logo

الحكمة من وجود الشر


بتاريخ : الأحد ، 29 جمادى الأول ، 1443 الموافق 02 يناير 2022
بقلم : تيار الاصلاح
الحكمة من وجود الشر

لا يُمكن أن يفهم أحد الحكمة من وجود الشر قبل أن يوقن أن هذه الدنيا دار مؤقتة، وأنها دار امتحان وابتلاء ونقص، وأن الذي ينتظر رؤية الكمال المـُطلَق فيها فإنه معارِضٌ للحكمة الإلهية التي اقتضت أن تكون الدار الآخرة هي دار الكمال.

إن عدم إحسان التعامل مع سؤال (لماذا يوجد الشر؟) أدى إلى شك شريحة من الشباب والفتيات في وجود الله سبحانه وتعالى، وبعضهم تجاوز الشك والحيرة إلى صريح الإنكار والجحود.

وما أكثر ما تغيب الحقائق بسبب النظرة الجزئية ونقص التصور وتعجّل الأحكام قبل التأمّل، مع أنّهم حين ألحدوا وتركوا الإسلام هل وجدوا تفسيرًا صحيحًا لموضوع الشر؟! لا؛ بالطبع، إنهم لم يجدوا ولن يجدوا تفسيرًا منطقيًا سليمًا لهذا الموضوع في دائرة الإلحاد؛ لأنهم يعتقدون أنّ الذي مات مظلومًا مقهورًا فإن نهايته تحت التراب ولن يأخذ حقه أبدًا، والذي مات ظالمًا جبّارًا فإن نهايته كذلك تحت التراب ولن يعاقب على طغيان، وهذه مفارقة غير مفهومة في ميزان العدالة أبدًا.

ويتوهم مثيرو هذا السؤال التعارض بين المصيبة والرحمة، مع أن وقوع المصائب والابتلاءات موافق لخبر الله تعالى وليس معارضًا له، فالله سبحانه وتعالى قد أخبرنا في كتابه في مواضع كثيرة أنه سيبتلي عباده بأنواع من البلاء، منها الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس الثمرات، وهو سبحانه يذكر حكمة ذلك في كتابه؛ فالتعامل مع هذا السؤال وكأن الله لم يخبرنا فيه بشيء يُعد نقصًا في التصور والبحث.

فالله هو الذي قدر وجود الخير وقدر وجود الشر، ولم يقل: إن الشر خارج عن قضاء الله، أو عن قدره، بل إن الشر واقع بقضاء الله، وهو مخلوق من مخلوقاته، فهذا إبليس مخلوق، بل هو شر والعياذ بالله، وهو مصدر فعل الشر في الناس بوسوسته لهم، ومع ذلك فإن الله عز وجل لا يحب إبليس، ولا أفعاله، ولا من يستجيب لوسوسته (1).

ولكي نُحْسِن النظر في قضية وجود الشر، ونجمع بينها وبين وجود الخالق الحكيم فلنتأمل هذه الحقائق الإسلامية:

الحقيقة الأولى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: ٦٤]، لا يُمكن أن يفهم أحد الحكمة من وجود الشر قبل أن يوقن أن هذه الدنيا دار مؤقتة، وأنها دار امتحان وابتلاء ونقص، وإنَّ الذي ينتظر رؤية الكمال المـُطلَق فيها فإنه معارِضٌ للحكمة الإلهية التي اقتضت أن تكون الدار الآخرة هي دار الكمال، وأن تكون هي الحيوان: أي الحياة الدائمة الباقية، فالإسلام يؤكد أن هذه الدنيا ليست في نظر الله شيئًا.

ولأن العالم لما كان خلقه بالحق فينبغي أن يكون بعد هذه الحياة حياة أخرى باقية، لأن هذه الحياة ليست إلا لعبًا ولهوًا كما بين بقوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت: 64]، وخلق السموات والأرض للهو واللعب عبث، والعبث ليس بحق وخلق السموات والأرض بالحق فلا بد من حياة بعد هذه (2).

