صراع الأقران يطوى ولا يروى
الأقران هم أبناء الجيل الواحد والزمن الواحد، الذين تساووا في السن والعلم، فإن الإنسان مجبول على حب الظهور وخاصة على أبناء جنسه، فإذا رأى من في سنه قد فاقه في العلم والزهد والتفات أنظار الناس إليه؛ فإن شعور الغيرة يصيبه، فيقدح فيه من حيث يشعر أو لا يشعر حتى يصرف أنظار الناس إليه؛ فهـذا الكلام حقه أن يطوى أي لا يقبل ولا يذكر ولا يروى، أي لا يقال، وهذه قاعدة يقررها علماء السلف وجهابذة الجرح والتعديل.
يقول الذهبي: كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصرًا من العصور سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس (1).
وقال أيضًا: كلام الأقران إذا تبرهن لنا أنه بهوى وعصبية لا يلتفت إليه، بل يطوى ولا يروى, كما تقرر عن الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة، وقتالهم -رضي الله عنهم- أجمعين, وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين، والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف, وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا، فينبغي طيه وإخفاؤه؛ بل إعدامه، لتصفو القلوب، وتتوفر على حب الصحابة، والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء، وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف، العري من الهوى، بشرط أن يستغفر لهم، كما علمنا الله تعالى حيث يقول: {وَالَّذِيْنَ جَاؤُوَا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُوْلُوْنَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِيْنَ سَبَقُونَا بِالإِيْمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوْبِنَا غِلَّا لِلذِيْنَ آمَنُوا} [الحشر: 10] (2).
فلم يزل العلماء يخالف بعضهم بعضًا، وقد ذكر الإمام الذهبي عن الإمام أحمد بن حنبل قوله: لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء؛ فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضًا (3).
وهكذا يكون عظماء الرجال في اتساع صدورهم، وتقدير جهود غيرهم، والاشادة بفضلهم.
وما قد يصدر من بعضهم في حق بعض من كلام شديد فإنه لا يقتدى بهم فيه، ولا يروى بل يطوى.
وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض، فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة (4).
لا شك أن الأقران قد يحصل بينهم شيء من المنافسة وشيء مما يؤثر في الكلام والنقد، وكثير من ذلك يسببه وشاية الطلاب، فالطلاب في الغالب هم الذين يستوشون مثل هذه الأمور ويزيدون فيها ويكبِّرونها وإن كانت يسيرة، ثم ينشأ عن ذلك طَعْن القرين بقرينه، وأهل العلم الراسخون فيه كلامهم مقبول على كل حال، ولا يتصوَّر منهم أن تحملهم المعاصَرة والمقارنة على ألَّا يعدلوا، لكن فيما ذُكر وُجِد من الأقران مَن يطعن بعضهم في بعض، لا سيما في العصور المتأخرة، وكلام العلماء أن هذا الكلام يُطوى بحيث لا يُقبل كلام القرين في قرينه من باب أنه لا يَستند إلى حكم شرعي، بل قد يكون مثاره حض النفس، وحينئذٍ لا أثر له، ككلام السيوطي في السخاوي والعكس، وكلام مَن عُرف من المتأخرين أنهم طعنوا في أقرانهم، وعلى كل حال هذه أمور موجودة ومكتوبة في مؤلفاتهم، لكنْ نقلُها وإشاعتُها بين الناس وبين الطلاب مما لا ينبغي (5).
وينبغي لك أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين، وألا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض، إلا ببرهان واضح، ثم إن قدرت على التأويل وتحسين الظن فدونك، وإلا فأضرب صفحًا عما جرى بينهم، فإنك لم تخلق لهذا، فاشتغل بما يعنيك ودع مالا يعنيك، ولا يزال طالب العلم نبيلًا حتى يخوض فيما جرى بين السلف الماضين، ويقضى لبعضهم على بعض، فإياك أن تصغي إلى ما اتفق بين أبي حنيفة وسفيان الثوري أو بين مالك وابن أبي ذئب (6).
