أصحاب السبت دروس وعبر
جاء القرآن الكريم بكثير من قصص الماضيين تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]، ليكون لك بمن مضى من إخوانك من المرسلين أسوة، فلقد كان يجد من قومه، ومن انحرافات النفوس، ومن أعباء الدعوة، ما يحتاج معه إلى التسلية والتسرية والتثبيت من ربه، ولأخذ العبر والادكار {لقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111].
أهداف القصة في القرآن:
قد يتكرر إيراد القصة الواحدة في القرآن بأساليب مختلفة، لمناسبات متعددة، وتأثير نفسي متفاوت، وإيحاء متنوع الهدف، ويظهر لنا من بيان قصص الأمم السابقة في هذه السورة وغيرها من السور المكية غالبًا أنها تهدف إلى تحقيق أغراض معينة أهمها ما يأتي:
1- الإخبار عن تواريخ بعض الأمم الماضية، وإلقاء الأضواء على حوادث غيبية مهمة جدا، لم يكن يدري بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من قومه {ذَلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف: 102] ، فيكون ذلك دليلًا على صدق نبوته، وأن هذا القرآن من عند الله، وليس افتراء منه، كما زعم المشركون إذ قالوا كما حكى القرآن الكريم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)} [الفرقان: 4 - 6].
2- إخبار الناس جميعًا عن جهود الأنبياء والرسل في سبيل نشر دعوتهم، وصراعهم مع أقوامهم، ومجادلاتهم ومناقشاتهم السديدة المتنوعة لإظهار الحق وإبطال الباطل، ومدى استجابة أقوامهم لهم وإعراضهم عنهم، وتسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم عما كان يؤلمه من صدود الناس عن الإيمان برسالته، كما قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120] وفيها بيان كونهم الأسوة الحسنة للجهاد والصبر الشديد على الدعوة: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35].
3- إظهار كون الأنبياء متفقين في أصول رسالتهم، وتأييد بعضهم بعضًا في الدعوة إلى توحيد الله، والإيمان بالبعث والجزاء واليوم الآخر، وتبيان أصول الخير المشترك من الفضائل والأخلاق والقيم العليا: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثًا يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
4- القصة عنصر مشوق، جذاب محبب، مرغوب فيه في التربية والتعليم وإثبات البراهين العقلية بالوقائع الحسية، لا يختلف في التأثير بأسلوبها وحكاية عناصرها الكبار والشباب، والنساء والفتيات، وذلك يؤدي إلى غرس بذور الإيمان، والترغيب في الطاعة، والترهيب من المعصية، مما يجعل القصة مدرسة إلهية للمؤمنين، أساتذتها الأنبياء، وواقعها الأقوام، وتاريخها قديم عريق، وموضوعها إهلاك الظالمين، وغايتها التهذيب والإصلاح والتربية الحسنة.
5- تهدف القصة القرآنية في المرتبة الأولى إلى إثبات توحيد الله وتقرير وجوده، وإثبات النبوة، والبعث، ويتخللها أحكام تشريعية هادفة مفيدة للفرد والجماعة، وللأمة والدولة، ولكل الشعوب والحكام.
6- تبين القصة أن مهمة النبي مجرد تبليغ الوحي، وإعلام الناس بالإنذارات الإلهية بوقوع العذاب قريبا أم بعيدًا، دون أن يكون لديه سلطان ما في التأخير والتغيير، والنفع والضر.
7- تظهر القصة أيضًا مدى التماثل في طباع البشر، ومدى استعدادهم للإيمان والكفر، والخير والشر.
8- في القصة إظهار سلطان الله وقدرته وقوته القاهرة في تعجيل العذاب، الذي هو أنموذج عن عذاب الآخرة.
9- تتضمن القصة التأييد الإلهي للرسل، وإظهار آيات الله ومعجزاته وحججه على الناس، مما يحمل على الإقناع بصحة الدعوة الإلهية، والإيمان بأصحابها الرسل.
