كثرة الأفكار وقلة التنفيذ
إن ما ينقص العمل الإسلامي ليس قلة المشروعات والأفكار الدعوية؛ إن ما ينقص العمل الإسلامي اليوم هو عدم وجود (كوادر) دعوية قادرة على تنفيذ هذه المشاريع والأفكار على أرض الواقع، فكثيرة هي المشاريع المتداولة بين أفراد الدعوة من حين لآخر، ولكن هذه الأفكار إن لم تجد أصحاب عزيمة صادقة، يتبنون تنفيذها، فإنها ستذهب أدراج الرياح، وتتبخر، ولا يبقى لها أثر.
وهذا ما حصل بالفعل مع كثير من الأفكار الدعوية في الفترة الأخيرة، لا سيما بعد الانفتاح الواسع على الدعاة بعد التضييق الشديد من قبل زبانية الأنظمة الظالمة الجائرة، ولكن مع هذا الانفتاح وتراكم الأفكار وتعدد المشاريع وزحمة الأحداث لم تجد هذه الأفكار لها أرضًا خصبة تنبت فيها، ولا أيدي حانية تتولى رعايتها، وأصبح الكثير من هذه الأفكار (حبرًا على ورق)، لم يأذن فجر مولده بعد بالمجيء، ولعل لذلك أسبابًا كانت وراء تأخر مولدها ونزولها إلى أرض الواقع، ومن هذه الأسباب ما يلي:
1- ضعف الهمة:
إن مجتمع الدعاة على طبقات، منهم القدوة السريع الهمام، ومنهم المتثاقل البطيء، ولا بد للداعية أن تكون همته في الثريا، وأن يكون ذا طموح وتطلعات وآفاق أن يصل بدعوته إلى أبعد الأماكن وأعلى المستويات، ولا يستبعد على دعوته شيئًا، وهذا الطموح لا يتأتى إلا باليقين بأن النصر لهذا الدين، وأن العاقبة للمتقين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «تقول العامة: قيمة كل امرئ ما يحسن، والعارفون يقولون: قيمة كل امرئ ما يطلب، وفي الإسرائيليات: يقول الله تعالى: إني لا أنظر إلى كلام الحكيم، وإنما أنظر إلى همته»(1).
وفي صحيح مسلم عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها»(2).
وعن تميم الداري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: »ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلًا يذل الله به الكفر»(3).
لما استقر بالملك نقفور طغى وتجبر، وكتب إلى الخليفة هارون الرشيد: من نقفور ملك الروم، إلى هارون الرشيد ملك العرب، أما بعد، فإن الملكة زنبى أقامت مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت لك من أموالها، وذلك لضعفها وحمق النساء، فإن قرأت كتابي فاردد ما حصل لك منها، وافتد نفسك، وإلا فالسيف بيننا وبينك.
فلما قرأه الرشيد غضب، وكتب بيده على ظهر الكتاب: «من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قرأت كتابك يا ابن الكافر، والجواب ما تراه دون ما تسمعه»، وأرسله من ساعته، وتجهز الرشيد من يومه، وركب وسار حتى نزل على مدينة هرقلة، وحاصرها وقتل وسبى، وذل نقفور، وأرسل يطلب الصلح من الرشيد، ويحمل له الخراج كل عام، فصالحه وعاد إلى بغداد(4).
ولما حاصر محمد الفاتح، السلطان العثماني العظيم، مدينة القسطنطينية، واستعصت عليه بعض الوقت، وقف أمام أسوارها وقال: «حسن؛ والله ليكونن لي فيك قصر أو قبر»، وكان له ما أراد، وفتحها الله عليه بعد أن تأبت على قادة كثر قبله(5).
إن المرء ليحزن قلبه ويضيق صدره حينما يرى ويشاهد أعداء هذا الدين؛ وقد عكفوا على محاولة هدم هذا الدين، وإفساد أخلاق أهله ليل نهار، ويعجب من صبرهم وجَلَدهم على باطلهم، بينما صاحب الحق والدعوة الناصعة والحجة البينة الواضحة قد تقاعس في دعوته، وبخل على أمته في أشد ما تكون حاجتها إليه.
