logo

الداعية بين الشمول والتخصص


بتاريخ : الأحد ، 22 شوّال ، 1441 الموافق 14 يونيو 2020
بقلم : تيار الاصلاح
الداعية بين الشمول والتخصص

يتميز الإسلام بأنه نظام شامل ينتظم كل مناحي الحياة؛ فقد قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]؛ فالقرآن هو تنزيل رب العالمين؛ ولذلك جاء تبيانًا لكل شيء؛ فهو يجمع بين الدنيا والآخرة، بين الروحانية والمادية، بين الواقعية والمثالية؛ فهو يدير شئون الفرد وشئون الأسرة وشئون المجتمع، كما أنه نظام سياسي، ومنظومة اجتماعية، ومؤسسة اقتصادية، كما أنه قبل كل هذا صلة بين العبد وربه؛ يقول تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].

ولقد تعددت المحاولات لتفريغ الإسلام من هذه الميزة الكبرى التي تعد مصدر الحياة والانتشار له، واختلفت الأغراض من وراء هذه الحملات؛ فمنها ما كان مقصده خالصًا وسليمًا؛ ولكن كان عنده عوار في الفهم، فتصور الإسلام على أنه عبادة بين جدران المحراب فقط، ومنها ما كان عن سوء نية وخبث طوية؛ فجاءت محاولات من أعداء الدين الذين سعوا إلى تفكيك الإسلام وتجزئته، فهم يريدونه دينًا لاهوتيًا محصورًا في ضمير الفرد فقط، ويريدونه عقيدة بلا شريعة، أو عبادة بلا معاملات.

ونظرًا لخطورة الأمر أصبح حريًا بالدعاة إلى الله تعالى في هذا الوقت أن يعوا هذه الدسائس جيدًا، وأن يكونوا على بصيرة من أمرهم وهدى من ربهم؛ فلا تغيب عن عقيدتهم شمولية الإسلام وانتظامه كل مظاهر الحياة كما أراده الله رب العالمين.

والداعية المتبحّر في تخصصه، لا يعني هذا عدم اطلاعه على غير فنه؛ فإن باب العلم أوسع من أن يُحجّر؛ بل إني أرى من الواجب عليه أن يكون بدراية بالواقع ومتطلباته، وأن يُلمّ بنتف من فنون أخرى، وأن يدرك قشورها ومفاتيحها مواكبة وثقافة واطلاعًا، فديننا الإسلامي دين الشمول؛ فيجب علينا أن نعيش الحياة بتكامل، فالقاعدة تقول: تعلّم شيء عن كل شيء تصبح مثقفًا، وتعلّم كل شيء عن شيء تصبح عالمًا؛ لأن الواقع يجعل موقفنا من التخصص أن نستزيد ونتعلم ونتابع كل مستجد مع التقنيات المستمرة والعقول المفكرة، وأن نتعلم لنعمل وننتج ونرتقي بأمتنا (1) .

إن الترهل الذي تثاقل بأمتنا منذ زمن من أنجع أدويته التخصص، ولذا علينا أن نرحل من العموم إلى الخصوص، ويكون ذلك فيما يحتاجه الناس فيداوي عللهم ويشفي أسقامهم، فبيئة المجتمع هي أكثر ما يجعلنا نختار الأفضل عندما نقف حائرين بين خيارات تخصصية متعددة، فكم ممن يحمل درجات علمية عالية ثم للأسف أنها مريخية ويشتاظ غضبًا ألا يُأبه له.

لا بد أن يكون عند أرباب الدعوة قدرة على استثمار الطاقات، ومعرفة بالاحتياجات، ليس من الحكمة بحال من الأحوال ولا من الفطنة بسبب ولا بنسب أن نطلب من كل الناس أن يكونوا خطباء مفوهين، أو كتاب مبدعين، أو علماء فقهاء، بل ينبغي أن نعرف أن هناك حاجات كثيرة، وأن هناك طاقات معينة لا بد أن توجد، وأن توضع في مثل هذه الحاجات، ولا بد أن نعرف أن الاحتياجات هي احتياجات الحياة كلها، فالأمة المسلمة تحتاج إلى الذي يُجوّد الخط، كما تحتاج الذي يصلح البناء، كما تحتاج إلى الذي يكون ممن يكثر سواد الأمة فحسب، كل يمكن أن يؤدي دورًا، أما إذا قلنا: ليس إلا هذه الأدوار فإننا سنخسر كثيرًا من الطاقات .

