logo

كأن لم تغن بالأمس


بتاريخ : الأربعاء ، 13 شعبان ، 1446 الموافق 12 فبراير 2025
كأن لم تغن بالأمس

قال الله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} [يونس: 24]. 

لما كان سبب بغى الناس في هذه الدنيا هو إفراطهم في حبها والتمتع بزينتها- ضرب بذلك مثلًا يصرف العاقل عن الغرور بها، ويرشده إلى الاعتدال في طلبها والكفّ عن التوسل في الحصول على لذّاتها بالبغي والظلم والفساد في الأرض- فشبه حال الدنيا وقد أقبلت بنعيمها وزينتها وافتتن الناس بها بعد أن تمكّنوا من الاستمتاع بها، ثم أسرع ذلك النعيم في التقضي وانصرم غبّ إقباله واغترار الناس به، بحال ما على الأرض من أنواع النبات يسوق الله إليها المطر، فيلتفّ بعضها على بعض وتصبح بهجة للناظرين، ثم لا تلبث أن تنزل بها فجأة جائحة تستأصلها وتجعلها حطامًا كأن لم تكن بالأمس. 

فضرب تبارك وتعالى مثلًا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها، بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض، بماء أنزل من السماء، مما يأكل الناس من زروع وثمار على اختلاف أنواعها وأصنافها، وما تأكل الأنعام من أب وقضب وغير ذلك، {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} أي زينتها الفانية، {وَازَّيَّنَتْ} أي حسنت بما خرج من رباها من زهور نضرة مختلفة الأشكال والألوان، {وَظَنَّ أَهْلُهَا} الذين زرعوها وغرسوها، {أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} أي على جذاذها وحصادها، فبينما هم كذلك إذ جاءتها صاعقة أو ريح شديدة باردة، فأيبست أوراقها وأتلفت ثمارها، ولهذا قال تعالى: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} أي يابسًا بعد الخضرة والنضارة، {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} أي كأنها ما كانت حسناء قبل ذلك، وقال قتادة: كأن لم تغن كأن لم تنعم، وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن (1). 

وفي وسط هذا الخصب الممرع، وفي نشوة هذا الفرح الملعلع، وفي غمرة هذا الاطمئنان الواثق {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}. 

في ومضة، وفي جملة، وفي خطفة، وذلك مقصود في التعبير بعد الإطالة في عرض مشهد الخصب والزينة والاطمئنان. 

وهذه هي الدنيا التي يستغرق فيها بعض الناس، ويضيعون الآخرة كلها لينالوا منها بعض المتاع.

هذه هي، لا أمن فيها ولا اطمئنان، ولا ثبات فيها ولا استقرار، ولا يملك الناس من أمرها شيئًا إلا بمقدار (2). 

كان المأمون يتمثل بهذين البيتين لأخيه:

يا صاحب البغي إن البغي مصرعه     فارجع فخير فعال المرء أعدله

فلو بغى جبل يومًا على جبل     لاندك منه أعاليه وأسفله 

عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أجد في كتاب الله أن الظلم يخرب البيوت، وتلا: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52]، وهذه البيوت المشار إليها هي التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم» (3). 

يقول صاحب المنار: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} [يونس: 24]، أي لا شبه لها في صورتها ومآلها إلا ماء المطر في جملة حاله الآتية {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ}، أي فأنبتت الأرض أزواجًا شتى من النبات تشابكت بسببه واختلط بعضها ببعض في تجاورها وتقاربها، على كثرتها واختلاف أنواعها {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ}، بيان لأزواج النبات وكونها شتى كافية للناس في أقواتهم ومراعي أنعامهم، وكل مرامي آمالهم {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ}، أي حتى كانت الأرض بها في خضرة زروعها السندسية، وألوان أزهارها الربيعية، كالعروس إذا أخذت حليها من الذهب والجواهر، وحللها من الحرير الملون بالألوان المختلفة ذات البهجة، فتحلت وازينت بها استعدادًا للقاء الزوج - ولا تغفل عن حسن الاستعارة في أخذ الأرض زينتها، حتى كان استكمال جمالها، كأنه فعل عاقل حريص على منتهى الإبداع والإتقان فيها {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]، وظن أهلها أنهم قادرون عليها متمكنون من التمتع بثمراتها، وادخار غلاتها، أتاها أمرنا ليلًا أو نهارًا أي نزل بها في هذا الحال أمرنا المقدر لإهلاكها؛ بجائحة سماوية ليلًا وهم نائمون، أو نهارًا وهم غافلون {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} أي كالأرض المحصودة التي قطعت واستؤصل زرعها، فالحصيد يشبه به الهالك من الأحياء، كما قال في أهل القرية الظالمة المهلكة: {جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 15]، ويشبه هذا الهلاك في نزوله في وقت لا يتوقعه فيه أهله قوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} [الأعراف: 97- 99]، {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس: 24]، أي هلكت فجأة فلم يبق من زروعها شيء، حتى كأنها لم تنبت ولم تمكث قائمة نضرة بالأمس (4). 

