شوق وحنين إلى بيت الله الحرام
كان الحج معروفًا بين عرب الجاهلية، منذ عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وأقره الإسلام بعد أن أبطل ما فيه من أنواع الشرك والمنكرات، وزاد فيه بعض المناسك والشعائر.
وقد فرضه الله تعالى على المسلمين سنة ست من الهجرة بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، وعن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أيها الناس، قد فرض عليكم الحج فحجوا»، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم»، ثم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» (1).
وكانت أول حجة حجها المسلمون سنة تسع بإمرة أبي بكر رضي الله عنه، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر، وفيها أذّن أبو بكر بالمشركين الذين حجوا: ألا يطوف بعد هذا العام مشرك، ونزلت الآية: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28].
واستمر المسلمون منذ ذلك التاريخ يهرعون بقلوب ملؤها الشوق والحنين والتعظيم إلى بيت الله الحرام كل عام، من مختلف الأقطار في المشارق والمغارب، تظللهم راية الإيمان بالله تعالى، وترتفع أصواتهم بتلبية أوامر الله، وتخشع نفوسهم لتلك المواقف المهيبة، قاصدين تطهير أنفسهم من شوائب العصيان ومخالفة الأوامر الإلهية، وهم في صفوفهم وتحركاتهم الجماعية منصهرون ماديًا وفعليًا بمعنى المساواة، دون تفرقة بين سيد ومسود، وحاكم ومحكوم، وغني وفقير، ومتجردون من مظاهر الدنيا وزينتها، فلا تكاد تجد في أنحاء العالم تجمعًا كثيفًا ومؤتمرًا عالميًا، مثل مؤتمر الحج كل عام، حيث تجد فيه مختلف الجنسيات والألوان والألسنة من كل أنحاء العالم (2).
قال ابن القيِّم: علقت القلوب على محبَّة الكعبة البيت الحرام، حتى استطاب المحبُّون في الوصول إليها هَجْرَ الأوطان والأحباب، ولذَّ لهم فيها السفرُ الذي هو قِطعةٌ من العذاب، فركبوا الأخطار، وجابوا المفاوز والقِفار، واحتملوا في الوصول غاية المشاقّ، ولو أمكنهم لسعَوا إليها على الجفون والأحداق:
نَعَمْ أَسْعَى إِلْيَكِ عَلَى جُفُونِي وَإِنْ بَعُدَتْ لِمَسْرَاكِ الطَّرِيقُ
وسِرُّ هذه المحبَّة هو إضافة الربِّ سبحانه له إلى نفسه بقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [البقرة: 125] (3).
نجائب تحمل الأحباب، صوابر على الإنضاء والإتعاب، ترفل بالزائرين إلى رب الأرباب، ادخرت لهم التحف والبشائر، ونظرت إلى صبرهم على فراق العشائر، ودعوتهم إلى نيل الأمل الوافر، ورحمت شعث الشعث وغبار المسافر، وكتبت في حسناتهم خطوات كل ذي خف وحافر، وأربحت تجارة كل وارد نحوي وصادر، وأعادتهم إلى منازلهم وما فيهم من خاسر (4).
كان الشوق المكنون في قلوب المسلمين للوصول إلى الحرمين الشريفين يحدو المسلمين من أقاصي الأرض في كل أحوالهم، ويخفف عنهم آلام السفر ومشاق الطريق ومخاطره، فمنهم من مات في طريقه إلى الحج، ومنهم من أصابته شدائد في سفره، فما ضرهم ما أصابهم، بل تحملوا الشدائد راضين سعداء، راجين رضوان الله، ومنهم من ظل لسنوات يجمع نفقة الحج وينتظر الفوز برحلة قدسية تقرِّب نفسه لباريها، وتملأ قلبه طمأنينة ورضا، وتسكب في روحه رياحين الرضا، ويرجو بذلك الوصول في الدنيا الفوز بلذة النظر إلى وجه الله الكريم.
إنه الشوق إلى أرض الرحمات، إنه الشوق إلى أرض العطايا والهبات، فحُقّ للنفوس أن تتوق، وحُقّ للأرواح أن تحلّق أملًا في الوصال، فخذ من خبرهم ما يبعث فيك الرغبة، ويحرك في قلبك الشوق.