أمتنا في أمس الحاجة إلى المتخصصين فهذا بعلمه الشرعي، وهذا في دأبه على تربية الأجيال، وهذا بفقهه الدعوي، وذاك بطبه، والآخر بإجادته للعلوم البحتة، وسادس بإعلامه الإسلامي المتزن، وهذا بأدبه ونثره وشعره، وآخر بذوقه الفني الراقي، وذاك في علوم الإدارة الحديثة، وعاشر في الجمعيات الخيرية ..... وهكذا، كل على ثغر يعمل بجد دائب، وتخصص عميق، مع فقه للواقع ودراية بنتف من شتى الفنون، وإجادة تامة للعلم التخصصي؛ حتى يضحى متمرسًا عليه ومرجعًا ثقافيًا فيه.

الاعتقاد لا الممارسة:

المطلوب من الداعية أن يعتقد بشمولية الإسلام، ويؤمن بها إيمانًا لا تزحزحه الجبال الرواسي، ويسير بهذه العقيدة ينير بها طريق دعوته على هدى من ربه.

ولكن المطلوب في هذا الجانب هو الاعتقاد والإيمان فقط وليس الممارسة؛ فبعض الدعاة يحاولون الجمع بين كل ألوان الدعوة؛ فهو في المسجد يخطب، وفي السياسة يشترك، وفي الأعمال الاجتماعية يتواجد، وفي الثقافة يكتب، وهكذا محاولًا أن يكون داعية.

والحق أن هذا الداعية مأجور على نيته إن أخلص فيها لله تعالى، ولكن يبقى محل نظر من حيث تأثيره الدعوي؛ ذلك أن الدعوة فن، وتحتاج إلى فنان متخصص في أحد ألوانها؛ فهي لا تقبل من يلعب على كل الحبال أيا كانت مهاراته وإمكانياته؛ لأن تأثير ذلك يكون سلبيًا على الدعوة وعلى الداعية.

وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم همتهم العالية وإيمانهم المتوهج المستمد حرارته من الوحي الغض المباشر من رب السماوات؛ رغم ذلك كان لكل منهم تخصصه الذي يجيده، وفنه الذي يبرز فيه؛ فها هو خالد بن الوليد يحصد رقاب الأعداء في ساح الوغى، وها هو حسان بن ثابت يبز الشعراء وينافح عن دعوته بلسانه، وها هو أبو هريرة يلازم الرسول الكريم وينبغ في حفظ أقواله ورواية أحاديثه، حتى وصلت إلينا الدعوة في صورتها النهائية متكاملة شاملة لكل التخصصات والفنون؛ فجاءت كعروس الحسن في أبهى حلة.

دور الداعية تجاه شمولية الدعوة:

وإزاء هذا الأمر فإن دور الداعية تجاه شمولية الدعوة يمكن أن يتحدد في النقاط التالية:

- الإيمان الجازم والاعتقاد الراسخ بأن الإسلام دين يشمل كل مناحي الحياة.

- تبصير الناس وتعريفهم بهذه الشمولية، وشرح كيفية ترجمتها إلى سلوكيات في حياة الناس.

- إنزال هذا الفهم وهذه الاعتقاد على الواقع المعيش؛ بحيث يراعي هذه الداعية حكم الإسلام ومقاصده في كل مناحي حياته؛ فتكون الشمولية نموذجًا مجسدًا فيه.

- معرفة الأغراض المضادة والمتآمرة على الإسلام بحصره في زاوية ضيقة، وتبصير الناس بمخاطرها.