هذه الآية تتنزل منزلة البيان لجملة متاع الحياة الدنيا المؤذنة بأن تمتعهم بالدنيا ما هو إلا لمدة قصيرة، فبينت هذه الآية أن التمتع صائر إلى زوال، وأطنبت فشبهت هيئة التمتع بالدنيا لأصحابها بهيئة الزرع في نضارته ثم في مصيره إلى الحصد. 

والمثل: الحال المائلة على هيئة خاصة، كأن التشبيه هنا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة، عبر عن ذلك بلفظ المثل الذي شاع في التشبيه المركب.

وصيغة القصر لتأكيد المقصود من التشبيه وهو سرعة الانقضاء، ولتنزيل السامعين منزلة من يحسب دوام بهجة الحياة الدنيا؛ لأن حالهم في الانكباب على نعيم الدنيا كحال من يحسب دوامه وينكر أن يكون له انقضاء سريع ومفاجئ، والمعنى: قصر حالة الحياة الدنيا على مشابهة حالة النبات الموصوف، فالقصر قصر قلب، بني على تنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد عكس تلك الحالة.

ومن بديع هذا التشبيه تضمنه لتشبيهات مفرقة من أطوار الحالين المتشابهين بحيث يصلح كل جزء من هذا التشبيه المركب لتشبيه جزء من الحالين المتشابهين، ولذلك أطنب وصف الحالين من ابتدائه (5).

وسُنَّة إهلاك الظالمين أخبر عنها سبحانه في مواضع عديدة من القرآن الكريم، من ذلك غير الآية موضوع الحديث قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج: 45]، وقوله عز وجل: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59]، وقوله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]، وغير ذلك من الآيات الدالة على أن عاقبة الظلم بأنواعه وأشكاله الهلاك والبوار والدمار، سواء كان ظلمًا فرديًّا أو ظلمًا اجتماعيًّا. 

لقد أفاء الله على بلادهم من الخيرات الطبيعية مع رغد في العيش وسعة وأمن في الأوطان وأقبلت إليهم الدنيا بحذافيرها فظنَّ المساكين أن ذلك كرامة من الله لهم، وأنهم إنما حصلوا على ذلك لاستحقاقهم له، ولم يكن ذلك إلا استدراجًا من العلي القدير، فنسوا حظًا مما ذكروا به، وطغوا وبغوا وأكثروا في الأرض الفساد، ولم يسلم من بطشهم وظلمهم حتى بني جلدتهم، وأتباع ديانتهم، ونال المسلمون من بغيهم من ذلك الحظَّ الأوفى، وسُقيت بلاد المسلمين منهم كيزانًا؛ بل أقول أنهارًا من العلقم والسم الزعاف، ولأن الله لا يحب الظلم ولا الظالمين، كان حقًا على الله أن يُريهم عاقبة ظلمهم في الدنيا قبل الآخرة عن أبي بكرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم» (6). 

إن من مستلزمات الإيمان أن يعلم العبد أن الكون بإنسه وجنّه، وسمائه وأرضه وكواكبه ونجومه وجميع مخلوقاته، مسخر بأمر الله تعالى، يتصرف فيه كيف يشاء جل وعلا، ويعلم أن الضر والنفع بيد الله، وأن ما يجري من مصائب وكوارث إنما هو بقدرٍ من الله جل وعلا، لحكمة يريدها سبحانه وتعالى، وما أصاب العبدَ لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. 