وقد جرت للصالحين حين ركوبهم لسفر الحج أحوال من الخوف تارة والشوق والمحبة تارة أخرى، وقلب المؤمن يتقلَّب بين هاتين المنزلتين.
عن عبد العزيز بن أبي روّاد قال: دخل مكة قوم حجاج ومعهم امرأة وهي تقول: أين بيت ربي؟ فيقولون: الساعة ترينه، فلما رأوه قالوا: هذا بيت ربك، أما ترينه؟ فخرجت تشتد وتقول: بيت ربي، بيت ربي، حتى وضعت جبهتها على البيت، فوالله ما رُفعت إلا ميتة (5).
وقال سري: لقيت في طريق الحج حبشية فقلت: إلى أين؟ قالت: الحج، قلت: الطريق بعيد، فقالت:
بعيد على كسلان أو ذي ملالة فأما على المشتاق فهو قريب
ثم قالت: يا سري، إنهم يرونه بعيدًا ونراه قريبًا، فلما وصلت البيت رأيتها تطوف كالفتى الشاطر، فنظرت إليها فقالت: يا سري، أنا تلك العبدة لما جئته بضعفي حملني بقوته (6).
وعن عبد الله أحمد بن الجلاء يقول: كنت بذي الحليفة، وأنا أريد الحج، والناس يحرمون، فرأيت شابًا قد صب عليه الماء يريد الإحرام، وأنا أنظر إليه، فقال: يا رب، أريد أن أقول: لبيك اللهم، فأخشى أن تجيبني: لا لبيك ولا سعديك، وبقي يردد هذا القول مرارًا كثيرة، وأنا أتسمع عليه، فلما أكثر، قلت له: ليس لك بد من الإحرام، فقال: يا شيخ أخشى إن قلت: لبيك أجابني بلا لبيك ولا سعديك، فقلت له: أحسن ظنك، وقل معي: لبيك اللهم لبيك، فقال: لبيك اللهم، وطولها، وخرجت نفسه مع قوله اللهم، وسقط ميتًا (7).
فهل شممتَ عبيرًا أزكى من غبار المحرمين؟ هل رأيت لباسًا قط أجْملُ وأجَلُّ من لباس الحُجَاجِ والمعتمرين؟ هل رأيت رؤوسًا أعزُّ وأكرمُ من رؤوس المحلقين والمقصرين؟ هل مرّ بك رَكْبٌ أشرف من رَكْبِ الطائفين؟ هل هزَّك نَغَمٌ أروع من تلبية الملبين وأنين التائبين، وتأوه الخاشعين ومناجاة المنكسرين؟
جموعٌ مُلبية، وأعينٌ باكية، وعبرات ساكبة، وألسنة ذاكرة، وقلوب خاشعة، ونفوس خاضعة، وأيد داعية، وجباه ساجدة، تُفرح كل مؤمن وتغيظ كل عدو وكافر، بتلك النفوس المؤمنة، الزمان يزدهر، والأيام تحتفل، والأرض في طرب، والأرجاء تتقد.
إنه حنين الأفئدة وشوق القلوب وشغف النفوس؛ ترنوا إليه الأبصار وتمتد إليه الأعناق، تعلق به الخواطر وتلهج به الأفكار (8).
دوافع الشوق والحنين:
ما إن تهل نسائم الحج حتى تهفو القلوب إليها، وتجيش الصدور بها، حنينًا إلى زيارة بيت الله العتيق، وشوقًا إلى رضوان رب العالمين، وقد يتبادر إلى الذهن لماذا هذه الرغبة الدافقة الملحة من قِبل الراغبين إلى الحج؟
إلا أنه ليس هناك ثمة مشقة في استنباط دوافع هذه الرغبة، وبيان أسبابها كالتالي:
أولًا: لأن في ذلك استجابة لأوامر الله العلي الكبير الذي أمر المستطيعين من الناس بذلك: فقال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، فإذا أمر مالك الملك فما على العباد إلا الطاعة تمام الطاعة، والإذعان كل الإذعان، رغبة وطمعًا في عفوه وعطائه، ورهبة وخوفًا من منعه وعذابه، ولسان حالهم يقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]، وأُذن الطاعة مصغية إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]، فتتحرك القلوب قربى إليه بأحب شيء إليه، أملًا في بلوغ حبه والوصال به، حيث أخبر بذلك سبحانه في الحديث القدسي: «وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» (9).
