طلب المعونة منه.
كان يقال: لا تصرف حوائجك إلى من معيشته في رءوس المكاييل والموازين.
4- الشكر والثناء: وهذا أدب لصاحب الحاجة يفتقر إليه بعض الناس، وكان من الواجب على صاحب الحاجة أن يبالغ في الشكر والثناء لمن قضى له حاجته، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، قال صلى الله عليه وسلم: «من صُنِعَ إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرًا، فقد أبلغ في الثناء»(37).
قال بعض الحكماء: «إذا قصرت يدك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر.
وهذه مجموعة آداب يرويها خالد بن صفوان: «لا تطلبوا الحوائج في غير حينها، ولا تطلبوها لغير أهل، ولا تطلبوا ما لستم له بأهل فتكونوا للمنع خلقاء».
وكان عمر يتعاهد الأرامل فيسقي لهن الماء بالليل، ورآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة، فدخل إليها فإذا هي عجوز عمياء مقعدة، فسألها: ما يصنع هذا الرجل عندكِ؟، قالت: «هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدنا، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى»، فقال طلحة: «ثكلتك أمك يا طلحة، عثرات عمر تتبع»(38).
في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، أكثرنا ظلًا الذي يستظل بكسائه، وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئًا، وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب وامتهنوا وعالجوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر»(39).
قال عبد الله بن عثمان شيخ البخاري: «ما سألني أحدٌ حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تم وإلا استعنت له بالسلطان».
اقض الحوائج ما استطعت، واسعَ في حوائج المسلمين ما استطعت، وتذكر أن ما بك من نعمة فإنما أنعم الله بها عليك لتنفع المسلمين، وتمشي في حوائجهم، فإن أنت فعلت أتم عليك نعمته وزادك منها.
وهذه فاطمة بنت عبد الملك بن مروان تصف زوجها أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى فتقول: «كان قد فرغ للمسلمين نفسه، ولأمورهم ذهنه، فكان إذا أمسى مساءً لم يفرغ فيه من حوائج يومه وصل يومه بليلته»؛ أي: أنه كان إذا دخل عليه الليل ولم يكف النهار لقضاء حاجات الناس يصل الليل بالنهار؛ سهرًا في قضاء حاجات المسلمين(40).
فانظر كيف طبق المسلمون هذه القيم وهذه المفاهيم، لقد فقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح النصوص السابقة وعقلوها, فتنافسوا وتسابقوا في قضاء حوائج المسلمين, فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعاهد الأرامل فيسقي لهن الماء بالليل, وكان مجاهد يقول: «صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه فكان يخدمني» .
وفي مقابل هذا الإدراك الواسع من السلف الصالح لأهمية هذه العبادة, يمكن ملاحظة الغفلة عنها في العصر الحديث الذي نعيشه, رغم أن الحاجة إلى قضاء الحوائج تزداد مع تزايد حاجات المسلمين وتكاثرها، جراء المحن والمآسي التي ألمت بهم في السنوات الأخيرة.
السعي في قضاء حوائج الناس من الأخلاق الإسلامية العالية الرفيعة، التي ندب إليها الإسلام وحث المسلمين عليها, وجعلها من باب التعاون على البر والتقوى الذي أمرنا الله تعالى به، فقال في محكم تنزيله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2].
وإن قضاء الحوائج واصطناع المعروف باب واسع، يشمل كل الأمور المعنوية والحسية التي حثنا الإسلام عليها, قال العلامة السعدي رحمه الله: «أي ليعن بعضكم بعضًا على البر، وهو اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال الظاهرة والباطنة من حقوق الله وحقوق الآدميين»(41).
وهو نوع من الإيثار الذي مدح الله تعالى به المؤمنين فقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر:8-9].
ولا يقتصر على السعي في قضاء حوائج الناس على النفع المادي فقط، ولكنه يمتد ليشمل النفع بالعلم، والنفع بالرأي، والنفع بالنصيحة، والنفع بالمشورة، والنفع بالجاه، والنفع بالسلطان.