قال تعالى: {وَإِنَّ الَدِّينَ لَوَاقِع} [الذاريات: 6]، فالوعد صادق حتمًا إما هنا وإما هناك، ومما وعدهم كذلك الرزق وكفالته لهم مبسوطًا أو مقدرًا وفق مشيئته ووعده حق في هذا كما هو حق في كل شأن.

ولا بد أن يتحقق ما وعد الله به الناس في الصورة التي يريدها، وفي الوقت الذي يريده، وما يحتاج الأمر إلى قسم منه سبحانه إنما يقسم بخلائقه تلك لتوجيه القلب إليها، وتدبر ما وراءها من إبداع وقدرة وتدبير يوحي للقلب بأن وعد الله -بارئ هذه الخلائق بهذا النظام وهذا التقدير- لا بد صادق؛ وأن حسابه على الخير والشر والصلاح والفساد لا بد واقع، فإن طبيعة هذه الخلائق توحي بأن الأمر ليس عبثًا ولا مصادفة ولا جزافًا، وهكذا تصبح تلك الخلائق آيات وبراهين ذات دلالة إيحائية قوية بفضل هذا القسم الذي يلفت القلب إليها لفتًا، ويوجه الحس إليها توجيهًا، فهي طريقة من طرق الإيحاء والتربية، ومخاطبة الفطرة بلغة الكون خطابًا مباشرًا (3).

فإن قيل: هذا يفيد المؤمنين، ولكن إذا تحدثنا مع الملحدين فكيف نقنعهم بذلك؟

فالجواب: أن قضية الحكمة من وجود الشر لا يُمكن فهمها بدون إيمان بالله وباليوم الآخر، فإذا كان الـمُناقَش مُلحدًا فلا بد من الرجوع معه إلى المربع السابق وهو مربع إثبات وجود الله سبحانه وتعالى ثم إثبات صدق رسالته، -وكل ذلك ممكن بدلائل العقل وليست برهنته متوقفة على نص يستلزم الإيمان المسبق-؛ فإذا ثبت هذان الأمران: (الوجود والرسالة) فقد ثبت اليوم الآخر والبعث، وهو المربع الذي نناقش فيه هنا.

قال الله تعالى عن يوم القيامة: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:١٧].

فيقضي الله يوم القيامة بين عباده بالحق، يأخذ للمظلوم حقه، ويعاقِب الظالم على ظلمه، وليس هذا على صعيد البشريّة فحسب، بل يشمل ذلك الحيوانات؛ فقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء، من الشاة القرناء» (4).

قال النووي: هذا تصريح بحشر البهائم يوم القيامة، وإعادتها يوم القيامة كما يعاد أهل التكليف من الآدميين، وكما يعاد الأطفال والمجانين ومن لم تبلغه دعوة، وعلى هذا تظاهرت دلائل القرآن والسنة؛ قال الله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5]، وإذا ورد لفظ الشرع ولم يمنع من إجرائه على ظاهره عقل ولا شرع وجب حمله على ظاهره، قال العلماء: وليس من شرط الحشر والإعادة في القيامة المجازاة والعقاب والثواب، وأما القصاص من القرناء للجلحاء فليس هو من قصاص التكليف إذ لا تكليف عليها؛ بل هو قصاص مقابلة والجلحاء بالمد هي الجماء التي لا قرن لها والله أعلم (5).

حتى الشياه! فكيف بابن آدم؟! والذي عاش فقيرًا بئيسًا وأحسن في حق ربه فإنه يُغمَس في الجنّة غمسة ينسى بها كل بؤس وكل شقاءٍ مرّ به.

عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من الكفار، فيقال: اغمسوه في النار غمسة، فيغمس فيها، ثم يخرج، ثم يقال له: أي فلان هل أصابك نعيم قط؟ فيقول: لا، ما أصابني نعيم قط، ويؤتى بأشد المؤمنين ضرًا، وبلاء، فيقال: اغمسوه غمسة في الجنة، فيغمس فيها غمسة، فيقال له: أي فلان هل أصابك ضر قط، أو بلاء، فيقول: ما أصابني قط ضر، ولا بلاء» (6).

وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)} [الشعراء: 205- 207]، قال البغوي: والمعنى: أنهم وإن طال تمتّعهم بنعيم الدنيا، فإذا أتاهم العذاب لم يغن عنهم طول التمتّع شيئًا، ويكونون كأنهم لم يكونوا في نعيم قط (7).

فطبيعة تكوينهم هم أنفسهم، وطبيعة هذا الكون كله من حولهم توحي بأن هذا الوجود قائم على الحق، ثابت على الناموس، لا يضطرب، ولا تتفرق به السبل، ولا تتخلف دورته، ولا يصطدم بعضه ببعض، ولا يسير وفق المصادفة العمياء، ولا وفق الهوى المتقلب، إنما يمضي في نظامه الدقيق المحكم المقدر تقديرًا.

وأن من مقتضيات هذا الحق الذي يقوم عليه الوجود أن تكون هناك آخرة، يتم فيها الجزاء على العمل، ويلقى الخير والشر عاقبتهما كاملة، إنما كل شيء إلى أجله المرسوم، وفق الحكمة المدبرة؛ وكل أمر يجيء في موعده لا يستقدم لحظة ولا يستأخر، وإذا لم يعلم البشر متى تكون الساعة، فإن هذا ليس معناه أنها لا تكون! ولكن تأجيلها يغري الذين لا يعلمون إلا ظاهرًا من الحياة الدنيا ويخدعهم (8).

فالذي يختزل نظرته إلى الشرور التي تقع على الإنسان فيجعلها نظرة دنيوية فقط، فهو بلا شك سيرى في الأمر ظُلمًا، ولكننا نؤمن تمامًا بأن الدنيا إنما هي معبر إلى الدار الآخرة.

فلا بد من فهم قضية وجود الشر في ضوء هذه الحقيقة: الدنيا ليست دار جزاء ولا أخذَ حقوق إنما هي دار امتحان واختبار.

الحقيقة الثانية: الله سبحانه وتعالى جعل للإنسان إرادة يختار فيها بين الخير أو الشر، وذلك لأجل التكليف، فالــمُجبَر لا يمكن تكليفه، والـمُخيَّر هو الذي يمكن تكليفه.

وحين يختار الإنسان الشر (كالقتل والظلم والسرقة والاغتصاب والاضطهاد ومنع الحقوق ونحو ذلك) فإنه يُنسب إليه لا إلى الله سبحانه وتعالى، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا (79)} [النساء: 78- 79].

وأكثر الشرور الموجودة في الدنيا إنما هي بسبب الإنسان ومِن صنعه، فالمخلفات الصناعية التي تسبب الأمراض، والحروبُ التي يقتل فيها ملايين الأشخاص كلها من صنع الإنسان.

إن هذا الوجود من الدقة والتقدير بحيث لا يقع فيه حادث إلا وهو مقدر من قبل في تصميمه، محسوب حسابه في كيانه.. لا مكان فيه للمصادفة، ولا شيء فيه جزاف، وقبل خلق الأرض وقبل خلق الأنفس كان في علم الله الكامل الشامل الدقيق كل حدث سيظهر للخلائق في وقته المقدور.. وفي علم الله لا شيء ماض، ولا شيء حاضر، ولا شيء قادم، فتلك الفواصل الزمنية إنما هي معالم لنا- نحن أبناء الفناء- نرى بها حدود الأشياء، فنحن لا ندرك الأشياء بغير حدود تميزها، حدود من الزمان وحدود من المكان، نحن لا نملك إدراك المطلق إلا في ومضات تتصل فيها أرواحنا بذلك المطلق، عن طريق غير الطريق الذي اعتدناه في إدراك الأشياء.

