الهداية الحقة والالتزام الأجوف
لقد أنعم الله تعالى على عباده بنعم كثيرة، ومنها: نعمة الهداية: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ} [النساء: 94]، يعني: كنتم ضُلالًا فمّن الله عليكم بالهداية.
وقال سبحانه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].
والنبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: «يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضُلالًا، فهداكم الله بي؟» (1).
يقول اليماني: إن طلب الحق والهداية إلى الصراط المستقيم أجلى وأحلى في النفوس الأبية من الشمس في رابعة النهار، ومحورٌ تدور عليه همم الأخيار، وعباب تنصب منه جداول شمائل الأطهار، ومتى علت الهمة في طلب الحق والهدى حملت صاحبها على مفارقة العوائد وطلب الأوابد، فإن الحق في مثل هذه الأعصار قلًّ ما يعرفه إلا واحد، وإذا عظم المطلوب قلًّ المساعد (2).
لكن هناك ما يسمى هداية ناقصة، أو التزامًا أجوفًا، أو ضعف إيمان، أو قسوة قلب، أو غفلة، فكلها في الحقيقة تعود إلى أعراض واحدة، وعلاماتها متوافقة، ومظاهرها متشابهة، فترى الشخص ظاهره الالتزام ولكنه في أفعاله وواقعه كثيرًا ما يخالف هذا الظاهر الطيب.
فهل يكون مهتديًا حقًا من يأخذ من الدين ما يوافق هواه ويطرح ما عداه؟ كلا.
ما عهدنا أن نرى في الليل شمسًا أو نرى في وهج القيظ هلالًا
هل يكون مهتديًا حقًا من يوالي أعداء الله ويتخذهم بطانةً من دون المؤمنين، ولو صلى وصام وحج وزكى؟ يكرم من أهانه الله، ويعز من أذله الله، ويدني من أبعده الله، ثم يدعي هداية الله.
مظاهر هذا المرض:
وقد ذكر الدعاة والمشايخ والعلماء بعض هذه المظاهر لصاحب هذا المرض فكان مما أجملوه:
عدم الخشوع في الصلاة، وعدم التبكير إليها، وأحيانًا النوم عن الصلاة المكتوبة، خصوصًا صلاة الفجر والعصر، وكثرة التفريط في أداء النوافل من الصيام والقيام والسنن والرواتب.
عدم الاهتمام بقراءة القرآن وحفظه، مع ترك الأوراد اليومية والأذكار وعدم التألم لفواتها.
سوء الأخلاق والمعاملة، وعدم قبول النصيحة من الآخرين، وحب التسيب وعدم الانضباط، والولع بالخصام وكثرة المجاملة، وهذا سبب لنسيان العلم وقسوة القلب.
إضاعة الوقت فيما لا فائدة منه، والانشغال بالملهيات، وكثرة الضحك والمزاح، وعدم الجد في أمور الدين والدنيا أحيانًا، والسهر إلى ساعات متأخرة من الليل في غير منفعة، وعدم التأسف على ضياع الوقت والعمر.
التعلق بغير الله سبحانه وتعالى، والاهتمام بالمظهر اهتمامًا فوق المعتاد.
ضعف في أمور الديانة وأخلاق أهل الهدى؛ كإخلاف الوعد، والمزاح بالكذب، وعدم إنكار المنكر، وعدم الورع في الفتوى، والتساهل في الوقوع في الشبهات، وعدم التخلص من رواسب الجاهلية (3).
إنه التزام أجوف، أو هداية ناقصة لم يأخذ صاحبها بمجامعها ولا تمسَّك بأهدابها.
من لم يهتد على الحقيقة ويأخذ بأسباب الهداية، ولم تنهض همته لها، لا يزال قلبه في حضيض، طبعه محبوسًا منكوسًا، راعٍ مع الهمَل، سائمة مع الأنعام، استطاب لقيمات الراحة والبطالة، واستلان فراش العجز والكسل والبلادة.