10- كان لكل قصة مواعظ وعبر خاصة، تختلف باختلاف أصحابها، فقصة قوم نوح مثلًا تمثل الغرور المستحكم والإصرار على الوثنية، وقصة قوم عاد تظهر مدى الاعتداد بالبطش والقوة والتجبر والعتو، وقصة قوم لوط تدل على انحطاط المستوى الإنساني، والشذوذ الجنسي، والفحش الأخلاقي، وقصة قوم شعيب مظهر من مظاهر الانحراف الاجتماعي أو الظلم الاجتماعي وأخذ حقوق الناس وأكل أموالهم بالباطل، وقصة قوم فرعون مثل بارز للاعتماد على السلطان والثروة والجاه، تهز عروش وكيان المتفرعنين الجبابرة في كل زمان ومكان، وجميع تلك القصص لمقاومة الوثنية والفوضى في نظام المجتمع، فإن كل أولئك الأمم كانوا وثنيين عبدة أصنام، وكانت جهود الأنبياء المكثفة مركزة على تخليص الناس من عبادة الأوثان والأصنام.
11- القصة في الجملة عظة وعبرة، وعلاج للنفوس، واعتبار بما حل بالعصاة والكفار المتمردين، مما يذهل العقل، ويشيب الرأس، ويقطّع نياط القلب، ويجعل الإنسان في دهشة وخوف ورعب.
12- إن إخبار نبي أمي غير كاتب ولا قارئ، ولا راو ولا حافظ، وهو نبينا عليه الصلاة والسلام، عن تلك القصص، دليل قاطع على نبوته، وسمو رسالته، وحرصه على نشر العلوم والمعارف، وخفق ألوية الهدى والرشاد، ودليل قبل كل شيء على أن هذا القرآن كلام الله ودستوره لبني البشر إلى يوم القيامة.
13- تضمنت القصص صلابة كل نبي على مبدئه ودعوته، وإن تعرض للإساءة وتسفيه الرأي، والتصميم أحيانا على قتله أو إبعاده، والأمثلة كثيرة، منها: ما حكاه القرآن عن نوح عليه السّلام: {قَالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ، أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ} [هود: 28]، وتكرر مثل ذلك على لسان شعيب وغيره من الأنبياء.
14- تكرار القصة الواحدة في سور القرآن أكثر من مرة إنما هو لتحقيق مقاصد وأهداف ومعان كثيرة، لتكون ماثلة أمام الأعين في كل جيل، ولكن تكرارها لم يكن مملًا وإنما كان بأساليب متنوعة تجتذب الأنظار، وتنبه العقول، وتطرد السامة والملل من نفس القارئ والسامع (1).
مع قصة أصحاب السبت:
وكان سكان هذه القرية من اليهود، وهم خليط من الصالحين والمصلحين، والفاسدين والمفسدين، وكان عملهم ورزقهم وكسبهم من صيد السمك، فحرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت لحكمة إلهية {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].
قال صاحب المنار: أباح الله تعالى لبني إسرائيل العمل في ستة أيام من الأسبوع، وحظر عليهم العمل في يوم واحد وهو يوم السبت، وفرض عليهم في هذا اليوم الاجتهاد في الأعمال الدينية إحياء للشعور الديني في قلوبهم، وإضعافًا لشرههم في جمع الحطام وحبهم للدنيا، فتجاوز طائفة منهم حدود الله في السبت واعتدوها، فكان جزاؤهم على ذلك جزاء من لم يرض نفسه بآداب الدين، وجزاء مثله هو الخروج من محيط الكمال الإنساني، والرتوع في مراتع البهيمية، كالقرد في نزواته، والخنزير في شهواته، وقد سجل الله تعالى عليهم ذلك بحكم سنة الفطرة، والنواميس التي أقام بها نظام الخليقة (2).
وجاء في الظلال: فأما الواقعة ذاتها فقد كان أبطالها جماعة من بني إسرائيل يسكنون مدينة ساحلية، وكان بنو إسرائيل قد طلبوا أن يجعل لهم يوم راحة يتخذونه عيدًا للعبادة ولا يشتغلون فيه بشؤون المعاش، فجعل لهم السبت، ثم كان الابتلاء ليربيهم الله ويعلمهم كيف تقوى إرادتهم على المغريات والأطماع، وكيف ينهضون بعهودهم حين تصطدم بهذه المغريات والأطماع، وكان ذلك ضروريًا لبني إسرائيل الذين تخلخلت شخصياتهم وطباعهم بسبب الذل الذي عاشوا فيه طويلًا، ولا بد من تحرير الإرادة بعد الذل والعبودية، لتعتاد الصمود والثبات، فضلًا على أن هذا ضروري لكل من يحملون دعوة الله ويؤهلون لأمانة الخلافة في الأرض.