إِني رأيــتُ وقـــوف الــمــاء يــفــسـده إن ساح طاب، وإن لم يجر لم يطب
والأُسْدُ لولا فـراق الأرض ما افـترست والسـهم لـولا فـراق القوس لم يصب
والشـمـس لـو وقـفت في الفـلك دائمــــة لملَّها الـناس مـن عـجـم ومـن عربِ
2- اختلاق الأعذار:
إذا كنت صاحب مبدأ فدافع عنه بكل قوتك، ولا تلتمس أعذارًا في التواكل أو التهاون فيه، فالقعود عن تنفيذ أوامر الله ورسوله في الهجرة بدين الله حفاظًا عليه ودفاعًا عنه، جعل ضمرة يضرب المثل الأعلى في روعة الثبات على المبدأ وعدم اختلاق الأعذار.
فرغم أن الله أعفى من هذا الفرض المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، المحبوسين بعذر أو مرض ولا حيلة لهم، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)} [النساء:97-99].
وكان ضمرة بن جندب مريضًا ذا عذر، لكنه أراد أن يلحق بركب التوحيد إلى أرض الإيمان بدون التماس الأعذار، قال لأهله: احملوني فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل الوحي بكلام الحق على رسول الله عليه الصلاة والسلام: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)} [النساء:100]، فهل يفقه ذلك الكسالى المتقاعسون عن المشاركة الجادة في خدمة رسالتهم، والدفاع عن دينهم؟.
»إن الكلمة (وكذلك الفكرة) لتنبعث ميتة، وتصل هامدة، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها، ولن يؤمن إنسان بما يقول حقًا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيمًا واقعيًا لما ينطق.
عندئذ يؤمن الناس، ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق، إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها، وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها، إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة، لأنها منبثقة من حياة»(6).
»فالذي يؤمن بعقيدة ونظام، فردًا كان أو جماعة، مضطر بطبيعة عقيدته وإيمانه بها أن يسعى سعيه في القضاء على نظم الحكم القائمة على فكرة غير فكرته، ويبذل الجهد المستطاع في إقامة نظام للحكم مستند إلى الفكرة التي يؤمن بها، ويعتقد أن فيها سعادة للبشر؛ لأنه لا يتسنى له العمل بموجب عقيدته والسير على منهاجه إلا بهذا الطريق، وإذا رأيت رجلًا لا يسعى وراء غايته، أو يغفل عن هذا الواجب، فاعلم أنه كاذب في دعواه، ولما يدخل الإيمان في قلبه»(7).
3- الركون إلى المألوف (الخوف من الفشل):
كثير من الدعاة وطلبة العلم من ألفوا الواقع وتأقلموا عليه، فلم يعد عندهم استعداد للتجديد أو التطوير، فكلما طرحت عليهم فكرة ما لمصلحة العمل وتطويره؛ تجد هجومًا شرسًا بحجة تضييع الدين وتمييع القضية، أين الأصالة والمحافظة على الثوابت؟!، وكأن الوسائل الدعوية ثوابت من أصل الدين، تغييرها أو تطويرها تضييع للدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله رب العالمين.
السير على درب السابقين لا يشترط له ركوب ما كانوا يركبون، ولا أكل ما كانوا يأكلون، ولبس ما كانوا يلبسون، ولكن هذه متغيرات تخضع لعصرها، ولا تخضع لقضية الثوابت والمحافظة على الأصول وسلامة المنهج، اللهم إلا ما كان من تحديد حله أو تحريمه، أما ما كان في دائرة المباح فلا حرج.
بعض أهل العلم من يزدري الدعوة عن طريق القنوات الفضائية؛ بل لا يقبل بذلك أصلًا، متناسيًا الكم الهائل من البشر الذي تستطيع مخاطبته من خلف هذه الكاميرا، ولا ننكر الضوابط الشرعية لذلك، ولا نشجع على الانخراط الذي يميع القضية؛ بل التوسط والاعتدال من خصائص الإسلام دون إفراط أو تفريط.
قال تعالى: {بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22].
»وهي قولة تدعو إلى السخرية، فوق أنها متهافتة لا تستند إلى قوة؛ إنها مجرد المحاكاة ومحض التقليد، بلا تدبر ولا تفكر ولا حجة ولا دليل، وهي صورة مزرية تشبه صورة القطيع يمضي حيث هو منساق ولا يسأل: إلى أين نمضي؟ ولا يعرف معالم الطريق! والإسلام، رسالة التحرر الفكري والانطلاق الشعوري، لا تقر هذا التقليد المزري، ولا تقر محاكاة الآباء والأجداد اعتزازًا بالإثم والهوى، فلا بد من سند، ولا بد من حجة، ولا بد من تدبر وتفكير، ثم اختيار مبني على الإدراك واليقين.