آثار شمولية الداعية في الممارسة:

إن الداعية الذي يتصدى لكل المهام الدعوية، ويريد أن يمارس كل صنوف الدعوة، ويكون له نصيب في كل نشاط دعوي يجني على نفسه ودعوته الكثير من الأضرار والنتائج السلبية مثل:

- تعرضه للعُجب بالنفس وتسلل الرياء لقلبه دون أن يشعر.

- تأثر الجانب الإيماني لديه، وتضييع حق ربه عليه؛ بسبب كثرة انشغالاته ومواعيده الإدارية.

- تشتته بين الأنواع الدعوية المختلفة وعدم إتقانه أيًا منها؛ وهو ما يظهر دعوته بصورة شائنة شائهة.

- إضاعة الكثير من الثمار التي كانت ستجنيها الدعوة لو أنه ركز في تخصصه الذي يجيده؛ فمثلًا كم من علماء أجلاء ومفكرين فضلاء ضاع جهدهم وفكرهم بانشغالهم ببعض الأمور السياسية مثلًا، أو الأعمال العامة.

- إنفاقه للكثير من الجهد والوقت للقيام بكل هذه المهام؛ وهو ما يكون له أثره على نفسه -فربما يصاب بالفتور- وعلى أسرته –فهو حتما سيضيع حقهم عليه-؛ فالمنبتّ لا أرضًا قطع (تحقيق الهدف) ولا ظهرًا (جسمه وأهله) أبقى.

- عدم مقدرته على تنمية ذاته فكريًا وحركيًا ومهاريًا، واعتماده على مخزونه القديم الذي هو عرضة للنفاد.

- سد الباب على الآخرين؛ فربما يضيع الفرصة على من هو أكفأ منه في مكان معين، وأيضًا يضيع الفرصة على تخريج كوادر جديدة في مختلف التخصصات الدعوية (2).

لو نظرنا إلى أهم مقومات الداعية الحقيقي، وأهم وسيلة في تحقيق النجاح للداعية، وأهم ما يجب أن يتحلى به في الوصول إلى عقول وقلوب الناس؛ لأدركنا دون عناء أو إمعان نظر؛ أن الداعية الحقيقي تلزمه القريحة الفطرية والذكاء الذي يهبه الله لمن يشاء من عباده، ثم التحلي بعمق التفكير الذي يأتي بكثرة المطالعة المركزة مع تعلم حسن اقتباس الحكمة من أفواه أهلها.

ويمكن أن نقول أن الداعية هو الذي يمتلك المقدرة على أن يستشهد بأصل من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوظف الشعر والأدب والحكمة والأمثال والقصص في بيان وشرح هذين الأصلين كأدوات لترسيخ المفاهيم وتوسيع للتصورات.

إن قضايا الدعوة حياة متحركة ذات صلة مباشرة بالواقع اليومي المعاش، ولذلك لا يكفي أن ينحصر فقه الدعوة في العلوم الشرعية المدونة في أمهات كتب الفقه، وإنما يجب أن يضيف الداعية إلى تحصيله العلمي علم أخر وهو علم فقه الواقع الذي يعيشه وتعيشه الدعوة، فإن نجاح الداعية لا يتحقق إلا إذا كان يعيش الواقع ويتعايش مع هذا الواقع ويتحرك من خلاله.

ولا بد له من معرفة واقعه من كافة جوانبه، ودراسة نفسيات أفراد المجتمع الذي يعيش فيه –محيط ومجال الدعوة– ويمارس فيه الدعوة ليعرف مدى تأثيره وأثر الدعوة سلبًا أو إيجابًا ليدرك ما وصل إليه من قبول وانتشار وتأثير من عدمها.

أي لا بد أن يكون للداعية بصيرة نافذة يدرك بها أثر دعوته وانتشارها بين الناس ومدى قبولهم لها من عدمه، فإن رأى الأثر يعتريه الضعف أو عدم القبول عليه أن يبحث عن أسبابه ويقوم بمعالجتها، وإن رأى القبول استمر في مسيرته الدعوية ورسالته الربانية التي نذر نفسه لها.