قال ابن عبد البر: فمن أراد أن يقبل قول العلماء الثقات الأئمة الأثبات في بعض فليقبل قول من ذكرنا قوله من الصحابة رضوان الله عليهم بعضهم في بعض، فإن فعل ذلك ضل ضلالًا بعيدًا وخسر خسرانًا، وكذلك إن قَبِل في سعيد بن المسيب قول عكرمة، وفي الشعبي وأهل الحجاز وأهل مكة وأهل الكوفة وأهل الشام على الجملة، وفي مالك والشافعي وسائر من ذكرناه في هذا الباب ما ذكرنا عن بعضهم في بعض، فإن لم يفعل ولن يفعل إن هداه الله وألهمه رشده، فليقف عند ما شرطنا في أن لا يقبل فيمن صحت عدالته، وعُلمت بالعلم عنايته، وسلم من الكبائر ولزم المروءة والتصاون، وكان خيره غالبًا وشره أقل عمله، فهذا لا يقبل فيه قول قائل لا برهان له به، وهذا هو الحق الذي لا يصح غيره إن شاء الله (7).
الأصل في أهل العلم عفة اللسان، وسلامة الصدر من الضغينة، وأنهم يتحابون ولا يتباغضون, ويتوالون ولا يتعادون، ولكن قد ينزغ الشيطان بينهم؛ إذ هم غير معصومين فيقع منهم طعن بعضهم في بعض لتأويل أو اجتهاد أو لغير ذلك، فالواجب حينئذ هو إحسان الظن بهم، وموالاتهم جميعًا، وطرح كلام بعضهم في بعض؛ فنستغفر لهم جميعًا، ونستفيد من علمهم جميعًا، ونغض الطرف عن زلاتهم ومساويهم، ونحمل ما يقع منهم من ذلك على أحسن المحامل، ونجتهد في إصلاح أنفسنا مخرجين أنفسنا من هذه العداوات والإحن التي لا يسألنا الله تعالى عنها، هذا هو المسلك السوي الذي يسلكه العامي وطالب العلم مع ما يقع من طعن العلماء المشهود لهم بالعلم والديانة بعضهم في بعض.
قال تاج الدين السبكي: فكثيرًا ما رأيت من يسمع لفظة فيفهمها على غير وجهها، فيغير على الكتاب والمؤلف ومن عاشره، واستن بسنته، مع أن المؤلف لم يُرِدْ ذلك الوجه الذي وصل إليه هذا الرجل، فإذا كان الرجل ثقة ومشهودًا له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أن يُحمل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تُعُوِّدَ منه، ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله (8).
مع التنبه إلى أن الفصل بين أهل العلم والقضاء بينهم ليس إلا لمن كان مثلهما أو أعلم منهما، وقد نقل في ترتيب المدارك عن الأبياني قوله: إنما يفصل بين عالمين من هو أعلم منهما، فمن ضبط هذه القواعد وأحكمها اشتغل بنفسه وإصلاحها، واستفاد من العلماء كلهم، وأعرض عما يقع بينهم من التطاعن ونحو ذلك، حاملًا لكلامهم على أحسن المحامل، ملتمسًا له أحسن وجوه التأويل (9).
واعلم أن هناك من الدعاة والعلماء المخلصين من يدعون إلى جمع الأمة في صف واحد، وفي لقاء واحد تلتقي فيه الأمة الإسلامية، تنبذ فيها خلافاتها وعصبياتها الجاهلية، وتعمل على محاسبة نفسها، ويسودها رأي الشورى والنصيحة، مع صدق النية وإخلاصها، ويكون مصدر ذلك هو الكتاب والسنة، وهذا جزء من التربية والبناء والتدريب والإعداد.
