logo

الرموز الدعوية


بتاريخ : الثلاثاء ، 8 جمادى الآخر ، 1438 الموافق 07 مارس 2017
بقلم : تيار الاصلاح
الرموز الدعوية

عن كثير بن قيس قال: كنت جالسًا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فجاءه رجل فقال: يا أبا الدرداء، إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جئت لحاجة، قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»(1).

إن الله سبحانه نفى التسوية بين العالم وغيره، كما نفى التسوية بين الخبيث والطيب، وبين الأعمى والبصير، وبين النور والظلمة، وبين الظل والحرور، وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار، وبين الأبكم العاجز الذي لا يقدر على شيء ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، وبين المؤمنين والكفار، وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمفسدين في الأرض، وبين المتقين والفجار؛ فهذه عشرة مواضع في القرآن نفى فيها التسوية بين هؤلاء الأصناف، وهذا يدل على أن منزلة العالم من الجاهل كمنزلة النور من الظلمة، والظل من الحرور، والطيب من الخبيث، ومنزلة كل واحد من هذه الأصناف مع مقابِله، وهذا كاف في شرف العلم وأهله؛ بل إذا تأملت هذه الأصناف كلها وجدت نفي التسوية بينها راجعًا إلى العلم وموجبه، فبه وقع التفضيل وانتفت المساواة.

إن سليمان لما توعد الهدهد بأن يعذبه عذابًا شديدًا أو يذبحه إنما نجا منه بالعلم، وأقدم عليه في خطابه له بقوله: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ}، وهذا الخطاب إنما جرأه عليه العلم؛ وإلا فالهدهد مع ضعفه لا يتمكن من خطابه لسليمان مع قوته بمثل هذا الخطاب لولا سلطان العلم(2).

أنزلوا الناس منازلهم:

عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنزلوا الناس»: أمر من الإنزال، وقوله: «منازلهم»(3)، قيل: أي: مقاماتهم المعينة المعلومة لهم، قال تعالى حكاية عن الملائكة: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:164]، ولكل أحد مرتبة ومنزلة لا يتخطاها إلى غيرها، فالوضيع لا يكون في موضع الشريف، ولا الشريف في منزل الوضيع، فاحفظوا على كل أحد منزلته، ولا تسووا بين الخادم والمخدوم، والسائد والمسود، وأكرموا كلًا على حسب فضله وشرفه، وقد قال تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف:32]، وقال عز من قائل: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11](4).

«أنزلوا الناس منازلهم»؛ أي: احفظوا حرمة كل واحد على قدره، وعاملوه بما يلائم حاله في عُمْر ودين، وعلم وشرف، فلا تسووا بين الخادم والمخدوم، والرئيس والمرءوس، فإنه يورث عداوة وحقدًا في النفوس، والخطاب للأئمة أو عام، وقد عد العسكري هذا الحديث من الأمثال والحكم، وقال: «هذا مما أدب به المصطفى صلى الله عليه وسلم أمته من إيفاء الناس حقوقهم؛ من تعظيم العلماء والأولياء، وإكرام ذي الشيبة، وإجلال الكبير وما أشبهه»(5).

وهو حض على مراعاة مقادير الناس ومراتبهم ومناصبهم، وتفضيل بعضهم على بعض في المجالس، وفي القيام والمخاطبة والمكاتبة، وغير ذلك من الحقوق، قال الإمام مسلم: «فلا يقصر بالرجل العالي القدر عن درجته، ولا يُرفع متضع القدر فوق منزلته، ويُعطَى كل ذي حق حقه»، من قوله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، وهذا في بعض الأحكام أو أكثرها، وقد سوّى الشرع بينهم في القصاص والحدود وأشباهها مما هو معروف اهـ(6).

فإن الحكمة وضع الأشياء مواضعها، وتنزيلها منازلها، والله تعالى حكيم في خلقه وتقديره، وحكيم في شرعه وأمره ونهيه، وقد أمر عباده بالحكمة ومراعاتها في كل شيء، وأوامر النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاداته كلها تدور على الحكمة.