بمعصية الله تعالى أخرج آدم من الجنة، وطرد إبليس ولعن وبدل بالقرب بعدًا وغضب عليه الرب تعالى، ومقته أكبر المقت فأرداه، وبمعصية الله تعالى أغرق أهل الأرض جميعًا زمن نوح عليه السلام، وهاجت الريح على قوم عاد صرصرًا عاتيه {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8]، وبمعصية الله تعالى أخذت ثمود الصيحة {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)} [هود: 67، 68]، وبمعصية الله تعالى قلبت قرى قوم لوط بعد أن رفعت حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم ثم قلبت وجعل {عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)} [هود: 82، 83]، وبمعصية الله تعالى أخذ قوم شعيب عذاب يوم {الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 189]، وبمعصية الله تعالى أخذ فرعون وجنوده {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات: 40]، وبمعصية الله تعالى خسف بقارون {وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص: 81] {كُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} [الفرقان: 39]، {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]. 

إن القرآن حي في قلب كل من اتخذه هاديًا ودليلًا ما أعجب القرآن يُطمئن المُحِق ويُنبه المُبطل ولكن: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، وإننا ولله الحمد لم نشكَّ لحظة في أنَّ الدائرة عليهم، ولكنها سنة الله في الذين خلوا من قبل {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141]، وتدبر معي أخي القارئ أختي القارئة أنه سبحانه بدأ بتمحيص الصف المؤمن قبل أن يحق المحق والعذاب على الكافرين، ووالله لقد تحققت هذه السنة عيانًا لكل ذي بصيرة في عصرنا الحاضر فلقد مرت بالأمة محنٌ وبلايا عظيمة زُلزل فيها المؤمنون زلزالًا شديدًا وفتنوا في دينهم (في أرض الإسراء فلسطين، وأفغانستان والعراق والصومال والسودان وغيرها)، وتخلخل الصف وظهر كيد المنافقين المتسترين خلف الستور، وأخرجوا ضغائنهم، وأعربوا عن مكرهم حتى جرءوا على أن يقول بعضهم كما قال أسلافهم من منافقي العصر النبوي {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12]. 

ولكن ها هي الدائرة تدور على أسيادهم المتكبرين المتجبرين، وتزلزل أمنهم، وتحرق أرضهم وبيوتهم، وفاجأهم الله بنقمته التي نسأل الله العلي القدير ألا يرفعها عنهم حتي يروا العذاب الأليم، جزاء بما طغوا في أرض الله وعذبوا عباد الله، لقد أراهم الله تعالى مكره بمن سبقهم في البغي إمبراطورية الفرس الروسية بل حذرهم كسراهم المعاصر من التلبس بظلم المسلمين فقد جرَّب عاقبة ظلمه في أفغانستان والقوقاز والبلقان فأراه الله عاقبة ظلمه إياهم انهيارًا في إمبراطوريته بسرعة لم يتوقعها حتى عدوهم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]، فلم يُلْقِ سادة الرأسمالية الغربية لذلكم التحذير من خبير بالواقع بالًا، ولم يكترثوا لما حل بعرش كسرى الحاضر، وظنوا أنَّ ذلك حسدًا لهم من أن يحوزوا غنائم الغدر من أرض المسلمين وأموالهم، وما هي إلا سنوات معدودة لم تبرد فيها أكباد الموتورين من المسلمين على فقد أبنائهم، ولم تجفَّ أرضهم من دماء شهدائهم، وإذا بالصنم يتشقق، والحلم يتبخَّر، وإذا بالعاقبة تلوح {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]. 

ولكني أذكَّر نفسي وإخواني المسلمين بأمرين مهمين الأول منهما أن نتقي الظلم فإن عاقبته وخيمة شديدة، والجبار سبحانه إذا غضب لا يقوم لغضبه مَنْ في السماوات والأرض، وثانيهما أن نصحح الاعتقاد في الله، فمن شك في نصر الله وتأييده فليتذكر {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15]. 