لقد استغل أعداء الإسلام هذه الخلافات بين علماء الأمة حتى أصاب هذه الأمة الفتور، وضاع كثير من جهد الصالحين خلال هذه الفترة الطويلة.
اعلم أن معركة الإسلام تبتدئ في داخل العالم والداعية المسلم نفسه، فإذا انتصر فيها مهد لانتصاره في ميدان أكبر وسيحقق النصر بجهده، ولكن الله هو الذي ينزل النصر على المؤمنين الصادقين.
ولكي نعالج الأمراض التي أصيبت بها الأمة الإسلامية من فرقة وصراع وولاء لغير الله وعصبيات جاهلية، هناك خطوات ينبغي السير من خلالها والعمل على تحصيلها:
1- التربية الإيمانية، واللجوء إلى الله تعالى، حيث أن العمل الصالح هو ثمرة الممارسة الإيمانية لمنهاج الله في الواقع البشري.
2- يجب أن نتخلص من الذنوب والخطايا ونتوب منها؛ حتى نبتعد عن الفرقة، ثم بعد ذلك نحرز النصر والتمكين.
3- ترك الوهن؛ لأن الوهن صفة من صفات الضعف، ولا بد من صبرٍ يقابل ذلك الابتلاء، صبر لا يعرف الوهن ولا الضعف ولا الاستكانة.
4- الثبات عند المحنة المزلزلة، فإن النصر مدخر لمن يستحقونه ولن يستحقه إلا الذين يثبتون ويصمدون حتى النهاية على البأساء والضراء، والذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة، فهؤلاء هم الذي يتطلعون للنصر.
5- إن النهج والتخطيط يجب أن ينطلقا من النية الخالصة لله سبحانه وتعالى، فيرسم الدرب الذي يسير عليه ويحدد الأساليب، ويطمئن إلى أن هذا الدرب مرتبط بمنهاج الله وقواعد الإيمان والتوحيد، وهذه هي مسئولية كل عالم وداعية (10).
ربما لم يكن مستغربًا أن نجد الظلم في الحياة الاجتماعية، من أجل الوصول إلى منصب، أو الحصول على مال، أو حتى المنافسة والتنافس بين الأقران، بل يصل الظلم بين الإخوة فيما بينهم وهم أبناء نسب واحد، فكل هذا مشاهد في دنيا الناس.
لكن الأغرب والأعجب أن يمتد ذلك إلى صراع العلماء، بحكم أن الواجب عليهم حماية الناس من شرور أنفسهم من خلال الدعوة والدلالة على عواقب الظلم الوخيمة، فنجدهم يمنع بعضهم بعضًا من نشر مذهبه مستقويًا بحظوة من السلطان، أو بنفوذ من الملك، أو يشي بعضهم على بعض؛ ليمنع أخاه العالم خيرًا يصله، حتى وإن لم يتحصل هو على ذلك الخير، فهذا هو الذي لا ينقضي منه الاستغراب والعجب.
لكنه للأسف، موجود في دنيا العلماء، وقد يتصور أنه أمر حادث، وأن العلماء السابقين ما كان بينهم مثل الذي يدور الآن بين بعض العلماء، لكن المتتبع لتاريخ الأمة ليجد في عصور خلفها مثل هذه المشاحنات والوشايات، والوقوف على بعض آثارها فيه عبرة للعلماء المعاصرين، أن يتجنبوا ما بينهم من شقاق، وأن ينظروا العهد الذي أخذه الله تعالى عليهم من نصرة الدين، بدلًا من الانشغال في خصومة فارغة.
ومما يروى في مشاحنة وصراع العلماء فيما بينهم ما قاله الفقيه الحنبلي ابن عقيل رحمه الله: رأيت الناس لا يعصمهم من الظلم إلا العجز، ولا أقول: العوام، بل العلماء! (11)، فابن عقيل يذهب إلى أنه لا يمنع العلماء من ظلم بعضهم بعضًا إلا أنهم عاجزون عن الظلم، فليس معهم من النفوذ والسلطان ما يتمكنون به من ظلم غيرهم، فإذا زال عجزهم، وأُعطوا القوة والقدرة إذا بهم يبغون في الأرض بغير الحق.