قال الطوفي: الأمر بالفرائض جازم، ويقع بتركها المعاقبة، بخلاف النفل في الأمرين، وإن اشترك مع الفرائض في تحصيل الثواب فكانت الفرائض أكمل؛ فلهذا كانت أحب إلى الله تعالى وأشد تقريبًا، وأيضًا؛ فالفرض كالأصل والأس، والنفل كالفرع والبناء، وفي الإتيان بالفرائض على الوجه المأمور به امتثال الأمر واحترام الآمر، وتعظيمه بالانقياد إليه، وإظهار عظمة الربوبية وذل العبودية، فكان التقرب بذلك أعظم العمل، والذي يؤدي الفرض قد يفعله خوفًا من العقوبة، ومؤدي النفل لا يفعله إلا إيثارًا للخدمة، فيجازى بالمحبة التي هي غاية مطلوب من يتقرب بخدمته (10).
يجعل الله سلطان حبه غالبًا عليه حتى لا يرى إلا ما يحبه الله، ولا يسمع إلا ما يحبه، ولا يفعل إلا ما يحبه، ويكون الله سبحانه في ذلك له يدًا وعونًا، ووكيلًا يحمي سمعه وبصره ويده ورجله عما لا يرضاه.
وقيل: معناه كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه في الاستماع، وبصره في النظر، ويده في اللمس، ورجله في المشي، ويمكن أن يكون المعنى إذا تقرب إليه بما افترض عليه، وزاد في التقرب بالنوافل المكملات للفرائض، ومن جملتها دوام الذكر الموصل إلى حضور الوصول، وسرور الحصول، ومقام الفناء عن نفسه، والبقاء بربه، ظهر له آثار محبته الأزلية، وانكشف له أنوار قربته الأبدية، فرأى أن ما به من الكمال من السمع والبصر وقوة القوى إنما هو من آثار سمعه وبصره، وقدرته وقوته، وأما هو فعدم محض فلا يرى في الدار غيره ديار.
وقال ابن حجر: فلا يسمع شيئًا ولا يبصر ولا يبطش ولا يمشي، إلا وشهد أني الموجد لذلك والمقدر له، فيصرف جميع ما أنعمت به عليه إلى ما خُلق لأجله من طاعتي، فلا يستعمل سمعه وغيره من مشاعره إلا فيما يرضيني ويقربه مني، فلا يتوجه لشيء إلا وأنا منه بمرأى ومسمع، فأنا له عين ويد ورجل وعون ووكيل وحافظ ونصير، كما هو جلي عند أئمة العرفان دون غيرهم، إذ لا يؤمن عليهم لضيق العبادة عما يوهم لغير ذوي الإشارة من الأغاليط التي هي الحلول والاتحاد والانحلال عن رابطة الشرع الملجئة إلى مضايق الضلال (11).
ثانيًا: لأن الحجيج يسعون بتأدية هذه الفريضة إلى تحقيق واحد من أفضل الأعمال، ففي الحديث عن أبي هريرة قال: سئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله»، قيل: ثم ماذا؟ قال: «ثم جهاد في سبيل الله»، قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور» (12).
قال القاضي عياض رحمه الله: قال شمر: هو الذي لا يخالطه شيء من المأثم، ومنه برت يمينه إذا سلم من الحنث، وبر بيعه إذا سلم من الخداع، وقيل المبرور المتقبل، وبر الله حجك بفتحها إذا رجع مبرورًا مأجورًا وفي الحديث: «بر الحج إطعام الطعام وطيب الكلام» فعلى هذا يكون من البر الذي هو فعل الجميل، ومنه بر الوالدين والمؤمنين، قال: ويجوز أن يكون المبرور الصادق الخالص لله تعالى، هذا كلام القاضي (13).
ما أعظمك ربنا؛ تعرفنا مواطن الخير، ما أكرمك رسولنا وشفيعنا، تدلنا على دروب التجارة الرابحة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10]، أولسنا أحوج ما نكون إلى أعمال نثقِّل بها الميزان، {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [لأعراف: 8]، وننال بها من الله الرضوان ونرث بها الدرجات العلا في فردوس ذي المنة والإكرام، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].