حقيقة الهداية:
الهداية الحقيقية تسر صاحبها وترقيه، وتبشره وتهديه، تنفعه وترفعه، فلا يزال يحلق في سماء المعالي حتى لا ينتهي تحليقه دون عليين برحمة أرحم الراحمين، فمن سار مهتديًا على الحقيقة، رجونا له الوصول وإن طال الدجى.
ولكن كثيرًا من الناس مهتد هداية الحيارى، اسم ولا رسم، ومنظر ولا مخبر، وخيال ولا حقيقة..
فهل يكون مهتديًا حقًا من يوالي أعداء الله ويتخذهم بطانة من دون المؤمنين، ولو صلى وصام وحج وزكى؟ يكرم من أهانه الله، ويعز من أذله الله، ويدني من أبعده الله، ثم يدعي هداية الله!!
هل يكون مهتديًا حقًا من ظاهره الاستقامة، ثم في انهزامية مقيتة وبحجة ضغط الواقع يتراجع عن ثوابت الدين ومسلماته؟
أما إن الحق لا ينقلب باطلًا، ولا الباطل يصير حقًا مهما كانت التبعات.
هل يكون مهتديًا حقيقة من يهمل حقوق الخلق ويسيء في المعاملات، لا يتقبل النصح ويرى ذلك اتهامات؟! يعيش الفوضى وعدم الانضباط، مضيعًا وقته، غير منتظم في درس، أو محاضرة، أو عمل نافع، أو حلقات، ومع هذا فهو منشغل بالملهيات، مغرق في سماع الأناشيد والتمثيليات، سيارته ومكتبه مستودع للأناشيد والطرائف والاحتفالات؛ يحفظها حفظًا يفوق حفظ الأحاديث والآيات، حتى إن بعضهم ليذهب مع اللحن يترنم ويطرب، ثم يبكي ما لا يبكيه عند سماع قوارع الآيات، ولربما صاحبها الدف، وترخص في ذلك، فلم يشعر إلا وهو من أهل الأغنيات؟ فالهبوط سهل والارتقاء صعب التبعات.
عفوًا إخوتي: من كتم داءه، قتله، آن لنا أن نتعرف على دائنا ونعلنه لعلنا نتعاون فنصلحه.
عظم بيننا الاهتمام بالتحسيني والكمالي، وترك الحاجي والضروري، صارت الكماليات عندنا ضروريات، فنأكل الحلوى ونحن في بلوى كما قيل، وبعضنا مهتم بمظهره اهتمامًا يفوق اهتمام البنيات، ألف السطحية والمظهرية، فهو تمثال خشب لا يخيف ولا يرهب، يمني نفسه ويسوف، وقد أمن الهرم كما أمن الصيدَ حمامُ الحرم.
يد فارغة، ويد لا شيء فيها، فضول بلا فضل، وسن بلا سنة، متساهل في الأمر الخطير، متشدد في الأمر السهل اليسير.
وبعضنا لم يتخلص من رواسب الجاهلية من صور وقنوات ومجلات، لا يتورع عن المشتبهات، يتهاون بالسنن والمندوبات، ويفرط في الواجبات، جلساؤه قبل أن يهتدي هداية الخيال هم جلساؤه بعدها، مع أنهم أخطر شيء عليه؛ إذ هم أعرف الناس بنقاط ضعفه.
عاداته، أفكاره، اهتماماته هي هي لم تتبدل، لم يزل مُصِّرًا على بعض المال المشتبه، حتى إذا ما تورع عن بعض مال حرام، لم يزل لسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات؛ يشتم ذا ويجرح ذاك ويعدل ذلك.
أمانيه، حبه، بغضه، عطاؤه، منعه، هي هي، ولاؤه لمصلحته، عداؤه لكل ما يقف في طريقها، نفعي ذاتي، مستصعب مخالفةَ الناس والتحيزَ إلى الله ورسوله.