وقد كان اختبار الإرادة والاستعلاء على الإغراء هو أول اختبار وجه من قبل إلى آدم وحواء، فلم يصمدا له واستمعا لإغراء الشيطان بشجرة الخلد وملك لا يبلى، ثم ظل هو الاختبار الذي لا بد أن تجتازه كل جماعة قبل أن يأذن الله لها بأمانة الاستخلاف في الأرض، إنما يختلف شكل الابتلاء، ولا تتغير فحواه، ولم يصمد فريق من بني إسرائيل- في هذه المرة- للابتلاء الذي كتبه الله عليهم بسبب ما تكرر قبل ذلك من فسوقهم وانحرافهم.
لقد جعلت الحيتان في يوم السبت تتراءى لهم على الساحل، قريبة المأخذ، سهلة الصيد، فتفوتهم وتفلت من أيديهم بسبب حرمة السبت التي قطعوها على أنفسهم، فإذا مضى السبت، وجاءتهم أيام الحل، لم يجدوا الحيتان قريبة ظاهرة، كما كانوا يجدونها يوم الحرم، وهذا ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكرهم به ويذكرهم ماذا فعلوا وماذا لاقوا: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163].
وهكذا راح فريق من سكان القرية التي كانت حاضرة البحر يحتالون على السبت، الذي حرم عليهم الصيد فيه، وروي أنهم كانوا يقيمون الحواجيز على السمك ويحوطون عليه في يوم السبت حتى إذا جاء الأحد سارعوا إليه فجمعوه، وقالوا: إنهم لم يصطادوه في السبت، فقد كان في الماء- وراء الحواجيز- غير مصيد، وراح فريق منهم آخر يرى ما يفعلون من الاحتيال على الله، فيحذر الفريق العاصي مغبة احتياله، وينكر عليه ما يزاوله من الاحتيال، بينما مضى فريق ثالث يقول للآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر: ما فائدة ما تزاولونه مع هؤلاء العصاة، وهم لا يرجعون عما هم آخذون فيه؟ وقد كتب الله عليهم الهلاك والعذاب؟ {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف: 164].
فلم تعد هناك جدوى من الوعظ لهم، ولم تعد هناك جدوى لتحذيرهم، بعد ما كتب الله عليهم الهلاك أو العذاب الشديد بما اقترفوه من انتهاك لحرمات الله: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164].
فهو واجب لله نؤديه: واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتخويف من انتهاك الحرمات، لنبلغ إلى الله عذرنا، ويعلم أن قد أدينا واجبنا، ثم لعل النصح يؤثر في تلك القلوب العاصية فيثير فيها وجدان التقوى.
وهكذا انقسم سكان الحاضرة إلى ثلاث فرق، أو ثلاث أمم، فالأمة في التعريف الإسلامي هي مجموعة الناس التي تدين بعقيدة واحدة وتصور واحد وتدين لقيادة واحدة، وليست كما هي في المفهوم الجاهلي القديم أو الحديث، مجموعة الناس التي تسكن في إقليم واحد من الأرض وتحكمها دولة واحدة، فهذا مفهوم لا يعرفه الإسلام، إنما هي من مصطلحات الجاهلية القديمة أو الحديثة، وقد انقسم سكان القرية الواحدة إلى ثلاث أمم: أمة عاصية محتالة، وأمة تقف في وجه المعصية والاحتيال وقفة إيجابية بالإنكار والتوجيه والنصيحة، وأمة تدع المنكر وأهله، وتقف موقف الإنكار السلبي ولا تدفعه بعمل إيجابي، وهي طرائق متعددة من التصور والحركة، تجعل الفرق الثلاث أممًا ثلاثًا، فلما لم يجد النصح، ولم تنفع العظة، وسدر السادرون في غيهم، حقت كلمة الله، وتحققت نذره.