صور من صراع العلماء:
ولا شك أن أي نوع من الصراع في حياة البشر له صور متنوعة، وقد تختلف تلك الصور بين طائفة وأخرى، وقد تكون هناك صور مشتركة بين بني البشر.
ومن أهم تلك الصور في صراع العلماء ما يلي:
– الانتصار للمذهب: من أهم صور الصراع بين العلماء وبغيهم على بعض الانتصار للمذهب والاستقواء بالسلطة في سبيل ذلك، فقد كان ابن يونس أشهر فقهاء الحنابلة في عصره وزيرًا للخليفة الناصر لدين الله، فكان الحنابلة يستقوون بمكانة وزيرهم عند الخليفة على فقهاء الشافعية، فمنعوهم من نشر مذهب الشافعية، بل حتى منعوهم من ممارسة مذهبهم، حتى منعوهم من الجهر بالبسملة، والقُنوت في صلاة الفجر، كما روى ذلك ابن عقيل (12).
– هدم مسجد المخالفين: بل وصل ظلم العلماء والتعصب بين المذاهب إلى حد إحراق مسجد المذهب الآخر، فتروي كتب التاريخ أن الشافعية بنوا بمَرْو جامعًا مشرفًا على جامع الحنفية، فتعصب شيخ الإسلام بمَرْو، وهو مقدَّم الحنابلة بها، قديم الرياسة، وجمع الأوباش فأحرقه.
– التسبب في سجن المخالفين: ومن صور ظلم العلماء أن يتسبب بعضهم في سجن بعض، فإنه لما أحرق الحنابلة مسجد الشافعية ودالت الأيام، وجاء وزير متعصب للشافعية، وهو نظام الملك وزير السلطان خُوارزمشاه تكش، استطال أصحاب الشافعي على الحنابلة استطالة السلاطين الظلمة، فاستعدَوا بالسجن، وآذَوا العوام بالسعايات، والفقهاء بالنبذ بالتجسيم.
قال ابن عقيل: فتدبرت أمر الفريقين، فإذا بهم لم يعمل فيهم آداب العلم، وهل هذه إلا أفعال الأجناد، يَصُوْلُون في دولتهم، ويلزمون المساجد في بطالتهم (13).
– الاستقواء بالسلطة على صحة الرأي: ومن أعجب صور الصراع بين العلماء أن يستقوي أحدهم بسلطة الدولة في صحة رأيه، حتى لا يخالفه في ذلك أحد، يقول القاسمي: تقرأ في ترجمة علاء الدين العطار تلميذ الإمام النووي، أنه مع زمانته، وكونه صار حِلْس بيته، يتأبط دَائِمًا وثيقة أحد القضاة بصحة إيمانه وبراءته من كل ما يُكَفِّرُهُ، ولقد أريقت دماءٌ مُحَرَّمَةٌ، وعذبت أبرياء بالسجون والنفي والإهانات باسم الدين، وروعت شيوخ وشبان أَعْوَامًا وسنين (14).
– حمل الناس على الإفتاء برأي المذهب: ومن صور التعصب بين العلماء أن يحمل العلماء الذين لهم سلطة علماء المذاهب الأخرى على الإفتاء برأيهم هم، فقد حمل قاضي مكة سليمان بن حرب على الحجر على بعض علماء الرأي من الفتوى، وما ذلك إلا من سلطة دولة الأثريين وقتئذ، وقيامهم بالتشديد ضد غيرهم، ونبذ التسامح الذي كان عليه الصحابة والتابعون في أن يفتي كل بما يراه بعد بذل جهده في مسألة دون تعنيف أو اضطهاد.