أيكون من هذا حاله مهتديًا حقيقة؟
كلا إنما هو عش حمامة، عود من غرب وعود من ثمامة، بل غيمٌ حمَى الشمسَ ولم يمطر ولم يكف.
الهداية الحقة تحول جذري؛ مظهري ومخبري، والله ما يجدر بحامل الهداية أن يظهر بمظهر يرده الشرع، فلو خالف حامل الهداية، لكان كل مخالف أشرفَ منه، فلطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود كما قيل.
أنت للهداية لا للتلبيس، إنما التلبيس خلق إبليس، أنت للنور لا للظلمة، ربما زلة أهلكت، وعثرة قتلت، وفائت لا يستدرك، لا يبنى على الصلاح إلا صالح، وكل ما بني على الفساد فهو فاسد، ولن يأتي يوم فيقول مهتد على الحقيقة لإبليس: رضي الله عنه! بل نعوذ بالله منه.
إذا ما الجرح رُمَّ على فساد تبين فيه تفريط الطبيب
الهداية ليست كلمةً تقال، بل هي حقيقة ذاتُ تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال، وما حقيقة كخيال.
الهداية الحقيقية عبودية مطلقة لله رب العالمين، والعبد المطلق ـ كما يقول ابن القيم في كلام قيم مضمونه في تصرف: لا تملكه رسوم، ولا تقيده قيود، عمله على مراد ربه، ولو كانت راحة نفسه في سواه، ملبسه ما تهيأ، مأكله ما تيسر، شغله ما أمر به في وقته، مجلسه حيث انتهى وخاليًا وجد، لا تملكه إشارة، ولا يتعبده قيد، ولا يستولي عليه رسم، حر متجرد، دائر مع الأمر المأمور به حيث دار، يأنس به كل محب، ويستوحش منه كل مبطل؛ كالغيث حيثما وقع نفع، وكالنخلة لا يسقط ورقها، وكلها منفعة حتى شوكها، حزم مع المخالفين لأمر الله، غضب إذا انتهكت محارم الله، فهو لله وبالله، ومع الله، واهًا له ما أغربه بين الناس، وما أشد وحشته! وما أعظم أنسه بالله وفرحه وطمأنينته وسكونه، والله المستعان، وعليه التكلان.
هذا دأب المهتدي حقيقة في السير إلى الله، كلما رفعت له منزلة سار إليها واشتغل بها، حتى تلوح له منزلة أخرى، ولم يزل هذا دأبه حتى ينتهي سيره، فإن رأيت العلماء رأيته بذاته معهم، وفي سمتهم وعلمهم وزيهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين والمحسنين رأيته معهم، وإن رأيت العاكفين الخاشعين المخبتين رأيته معهم.
كالليث يسرف في الفعا ل وليس يسرف في الزئير
الهداية الحقيقية تمثيل للدين في تصريف شئون الحياة، واستخلاف للمهتدين في الأرض، وتبديل للخوف بالأمن، وعد واقع ماله من دافع، إنه وعد الله، ووعد الله حق، ولن يخلف الله وعده، قال الله: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].
وعد من الله للعصبة المهتدية في كل عصر، وسنة من الله: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا} [الفتح:23] (4).
البداية العصيبة:
عصيبة تلك الأيام التي يمر بها الملتزم الجديد على طريق الالتزام الذي نفض الغبار من على كاهل مثقل بهموم الدنيا وعناء المسير، حين يطلّق حياة العبث ويلتفت للجد والدين، حين يقلب طريقته بشكل غير مألوف، لم يعتده أهله ولا من حوله من محيط مفتون.
كيف لهذا الفارس الجديد الذي أقبل ليجسد صورة المسلم التقي المستقيم أن يتجاوز تلك العقبات والتحديات في طريق سمو الروح والاستعلاء على فتات الدنيا لخدمة دينه وطاعة ربه؟ كيف له أن يبحر بقناعاته الجديدة في بحر متلاطم الأمواج تتصادم فيه القناعات وأهواء الناس.
