logo

حرب المصطلحات


بتاريخ : السبت ، 1 ربيع الآخر ، 1443 الموافق 06 نوفمبر 2021
بقلم : تيار الاصلاح
حرب المصطلحات

من الخطأ تصوُّر انحصار المعارك والحروب بيننا وبين أعدائنا في ساحات القتال ومواطن النزال وحدها؛ فأعداء الإسلام لا يدعون فجًّا يمكن أن ينالوا به من الإسلام وأهله إلا وسلكوه، ولا تتهيأ لهم فرصة سانحة إلا وظَّفوها ورعوها حق رعايتها؛ لتكون لهم سندًا وركنًا يؤوون إليه ويعتمدون عليه في حربهم الكبرى التي يريدون بها استئصال شأفة الحق؛ قال تعالى مخبرًا عنهم تتبُّعهم الصعب والذلول، وارتكاب المستحيل لأجل ذلك: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].

ومن بين هذه الأساليب المتبعة –والتي لا تكاد تنفك عن سبيل من سبل سعيهم المتنوع والمتعدد– أسلوب يمكن أن نسميه بـ «حرب الألفاظ» أو «حرب المصطلحات».

المقصود بحرب المصطلحات:

وهي أن يَعمِد أعداء الله إلى أمر من أمور الإسلام –ذات الحقائق المحددة، والمسميات المبينة، والأسماء المنضبطة– فيضعون لها اسمًا مزيفًا مُنفرًا، يقلب صورة حقيقتها في الأذهان، ويصيرها مطبوعة بطابع تَشمئز منه النفوس، وتَنفر لدى سماعه القلوب.

أو أن يقصدوا شيئًا من القبائح التي نهى الشارع عنها، ومقَتَها وبين حكمها، ونَفَّر وحذَّر منها، وأظهر مضارَّها ومفاسدها؛ فيخترعون لها مصطلحًا جذابًا متألقًا، يُزيِّنونها به، ويُرغِّبون فيها بواسطته؛ لتدنوَ منه النفوس خُطوة خطوة، وتستأنس به الأفئدة وتألَفه، وتميل نحوه القلوب، وتقل درجة النفرة بينها وبين تلك القبائح شيئًا فشيئًا، حتى تتلاشى، فيسهُل على النفس بعدها اقتحامها والعَبُّ منها دون شعور بالحرَج، بل تستطيبها مع الأيام، وتطمئن لها لطول الإلف، وتوثيق الصلة.

وحرب المصطلحات أسلوب قديم، وهذا الأسلوب بشِقيه –تحسين القبيح، وتقبيح الحسن– اعتمادًا على المصطلحات المخترعة، يعد من الأساليب الخطيرة التي رافقت أعداء الله تعالى عبر مسيرتهم الطويلة في صراعهم مع الحق، فلم يَكَد يَنفك عنه زمنًا من الأزمنة، أو تُهمله طائفة من الطوائف المشاقة للحق.

وهكذا الكفار في كل زمان ومكان، إذا ضاقت بهم الحيل، وأغلقت في وجوههم السبل؛ لجأوا إلى تافه القول، وفاسد الحجج، وتلاعبوا بالحقائق تلاعب الصوالجة بالأكر، ولاكوا بأفواههم الألفاظ الطنانة الجوفاء؛ فقد تهربوا من إطعام الطعام بقولهم {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47]، كما دافعوا عن جهلهم وحمقهم، وعبادتهم الأحجار التي لا تضر ولا تنفع بقولهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وكما احتجوا عن كفرهم وتعنتهم بالقضاء والقدر {لَوْ شَآءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا} [النحل: 35].

هذا وقد لجأ الناس في آخر الزمان إلى التلاعب بالألفاظ، والتمويه بالأسماء؛ فسموا الفوضى حرية، والشيوعية عدالة اجتماعية، والظلم عدلًا، والاستبداد نظامًا، والشورى ضعفًا، والرشوة هدية، والمحاباة صلة رحم، والإهمال أناة، والتهور شجاعة، والقسوة حزمًا وهكذا فسدت المقاييس، واختلت المعايير؛ تبعًا للأهواء المردية (1).