فمنها: هذا الحديث الجامع، إذ أمر أن ننزل الناس منازلهم، وذلك في جميع المعاملات، وجميع المخاطبات، والتعلم والتعليم.

فمن ذلك: أن الناس قسمان: قسم لهم حق خاص؛ كالوالدين والأولاد والأقارب، والجيران والأصحاب والعلماء، والمحسنين بحسب إحسانهم العام والخاص، فهذا القسم تنزيلهم منازلهم القيام بحقوقهم المعروفة شرعًا وعرفًا، من البر والصلة والإحسان والتوقير والوفاء والمواساة، وجميع ما لهم من الحقوق، فهؤلاء يميزون عن غيرهم بهذه الحقوق الخاصة.

وقسم ليس لهم مزية اختصاص بحق خاص، وإنما لهم حق الإسلام وحق الإنسانية؛ فهؤلاء حقهم المشترك أن تمنع عنهم الأذى والضرر بقول أو فعل، وأن تحب للمسلمين ما تحب لنفسك من الخير، وتكره لهم ما تكره لها من الشر(7).

هذا الحديث لا شك أنه عظيم، على ضوئه يتعامل المسلمون مع بعض، فالكبير له معاملة، والصغير له معاملة، العالم له معاملة، الجاهل له معاملة تليق به، الرجل له معاملة، المرأة لها معاملة، من الظلم للإنسان أن يعامل الكبير معاملة صبي صغير، من الظلم أيضًا أن يعامل الصغير بمنزلة شيخ كبير، أو جاهل تنزله منزلة عالم، وتشرح عليه وتحمله مسئولية مثل العالم، أو عالم تعامله معاملة جاهل فلا تحترمه ولا تقدره قدره، أيضًا من الظلم العظيم أن تعامل المرأة معاملة الرجل، تقحمها فيما لا يصلح لها وتركيبها لا يناسبه، من الظلم أيضًا أن تجعل الرجل مثل المرأة(8).

فالعلماء هم أولى الناس بالإحسان، وأقرب الناس إلى الإحسان، وأكثر الناس دعوة إلى الإحسان، والعالِم الرباني هو من تحقق فيه ذلك، وجمَّل علمَه بالعمل به كما تتجمل المرأة بالحُلة الحسناء للدنيا؛ لأن العلم والعمل إنما يُطلب به ما عند الله من الدرجات العلى والنعيم المقيم والقرب منه والزلفى لديه.

الكثير من رموز العالم الإسلامي لم ينالوا نصيبهم من الاهتمام إعلاميًا، فمن المؤمل إنشاء مراكز تعنى بهؤلاء الرموز، بما في ذلك تقديم جهودهم وتراثهم، وأن يتعدى الأمر الاكتفاء بتسمية القاعات العلمية بأسمائهم، والتقصير يقع بشكل كبير على الكل، من وزارات وطلاب علم والمقربين من هؤلاء العلماء والدعاة والرموز الإسلامية.

وكلمة رمز تعني الشخصية التي ينظر إليها الناس باعتبارها مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بحركة ما، أو دعوة ما، أو مؤسسة ما، ويرتبط هذا الرمز وجدانيًّا عند الجمهور بتلك الحركة، أو الدعوة أو المؤسسة، بحيث يصبح معبرًا بصورة شعبية (غير رسمية) أمام الجمهور عن المبادئ والتوجهات والأفكار، سواء كان هذا الرمز دعويًّا، أو سياسيًّا، أو مهنيًّا.

من هنا كان وجود رموز خاصة بالدعوة الإسلامية في اتجاهات مختلفة ذات أهمية وخطورة في نفس الوقت.