لا بد أنه حديث يثير شجون الملتزمين الذين شعروا أو يشعرون بالغربة عند أول خطوة في طريق الالتزام، وربما يشعرون بالاضطراب والخوف من تكملة المسير، فإن ثمن الاستقامة في زمن الانحراف والبعد عن الدين يعد ثمنًا باهظًا، وفي معايير المنسلخين عن الإسلام، فإنه ضرب من جنون الإنسان.
إما الاستمرار بقوة أو التعثر:
ويتفق أغلب من خاض غمار الالتزام على أن البداية هي الأساس، هي المحددة لمصير الالتزام، إما أن يستمر بقوة أو يتعثر باضطراب، إما أن يتوقف إلى حين أو ينتكس في كل حين، وإما أن يمن الله عليه بالثبات ولذة الاستقامة بقية عمره، فيكون من الفائزين أو يحرمه جزاءً وفاقًا ونادى ولات حين مناص.
وقد تأملت في مشاكل الملتزمين، فلم أجد أفضل من تسليط الضوء على مراحل الالتزام درجة درجة، حتى نشخص مشاكل كل درجة بخصوصيتها ونلخص الشعور المشترك لكل ملتزم أو من هو في طريق الالتزام ونبحث حاجاته وطرق ثباته.
الانطلاقة واختلاف دوافع الالتزام:
إن لكل انطلاقة ثغرات ولكل شخصية هفوات، وجمع الجميع في كيل واحد خطأ فقد تنوعت الأنفس البشرية واختلفت الأفهام في طريقة التعامل مع التغيير، وقرار الالتزام قد يكون له دوافع مختلفة حسب اختلاف الأشخاص:
ضيق الصدر والشوق إلى التوبة:
فمنهم من ضاقت به الأرض لكثرة انغماسه في الدنيا فشعر بالوحشة واعتلال في الصدر، اشتاقت نفسه إلى التوبة وإلى تغيير مساره الذي جلب له الشتات والفراغ الروحي، فأقبل في ثورة يريد أن يخرج من روتين حياة مادية ممل لم يطل منه راحة نفس ولا سكن روح، لم يحقق فيه سعادة ولا سرور، وأمثال هؤلاء كثير؛ بل هذه الحالة قد تكون عند غير المسلمين، وهي السبب الأول لاعتناقهم الإسلام حيث اشتركت قصص التزامهم في هذا السبب الرئيسي الذي قادهم للخلاص.
أثر الذنب:
ومنهم من وقع في ذنب عظيم فكان أن خاف الخوف العظيم، وتذكر أن الله شديد العقاب، ووقع في نفسه أنه أسرف في ظلم نفسه وغيره، فعاهد نفسه معاهدة الحازم أن يكفّر عن فعلته ويستقيم، خشية أن يكون من الفاسقين أو يشار عليه بين الساقطين، وطبعًا كلما كانت النفس البشرية متأثرة بدرجة الذنب كلما زاد إصرارها على محو عاره من الذاكرة بالجنوح للالتزام والاستقامة، والتمسك بكل ما يساعد في محو ذلك الأثر.
همة محفزة جذبته:
ومنهم من التقى في طريقه همة ملتزمة، همة جذبته سيرتها وطريقتها، فأحب أن يكون مثلها، وأن يقلدها ويرتقي بأسلوبها في الحياة، فتجد عينه تدمع لإنجاز مسلم تقي أو لنجاح مسلم داعية أو لذياع صيت مسلم مفكر، فتتحرك فيه عوالج النفس والمسابقة، فيتفكر في نفسه وما فيها من نقص ويقبل للإصلاح بقوة ويندفع في طريق التغيير.