فأما الله سبحانه فهو الحقيقة المطلقة التي تطلع جملة على هذا الوجود، بلا حدود ولا قيود، وهذا الكون وما يقع فيه من أحداث وأطوار منذ نشأته إلى نهايته كائن في علم الله جملة لا حدود فيه ولا فواصل من زمان أو مكان، ولكل حادث موضعه في تصميمه الكلي المكشوف لعلم الله، فكل مصيبة- من خير أو شر فاللفظ على إطلاقه اللغوي لا يختص بخير ولا بشر- تقع في الأرض كلها وفي أنفس البشر أو المخاطبين منهم يومها..

هي في ذلك الكتاب الأزلي من قبل ظهور الأرض وظهور الأنفس في صورتها التي ظهرت بها.. {إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ}.

وقيمة هذه الحقيقة التي لا يتصور العقل غيرها حين يتصور حقيقة الوجود الكبرى، قيمتها في النفس البشرية أن تسكب فيها السكون والطمأنينة عند استقبال الأحداث خيرها وشرها، فلا تجزع الجزع الذي تطير به شعاعًا وتذهب معه حسرات عند الضراء، ولا تفرح الفرح الذي تستطار به وتفقد الاتزان عند السراء: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ} [الحديد: 23].

فاتساع أفق النظر، والتعامل مع الوجود الكبير، وتصور الأزل والأبد، ورؤية الأحداث في مواضعها المقدرة في علم الله، الثابتة في تصميم هذا الكون.. كل أولئك يجعل النفس أفسح وأكبر وأكثر ثباتًا ورزانة في مواجهة الأحداث العابرة، حين تتكشف للوجود الإنساني وهي مارة به في حركة الوجود الكوني (9).

الحقيقة الثالثة: أنَّ كثيرًا من الشرور التي نراها ليست شرورًا محضة من كل وجه، بل يكون فيها جوانب خير، وكم في ثنايا ما نراه شرًا من خير كبير، فقد يُصاب الإنسان بمرض يكون سببًا صارفًا له عن شرّ أعظمَ منه، وقد يخسر الإنسان صفقة مالية ربما لو كسبها لطغى وتجبر، وقد يموت للإنسان ولد ربما لو عاش لكان وبالًا عليه، وقد يكون الإنسان مستحقًا للنار بعمله -وهي الكارثة الحقيقية- فيصيبه الله بمصيبةٍ فيصبر عليها فيجزيه على صبره بالجنة -وهي الخير الحقيقي الدائم-.

فالله سبحانه وتعالى لا يخلُقُ شرًّا مَحضًا، ولا يُنسَب إليه الشر كما في الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والشر ليس إليك» (10).

بل الشر لا يضاف إليه سبحانه بوجه لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه، فإن ذاته لها الكمال المطلق من جميع الوجوه، وصفاته كلها صفات كمال يحمد عليها ويثنى عليه بها، وأفعاله كلها خير ورحمة وعدل وحكمة لا شر فيها بوجه ما، وأسماءه كلها حسنى، فكيف يضاف الشر إليه؟ بل الشر في مفعولاته ومخلوقاته وهو منفصل عنه، إذ فعله غير مفعوله، ففعله خير كله، وأما المخلوق المفعول ففيه الخير والشر، وإذا كان الشر مخلوقًا منفصلًا غير قائم بالرب سبحانه فهو لا يضاف إليه، وهو صلى الله عليه وسلم لم يقل أنت لا تخلق الشر حتى يطلب تأويل قوله، وإنما نفى إضافته إليه وصفًا وفعلًا واسمًا، وإذا عرف هذا فالشر ليس إلا الذنوب وموجباتها، وأما الخير فهو الإيمان والطاعات وموجباتها والإيمان والطاعات متعلقة به سبحانه; ولأجلها خلق خلقه وأرسل رسله وأنزل كتبه، وهي ثناء على الرب وإجلاله وتعظيمه وعبوديته، وهذه لها آثار تطلبها وتقتضيها فتدوم آثارها بدوام متعلقها.

وأما الشرور فليست مقصودة لذاتها ولا هي الغاية التي خلق لها الخلق، فهي مفعولات قدرت لأمر محبوب وجعلت وسيلة إليه، فإذا حصل ما قدرت له اضمحلت وتلاشت وعاد الأمر إلى الخير المحض (11).