– تشويه الصورة والسب على المنابر: بل وصل الاستعلاء والخصومة إلى حد السب المنهي عنه شرعًا، بل والأعجب أنه سب على المنابر!! ومثال هذا التعصب ما وقع بين الحنفية الماتريدية والشافعية الأشعرية من فتن وبلاء، فقد حصلت فتنة، فر من أجلها إمام الحرمين من العراق إلى الحجاز حينما دالت دولة الحنفية وثارت عصبيتهم على الشافعية والأشعرية.
قال التاج السبكي في طبقاته، في ترجمة الإمام أبي سهل الشافعي: إنه لما بلغ من سمو المقام أن أرسل إليه السلطان الخلع، وظهر له القبول عند الخاص والعام حسده الأكابر وخاصموه، فكان يخصمهم ويتسلط عليهم.
قال: فبدا له خصوم واستظهروا بالسلطان عليه وعلى أصحابه.
قال: وصارت الأشعرية مقصودين بالإهانة والمنع عن الوعظ والتدريس وعزلوا من خطابة المجامع.
قال: وتبع من الحنفية طائفة أشربوا في قلوبهم الاعتزال والتشبع، فخيلوا إلى أولي الأمر الإزراء بمذهب الشافعي عمومًا، وبالأشعرية خصوصًا.
قال: وهذه الفتنة طار شررها وطال ضررها وعظم خطبها، وقام في سب أهل السنة خطيبها، قال: فإن هذا الأمر أدى إلى التصريح بلعن أهل السنة في الجُمع، وتوظيف سبهم على المنابر، وصار لأبي الحسن الأشعري بها أسوة بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، واستعلى أولئك في المجامع، فقام أبو سهل في نطر السنة قيامًا مأزوًا، وتردد إلى العسكر في ذلك ولم يفد، وجاء الأمر من قبل السلطان (طغرل بك) بالقبض على الرئيس الفراتي والأستاذ أبي القاسم القشيري، وإمام الحرمين وأبي سهل بن الموفق ونفيهم ومنعهم عن المحافل (15).
وقد نشأ عن هذا الخلاف الطعن بالتفكير والتضليل، واستمر ذلك إلى أن اشتد أزره فى القرن الثامن للجهرة.
علماء ربانيون:
غير أن سوق مثل هذه الأمثلة لا يعني أن هذه تمثل عموم الصورة بين العلماء، فلم تخل الأمة من علماء ربانيين، ظلموا فسامحوا، وقدروا فغفروا، فقد شهد التاريخ من أدَّبهم العلم وانتفعوا به، وارتفعوا على هذه الرواسب النفسية، فكانوا من العلماء العاملين.
فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية يقول بعدما تعرض له من مظالم، معظمها راجع إلى حسد بعض العلماء له، يقول، وقد حانت له فرصة الانتقام ممن ظلمه، يقول: أخرج السلطان من جيبه فتاوى لبعض الحاضرين في قتله واستفتاه في قتل بعضهم.
قال: ففهمت مقصوده وأن عنده حنقًا شديدًا عليهم لما خلعوه وبايعوا الملك المظفر ركن الدّين بيبرس الجاشنكير، فشرعت في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك، أما أَنا فهم فِي حل من حَقي وَمن جهتي، وسكَّنت مَا عِنْده عَلَيْهِم.
فكان القاضي زيد الدين ابن مخلوف قاضي المالكية يقول بعد ذلك: ما رأينا أتقى من ابن تيمية لم نبق ممكنا في السعي فيه ولما قدر علينا عفا عنا (16).