نصيحة صادقة ودعوة صالحة:
ومنهم من نفعت فيه النصيحة وصحبة قلب صديقه، عرفت أخطاءه فأرشدته وأتقنت فن دعوته فاستجاب بلا تردد بقلب محب مقبل، ومنهم من نفعته دعوة صالحة من عمل صالح كان قد أقدم عليه ونسيه، بحق والديه أو جيرانه أو أصحابه أو من يجهل، فكانت بركتها أن هداه الله بنور منه إلى طريق الهداية والاستقامة.
نوازل المسلمين:
ومنهم من أقضّت مضجعه نوازل المسلمين وتحركت فيه مكامن الغيرة على الدين وخاتم المرسلين، واستشعر درجة الضعف التي هو فيها وكذلك هي فيها أمته، فأقبل على الالتزام حاملًا أمل التغيير لنفسه ولأمته.
بشاعة الحضارة الغربية:
ومنهم من ذاق مرارة العيش في الغرب وصُدم بتناقض الوصف، بعد أن خرج فرحًا فخورًا يختال بشهادة وتأشيرة وبضعة أموال، يعتقد أن الحياة ستفتح له ذراعيها مقبلة بلا حياء، فتفاجأ لبشاعة تلك الحضارة الغربية التي لم تحترم دينه ولا مظهره، وربما كشّر بعضهم لمجرد ذكر اسمه العربي، ومع توالي أيامه في محاولة فهم واقع الغرب يكتشف عظمة الإسلام، وكيف أن هذه الأمم مهما بلغت من تطور فلن تبلغ رقي عدالة الإسلام، فيجرفه الحنين لذلك الدين، ويعود منكسرًا يرجو رحمة ربه، وربما هاله حقائق كان يجهلها قد حملها الغرب بغضًا للمسلمين؛ فأخذته العزة بالدين، وقرر أن ينتصر بالاستقامة، وضرب القدوة من مسلم في مجتمع لم يعرف بعد عظمة الإسلام، معتبرًا ذلك طريقته في الدفاع عن دينه.
حادثة قصة فاجعة وغيرهم:
ومنهم من غيرت حياته حادثة أو صورة أو قصة أو فاجعة، ففتح الله له أبواب رحمته ليبحر في ملكوت عطفه وهدايته.
ومنهم من التزم بعد رحلة تحدي ورهان، بعد أن ظن أنه انتصر لسخريته من مظهر من مظاهر الدين أو مظهر مسلم مستقيم، فانطلق محاربًا للإسلام وأحكام الإسلام معتمدًا عقله الناقص، حتى أوقفته معجزة من الله، على يد مسلم صادق أو مناظر مبحر في علوم الدين، فانقطع به التحدي إلى الإذعان بالخسارة والإقبال بحب لدين طالما حاربه وانقلب السحر على الساحر فبدل أن يضل الناس اهتدى (5).
الالتزام شكل ومضمون:
بعض المستقيمين والملتزمين بالإسلام تحكمهم الرؤية الظاهريَّة المباشرة؛ فيرون الالتزام بالدين قاصرًا على بعض المظاهر الطيبة والجيدة، ويرون -وقد يكون ذلك شعورًا لا نطقًا - أنَّ الرجل إذا استكملها فقد استكمل الالتزام.
إنَّ ديننا الإسلامي وضَّح مفهوم الالتزام والاستقامة على الدين؛ حتَّى لا يكون الالتزام التزامًا أجوف، أو تدينًا مغشوشًا؛ فالالتزام مفهوم واسع وشامل، إنَّه لا يقصر الالتزام على مجرد إطلاق اللحية -وهو واجب- ولا يقصر الدين على تحريم إسبال الثياب، وهو محرَّم.
نعم؛ إنَّ من الالتزام إطلاق اللحية، وعدم إسبال الثياب للرجال، وتغطية جميع جسم المرأة؛ ووجهها من باب أولى -كما هو قول جمع من الفقهاء- والامتناع عن الدخان وتحريمه... بيد أنَّ تعليق الالتزام والاستقامة على الدين بهذه المظاهر فقط، وجعلها علامة فارقة بين الملتزمين وغيرهم؛ هو خطأ جسيم.