فإذا الذين كانوا ينهون عن السوء في نجوة من السوء، وإذا الأمة العاصية يحل بها العذاب الشديد الذي سيأتي بيانه، فأما الفرقة الثالثة- أو الأمة الثالثة- فقد سكت النص عنها، ربما تهوينا لشأنها- وإن كانت لم تؤخذ بالعذاب- إذ أنها قعدت عن الإنكار الإيجابي، ووقفت عند حدود الإنكار السلبي، فاستحقت الإهمال وإن لم تستحق العذاب: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)} [الأعراف: 165- 166].
لقد كان العذاب البئيس- أي الشديد- الذي حل بالعصاة المحتالين، جزاء إمعانهم في المعصية- التي يعتبرها النص هي الكفر، الذي يعبر عنه بالظلم مرة وبالفسق مرة كما هو الغالب في التعبير القرآني عن الكفر والشرك بالظلم والفسق وهو تعبير يختلف عن المصطلح الفقهي المتأخر عن هذه الألفاظ إذ أن مدلولها القرآني ليس هو المدلول الذي جعل يشيع في التعبير الفقهي المتأخر- كان ذلك العذاب البئيس هو المسخ عن الصورة الآدمية إلى الصورة القردية، لقد تنازلوا هم عن آدميتهم، حين تنازلوا عن أخص خصائصها- وهو الإرادة التي تسيطر على الرغبة- وانتكسوا إلى عالم «الحيوان» حين تخلوا عن خصائص «الإنسان».
فقيل لهم أن يكونوا حيث أرادوا لأنفسهم من الانتكاس والهوان، أما كيف صاروا قردة؟ وكيف حدث لهم بعد أن صاروا قردة؟ هل انقرضوا كما ينقرض كل ممسوخ يخرج عن جنسه؟ أم تناسلوا وهم قردة؟ إلى آخر هذه المسائل التي تتعدد فيها روايات التفسير، فهذا كله مسكوت عنه في القرآن الكريم وليس وراءه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء، فلا حاجة بنا نحن إلى الخوض فيه.
لقد جرت كلمة الله التي يجري بها الخلق والتكوين ابتداء كما يجري بها التحوير والتغيير.. كلمة «كن» (3).
ففصل الله في أمر أهل هذه القرية، فأنْجى عباده المصلحين الغيورين على دينهم، وأنزل العقوبة على القوم الفاسقين المعتدين، عقوبة المسخ سماها الله: {عَذَابًا بَئِيْسًا}، مسخ الله أشكالهم من إنسان خلقه ربه في أحسن تقويم، إلى قرد مشين، هذا العقاب حصل بكلمة واحدة من الواحد القهار {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166]، فما أصبح هؤلاء المعتدين من ليلتهم إلا ولهم أذناب يَتَعاوونَ كما تتعاوى القردة، فنعوذ بالله من سخط الله وعذابه.
وقد ذكر أهل التفسير: أن الواحد من هؤلاء الممسوخين كان يعرف قريبه من الآدميين ويتمسحون بهم، والآدمي لا يعرف هذا الممسوخ، فيقول لهم الآدميون: ألم ننهكم عن انتهاك حرمات الله؟ فيشيرون برؤوسهم أن نعم، وهم يبكون.
وفي هذه القصة العظيمة دروس ورسائل:
قال الرازي: المقصود من ذكر هذه القصة أمران؛ الأول: إظهار معجزة محمد عليه السلام، فإن قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} كالخطاب لليهود الذين كانوا في زمان محمد عليه السلام، فلما أخبرهم محمد عليه السلام عن هذه الواقعة مع أنه كان أميًا لم يقرأ ولم يكتب ولم يخالط القوم؛ دل ذلك على أنه عليه السلام إنما عرفه من الوحي.
الثاني: أنه تعالى لما أخبرهم بما عامل به أصحاب السبت؛ فكأنه يقول لهم أما تخافون أن ينزل عليكم بسبب تمردكم ما نزل عليهم من العذاب، فلا تغتروا بالإمهال الممدود لكم، ونظيره قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47] (4).