وفي نهاية هذه الجولة يعرض عليهم مصائر الذين قالوا قولتهم تلك، واتبعوا طريقهم في المحاكاة والتقليد، وفي الإعراض والتكذيب، بعد الإصرار على ما هم فيه على الرغم من الإعذار والبيان! {وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(25)} [الزخرف:23-25].
وهكذا يتجلى أن طبيعة المعرضين عن الهدى واحدة، وحجتهم كذلك مكرورة: {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ} أو {مُقْتَدُونَ}، ثم تغلق قلوبهم على هذه المحاكاة، وتطمس عقولهم دون التدبر لأي جديد، ولو كان أهدى، ولو كان أجدى، ولو كان يصدع بالدليل، وثم لا يكون إلا التدمير والتنكيل لهذه الجبلة التي لا تريد أن تفتح عينيها لترى، أو تفتح قلبها لتحس، أو تفتح عقلها لتستبين»(8).
4- صعوبة الفكرة في الناحية التطبيقية:
أحيانًا تكون الفكرة غاية في الروعة، وذات أهمية كبرى للعمل؛ ولكن صعوبة تنفيذ هذه الفكرة يجعلها كأن لم تكن.
إننا لا نبحث عن أفكار من عالم الخيال، أو أفكار مبالغ فيها، إن الفكرة لكي تكون جيدة لابد أن تتناسب مع من يقومون بها، وتكون مسايرة لواقع دعوتهم، لترى النور وتطبق في أرض الواقع.
5- فقدان العرض الجيد للفكرة:
الفكرة الجيدة إذا لم تعرض جيدًا ستبدو ضعيفة، وقد يعمل العرض الجيد لفكرة أقل جودة على الرفع من شأنها.
الفكرة إن لم تكن لها جاذبية تستقطب بها القلوب والعقول فإنها ستنبعث ميتة، ولا يمكن أن يكون لها وجود على أرض الواقع، إن طريقة عرض الفكرة تمثل الجانب الأكبر في مدي قبولها لدى الآخرين، فقد تكون الفكرة ليست جيدة؛ ولكن عرضها في قالب يزينها أسبغ عليها نوعًا من القبول، وقد تكون فكرة رائعة ولكنها تفتقد الإقناع لدى الآخرين.
يجب أن تتحد جميع حواسك لتعبر عن فكرتك؛ فليس ما تقوله فقط هو ما يؤدي للنتيجة النهائية أو ما تكتبه، ولكن كيف تقوله أو تكتبه أيضًا.
6- التكلفة الباهظة لإعداد المشاريع الدعوية:
مما يؤدي إلى التأخر في إنجاز المشروع عدم وجود المال الكافي أو كبره، وكذلك يؤدي إلى بذل الأموال الطائلة التي يمكن الاستفادة منها في أكثر من مشروع، كذلك يؤدي إلى نزع ثقة التجار في القائمين عليها بسبب الإسراف والاعتذار عن المساهمة، وللأسف نجد أن كثيرًا من الشباب عنده إسراف في تكلفة الرحلات والمخيمات وغيرها، التي تصل إلى مبالغ طائلة، وكذلك في جانب إنشاء المساجد وملحقاته، والمكتبة التابعة له، التي ربما لا يرتادها إلا القليل أو تكون مقفلة، فعلى المربين والدعاة الاقتصاد ومحاسبة المتربين في ذلك.
7- الرتابة وعدم التجديد والتنويع:
كثيرة تلك الأفكار التي تتكرر في كل عام (في مواسم محددة)، فتجد نفس الفكرة التي تم العمل بها من قبل دون تجديد أو تطوير أو حتى تعديل، فيمل الدعاة من هذه الفكرة المتكررة، فالداعية الماهر هو الذي يستطيع تطوير الأفكار وتنويعها، واستثمار الأوقات المناسبة للسمو بأفكاره ومشاريعه.
عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، قال: «من هذه؟»، قالت: فلانة، تذكر من صلاتها، قال: «مه، عليكم بما تطيقون، فوالله، لا يمل الله حتى تملوا»، وكان أحب الدين إليه مادام عليه صاحبه(9).
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرأ علي»، قلت: آقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: «فإني أحب أن أسمعه من غيري»، فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} [النساء:41]، قال: «أمسك»، فإذا عيناه تذرفان(10).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم لِأُبَيٍّ: »إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ} [البينة:1]، قال: وسماني؟ قال: «نعم»، فبكى(11).