لا ريب أنَّ هناك من يوافق على هذا الرأي، غير أنَّه في مجال التطبيق الواقعي تكون نظراته وأفكاره مختلفة عن قناعاته الفكريَّة، ممَّا يسبِّب تنافرًا بين الفكر والتطبيق، وفصامًا بين العلم وواقع العمل.
كم من أناس اغترُّوا بمظهر شخص ما، فأطلقوا عليه حكمًا عامًا بالالتزام، وحين تعاشره تجد أنَّ الالتزام كان في الظاهر فقط، وأنه بحاجة إلى أن يرقِّي التزامه، وينقله من التزام المظاهر والظواهر -وهو أمر محمود- إلى التزام الجوهر والضمير.
وعليه؛ فمن الأهميَّة بمكان أن يكون مستوى تفكيرنا وحكمنا على الأشخاص والناس حكمًا دقيقًا لا حكمًا ظاهريًا، كما أنَّه من المهم أن نوسِّع دائرة الالتزام، ولا نضيِّقها على بعض الهيئات التي لا أخالف في أنَّها واجبة؛ ولكنِّي أخالف في قصرها على الالتزام الظاهري فقط.
وهناك أمورٌ قد يتهاون بها الملتزمون، مع تعظيمهم لبعض الأخطاء والآثام الظاهرة التي قد لا تصل للدرجة الكبيرة، بيد أنَّ هناك تساهلًا في كبائر مجمع عليها: كالغيبة، والكذب، والنميمة، وأكل حقوق الناس، وظلم العمَّال ومَطلهم حقوقهم -التي قد يتهاون بها بعض الملتزمين- فهي كبائر فظيعة، وفواحش شنيعة، لم يخالف في وصفها بأنَّها كبائر أحدٌ من العلماء.
لقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120]، والآية هنا تقضي بأهميَّة التخلُّق بخلق الإسلام، والابتعاد عن الإثم ظاهرًا وباطنًا، لأنَّنا قد نعتني بترك الإثم الظاهر لاطِّلاع الناس عليه، ونقع فيما هو أشد منه من الإثم الباطن.
ولقد نبَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم على خطورة الانخداع بالمظاهر؛ فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: مرَّ رجلٌ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالسٌ: «ما رأيك في هذا؟»، فقال: رجلٌ من أشراف الناس؛ هذا والله حريٌّ إن خطب أن يُنكح، وإن شفع أن يشفَّع. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مرَّ رجلٌ آخر؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رأيك في هذا؟» فقال: يا رسول الله، هذا رجلٌ من فقراء المسلمين؛ هذا حريٌّ إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يُشفَّع، وإن قال ألا يُسمع لقوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا خيرٌ من ملء الأرض مثل هذا» (6).
وبيَّن صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل لا ينظر إلى الصور والأجسام، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال، فقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (7).
نعم؛ لا شك أنَّ الحكم على الناس يكون بالظاهر، والله يتولَّى السرائر، كما نطق بذلك فقهاء الإسلام، ونصَّ عليه جمعٌ من العلماء؛ كابن تيمية، والشاطبي، والنووي، وغيرهم؛ بل حكى الإمام ابن حجر الإجماع على ذلك، فقال: وكلُّهم أجمعوا على أنَّ أحكام الدنيا تجري على الظاهر، والله يتولَّى السرائر (8).
ولكن؛ هل المراد بقاعدة (الحكم على الناس بالظاهر) أن يقوم الإنسان بالحكم من أوَّل نظرة؟! لا؛ فذلك لا يليق بأصحاب العقول الفطنة، ومن المعلوم أنَّه: ما كلُّ بيضاء شحمة، ولا كلُّ سوداء تمرة.