ولا بد لفقيه الدعوة أن يعرف واقع الناس وتعقيدات الحياة والقوانين الوضعية السائدة في المجتمع محل الدعوة التي توجب على الناس أمورًا لا يرغبونها أو يطيعونها مكرهين بحكم الواقع، ولا بد له من معرفة أعراف الناس وسلوكهم الأخلاقي والسياسي وفروق هذه الأعراف بين المدن والمناطق والدول.

ثم لا بد للداعية من أن يعاني قضايا الدعوة كداعية منتسب ينفعل ويتفاعل مع الأحداث وتفاعلات المجتمع من أفراح وأحزان، ويكون وراثًا لتجربة الأجيال السابقة من رجالات الدعوة المعتبرين الذين كان لهم السبق بالقبول والتأثير، فقضايا الدعوة لا يصلح لها إلا الداعية الحاذق الماهر، ولا يصلح لها تقليدي لم يمارس عمليًا فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهما بلغ من تقوى وسعة علم.

إن تجميع النصوص المتشابهة عن علماء وفقهاء سابقين لا يكفي لبروز داعية جديد معاصر يتناول معالجة قضايا المستحدثة والمتجددة؛ بل عليه أن يتسلح بخلفية ثقافية عامة شاملة عريضة الامتداد عميقة الأبعاد تطلعه على قصص التاريخ، وخواطر الأدباء ومثالية الفلاسفة، ومناهج المنطقيين، وأرقام الإحصائيين، وحروف اللغويين، بحيث يتولد عنده رادع يمنعه من الغلو أو الشذوذ أو المبالغة، ويكسبه أسلوب الرفق الجميل دون تكلف أو نزول في التسهيل، ولا يبالغ في الاستطراد، ويحرص على التذكير بمقاصد الشرع، ويدعوا إلى جلبها وتحقيقها في منحى صاعد دومًا نحو العزة التي تليق بكل مسلم مؤمن موحد الله تعالى.

وعلى الداعية أن يدرك أن الشمول الدعوي لا يناله مستعجل، ولا منعزل عن واقع مجتمعه، ولا متجرد للفقه؛ بل الدعوة هي صناعة الحكيم الصابر المتأني المتنوع الثقافات، صاحب العاطفة الذواق المتلطف، الذي يمتلك خاصية القياس على الأقرب وعلى الأشباه، العارف بمكمن الداء، الحاذق في وصف الدواء.

يصدق فيه قول الخطيب البغدادي: ينبغي أن يكون قوي الاستنباط، جيد الملاحظة، رصين الفكر، صحيح الاعتبار، صاحب أناة وتؤدة، وأخا استثبات وترك عجلة، بصيرًا بما فيه المصلحة، مستوقفًا بالمشاورة، حافظًا لدينه، مشفقًا على أهل ملته، مواظبًا على مرؤته، حريصًا على استطابة مأكله، فإن ذلك أول أسباب التوفيق، متورعًا عن الشبهات، صادفًا عن فساد التأويلات، صلبًا في الحق (3).

متشعب العلوم متخصص في فنه:

ونظرًا لتشعب العلوم الإسلامية، ومجالات الدعوة الإسلامية، وصعوبة الحياة وتعقدها، وتقارب البلدان والثقافات، أصبح من اللازم تطبيق هذه النظرية على العاملين في هذا المجال، أي أنه لا بد من تخصص الداعية في فرع يجيده ينفع به المسلمين، ويثري هذا الجانب.

فنحن نريد دعاة متخصصين في كل مجال من مجالات الدعوة الإسلامية في الوقت الحاضر مثل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التربية، الخطابة، الوعظ، الإدارة والقيادة، الكتابة، التعليم الشرعي، وغيرها، حيث تكون خطواتنا متزنة نظرًا لأن العاملين في كل باب هم من المتخصصين فيه مما يتوقع منه إثراء مجالات الدعوة، وإبراز المواهب الإسلامية، وإعطاء الدعوة دفعة قوية للأمام.