ويحكي شرف الدين عن ابن تيمية أيضًا فيقول: إن جماعة بجامع مصر قد تعصبوا على ابن تيمية وتفردوا به وضربوه، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وكان بعض أصحاب الشيخ جالسًا عند شرف الدين قال: فقمت من عنده وجئت إلى مصر، فوجدت خلقًا كثيرًا من الحسينية وغيرها رجالًا وفرسانًا يسألون عن الشيخ، فجئت فوجدته بمسجد الفخر كاتب المماليك على البحر، واجتمع عنده جماعة وتتابع الناس، وقال له بعضهم: يا سيدي قد جاء خلق من الحسينية ولو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا! فقال لهم ابن تيمية: لأي شيء؟ قال: لأجلك! فقال لهم: هذا ما يحق! فقالوا: نحن نذهب إلى بيوت هؤلاء الذين آذوك فنقتلهم ونخرب دورهم؛ فإنهم شوشوا على الخلق، وأثاروا هذه الفتنة على الناس، فقال لهم: هذا ما يحل، فقالوا: فهذا الذي قد فعلوه معك يحل! هذا شيء لا نصبر عليه ولا بد أن نروح إليهم ونقاتلهم على ما فعلوا.
والشيخ ينهاهم ويزجرهم، فلما أكثروا في القول، قال لهم: إما أن يكون الحق لي، أو لكم، أو لله، فإن كان الحق لي فهم في حل منه، وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني ولا تستفتوني فافعلوا ما شئتم، وإن كان الحق لله فالله يأخذ حقه إن شاء كما يشاء.
قالوا: فهذا الذي فعلوه معك هو حلال لهم؟ قال: هذا الذي فعلوه قد يكونون مثابين عليه مأجورين فيه! قالوا: فتكون أنت على الباطل وهم على الحق، فإذا كنت تقول إنهم مأجورون فاسمع منهم ووافقهم على قولهم، فقال لهم: ما الأمر كما تزعمون فإنهم قد يكونون مجتهدين مخطئين ففعلوا ذلك باجتهادهم والمجتهد المخطئ له أجر (17).
وأولئك العلماء الذين بغى بعضهم على بعض، لم يكن يعوزهم العلم، بل كان ينقصهم الانتفاع بعلمهم، والعمل به! فما أحوج علماء اليوم إلى الأخلاق قبل العلم، وإلى تقوى الله تعالى ووعظ أنفسهم قبل وعظ الناس، وما ضاعت الأمة يوم ضاعت إلا حين ترك علماؤها العمل بما علموا، ولن تعود الأمة إلى بعودة العلماء إلى منهج الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم (18).
الحسد والغيرة والمنافسة:
الحسد هو: أن تكره النعمة التي أنعم الله عز وجل بها على غيرك، وتحب زوالها عنه، وهو على أربعة مراتب:
المرتبة الأولى: أن تحب زوال النعمة عن أخيك، وإن لم تصل إليك، وهذا غاية الخُبْث.
قال ابن الجوزي: الحسد هو تَمَنِّي زوال النعمة عن المحسود وإن لم تصر للحاسد (19).
الثانية: أن تُحِبَّ زوال النعمة عن أخيك؛ لتحصلَ أنت عليها.
الثالثة: أن تُحِبَّ أن تحصلَ على النعمة التي حصلَ أخوك عليها، فإن عجزتَ عن الحصول عليها، أحببتَ زوالها عنه؛ لئلا يظهر التفاوت بينكما.
الرابعة: أن تُحِبَّ الحصولَ على مثل هذه النعمة، فإن عجزتَ عن الحصول عليها، فلا تحب أن تزول عنه، وهذه تسمى غِبطة، وقد تُسمَّى منافسة.
والمراتب الثلاث الأولى مذمومة، والرابعة معفو عنها إن كانت المنافسة في أمرٍ من أمور الدنيا، ومندوبٌ إليها إن كانت المنافسة في أمرٍ من أمور الدين.
وقد تُسمَّى المنافسة في الحصول على الشيء: حسدًا، وقد يُوضَع أحد اللفظين موضع الآخر، ولا مُشَاحَّة في الاصطلاح، ولا حجر في الأسامي بعد فهم المعاني، وعليه يُحْمَلُ حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالًا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» (20).