ولو كانت نظرتنا بهذا الشكل؛ لكان الخوارج الضُّلاَّل أولى الناس بأن يكونوا من أهل التُّقى والزهد والصلاح؛ فقد وصف عليه الصلاة والسلام عبادتهم بقوله: «تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم» (9).
والأمر هنا واضح؛ بأنَّ النظرة السطحيَّة لا ينبغي أن يؤخذ بها مباشرةً وعلى الإطلاق؛ فقد تستهوينا عبادة رجل، بيد أنَّه في مجال المعاملة مع إخوانه المسلمين قد يظلم، وقد يكذب ويغش، ويحلف اليمين الغَموس.
لقد اشتُهر عن العبقري الصحابي الجليل عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أنَّه حين جاء شاهدٌ يشهد عنده، قال له عمر: ائتِ بمن يعرِّفك، فجاء برجل، فقال له: هل تزكِّيه؟ هل عرفته؟ قال: نعم، فقال عمر: وكيف عرفته؟ هل جاورته المجاورة التي تعرف بها مدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال عمر: هل عاملته بالدينار والدرهم اللذين تعرف بهما أمانة الرجال؟ قال: لا، فقال: هل سافرت معه السفر الذي يكشف عن أخلاق الرجال؟ قال: لا، فقال عمر بن الخطَّاب: فلعلَّك رأيته في المسجد راكعًا ساجدًا، فجئت تزكِّيه؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال له عمر بن الخطاب: اذهب؛ فأنت لا تعرفه، ويا رجل ائتني برجل يعرفك، فهذا لا يعرفك (10).
ومن هنا نعلم علم اليقين خطورة الحذر من التزكية الظاهرة، والنظرة السطحيَّة العابرة، التي نزكِّي بها فلانًا وعلاَّنًا، من خلال نظرات عامَّة، وما الأخبار التي تأتينا أو نسمع بها من حالات الخصام الزوجي أو الطلاق من أناس كانت المرأة أو الرجل يحسب كلُّ أحد منهم الآخر أنَّه -أو أنَّها- من أهل الخير والبرِّ والصلاح لمظهرهم الحسن؛ بيد أنَّها حين تعاملت معه -أو حين تعامل الرجل معها- انكشفت حقائق ما كان مستورًا، وبدت مكنونات قلبيهما تظهر وتبدو، إلى أن حصل الشقاق والخلاف.
أخرج البخاري في صحيحه: أنَّ رجلًا اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارًا، وكان يُضحِك الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب؛ فأُتِيَ به يومًا فجُلد، فقال رجلٌ من القوم: اللهم العنه؛ ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه؛ فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله» (11).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقًا على هذا: فنهى عن لعنه مع إصراره على الشرب؛ لكونه يحب الله ورسوله، مع أنَّه صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة: لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وآكل ثمنها، ولكنَّ لعن المطلق لا يستلزم لعن المعيَّن الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة به، وكذلك التكفير المطلق والوعيد المطلق؛ ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطًا بثبوت شروط، وانتفاء موانع (12).
كم من إنسان حين تراه تقول: الخير يقطر من لسانه وجانبيه؛ فإذا عاشرته وعاملته عرفت أنَّه ليس كما رأيت -وللأسف- وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عن زمن تختلف فيه مقاييس الناس في المدح والذم: «حتَّى يقال للرجل: ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبَّة من خردل من إيمان» (13).
لقد كان علماؤنا رحمهم الله لا تخدعهم المظاهر كثيرًا؛ فقد تكون المظاهر مع رونقها خواءً، وقد قيل: لا يخدعنَّك منظر الروضة الغنَّاء، إذا كان بعدها جهنم الحمراء!
ولقد كانوا يعرفون أنَّ الانطباع الأول غالبًا لا يكون صحيحًا، والصواب: هو عدم الاستعجال في الحكم على الأشخاص، أو الإعجاب بهم لمجرد نظرة عابرة، وقد خاطب الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55].