والكافر بالآخر، والخيانة تطبيع، والعمالة تعاون، وموالاة الكفار تعايش مع الآخر، والنفاق حنكة ودهاء، والكذب براعة، والغش والخداع مهارة، والاختلاط انفتاح، والتبرج زينة، والمميع للدين متنور أو معتدل أو متفتح، والملتزم بالسنة متنطع أو متزمت أو متشدد.

والربا أصبح فوائد وعوائد، والزنا حرية شخصية، والتهتُّك والخَلاعة والاختلاط أصبحت تقدمًا وحضارة، ومواكبة للعصر، والأغاني الماجنة والمسلسلات الفاضحة والمسرحيات الدنيئة المتهتكة القاتلة للغيرة والمحرضة على الفواحش؛ كل هذا من الفن، والقائمون عليه فنانون ونجوم، والملابس الكاسية العارية إنما هي أزياء وموضات.

والخمور بأنواعها وأشكالها هي مشروبات روحية أو كحولية، ولقد صدق رسولنا صلى الله عليه وسلم إذ قال: «ليشرب أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها» (2).

ومن دواعي الحسرة والأسف أننا نجد بعض الأمم الغربية -الغير الإسلامية- تحارب الخمور بكل الوسائل وكافة السبل؛ وتحظر صنعها وبيعها وحملها؛ في حين أننا في مصر لا نكون عصريين ومتحضرين إذا لم نشربها ونعرف سائر أنواعها وأصنافها (3).

وعن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليشربن ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يعزف على رءوسهم بالمعازف، والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير» (4).

إن المنكر لا يصير معروفًا بتغيير اسمه، وهذا الانحطاط الخلقي والسفول السلوكي لا يصير رقيًا وحضارة بتسميته كذلك، فحقيقته المنكرة لا تتغير بتحسين اسمه وتزيينه.

 ولعدو الله إبليس قدمُ السبقُ في هذا الأمر؛ فإنه كان أول من استعملَ هذا المكر والخداع وتلقفه منه أولياؤه، وذلك لما خدع أبوينا آدم وحواء بذكر شجرة الخلد وملك لا يبلى، كما ذكر ابن القيم: وإنما كذبهما عدو الله وغرَّهما، وخدعهما بأن سمى تلك الشجرة شجرة الخلد، فهذا أول المكر والكيد ومنه ورث أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحب النفوس مسمياتها، فسموا الخمر: أم الأفراح، وسموا أخاها بلقيمة الراحة، وسموا الربا بالمعاملة، وسموا المكوس بالحقوق السلطانية، وسموا أقبح الظلم وأفحشه شرع الديوان، وسموا أبلغ الكفر؛ وهو جحد صفات الرب، تنزيهًا، وسموا مجالس الفسوق مجالس الطيبة (5).

خطورة حرب المصطلحات:

إن نهج حرب المصطلحات إن لم يَتنبه له المسلمون، ويَعوا خطورته، ويدركوا عواقبه؛ فإنه سيؤدي حتمًا إلى قلب كثير من الحقائق الشرعية في أذهانهم، ومن ثَم في واقعهم، وسينقلب من ورائه الحق باطلًا والباطل حقًّا، والمنكر معروفًا والمعروف منكرًا، والمصلح مفسدًا والمفسد مصلحًا، وسيقود إلى فتح أبواب عريضة من الشر المستطير، وكلما استمرت الأيام ازداد شرُّها، وظهر أثرها، وتضاعف تأثيرُها، وعَسُر إغلاقها وعلاجها، إلا بجهد متواصل وعملٍ دؤوب مضاعف، لا سيما مع تكفُّل وسائل الإعلام المتنوعة ذات الصِّيت العالي بالقيام بهذه المهمة، والتي يقوم كثير منها أو معظمها على حرب الله ورسوله.