لحاجة الدعوة إلى شخصيات يلتف حولها الناس، شخصيات قادرة على التأثير فيهم، وشرح المفاهيم وكيفية تطبيقها بصورة عملية، وهم في نفس الوقت يمثلون مراجع فكرية وعملية للدعوة في كل مكان.

أما الخطورة فتكمن في مقدار المسئولية الملقاة على عاتق هذا الرمز؛ لأن أي خطأ سيقع فيه سيرتبط بالدعوة ارتباطًا مباشرًا؛ بل سيأخذ من رصيدها عند الناس، ومن الممكن أن يمتلك هو عند الناس رصيدًا من الحب والتقدير بما يجعلهم يسامحونه على هذا الخطأ؛ ولكن سيصبح من المجهد جدًّا إزالة الخطأ عن الدعوة نفسها، خاصة في حالة وجود من يتربص بها، ويتصيد أخطاءها، مع الاعتراف بأن الخطأ سيقع حتمًا، فكل ابن آدم خطاء.

وعلى كثرة الدعاة وجهدهم المخلص، فإن الكثير منهم كان يحتاج إلى تدريب أكثر، حتى يصل إلى مرتبة (رمز) يرضي الدعوة، وربما لم يكن هناك اهتمام بالمواهب الدعوية بصورة كافية، بما يجعلها تبرز دعاة موهوبين ومؤثرين.

الرمز الدعوي:

الرمز الدعوي هو الرمز الذي يتحدث في الإسلام بقيمه العامة، مبشرًا بالإسلام، وموضحًا لمفاهيمه، فهو يتحدث عن قيم العدل والحرية والصدق والأمانة والإيجابية والشجاعة، وهو يدعو إلى القراءة والتعلم والاجتهاد في العمل، يتحدث عن مفاهيم الإسلام التي ينبغي أن تكون في المدرسة والجامعة والمصنع والمستشفى والملعب، فتصلح من شأنهم، فتقرن العبادة بالعمل، والجهد بالثواب، فتفيد الناس، وتنهض بالمجتمع، وترضي الله ورسوله.

آليات تكوين الرموز:

كي نصل بالرموز إلى درجة من الكفاءة والقدرة على التأثير فلا بدَّ أن نمر بمرحلتين أساسيتين:

أولًا: مرحلة التأسيس العلمي:

وفي هذه الخطوة يبدأ الرمز في دراسة ممنهجة للعلوم الشرعية، مع الأخذ في الاعتبار أن الاكتفاء بالعلوم الشرعية فقط لا يحقق العلم المطلوب لداعية ناجح؛ بل ينبغي أن يكون الرمز الدعوي مثقفًا مطلعًا على أحوال مجتمعه، وراصدًا لمشكلاته، وقارئًا جيدًا للأحداث.

ثانيًا: مرحلة التواصل مع المجتمع:

من الممكن أن يمتلك الداعية علمًا شرعيًّا قويًّا؛ ولكنه لا ينجح كداعية؛ ذلك لأنه فقد شيئًا غاية في الأهمية؛ وهو القدرة على التواصل مع المجتمع، هذا التواصل الناتج من قدرته على فهم مجتمعه بما يمكنه من إنتاج (خطاب دعوي) سليم يناسب عقل وفكر من يوجه إليهم هذا الخطاب، خطاب يدرك المستويات؛ الفكري والإيماني والأخلاقي للجمهور، ويبدأ من هذه النقطة ليرتفع بهم شيئًا فشيئًا، بأسلوب سهل وبسيط بعيد عن الغموض والتعالي، خطاب قادر على أن يدخل الدين في تفاصيل الحياة ليقدم الحلول، فيقتنع الناس برسالة الإسلام عمليًّا، خطاب قادر على تجميع الناس لا تفريقهم، وتشجيعهم على الفعل والتغيير، لا خطاب كلام نظري بعيد عن التطبيق على أرض الواقع.

على أن القدرة على التواصل مع الجمهور لا تقتصر على العلم والثقافة فقط؛ بل تتطلب أيضًا المهارة في الحديث إلى الناس وإلقاء الخطاب، وهي مهارة تحتاج إلى تدريب طويل.