بل حذَّر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم من الانبهار حين يرى المنافقين، قائلًا له: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون: 4]، فحذَّره سبحانه وتعالى من الإعجاب بهؤلاء المنافقين وبأجسامهم وحلو كلامهم ومنطقهم.
إنَّ من المهم أن تكون لنا نظرة متَّزنة في الحكم على الأشخاص، والإعجاب بهم حين الرؤية الأولى المباشرة، بل لا بدَّ من عَرْكِ هؤلاء بالمعاملة؛ لتكوَّن الرؤية الصحيحة المنبعثة عن المعاشرة والمعاملة والمُخالقة.
إنَّ من أعظم السلبيات التي نراها ظاهرة للعِيان في بعض المجتمعات الملتزمة اهتمامَ كثير منهم بإصلاح الظاهر، وخصوصًا لمن يدخل حديثًا في سلك الالتزام، وينتظم في سلك الصالحين، مع أنَّ هذا الرجل بحاجة ماسَّة إلى إصلاح الباطن أولًا- مع أهميَّة إصلاح الظاهر ولا شك- ولكنَّ المنهج التربوي الصحيح يقضي بأهميَّة القيام بإصلاح القلب والباطن، ومن المؤكَّد حتمًا أنَّه في حال إصلاح القلب سينعكس ذلك إيجابيًا على ظاهر الشخص؛ فيتأكَّد إذًا أهميَّة الاهتمام بالجوهر قبل المظهر (14).
عـلاج الالتزام الأجوف:
1- تدبر القرآن والسنة: وما فيهما من ثواب للطائعين وعقاب للعاصين.
2- اجتناب الصغائر بقدر الإمكان: لأنك لن تستطيع اجتناب الصغائر كلها لكن بقدر الإمكان، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه» (15).
3- التوسط في المباحات.
4- محاولة التوفيق بين زحمة العمل والقيام بالطاعات.
5- مجاهدة النفس وتربيتها على الجد والحزم.
6- ملازمة الجماعة والعيش في وسط صالح مستقيم: لأن هذا يقوي العزيمة على طاعة الله، كما جاء في الحديث: «خياركم الذين إذا رؤوا ذُكر الله عز وجل» (16).
7- الاستعانة بالله: فإنه يعين من استعان به.
8- معرفة واجبهِ في الدنيا: واعتبار أن الدنيا مزرعة للآخرة.
9- عدم الاغترار بأحد: واعلم بأنك ستحاسب لوحدك.
10- قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والصحابة وسيرة السلف الصالح.
11- تذكر الموت وما بعده من أهوال.
12- تذكر تقصيرك واتهامك لنفسك.
13- عناية المربين بالبرامج الإيمانية: وعدم إغفالها، بل ينبغي تعاهد المجموعة بالرقائق والإيمانيات، وتوثيق الصلة بالله عز وجل بالطرق المتعددة (17).
______________
(1) أخرجه البخاري (4330)، ومسلم (2493).
(2) دروس للشيخ علي القرني/ الموسوعة الشاملة.
(3) من محاضرة الالتزام الأجوف: للشيخ عبد الرحمن العايد.
(4) ما حقيقة كخيال/ إسلام ويب.
(5) صفحات من دفتر الالتزام: الانطلاقة/ التبيان.
(6) أخرجه البخاري (6447).
(7) أخرجه مسلم (2564).
(8) فتح الباري (12/ 273).
(9) أخرجه البخاري (6532- 6534).
(10) إرواء الغليل (8/ 260).
(11) أخرجه البخاري من حديث عمر بن الخطَّاب (6398).
(12) الفتاوى (10/ 329- 330).
(13) أخرجه البخاري (7086)؛ ومسلم (143).
(14) الالتزام شكل ومضمون/ شبكة الألوكة.
(15) أخرجه أحمد (3818).
(16) أخرجه ابن ماجه (4119).
(17) من محاضرة: الالتزام الأجوف، للشيخ عبد الرحمن عايد العايد.