انقلب تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة أحكام الله إلى رجعية، وترويج الأفكار الإلحادية، والطعن على الله ورسوله وأوليائه؛ من حرية التعبير، والتفلُّت من التكاليف الشرعية، وهدْم أصولها وفروعها، وتفصيلها وخياطتها، وتقديمها حسب تعاريج الجسم العصري، أصبح من التنوير والعقلانية والواقعية والتفتح، والأخذ بالنصوص الشرعية والتمسك بها، والدعوة إليها والذب عنها، صار جمودًا وتحجيرًا و«أصولية» و«فكرًا» سلفيًّا، وتكلُّم الرُّويبضة والجهَلة في أمور العامة، وتشقيقها وتمطيطها وتمييعها، والإدلاء بما يشاؤون فيها، صار تفكيرًا، وأهله غدَوْا مفكرين ومحللين ومتنورِّين.

وإفراغ الألفاظ من معانيها ومسخها، وتفسيرها تفسيرًا باطنيًّا مُغرضًا هدامًا، لُقِّب بالحداثة، وحرب الإسلام علانية، وتتبُّع أهله المستمسكين به، والتنكيل بهم، وعقْد الاتفاقات لتقويضهم ومطاردتهم، وبذْل الأموال الطائلة بسَخاءٍ لاقتفاء آثارهم، أصبح حربًا للإرهاب والتطرف، وحماية للأوطان من خطرهم، وصونًا لها، وللشعوب من شرهم.

وبيع الأراضي والتفريط في المقدسات والانبطاح التام أمام الأعداء، واللهث الدائم لتلبية رغباتهم، والتنافس في تقديم متطلباتهم، والاستسلام المخزي لهم؛ كل ذلك صار سلامًا، بل سلام الشجعان.

والسعي للاعتراف بأحقية المحتل اليهودي بأرض فلسطين، واستحقاقه إقامة دولته عليها، مقابل نيل حَفنة من التراب تحت أعينهم ومراقبتهم، يسمى سلامًا عادلًا شاملًا دائمًا، والمدافع عن حُرماته وأرضه وعرضه، والمقدِّم لنفسه وماله حماية للمقدسات، أصبح عدوًّا للسلام، وخارجًا عن «الشرعية» الدولية.

وتهيئة الظروف لاستقدام عشرات الآلاف من قوات النصارى التي جُلِبت على أراضي المسلمين بخيلها ورَجلها، ومكَّنت لنفسها برًّا وبحرًا وجوًّا، وامتصَّت خيراتهم وثرواتهم من تحت الأرض ومن فوقها، ودكها للشعوب المسلمة، وتجريبها اليومي لأسلحتها المتطورة عليهم؛ كل ذلك لا يعدو أن يكون استعانة بالقوات الصديقة لطرد عدوٍّ عاتٍ متمرِّد.

وتآلُف الدول الكافرة وتكتُّلها وتكاتُفها؛ لأجل قهْر الشعوب وإذلالها، وإرغامها على الانصياع للركب العالمي، والخضوع لإرادات معينة ومخصوصة، كل ذلك يقع باسم الشرعية الدولية، ومنع الخروج عن قوانين المجتمع الدولي (6).

المصطلحات الشرعية لها معان ودلالات، وينبني عليها أحكام وجزاءات، فإذا غُيرت المصطلحات فسد الدين، والتبس الحق بالباطل، وأهدرت دماء وأموال معصومة، وعصمت دماء وأموال مهدرة؛ وفي تقرير ذلك يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إذا تبين ذلك فاعلم أن «مسائل التكفير والتفسيق» هي من مسائل «الأسماء والأحكام» التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدار الدنيا؛ فإن الله سبحانه أوجب الجنة للمؤمنين وحرم الجنة على الكافرين، وهذا من الأحكام الكلية في كل وقت ومكان (7).

ويقول الشيخ محمد المنجد مؤكدًا ضرورة المحافظة على المسميات الصحيحة الموافقة لما جاء في الكتاب والسنة: لقد وردت كلمة الكفر بمشتقاتها من «الكفر» و«الكافرين»، و«الكفار» و«الذين كفروا» في القرآن الكريم أكثر من أربعمائة مرة، ووردت لفظة الشرك بمشتقاتها «المشركين»، «والذين أشركوا» في القرآن أكثر من مائتي مرة، ووردت لفظة «النفاق»، ومشتقاتها «المنافقين»، و«الذين نافقوا» في القرآن أكثر من خمسين مرة، ووردت كلمة «اليهود» سبع مرات، و«النصارى» ثمان مرات، ولفظة «الكفار» أربعة عشر مرة، و«الكافرين» خمسًا وخمسين مرة، وكذلك «الذين كفروا» مائة واثنين وخمسين مرة، وهكذا بهذه الألفاظ، فيسمع المؤمن كلمة كفر، وكافر، وكفار، وكافرين بمجرد السماع قلبه ينطق بالكراهية لهؤلاء؛ لأنهم كفروا بالله، أشركوا به، سبوا الله، اعتقدوا في الله عز وجل عقيدة ضالة منحرفة، وهكذا تنبني أحكام ومواقف (8).