ويقول الإمام ابن القيم: يعني: أنه لا ينبغي لأحدٍ أن يغبط أحدًا على نعمة ويتمنى مثلها إلا أحد هذين؛ وذلك لما فيهما من منافع النفع العام والإحسان المتعدي إلى الخلق؛ فهذا ينفعهم بعلمه، وهذا ينفعهم بماله، والخلق كلهم عيالُ الله، وأحبُّهم إليه أنفعُهم لعياله، ولا ريب أن هذين الصنفين من أنفع الناس لعيال الله، ولا يقوم أمر الناس إلا بهذين الصنفين، ولا يعمر العالَمُ إلا بهما (21).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: الحسد مرضٌ من أمراض النفس، وهو مرضٌ غالب، فلا يخلص منه إلا القليل من الناس؛ ولهذا يُقال: ما خلا جسدٌ من حسدٍ، لكن اللئيم يُبْديه، والكريم يخفيه (22).
يقول الحافظ ابن رجب: والحسد مركوزٌ في طباع البشر، وهو أن الإنسان يكره أن يفوقه أحدٌ من جنسه في شيء من الفضائل، ثم ينقسم الناس بعد هذا إلى أقسام: فمنهم من يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل، ثم منهم من يسعى في نقل ذلك إلى نفسه، ومنهم من يسعى في إزالته عن المحسود فقط من غير نقل إلى نفسه، وهو شرُّهما وأخبثهما، وهذا هو الحسد المذموم المنهي عنه (23).
ولذلك وردت آثار كثيرة تذم الحسد وتحذر منه، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا فتحت عليكم فارس والروم، أي قوم أنتم؟»، قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: نقول كما أمرنا الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو غير ذلك! تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون -أو نحو ذلك- ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين، فتجعلون بعضهم على رقاب بعض» (24).
وقد تنبَّأ النبي صلى الله عليه وسلم بظهور الحسد وفُشُوِّه في أمته، فقال: «سيصيب أمتي داءُ الأمم»، قالوا: وما داء الأمم؟ قال: «الأشر، والبطر، والتكاثر، والتنافس في الدنيا، والتباعد، والتحاسد، حتى يكون البغي والهرج» (25).
وقال صلى الله عليه وسلم: «دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشَّعَرَ، ولكن تحلق الدِّين، والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بشيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم: أفشُوا السلام بينكم» (26).
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أمَّتَه عن الحسد، فقال: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذَبُ الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا» (27).
والعلماء لا يحسدون بالمعنى المذموم البغيض، وإن كان ينشأ بينهم نوع من التنافس، قد يجُرُّ إلى قليلٍ من الحسد، فينشأ عنه كلام سوء، وخروج عن الجادة.
قال الغزالي: والحسد يكثر بين أصحاب الحرف والمهن المتماثلة، وأرباب المقاصد المشتركة؛ ولذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد، والعابد يحسد العابد دون العالم، والتاجر يحسد التاجر...، وكذلك الشجاع يحسد الشجاع ولا يحسد العالم؛ لأن مقصده أن يُذْكَر بالشجاعة ويشتهر بها، وينفرد بهذه الخصلة ولا يزاحمه العالم على هذا الغرض، وكذلك يحسد العالمُ العالمَ ولا يحسد الشجاع، ثم حسد الواعظ للواعظ أكثر من حسده للفقيه والطبيب؛ لأن التزاحم بينهما على مقصود واحد أخص (28).
وفي القرآن الكريم: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].
والفرق بين المنافسة والحسد: أن المنافسة: هي المبادرة إلى الكمال الذي تشاهده في غيرك لتنافسه فيه لتلحقه أو تجاوزه، فهو من شرف النفس، وعلو الهمة، وكبر القدر، والحسد مرضٌ يدل على خسة في النفس، وعدم سلامة في القلب.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: والحسد خُلُق نفس ذميمة، وضيعة ساقطة، ليس فيها حرص على الخير، فلعجزها ومهانتها تحسد مَن يكسب الخير والمحامد ويفوز بها دونها، وتتمنَّى أنْ لو فاته كسبُها؛ حتى يساويها في العدم (29).