1- رسالة العبرة والاتعاظ، لقد كان خبر أصحاب السبت عظة بليغة، وشاهدًا حيًا لأهل ذلك العصر، ولكل عصر بعده، فقصص القرآن ليست حوادث ماضية، بل سنن باقية، ولذا قال الله تعالى بعد خبرهم: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66].
وهذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم، فقد روى الطبري في تفسيره بسنده إلى عكرمة قال: دخلت على ابن عباس رضي الله عنهما والمصحف في حجره وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك، جعلني الله فداءك؟ قال: فقرأ: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف: 163]، إلى قوله: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165]، فقال ابن عباس: لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت، نخاف أن نكون مثلهم (5).
2- أهمية الاعتناء والتدبر في قصص بني إسرائيل، وكيف حلت بها العقوبات من ربهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذه الأمة ستتبع سنن من كان قبلها حذو القذة بالقذة، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبرًا شبرًا وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم»، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن» (6).
فإذا علمنا أن في الأمة من سيتبع سنن اليهود والنصارى، لزم أن نحذر من كل منكر ذمه الله وعابه على بني إسرائيل.
3- أن عقوبة الله على بني آدم تأتي جزاءً وفاقًا، والعذاب يكون من جنس العمل، فاليهود حرم الله عليهم الصيد يوم السبت، فتحايلوا ووضعوا الشباك يوم السبت، واستخرجوا الصيد يوم الأحد، ففعلهم في الظاهر حلال، لكنَّه في الحقيقة حرام، فالعبرة في الوقت الذي حصل فيه الصيد، لذا جاءت العقوبة من جنس هذا التحايل، فعاقبهم الله أنهم في الظاهر أشبه الحيوانات بالإنسان، وفي الباطن ليسوا من جنس الإنسان.
4- الحذر من التحايل على المحرمات، وهذه خصلة يهودية بامتياز، فكما تحايلوا في صيد السمك تحايلوا في شحوم الميتة، فإن الله عز وجل حرم عليهم شحوم الميتة، أذابوا الشحم حتى أصبح كالزيت، ثم باعوه فأكلوا ثمنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه» (7).
والتحايل على المحرم يكون بأمور: إما بتسميته بغير اسمه كتسمية الربا بالفوائد المالية، وكتسمية القمار بالمسابقات، وقد يأتي التحايل على الحرام بادعاء حله، وفي الحديث عند البخاري: «ليكونن من أمتي أقوام، يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف» (8)، ويدخل في هذا: البحث عن الأقوال الشاذة لأجل تحليل الحرام الذي تهواه النفس.
إن التحايل على تحليل الحرام لادعاء حله بعد ذلك أشد حرمة من مجرد فعل الحرام، وقد ذكر الله سبحانه عن بني إسرائيل أنهم أخذوا الربا، وأكلوا أموال الناس بالباطل، وأنهم صدوا عن سبيل الله كثيرًا، ومع ذلك لم يذكر أنه مسخهم بعد هذه الكبائر.
5- الحذر من المثبطين: إن في كل منكر يظهر، ويوجد من ينكر، تظهر طائفة ثالثة مثبطة، تهون من شأن الإصلاح وإنكار المنكر، ولسان حالهم: لن تصلح الكون، دع الناس وشأنهم، لن ينفع النصح.
فهذه الفئة صالحة في نفسها لكنها سلبية في الإصلاح والاحتساب، والذي يرفع العقوبات عن المجتمعات ليس كثرة الصلاة والصيام والصدقة، مع أنها أعمال صالحات مبرورات، وإنما يستدفع عقاب الله بالنهي عن المنكر والسوء، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث» (9)، بينما قال سبحانه في المصلحين الذين ينهون عن السُّوء: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].