ولكي نصنع رموزًا فعالة في المجتمع لا يكفي أن نعتمد على جهد الشخص بمفرده مهما كانت موهبته، والمواهب التي ظهرت على السطح بجهدها الشخصي بذلت جهدًا خارقًا كي تصل إلى ما وصلت إليه؛ ولكن في المقابل ضاع الكثير من الوقت حتى تفيد المجتمع بمواهبها، بينما سقطت في الطريق عشرات المواهب التي لم تستطع أن تكمل بمفردها، لتجرفها الحياة نحو اهتمامات أخرى، والحل أن نكتشف المواهب، ثم نقدم العون المادي لها، بالتدريب وتوفير المصادر العلمية ومجال الممارسة العملية، والعون المعنوي بالتشجيع المتواصل، حتى تخرج لنا كوادر على مستوى عالٍ، يراها الناس نماذج مشرفة لديننا العظيم بإذن الله(9).

الأزماتُ تعطِّل عجلة العطاء:

إثارة البلبلة في الصف الإسلامي، وإيجاد حالة من الانهزامية النفسية لدى المسـلمين، وذلك مـن خـلال الانسـياق في بحر الأزمات؛ مما يـولدُ حالةً من عدم الثقة بين المسلمين؛ فهذا يرمي بالتهمة، والآخر يصدق، ويكـون صـراع داخـلي، وهـذا الصـراع يزيـد من الفرقة بين الأمة؛ مما يسهل تسلُّط الأعداء، والابتـعاد عـن القيـادة الدعـوية، وذلك يولد حالةً من الإحباط النفسي بين الصـفوف، والضـعف والاستـكانة أمـام العـدو.

وكذلك صرف اهتمامات القيادة الدعوية من أمور الدعوة إلى الفتن والأزمات الداخلية يشعل الأزمة في أي مجتمع؛ فتتعطّل حركة التنمية ومسيرة العطاء مدةً من الزمن، تطول أو تقصر حسب حجم هذه الأزمـة وآثـارها، ما لم يتم العمل حسب الأسلوب الأمثل لعلاج هذه الأزمة.

والمجتمع الإسلامي حاله حال أي مجتمع في ذلك؛ فالأزمات تعطِّل عجلة العطاء، وتهدر الكثير من الطاقات والوقت، ويفقد الصف الإسلامي بسببها الكثير من الإنجازات التي تمَّ تحقيقها؛ فبعد انتصاراتٍ عظيمة حققها المجتمع الإسـلامي، بقيـادة الرسول صلى الله عليه وسلم، على الجبهات العسكرية، أو على جبهة بناء المجتمع المسلم، أو على الصعيد الدعوي، نجد الصف النفاقي يُحدث مثل هذه الفتنة؛ لكي يصرف اهتمامات القيادة الدعوية، من إرساء دعائم المجتمع المسلم إلى إشغاله بمعالجة آثار هذه الفتن، والعمل على إخماد نارها(10).

تهويل أخطاء الدعاة:

الإنسان معرَّض للخطأ، ولا شك أن الأخطاء تتفاوت بحسب حجم العمل؛ مما يجعلنا نربِّي أنفسنا على النظرة الواقعية للعمل؛ سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو على مستوى الأعمال المؤسسية.

فمن الإجحاف أن نجعل الخطأ خطيئة لا تغتفر، والزلَّة في مرتبة العزل والمنع، ولا شك أن تعميم الخطأ هو شهوة العاجزين والحاسدين، وفي مخيلة الإنسان مواقف كثيرة تثبت أن أسلوب التعميم في الخطأ أسلوب جرى عليه الكثير من المؤسسات الحكومية والمسئولة، وأصبح لديهم عشق لخبر أي زلة أو خطأ يصدر من الدعاة أو من أي عمل مؤسسي.