إن تغيير المصطلحات، وتسمية الأشياء بغير اسمها فتنة من أعظم الفتن، وتلبيس يلبس به إبليس وحزبه على الناس، ليوقعوهم في معصية ربهم سبحانه وتعالى.  

إن الله سبحانه وتعالى علم آدم عليه السلام الأسماء كلها، وفي ذلك يقول الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)} [البقرة: 30 - 33].  

ومن خلال قراءة الآيات السابقة نعرف أن الأمر ضارب في جذور التاريخ، وقديم قدم الإنسان نفسه، وبالرجوع إلى كلام أهل العلم في تفسير قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، نجد أن خلاصة كلامهم رحمهم الله تعالى: أن الله تعالى قد علم آدم عليه السلام أسماء كل شيء، فالله سبحانه وتعالى أظهر شرف آدم عليه السلام بأن علمه الأسماء الصحيحة للأشياء، ثم أمر الملائكة بالسجود له، فقال سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)} [البقرة: 34- 36].  

وجاء تفصيل ما وسوس به إبليس لأبينا آدم عليه السلام في قول الله سبحانه وتعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120].  

فالشيطان الرجيم لم يصرح لآدم عليه السلام أنه يريد منه أن يعصي الله سبحانه وتعالى، بل خادعه، وكذب عليه، وحلف له بالله تعالى أنه له ولزوجه ناصح، كما قال الله تَعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)} [الأعراف: 20- 21]، وأن نصيحته الطيبة، هي الأكل من {شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}، كما قال الله عز وجل:  {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120].  

كذب صراح، وباطل محض، وقلب للحقائق، فالخلد في الجنة لا يكون إلا بطاعة الله عز وجل، وما يريده الشيطان من آدم هو حرمانه من ذلك الخلد في الجنة حسدًا، وعداوة، وبغضًا، ولخبث عدو الله وغشه وخداعه جاء بهذا الكلام المناقض للحقيقة والواقع، ووسوس بقول باطل لا أصل له، ولا برهان عليه، ولا دليل على صحته.  

ولأن إبليس يعلم ذلك، أقسم بالله تعالى كاذبًا ليغر آدم عليه السلام بذلك الحلف، وتعلم منه حزبه هذه الطريقة في الإفك، والدجل، والتزوير، وفي ذلك يقول الله عز وجل: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة: 16].  

وفي زماننا المعاصر عظمت فتنة الشيطان وحزبه، وضل عن سبيل الله تعالى خلق كثير، بسبب انتشار الفضائيات والانترنت وغيرهما من الوسائل الإعلامية التي تبث سمومها صباح مساء، وتنشر خَبَثَهَا في الليل والنهار بلا توقف، ولا انقطاع، ولا هوادة، فما هو دور المسلمين، والمسلمات المعاصرين في مواجهة هذه الفتن والبلاءات؟ 

إن المعركة بين الخير والشر قديمة عتيقة، وستدوم ما دامت الحياة الدنيا، وإن جهاد الباطل فرض على كل مسلم ومسلمة، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جَاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» (9).  

فهذا الحديث لم يقصر جهاد الباطل على جهاد السنان، بل أشار أيضا إلى جهاد المال واللسان، وقد أمر ربنا عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار بالقرآن، فقال سبحانه: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52]، والخطاب في هذه الآية وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم، فالحكم شامل لأمته، والآية تدعو بوضوح إلى نصرة الحق، وقمع الباطل، بكل الطاقة وبلا فتور، فهي نص صريح في أن الدعوة إلى اللهِ تعالى، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل من أكبر أنواع الجهاد، وأشدها على أعداء الملة والدين، وأعظمها تأثيرًا في نفوس العالمين (10).  