وأدعوكم إلى ما قاله العلامة عبد الرحمن السعدي نوَّر الله ضريحه في تفسير الآية : ومعنى هذه الآية الكريمة: يا أيها المعادي للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، الساعي في إطفاء دينه، الذي يظن بجهله، أن سعيه سيفيده شيئًا، اعلم أنك مهما فعلت من الأسباب، وسعيت في كيد الرسول، فإن ذلك لا يذهب غيظك، ولا يشفي كمدك، فليس لك قدرة في ذلك، ولكن سنشير عليك برأي، تتمكن به من شفاء غيظك، ومن قطع النصر عن الرسول -إن كان ممكنًا- ائت الأمر مع بابه، وارتق إليه بأسبابه، اعمد إلى حبل من ليف أو غيره، ثم علقه في السماء، ثم اصعد به حتى تصل إلى الأبواب التي ينزل منها النصر، فسدها وأغلقها واقطعها، فبهذه الحال تشفي غيظك، فهذا هو الرأي: والمكيدة، وأما ما سوى هذه الحال فلا يخطر ببالك أنك تشفي بها غيظك، ولو ساعدك من ساعدك من الخلق. وهذه الآية الكريمة، فيها من الوعد والبشارة بنصر الله لدينه ولرسوله وعباده المؤمنين ما لا يخفى، ومن تأييس الكافرين، الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره، ولو كره الكافرون، أي: وسعوا مهما أمكنهم (7). 

فهل ييأس أحد بعد ذلك من نصر الله للمؤمنين. 

إن أمريكا هي قائدة الظلم والطغيان والجبروت في هذا العصر، استخدمت أموالها التي مكنها الله جلّ وعلا منها في ظلم البشرية في مشارق الأرض ومغاربها، وتاريخ أمريكا تاريخ أسود على كل المستويات، وفي شتى أنحاء العالم وخصوصًا فيما يتعلق بالأمة الإسلامية، فأمريكا أمة كافرة باغية محادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ومحاربة للمسلمين، دنَّست كتاب الله وأهانته، قريبة من كل شرّ بعيدة عن كل خير، حامية الإرهاب في العالم.

من الذي يدعم إسرائيل؟

من الذي يحمي اليهود بلا حدود؟

من الذي أباد أفغانستان؟

من الذي دمر العراق؟

من الذي يأخذ خيرات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ليعيدها لهم صواريخ وقنابل ورؤوسًا نووية؟ 

أعظم السجون، وأشدها ظلمًا وفتكًا هي التي تشرف عليها أمريكا وعملاؤها، سجون جوانتانامو وأمثالها، وسجل جرائمها العالمية يصعب حصره لا ينافسها في ذلك أحد، حالها حال من قال الله تعالى فيه: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]. 

أمريكا بسبب قوتها المادية تمد ذراعها كما يحلو لها، لا تأبه بأحد {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)} [العلق: 6– 8]، وهي بسبب هذا وغيره أصبحت فتنة لكثير من المسلمين. 

لقد قال الله سبحانه مخبرًا عن موسى عليه السلام: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88]، فقال الله جلّ وعلا: قد أجيبت دعوتكما؛ لأن موسى كان يدعو وهارون كان يؤمن، فأجاب الله دعوتهما، ولو لم تكن دعوة شرعية، عادلة، لما أجاب الله دعاءهما، حاشاهما أن يدعوا بغير أمر مشروع، وإذا كان مشروعًا فلم لا نفرح به؟ ألم يشرع لنا صيام ذلك اليوم الذي استجيبت فيه الدعوة شكرًا لله؟

ولماذا لا نفرح وقد دعا محمد صلى الله عليه وسلم على مضر، وقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» (8).

ألا يحق لنا أن نفرح باستجابة الله لدعاء المستضعفين المظلومين في المشارق والمغارب؟! 

لماذا لا نفرح، وما أصابهم عقاب من الله على جرمهم {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد: 31]. 

لماذا لا نفرح ونوح عليه السلام يقول لربه: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)} [نوح: 26- 27] فاستجاب الله دعاءه {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44]. 

إن ما أصاب أمريكا من عواصف وحرائق هو قدر كوني وعقوبة من الله جلّ وعلا؛ لطغيانها، وعصيانها، وجبروتها، وظلمها، وبعدها عن الله جل وعز. 

لماذا لا نفرح والله يقول لرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9].