حيث إن أداة تفعيل المكر وإشاعة الخطأ فنٌّ يجيده صغارهم، مع أن أبواب التحكم لديهم مهيَّأة لهم؛ وذلك من خلال الصوت الإعلامي، والسلطة والمكانة؛ مما يجعل ذلك فرصة لهم في أخذ الحرية في إكمال السير، وتحقيق الهدف.

وعلينا أن نعالج الأخطاء التي تصدر من أفرادنا ومؤسساتنا بشكل إيجابي، مع إظهار الأُطـر الإيجـابيـة للمجـتمع عـند إظـهار خـلاف ذلك، ونحن لا نبرِّئ الرمز الدعوي من عدم الوقوع في الخطأ؛ فهو يبـحث عن معالجة الأخطاء التي بدرت منه، سواء كان ذلك من خلال الكلام أو السلوك، أو يبحث عن المعالم التي تبتعد به عن الوقوع في تهمة تُثار عليه في دعوته.

الرموز الدعوية وفقد التوازن:

لما تهبّ عاصفة قوية على الرموز الدعوية فإن ذلك يشـكل ثَلْـمًا واضـحًا فـي صـفوف الدعاة والمجتمع ككل؛ بل قد يؤدِّي إلى حدوث إبادة كلية لأيِّ عمل دعوي، وهذا أمر طبيعي عند حدوثه مباشرةً، والمطلوب من الصف الدعوي أن يصنعوا التوازن عند حدوث الحدث، وكذلك التعامل معه في قالب يشكل الاستمرار في العمل الدعوي، وعدم الانحناء أو الفتور.

ومـن الطبيعي أن يشكل المجتمع الذي يبجِّل هؤلاء الرموز نوعًا من الحماس، وذلك للمكانة التي يحملها في نفسه تجاه هؤلاء، ولكن من الحكمة أن يفعل هذا الحماس فعلًا إيجابيًا؛ من أجل أن ينصر الحدث، أو يقلِّل من استمراره؛ لأنه في حال فقد التوازن في التعامل مع أي حدث دعوي يجعل هناك خسائر دعوية على جميع الأصـعدة؛ سواء كان ذلك من النشء الدعوي، أو من الأعمال والترتيبات الدعوية، أو ذهاب فترة زمنية لم تُحقَّق فيها مصالح دعوية، أو تبدّد المكاسب والإنجازات من ذي قبل، أو حدوث الفجوات بين الرموز الدعوية باختلاف أعمالهم وشخصياتهم.

ومن الأهمية ألَّا يفقد التوازن مهما استمرَّ التيار المقاوم، وأن يستمر سلّم العمل الدعوي باختلاف أساليبه.

سدُّ الثغور:

لا شك بأن عزل الدعاة عن المنابر الدعوية ثُلْمةٌ واضحة في تاريخ المجتمعات، وأسلوب بارد لتجميد منابع الخير، ومنحة سانحة إذا استغلت استغلالًا جيدًا؛ لأننا نخشى من أصحاب الفكر السيئ، ومريدي الانفتاح والشر، أن يشمِّروا لسدِّ ثغور أهل الدعوة والخير.

وراعي الشاة يحمي الذئب عنها       فكيف إذا الرعاةُ لها الذئاب

وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأيام وصفًا دقيقًا، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «سيأتي على الناس سنواتٌ خدَّاعاتٌ، يُصدَّق فيها الكاذبُ، ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمَن فيها الخائنُ، ويُخوّنُ فيها الأمينُ، وينطق فيها الرُّويبضَة»، قيل: وما الرويبضَة؟ قال: «الرجل التافه يتكلم في أمر العامة»(11).

صبرًا أيها الدعاة:

إن موكب الدعوة إلى الله الموغل في القِدَم، الضارب في شعاب الزمان، ماضٍ من الطريق اللاحب، ماضٍ في الخط الواصب، مستقيم الخطى، ثابت الأقدام، يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل، يقاومه التابعون من الضالين والمتبوعين، ويصيب الأذى من يصيب من الدعاة، وتسيل الدماء، وتتمزق الأشلاء، والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد، والعاقبة مهما طال الزمن للمؤمنين(12).