ويخطئ كثير من الناس في ظنه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مختص بالعلماء، والصواب أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على كل مسلم ومسلمة بحسب ما يعلمون من أحكام الشريعة.  

ولذا، ينبغي على أهل الخير والصلاح التمسك بمصطلحات الكتاب والسنة، ورفض ما يقوم به أهل الباطل من تلبيس وتزييف، وإعلانها صريحة مدوية، عبر جميع وسائل الإعلام والتواصل التي يمكننا ربنا منها: أننا نرفض تغيير مصطلحات الشريعة، وأننا نرفض، وننكر، وبشدة تسمية الربا فائدة، والزنا صداقة، والخمر مشروبات روحية، والحكم بغير ما أنزل الله تعالى ديمقراطية وتجديدًا، والإلحاد حداثة، والعلمانية تطورًا، والرأسمالية تقدمًا، والعصبية وطنية، والغناء والمجون فنًا ونجومية، وفي المقابل، نناهض، ونحارب، وبصرامة: تسمية الإيمان تخلفًا، والجهاد إرهابًا، والتمسك بالدين تطرفًا، والحجاب رجعية، والسنة بدعة، والحق باطلًا، والخير شرًّا، والاستقامة تعقيدًا، والإصلاح إفسادًا.  

وأننا نناضل ونتمسك وبقوة، بمصطلحات الدين والملة، مثل: الإسلام، والإيمان، والإحسان، والتوحيد، والسنة، والبدعة، والشرك، والكفر، والردة، والنفاق، والفسق.  

والحاصل: أن دورنا في حرب المصطلحات يتمثل في قيامنا بما أمر به ربنا عز وجل من تعلم ما جاء في الكتاب والسنة، والعمل بمقتضى ذلك العلم، ونشره في أصقاع الدنيا بجميع الوسائل المتاحة، وأن نعلم أن مسؤولية الدعوة إلى الله تعالى ليست مهمة فرد أو جماعة، بل هي مسؤولية أمة، وكلٌّ مُكَلَّفٌ بأن يقوم بها بحسب إمكاناته، وقدراته، واستطاعته مع أهمية التعاون على البر والتقوى؛ عملًا بقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2] (11).

ضرورة يقظة المسلمين:

فعلى المسلم أن يكون يَقِظًا مُنتبهًا عند التقاطه لأي مصطلح جديد، وأن يحرص على الالتزام بالأسماء الشرعية، ففيها الكفاية والغُنية عما دونها، وأن يستقبل ما تبثه وسائل الإعلام بحذرٍ، فهي غالبًا ما تُقدِّم السُّم فيما نحسَب أنه عسل، فيلعقه بعضهم مُغترين بألوانه وأشكاله، فلا يستيقظون إلا حيث تتهاوى قواهم، وتذهب حُرماتهم، ويُمسَخ كثير من شعائر دينهم، فيضيفون مرضًا جديدًا مزمنًا في جسد أُمتهم الذي أنهكَته الجراح، وآلَمته القروح؛ مما يستدعي زيادة تكليف وعناء في علاجه، وقد كان يُغني عنه سد الباب الذي يتسبب فيه، وإغلاق المسالك المؤدية إليه (12).

_____________

(1) أوضح التفاسير (1/ 540).

(2) أخرجه أبو داود (3689).

(3) أوضح التفاسير (1/ 143).

(4) أخرجه ابن ماجه (4020).

(5) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 112).

(6) الإسلام وحرب المصطلحات/ مجلة الوعي (العدد: 329).

(7) مجموع الفتاوى لابن تيمية (12/ 468).

(8) التلاعب بالمصطلحات الشرعية/ محمد المنجد.

(9) أخرجه أبو داود (2504).

(10) تفسير ابن باديس (ص: 188).

(11) حرب «المصطلحات» ودور المسلم المعاصر فيها/ طريق الإسلام.

(12) الإسلام وحرب المصطلحات/ مجلة الوعي (العدد: 329).