6- إن وجود طائفة تأمر بالخير وتنهى عن السوء هو مكسب في كل مجتمع، فبهم تستدفع العقوبات، وبهم تدرك الأمة الخيرية {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
ثقافة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا راجت في المجتمعات وعز سوقها؛ فهنيئًا لتلك المجتمعات الأمان والبركات، فبإحياء هذه الشعيرة تموت البدع، وتصان الأعراض، وتحمى الحرمات، وتحاصر الجريمة، فيكون الأمن، وتصلح الأحوال، ويعيش المجتمع حياة طيبة ببركة إحياء هذه الشعيرة المباركة.
أما حينما يتخلى المجتمع عن هذه الشعيرة، فيطوى بساطها، ويقل أنصارها، فيندر الناصحون، ويشح المنكرون، فويل يومئذ للأخيار من الفجار، وويل للصالحين من سفه الجاهلين.
إذا تعطلت هذه الفريضة أو عطلت كثر المتلصصون على الأعراض، والمتجرئون على الحرمات، وراجت ثقافة التنكس الأخلاقي، وانتظر حينها وبعدها العقوبة أيًّا كان نوعها: أزمات اقتصادية، أو شيوع للظلم، أو حصول للفرقة والاختلاف والتنافر والتباغض {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65].
7- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما أمكن: ويكون ذلك باليد واللسان والقلب، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (10).
8- اعتزال أهل البدع والمعاصي: ويكون ذلك بعد نصحهم قدر الطاقة والاستطاعة، فإن لم يستجيبوا فلا نشاركهم في المجالس حتى لا يصيبنا العذاب إن حل بهم، روى البخاري عن ابن عمر رضى الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أنزل الله بقوم عذابًا، أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم» (11).
9- الله عز وجل يمهل ولا يهمل: وأن عذابه أليم، وأخذه شديد، فليحذر كل امرئ غضب الله، وليعلم أنه يعلم حاله ويرى مكانه، فاستحوا عباد الله من نظر الله إليكم لا يراكم على معصية فيغضب {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}.
10- عقوبة التحايل عظيمة: وهو أعظم من مجرد العصيان، لأنه استهانة بعظمة الله، واستهزاء وبحث عن حِيَلٍ للخروج من الطاعة واستحلال لما حرم الله تعالى.
11- يجب على الإنسان أن يعي أنه يوجد ارتباط وثيق بين طاعة الله ومعصيته من جهة، والكسب والرزق من جهة أخرى، فالذي يوسع عليه الله رزقه من الحرام، وييسر له طريقه للحرام إنما هذا اختبار منه تبارك وتعالى كي يرى اللهُ ماذا سيفعل.
12- الساكت عن الحق شيطانًا أخرس، فلا فائدة من السكوت السلبي؛ لأنه سيدمر العاصي والساكت على السواء، فالله تعالى عندما أحل بالعذاب على أصحاب السبت، نجى الناهين عن المنكر، وهلكت الفرقة العاصية، وأهمل الله الفرقة السلبية وسكت عنها في القرآن.
13- قله الحرام وكثرة الحلال في حياتنا، وفي هذه القصة المحرم يوم واحد، أما الحلال فباقي أيام الأسبوع، وهذا الأمر قد يطبق علينا نحن أيضًا، فقد أمرنا الله بترك العمل في وقتٍ ليس بالكثير وهو وقت صلاة الجمعة؛ فقد قال الله جل في علاه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].
14- إن هذه القصة تؤكد أهمية طاعة الله تعالى والامتثال لأوامره، وتحذر من عواقب المعصية والعصيان، وأن الله تعالى يمهل ولا يهمل، وأن عذابه شديد، وأن التوبة إلى الله تعالى باب مفتوح لكل من أخطأ (12).
-----------
(1) التفسير المنير للزحيلي (12/ 157- 160).
(2) تفسير المنار (1/ 284).
(3) في ظلال القرآن (3/ 1384- 1385).
(4) تفسير الرازي (3/ 540).
(5) تفسير الطبري (13/ 188).
(6) أخرجه البخاري (7320).
(7) أخرجه البخاري (2236).
(8) أخرجه البخاري (5590).
(9) أخرجه البخاري (3346).
(10) أخرجه مسلم (49).
(11) أخرجه البخاري (7108)، ومسلم (2879).
(12) قصة أصحاب السبت دروس وعبر/ المنتدى الإسلامي العالمي للتربية