لقد كانت منة عظيمة من الله جلّ وعلا على عباده، ومدعاة لفرحهم وسرورهم وذلك حين جاءت الريح العظيمة وشتت الأحزاب في غزوة الخندق، ولذا يذكر الله بها عباده المؤمنين فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [الأحزاب: 9].

إننا عندما نرى هذه الرياح العاصفة تدمر أمريكا أو بعض ولاياتها نعلم أنها نعمة من الله جلّ وعلا تستوجب الحمد والشكر والفرح {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)} [الروم: 4- 5]، فالأحزاب قد تحزبوا اليوم على المسلمين بقيادة أمريكا، كما تحزب المشركون بقيادة قريش, فأرسل الله عليهم هذه الريح والجنود, تذكر الغافلين بقدرته سبحانه، إنها نعمة عظيمة وقدر من الله جل وعلا نفرح به ونسر، وتلك سنة الله في أمثالها بل وفيمن كان دونها في البغي والظلم. 

ولنتأمل أيضًا قصة قارون وما حدث له، يقول الله جلّ وعلا: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِين (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)} [القصص:81- 83]، فإذا كان قارون خُسف به وبداره الأرض بسبب بغيه، {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} فخسف الله به، مع أنه لم يبلغ من البغي والفساد ما بلغته أمريكا بطغيانها، وجبروتها، وخبثها وفسادها.

عن جبير بن نفير قال: لما فتحت قبرص فرق بين أهلها بكى بعضهم إلى بعض، ورأيت أبا الدرداء جالسًا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله، إذا هم تركوا أمره، بينا هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى (9). 

فبكاء أبي الدرداء رضي الله عنه ليس حزنًا عليهم ولا أسفًا، ولكنه من قوة إيمانه وتدبره وتعظيمه لله سبحانه وخوفه من عقابه، لأن كثيرًا من الناس ينطبق عليهم قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91]. 

لما تكبر المتكبرون وأعرض المجرمون وظنوا أنهم إلى ربهم لا يرجعون، سفكوا الدماء وهتكوا الأعراض وسلبوا الأموال وعاثوا في الأرض مفسدين، وطال بهم الأمد فقست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فلم ينفع معهم ترغيب ولا ترهيب ولا وعد أو وعيد، وأعجبتهم أموالهم وغرتهم جيوشهم وحراسهم، واعتمدوا على جواسيسهم، وامتلأت بأشلاء شعوبهم المقابر الجماعية، وغصت بهم السجون السياسية، فقتلوا الآلاف وشردوا مئات الآلاف، فاستكبروا في الأرض وقالوا من أشد منا قوة، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، ونسوا أو تناسوا ما فعله الله بعاد وفرعون ذي الأوتاد، ونسوا أو تناسوا إن ربك لبالمرصاد، فأصبحوا عن آيات الله معرضين، وعن سننه في خلقه غافلين، فهم في غمرة ساهون، وفي خوضهم يلعبون، وفي طغيانهم يعمهون، بينا هم كذلك أتاهم أمر الله من حي لا يشعرون، وما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره، أبى الله إلا أن يذل من عصاه، {وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]. 

إننا على كثرة ما نسمع ونقرأ ونشاهد من حوادثَ مروعة، وعقوباتٍ مفزعة، وحروبٍ طاحنة، وأمراضٍ مستعصية، ومجاعاتٍ مهلكة، لا يزال الكثيرون منا مُصرِّين على معاصيهم وطغيانهم وفجورهم! {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 90]. 

ومن مستلزمات الأمن والرخاء قيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، «إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيرونه، أوشك أن يعمهم الله بعقابه» (10).

واعلموا أنه لا يقينا من عذاب الله وعقوبته، إلا أن نُصلح ما فسد من أحوالنا، فنبدأ بأنفسنا ونحملها على الحق، ثم بأهلنا وجيراننا، فنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر قدر استطاعتنا.

---------

(1) تفسير ابن كثير (4/ 227).

(2) في ظلال القرآن (3/ 1775).

(3) أخرجه البخاري (433).

(4) تفسير المنار (11/ 284).

(5) التحرير والتنوير (11/ 141).

(6) أخرجه أبو داود (4902).

(7) تيسير الكريم الرحمن (ص: 535).

(8) أخرجه البخاري (804).

(9) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 217).

(10) أخرجه ابن ماجه (4005).