فالنبي صلى الله عليه وسلم يسمع القرآن من غيره مرة، ويقرأه على غيره مرة؛ كل ذلك من التنوع والتجدد في العرض الذي يكسب الإنسان حيوية في التعامل مع القرآن.
وكذلك ينبغي أن يكون هناك نوع من التجديد في العمل من حين لآخر؛ حتى لا نصاب بالملل أو الفتور، ويفقد العمل روحه الطيبة ونشاطه المثمر.
8- عدم احترام العقول وتجاهل مستوى المتلقي:
إن مما أورث الناس السآمة أن أكثر ما يسمعونه أقل أهمية مما ينبغي أن يسمعوه، إن احترام عقول المستمعين في عرض الأفكار هو الداعم الخفي وراء كسب القلوب للموافقة عليها.
إن عدم مراعاة التناسب بين البرامج بأنواعها مع الوقت والمكان وقدرات المتلقين، والفوارق الفردية بين المتربين من حيث السن والمراحل الدراسية؛ مما يؤدي إلى عدم استفادة البعض من البرامج المطروحة إما لأنها أكبر من مستوى البعض أو أقل.
من حق هذه العقول علينا احترامها وتقديرها والاستفادة منها، وعدم الاستخفاف أو الاستهانة بها أو الإسقاط من شأنها، أو السعي لقصرها على ما نريده لا ما تريده.
إن احترام العقول وعدم الاستهانة بها هو الطريق الأمثل، والأسلوب الرفيع في التعامل مع الآخرين.
قال علي: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله».
إن احترام العقل وإعماله في حدود قدراته الطبيعية؛ التي لا نهاية لها، وإطلاق العنان له في التفكير يسهم في وضع المرء على الجادة السليمة.
9- فقدان الدراسة الكاملة عن الموضوع:
الارتجالية في العمل ليست من الصواب؛ بل الذي يجب أن يكون عليه الدعاة الإعداد والتجهيز للعمل، فبعض أصحاب المشاريع الدعوية ليست لديه دراسة كاملة عن مشروعه؛ ليست لديه خطة ولا دراسة ولا هدف، ولا تقدير للجوانب السلبية والإيجابية لمشروعه.
10- إغفال آراء الآخرين:
روي أن خباب بن المنذر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله أم هو الرأي في الحرب؟ قال: «بل هو الرأي»، فقال: يا رسول الله، إن هذا المنزل قريب جدًا من حصن نطاه، وجميع مقاتل خيبر فيها، وهم يدرون أحوالنا ونحن لا ندرى أحوالهم، وسهامهم تصل إلينا وسهامنا لا تصل إليهم، ولا نأمن بياتهم، وأيضًا هذا منزل بين النخلات، ومكان غائر، وأرض وخيمة، لو أمرت بمكان خال عن هذه المفاسد يتخذ معسكرًا، قال صلى الله عليه وسلم: »الرأي ما أشرت إليه«، وقد مرّ مثل هذا في غزوة بدر(12).
وفي غزوة الأحزاب أشار سلمان رضي الله عنه بالخندق، وقال: يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا تخوّفنا الخيل خندقنا علينا، فأعجبهم ذلك، وأحبوا الثبات في المدينة، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجد، ووعدهم النصر إذا هم صبروا واتقوا، وأمرهم بالطاعة، ولم تكن العرب تخندق عليها(13).
وهكذا نجحت الأفكار ودخلت إلى حيز التنفيذ مباشرة، فصاحبها لا يشك أحد في إخلاصه، والقائد الأعلى يستمع لكل رأي ثم ينظر ويمحص، فيقبل دون تعصب أو تذمر صلى الله عليه وسلم.
11- عدم التقييم لما يُطرح:
يحتاج الداعية من حين لآخر لعملية تقييم، فالتقييم يفيد في معرفة الأخطاء وأسبابها، ومحاولة تلافيها؛ لأن السكوت عن الأخطاء يشجع على تكرارها.
إنه من الغباء الحقيقي أن يفعل الإنسان نفس العمل بنفس الكيفية ثم ينتظر نتيجة مغايرة، وأن يطرح نفس الأفكار بنفس الكيفية ثم ينتظر نتائج أخرى.