ولا يعني هذا التخصص الجامد بحيث لا يجيد الداعية شيئًا غير تخصصه؛ بل لا بد من إلمامه في كثير من جوانب الدعوة وأساليبها، لكنه على علم صحيح بجانب يكون مرجعًا فيه، ومع هذا نحن لا نضيق بوجود علماء أفذاذ يتمتعون بمشاركة في كثير من المجالات العلمية تؤهلهم للقيادة، لكن الحديث هنا على مجموع الدعاة العاملين في الميدان الإسلامي الكبير (4).

والذي يحكم تخصص الداعية أمران:

1 - قدراته الذهنية والعلمية في هذا التخصص.

2 - ميوله ورغبته النفسية لذلك.

وتخصصه لا يمنع من مشاركته في مجالات أخرى؛ ولكن المقصود أن يغلب على كتاباته وعطائه مجال معين.

أشار القرآن الكريم ونوَّهت الأحاديث الشريفة إلى فكرة التخصص، ودعمت السيرة الفكرة بالتطبيق العملي في طريقة اكتشاف الرسول قدرات الصحابة وتوظيفهم بالطريقة الصحيحة التي تمكِّنهم من النجاح والإبداع في مهماتهم؛ لأنها بُنيت على فكرة؛ أن كل فرد لديه ما يتميز به عن الآخر، وبالتالي فهو يستطيع أن يحقق ما لا يحققه الآخرون في مجال ما.

إن قول الله تعالى في سورة الأنبياء: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]، تشير إلى أن هناك حتمًا من يجب أن نعود إليهم بالسؤال والمشورة عند الجهل والحيرة في أمر ما، فنبحث ساعتها عن أقدر الناس على الإجابة عن سؤالنا، وإسداء المشورة لنا عن علم وأمانة، إنه ذو الخبرة المتخصص في عمله.

وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «اعملوا فكل ميسر لما خُلِق له» (5)، يشير بقوة إلى أن لكل إنسان مجاله الذي يجب أن يتخصص فيه، وأن قانون الخلق قائمٌ على ذلك من الأساس، وأن مهمة الإنسان أن يبحث عن أنسب الأعمال التي تتفق مع ميوله ومواهبه وقدراته وظروفه؛ ليحقق النجاحات والإنجازات والإبداعات، ويؤدي رسالة الخلافة في الأرض وإعمار الكون كأفضل ما يكون ويريد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

لقد اختار الرسول صلى الله عليه وسلم بلال بن رباح ذا الصوت النديّ ليرفع أول أذان في الإسلام؛ ليصبح ابن رباح أشهر مؤذن في الإسلام، واختار مصعب بن عمير ليكون سفيرًا له إلى المدينة، فحقق نجاحًا مدويًا، وفرش الطريق بالورد لهجرة الرسول وبناء الدولة، وعندما لمح في زيد بن ثابت قدراته العلمية وجَّهه لتعلم اللغة استفاد منه الخليفة أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب بعد ذلك في جمع القرآن، ومن بعدهما عثمان بن عفان في نفس المهمة؛ ليقوم بأعظم مهمة بحثية في التاريخ.

ماذا يعني التخصص في المجال الدعوي؟

التخصص بشكل عام يعني اقتصار عضو أو فرد أو جماعة على القيام بعمل معيَّن، والتخصص في المجال الدعوي يُقصد به تناول المجال الدعوي بالبحث والدراسة المنهجية، التي تمكِّن الداعية من التعامل مع أفراد المجال الدعوي بصورة قائمة على نظريات علمية وتؤهله لأن يكون مرجعًا لغيره من أصحاب التخصصات الأخرى في مجال بحثه، وتؤهله للفتوى والمشورة عند حدوث مشكلات في مجاله.