ومن نعم الله تعالى على العبد أن يجعله مفتاحا للخير والإحسان, فعن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عند الله خزائن الخير والشر، مفاتيحها الرجال، فطوبى لمن جعله مفتاحًا للخير، ومغلاقًا للشر، وويل لمن جعله مفتاحًا للشر، ومغلاقًا للخير»(42).
والسعي في قضاء حوائج الناس من الشفاعة الحسنة التي أمرنا الله تعالى بها فقال: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء:85].
عن عاصم بن أبي النجود أن عمر بن الخطاب كان إذا بعث عماله شرط عليهم ألا تركبوا برذونًا، ولا تأكلوا نقيًا، ولا تلبسوا رقيقًا، ولا تغلقوا أبوابكم دون حوائج الناس، فإن فعلتم شيئًا من ذلك فقد حلت بكم العقوبة، قال: «ثم شيعهم، فإذا أراد أن يرجع قال: إني لم أسلطكم على دماء المسلمين ولا على أعراضهم ولا على أموالهم، ولكني بعثتكم لتقيموا بهم الصلاة، وتقسموا فيئهم، وتحكموا بينهم بالعدل، فإن أشكل عليكم شيء فارفعوه إلي، ألا فلا تضربوا العرب فتذلوها، ولا تجمروها فتفتنوها، ولا تعتلوا عليها فتحرموها»(43).
عن أبي الحسن قال: قال عمرو بن مرة لمعاوية: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته»، فجعل معاوية رجلًا على حوائج الناس(44).
فكن في قضاء حوائج الناس يكن الله تعالى في قضاء حاجتك, واسع لتفريج كرباتهم يفرج الله عنك كربات الدنيا والآخرة.
***
_______________
(1) علو الهمة، ص260.
(2) الجواب الكافي، ص9.
(3) أخرجه الطبراني في الصغير (6026).
(4) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (20/ 180).
(5) صحيح مسلم (6189).
(6) أخرجه أحمد (12670).
(7) صحيح الترغيب والترهيب (2661).
(8) الاستيعاب في حياة الدعوة والداعية، فتحي يكن.
(9) أخرجه مسلم (2580).
(10) صحيح الترغيب والترهيب (2619).
(11) أخرجه البخاري (5353).
(12) صحيح الترغيب والترهيب (2623).
(13) المصدر السابق (2090).
(14) صحيح الجامع (3602).
(15) المصدر السابق (3289).
(16) المصدر السابق (2164).
(17) عدة الصابرين، ص253.
(18) أخرجه مسلم (1914).
(19) أخرجه مسلم (1028).
(20) صحيح الترغيب والترهيب (2618).
(21) المستطرف في كل فن مستطرف، ص126.
(22) صحيح الترغيب والترهيب (2617).
(23) أخرجه الترمذي (2263).
(24) أخرجه مسلم (3006).
(25) أخرجه مسلم (1009).
(26) أخرجه مسلم (1552).
(27) أخرجه ابن حبان (3377).
(28) أخرجه ابن حبان (522).
(29) أخرجه مسلم (1562).
(30) أخرجه مسلم (2586).
(31) من كتاب (صفقات رابحة)، خالد أبو شادي.
(32) أخرجه مسلم (2569)
(33) أخرجه البخاري (1427)، ومسلم (1053).
(34) صحيح الترغيب والترهيب (876).
(35) تفسير الرازي (18/ 454).
(36) أخرجه مسلم (993).
(37) أخرجه الترمذي (2035).
(38) حلية الأولياء (1/ 47).
(39) أخرجه البخاري (2890)، ومسلم (1119).
(40) سيرة عمر بن عبد العزيز، ص150.
(41) تفسير السعدي، ص218.
(42) أخرجه ابن ماجه (238).
(43) المصنف، لعبد الرزاق الصنعاني (11/ 324).
(44) أخرجه أحمد (18196).