وقد تكون الغَيْرة غير الحسد، ولكنها فرع منه على أي حال، فالغيرة تدفع إلى التنافس وطلب الكمال، كما تؤدي إلى صون العلم عن غير أهله، والمحافظة عليه من الابتذال، ولعل هذه الغيرة هي المعنيَّة في قول أبي أسامة -حماد بن أسامة بن زيد-: إني لأغار على الحديث كما يغار على الجارية الحسناء (30).
والكلام المبنيُّ على الحسد منتشرٌ وشائعٌ حتى بين العلماء؛ ولذلك قال الإمام المناوي: من الصبر الحسن التصبرُ على ما ينشأ عن الأقران وأهل الحسد، سيَّما ذوي البذاءة منهم، ووقوع هؤلاء في الأعراض، ونقصهم لما يهمهم من الأمراض، وذلك واقعٌ في كل زمن، وحسْبُك قول الشافعي في عقود الجمان في الذب عن أبي حنيفة النعمان: كلام المعاصرين مردود، غالبُه حسد، وقد نَسَبَ إليه جماعةٌ أشياءَ فاحشة لا تصدر عمن يوصف بأدنى دين، وهو منها بريء، قصدوا بها شينه، وعدم انتشار ذكره (31).
ولذلك يجب البحث والتحرِّي، والدقة والتروِّي، وعدم التسرُّع في قبول كلام الأقران بعضهم في بعض، خاصة إذا ظهرت قرينة تؤكد صدوره بسبب الحسد أو المنافسة؛ لأن المنافسة والرغبة في التقدم وسبق الأقران - قد تؤدي بصاحبها إلى نوعٍ من الحسد، وهذا لا يسلم منه أحد (32).
------------
(1) سير أعلام النبلاء (المقدمة/ 60).
(2) سير أعلام النبلاء (8/ 276).
(3) سير أعلام النبلاء (11/ 371).
(4) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1091).
(5) من كلام الدكتور عبد الكريم الخضير على موقعه الرسمي.
(6) الرفع والتكميل (ص: 425).
(7) جامع بيان العلم (2/ 1117).
(8) قاعدة في الجرح والتعديل (ص: 53).
(9) موقف طالب العلم من كلام العلماء بعضهم في بعض/ إسلام ويب.
(10) الخلاف بين علماء الأمة نموذج لما تعيشه الأمة من صراع وفرقة/ إسلام ويب.
(11) شرح الإقناع (ص: 1309).
(12) انظر: كشاف القناع عن متن الإقناع (1/ 479).
(13) انظر: حاشية الخلوتي على منتهى الإرادات (1/ 418).
(14) رسالة الجرح والتعديل (ص: 40).
(15) الجرح والتعديل للقاسمي (ص: 34).
(16) العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ص: 299).
(17) العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ص: 303).
(18) صراع العلماء أفسد الأمة/ في إسلام أون لاين.
(19) كشف المشكل من حديث الصحيحين (1/ 288).
(20) أخرجه البخاري (7529)، ومسلم (558).
(21) طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 537).
(22) أمراض القلوب وشفاؤها (ص: 21).
(23) جامع العلوم والحكم (ص: 327).
(24) أخرجه مسلم (2962).
(25) أخرجه الحاكم في المستدرك (7311).
(26) أخرجه الترمذي (2518).
(27) أخرجه البخاري (6064)، ومسلم (2564).
(28) إحياء علوم الدين (3/ 194).
(29) الروح (ص: 252).
(30) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/ 206).
(31) فيض القدير (4/ 234).
(32) أسباب كلام الأقران بعضهم في بعض/ شبكة الألوكة.