كيف يتحقق التخصص في مجال الدعوة؟

رغم الجهد الكبير الذي تبذله معاهد الدعوة المنتشرة في كل مكان لتخريج الدعاة، إلا أنني أعتقد أنها غير قادرة على التأثير في المجتمع بفاعلية؛ لأنها ببساطة لا تعلم (فن) الدعوة، ولكنها تعلِّم العلوم الشرعية المؤسسة لعلم الدعوة، لكن قضايا الدعوة نفسها وفنيَّات التعامل مع النفس الإنسانية، ودور الدعوة في حلِّ مشكلات المجتمع، ووسائل انتشارها وأساليب تأثيرها؛ كل هذا ليس له مكان في هذه المعاهد، وبالتالي فإنها تُخرِّج دارسين في العلوم الشرعية، وعندما يتجهون بها للدعوة العامة التي تتحدث في المبادئ العامة والأطر العامة للإسلام دون القدرة على التماس مع هموم الناس ومشكلات المجتمع والتحرك بالمجتمع نحو أسباب النهضة والتقدم.

لكن التخصص في مجال الدعوة يبدأ بتأسيس (علوم دعوية جديدة) تتصل اتصالًا وثيقًا بالدعوة وأهدافها ووسائلها، وتبحث في مشكلاتها وقضاياها، وقادرة على أن تُخرج شخصياتٍ دعويةً متكاملةً، تتمتع بمهارات ذهنية، وقدرات ومواهب دعوية، ونضج ثقافي فكري، شخصيات قادرة على التأثير فيمن حولها بصورة ملحوظة.

تحتاج الدعوة إلى مناهج في علم الإدارة المتصلة بالدعوة، وعلم النفس الدعوي، ومناهج خاصة بكيفية دعوة الأطفال حسب الشرائح السنية المختلفة، وأخرى بالمراهقين، وثالثة خاصة بالشباب ورابعة بالمهنيين وخامسة بكبار السن، بصورة متخصصة بها فروق واضحة بين شريحة وأخرى.. تحتاج الدعوة إلى مناهج خاصة بالدعوة الفردية وتنمية مهارات الحوار والاتصال وأدب الخلاف وقبول الآخر، وتنمية مهارات الخطابة والقيادة والعمل الجماعي، والتدريب على المقاومة والصمود والصبر والجرأة والشجاعة.

كل هذا ينبغي أن يبلور في مناهج واضحة لتشكيل داعية يحمل المواصفات النفسية والمهارات الخاصة بداعية ناجح، ثم تتجه هذه المناهج في نهايتها إلى فرع للتخصص، ليخرج داعيةً متخصصًا في التعامل مع سن الطفولة، وآخر متخصصًا في علم النفس الدعوي، وثالثًا متخصصًا في الدعوة الفردية، وآخر متخصصًا في الإعلام الدعوي، وسادسًا في الإدارة الدعوية.. إلخ.

وكل هذا بشهادات معتمدة تُثبت قدرة هذا الداعية على التعامل في مجال معيَّن ومدى خبرته فيه.

معوقات التخصص في المجال الدعوي

يعوق الوصول إلى التخصص في المجال الدعوي ما يلي:

1- عدم وجود مناهج: فوجود بعض الدراسات الدعوية؛ كمؤلفات متناثرة في المكتبات يحتاج إلى تجميع ووضعها في صورة مناهج متدرجة وبسيطة للدارسين، بينما هناك دراساتٌ أخرى لم يصل إليها البحث بصورة كافية.

2- عدم نشر ثقافة التخصص.

3- عدم وجود كوادر دعوية كافية؛ مما يجبر الدعاة على الدخول في نطاقات غير مؤهلين لها (6).

***

____________

(1) شمولية الدعوة الاعتقاد أم الممارسة؟/ منارات للعلوم الشرعية.

(2) شمولية الإسلام بين الاعتقاد والممارسة/ مجلة المجتمع.

(3) الشمول المعرفي عند الداعية/ إسلام أون لاين.

(4) التخصص بدعة أم حاجة؟/ مجلة البيان (العدد: 47).

(5) أخرجه البخاري (4949)، ومسلم (2647).

(6) التخصص في العمل الدعوي/ عيون نت.