يأمـر الله جـل وعـلا بالصـبر في عشرين موضعًا من القرآن الكريم؛ مرة بصيغة (اصبر)، وهي ثماني عشر، ومرة بصـيغة (اصطبر)، وهي اثنتان.

كلمة للظالمين:

وأمـا الذين يفتنـون المؤمنـين ويسـومـونهـم سوء العذاب فما هم أبدًا بمُفْلتين من عذاب الله، ولا ناجين مهما انتـفخ باطلهم وانتـفش، ومهـما زاد ظلمـهم وانتـعش، فكما أن الله تعالى جعل الابتلاء سُنّة جارية ليميز الخـبيث مـن الطيب، فقد جعل أخذ الظالمين أيضًا سُنّة لا تتبدَّل ولا تتخلف، فكل هذه القوى، بكل ما تملك من وسائل التقنية الحديثة ومن وسـائل الإبـادة والتـدميـر، مَثَلُها: {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41].

نعم؛ فأين الطواغيت والفراعنة والجبابرة والأكاسرة والقياصرة؟

أيـن فـرعون الذي قـال لقـومـه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، واستخـفّهـم بقوله: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي} [الزخرف:51]! فـأجـراها الله من فوقه؟

أين نمرود بن كنعان الذي قال لإبراهيم عليه السلام: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]؟ أين قارون الذين قال في خيلاء وكبر واستعلاء: {إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]؟ وأين عاد وأين ثمود؟! وأين أبو جهل وأبو لهب؟

{فَكُلًا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].

ولله درُّ القائل:

أين الظالمون وأين التابعــون لهـم       في الغي بل أين فرعون وهامان؟

أين من دوّخوا الدنيا بسطوتهم       وذكرهم في الورى ظلم وطغيــان؟

هل أبقى الموت ذا عزٍّ لعزتـه         أو هل نجا منه بالأموال إنســـان؟

اتـقـوا دعـوة المظلومين فليس بينها وبين الله حجاب؛ فإن الله تعالى يرفعها إليه فوق الغمام ويقول لها: «وعزتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين»(13).

قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْـمُرْسَلِينَ (171) إنَّهُمْ لَهُمُ الْـمَنصُورُونَ (172) وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات:171–173].

إن الدعاة الصادقين من تمَّ عزلهم وإيقافهم، لكن نور علمهم ودعوتهم السابقة تسدُّ مكانها، وتحذو حذوها، حتى وإن لامس جوَّ الدعوة شيءٌ من الفتور، إلا أن نور الفجر سيسـطع ويشـعُّ ضـوؤه؛ كقدوم النهار على الليل، قال الله تعالى: {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، ولتكن مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع البلاء في مخيّلة كل داعية؛ حتى تهون الأمور، ويعظم الأجر، وتتحرك الهمم، وتستمر الدعوة(14).

***

__________________

(1) أخرجه أبو داود (3641).

(2) مفتاح دار السعادة (1/ 173).

(3) أخرجه أبو داود (4842).

(4) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/ 3125).

(5) فيض القدير (3/ 57).

(6) دليل الفالحين (3/ 214).

(7) بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار، ص43.

(8) شرح جوامع الأخبار (3/ 21).

(9) صناعة الرموز الدعوية والسياسية والمهنية، عبد الله العقيل.

(10) إدارة الأزمات في حياة الدعاة، لمحمد علي شماخ.

(11) أخرجه ابن ماجه (4036).

(12) طريق الدعوة في ظلال القرآن، ص151.

(13) أخرجه الطبراني في الكبير (3718).

(14) وقفات في أحوال الدعاة، مجلة البيان (العدد:238).