الحقيقة الرابعة: أن الله جعل من السنن في هذه الدنيا: المدافعة بين الحق والباطل، ولذلك خلق إبليس رأس الشر، ولم يجعل له من سلطان على الناس إلا الإغواء وتزيين المعصية والكُفر، ولم يتركنا الله سبحانه دون بيان ما يعترض طريقنا من خطر الشيطان وحزبه وإغوائهم؛ فقال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَــٰنِ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: ٧]؛ وقال: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور: ٢١]، فمَن اتبعه كان من حزبِه حزبِ الباطل {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: ١٩]، ومن جاهده وتطلب رحمة الله ورضاه كان من المـُفلحين الراضين المـرضيين.

فالبعض يغيب عنه هذا المعنى الذي أراده الله تعالى ثم يسأل عن بعض التفصيلات سؤال المعترض، فيسأل عن سبب خلق إبليس، وعن سبب وجود الطغاة، ونحو ذلك (12).

ظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات، فخلق هذا الذات، التي هي أخبث الذوات وشرها، وهي سبب كل شر، في مقابلة ذات جبريل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير، فتبارك خالق هذا وهذا.

كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار، والدواء والداء، والحياة والموت، والحسن والقبيح، والخير والشر، وذلك من أدل دليل عَلَى كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه، فإنه خلق هذه المتضادات، وقابل بعضها ببعض، وجعلها محال تصرفه وتدبيره، فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير مملكته (13).

الحقيقة الخامسة: أن من الحكم في وجود الخير والشر هو ظهور آثار أسمائه القهرية أي: أن الله سبحانه وتعالى يظهر آثار أسمائه القهرية وأفعاله، مثل كونه قهارًا منتقمًا عدلًا ضارًا شديد العقاب سريع الحساب، إِلَى آخر ما تقدم شرحه، فلولا وجود الشر ما ظهرت آثار هذه الأسماء، وكذلك ما يقابلها وهو ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه، وعتقه لمن شاء من عبيده، فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إِلَى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد.

فالله تبارك وتعالى موصوف بهذه الصفات لأنه عز وجل ذو حلم وعفو ومغفرة وستر وتجاوز فيقتضي ذلك ويتضمن وجود عبادٍ يحلم عنهم ويغفر لهم ويستر عليهم ويتجاوز عنهم، وهذا لا يكون إلا من عبادٍ لهم ذنوب ولهم أفعال يكرهها الله تبارك وتعالى، وتكون من إغواء عدو الله الذي هو مادة كل شر من أعمال العباد وهو إبليس اللعين، فلكي تظهر آثار هذه الأسماء والصفات والأفعال لله تبارك وتعالى كَانَ ذلك الشر موجودًا مع الخير، وكان لوجود الشر حكمة، كما أن لوجود الخير حكمة أيضًا، فوجود هذين معًا واجتماع إرادة الله تَبارك وتعالى لها مع بغضه وكراهته لها أي: اجتماع ذلك في شيء واحد أو في هذه الأشياء، هو في غاية الحكمة لمن تأمله وتدبره (14).

-----------

(1) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (7/ 3)، بترقيم الشاملة آليًا.

(2) تفسير الرازي (25/ 83).

(3) في ظلال القرآن (6/ 3375).

(4) أخرجه مسلم (2582).

(5) شرح النووي على مسلم (16/ 136- 137).

(6) أخرجه ابن ماجه (4321).

(7) تفسير البغوي (3/ 479).

(8) في ظلال القرآن (5/ 2760).

(9) في ظلال القرآن (6/ 3493).

(10) أخرجه مسلم (771).

(11) تفسير المنار (8/ 77).

(12) الحكمة من وجود الشر/ المحاورون.

(13) شرح الطحاوية لسفر الحوالي (ص: 1492)، بترقيم الشاملة آليًا.

(14) شرح الطحاوية لسفر الحوالي (ص: 1502)، بترقيم الشاملة آليًا.