12- عدم الاستفادة من تجارب الماضي والآخرين:
إن الحياة تجارب المخلوقات، فكتابُ الحياة مفتوحٌ للجميع، وحقوقه ليست محفوظة؛ بل هي حق مشاع لكل إنسان، والإنسان مكلف بالبحث عن سنن الله في الكون؛ ولذا فإننا نستوحي من القرآن الكريم حينما يدعونا إلى دراسة تجارب الآخرين، أُممًا وأفرادًا وجماعات، لكي نستفيد منها ولا نقع في الخطأ الذي وقعوا فيه، فإذا كان الإنسان ثاقب العقل وصاحب بصيرة فإنه يستفيد من التجارب التي أودت بأصحابها إلى الهلاك أو أضرتهم بصورة ما، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
إن تجارب الآخرين هي إضاءات لنا، قال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2]، أي بما يحدث لغيركم من قصص وأحداث، فالاتكاء على التجارب الذاتية فقط يعني البدء من أول الطريق، وعدم مواصلة مسيرة الآخرين، فالتطور البشري حدث بالاستفادة بما صنعه الآخرون ومارسوه من نجاحات وأخطاء، قد يكون لمن سبقونا ظروفهم البيئية والزمنية، ولكننا نشترك مع الأولين والآخرين في إنسانيتنا، تغير الظرف الخارجي هو تغير في الوسائل، ولكن تظل العوامل الأساسية المشتركة لا تتغير، وبالتالي يظل الاستفادة من تجارب الآخرين أمر أساسي لمن أراد التقدم وعدم السقوط في الخطأ.
13- التعجل:
ولما كانت العجلة والاستعجال من طبيعة الإنسان، بشهادة خالقه وصانعه ومدبر أمره {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:11]، {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37]، فالاستعجال مجرد ثورة نفسية خالية من تقدير العاقبة، ومن الإحاطة بالظروف والملابسات، ومن أخذ الأهبة والاستعداد.
العلاج:
تأسيس العمل الدعوي في استيعاب للآخرين وأوقاتهم وقدراتهم؛ هذا بصوته، وهذا بذكائه، وهذا بقدراته، وهذا بقدوته وتربيته، وذاك بقيادته، وهذا بماله، وهذا بوجاهته...، وغير ذلك لا بد له من مقومات أساسية وأركان صلبة؛ كالإخلاص، وحسن اختيار العمل (الأنفع، الأحوج، الأرفع رتبة شرعًا...)، ومراعاة القدرات والإمكانات، والمتاح من ذلك، ووضوح الرؤية والرسالة، مع توزيع الأدوار كما ينبغي، واعتبار التخصصات والاستفادة منها، مع ضرورة تفاهم الفريق وصفاء نواياهم، ولا يخلو ذلك كله من توفر المال والتقنية والإدارة على أحسن ما يمكن.
كما أنه يوجد عنصر مؤثر آخر، وهو المنح الربانية المحضة لمن يحسن إيمانه، مثل الإلهام، وصدق الرؤيا، وصحة الفراسة، والمحبة أو المهابة التي تلقى في قلوب الناس لمؤمن ما، وأنواع أخرى من الكرامات المعنوية، وهي من فروع الإيمان وثمراته بلا شك، لكنها فرع مستقل مكافئ.
لا بد من إيجاد جهة عملها متابعة مناشط الدعوة، وإيجاد ميادين أخرى للانطلاق بها، والعمل على إيجاد محاضن علمية لتكوين أعداد كافية ومؤهلة للدعوة.
وأخيرًا: كثرة الدعاء والابتهال إلى الله في أوقات ومظان الإجابة بصدق.
______________
(1) النبوات، لابن تيمية (1/410).
(2) رواه مسلم (كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض).
(3) رواه أحمد (مسند الشاميين، حديث تميم الداري)، وانظر السلسلة الصحيحة (3).
(4) الروضة الفيحاء في أعلام النساء، ياسين بن موسى الخطيب العمري (1/103).
(5) وصايا للدعاة إلى الله، المائة الأولى، ص161، أمير محمد المدري.
(6) في ظلال القرآن، سيد قطب (1/68).
(7) المصدر السابق (3/1451).
(8) المصدر السابق (5/3182).
(9) رواه البخاري (كتاب: الإيمان، باب: أحب الدين إلى الله عز وجل أدومه).
(10) رواه البخاري (كتاب: فضائل القرآن، باب: من أحب أن يسمع القرآن من غيره).
(11) رواه البخاري (كتاب: مناقب الأنصار، باب: مناقب أبي بن كعب رضي الله عنه).
(12) تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس، حسين بن محمد الدِّيار بَكْري (2/46).
(13) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، محمد بن يوسف الصالحي (4/364).