ثالثًا: لأن الحج يعدل درجة الجهاد: فعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني جبان، وإني ضعيف، فقال: «هلمَّ إلى جهاد لا شوكة فيه: الحج» (14).
فإذا كان هذا شأن الضعيف والعاجز والمعذور من الرجال عن الجهاد، فما شأن المرأة؟
نجد الإجابة على ذلك في الحديث: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: «لكن أفضل الجهاد: حج مبرور» (15)، ما أكرمك وأعطفك علينا ربنا، فلعلمُك بحالنا وقلة حيلتنا وضعف قدرتنا على الجهاد، أو أنه قد يُحال بيننا وبين الجهاد فلم تحرمنا أجر الجهاد فجعلت ذلك في الحج.
رابعًا: لأن البيت يحمل عبق تاريخ الرسالات: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96]، إنه البيت الذي وضعت قواعده الملائكة، وبناه آدم عليه السلام، ثم رفع القواعد منه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وحج إليه النبيون عليهم السلام، ففي الحديث عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد مر بالروحاء سبعون نبيًا، فيهم نبي الله موسى عليه السلام، حفاة عليهم العباء، يؤمون بيت الله العتيق» (16)، فالناس يستشرفون التاريخ في مشارق الأرض ومغاربها سياحة في الأرض، فجعل الله لنا سياحتنا نحن المسلمين أن نؤم البيت العتيق، وجعل تاريخنا هو تاريخ الرسل والنبيين.
تاريخ الوحدانية والعبودية الخالصة له وحده سبحانه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
تلك الوحدة الكبرى بين الرسالات جميعًا، وبين الرسل جميعًا، هي قاعدة التصور الإسلامي وهي التي تجعل من الأمة المسلمة، الأمة الوارثة لتراث العقيدة القائمة على دين الله في الأرض، الموصولة بهذا الأصل العريق، السائرة في الدرب على هدى ونور، والتي تجعل من النظام الإسلامي النظام العالمي الذي يملك الجميع الحياة في ظله دون تعصب ولا اضطهاد، والتي تجعل من المجتمع الإسلامي مجتمعًا مفتوحًا للناس جميعًا في مودة وسلام (17).
خامسًا: لأن البيت قبلتهم التي يتوجهون إليها في صلاتهم: القبلة التي كانت أمنية الحبيب صلي الله عليه وسلم أن يتوجه إليها المسلمون في صلاتهم {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، فلما أمروا بذلك رفعوا لواء الطاعة والتسليم، فتوجهوا إليها أثناء صلاتهم في مسجد القبلتين إذعانًا ورغبة إلى الله رب العالمين، إنها القبلة، حيث تتجلى الفيوضات الإلهية، وتتنزل البركات السماوية وتغشى الوفود السكينة العلوية، فيا لهناء مَن ينال النظرة المحظية، ويفوز هنالك من الله بالعطية، ويحظى بالرضوان من رب البرية.
سادسًا: لأنهم يبتغون بذلك الأنس والأمان من الله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125]، ويرجون دعاء مستجابًا وعفوًا وغفرانًا، فإذا دعاك الملك ليؤنس وحشتك، ويعطيك الأمان مخبرًا إياك؛ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، ويلبي حاجاتك: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، ويغفر لك؛ {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 49]، فهل ترد مثل هذه الدعوة وتدفع هذا الفضل، أم أنك ستجيبه مسارعًا فيه فارًا إليه؟ {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50].
سابعًا: لأنهم يسعون إلى تطهير نفوسهم من أدرانها وأرجاسها: فيصبح رصيد السيئات عندهم صفرًا كيوم ولدتهم أمهاتهم، ففي الحديث عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» (18)، فقد بذلوا التوبة، وزرفوا دموع الندم، وأصروا العزم، مصغين آذان القلوب إلى قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8].
قال المباركفوري: وهو مخصوص بالمعاصي المتعلقة بالحقوق ولا تسقط الحقوق أنفسها، فمن كان عليه صلاة أو صيام أو زكاة أو كفارة ونحوها من حقوق الله، أو شيء من حقوق العباد؛ لا تسقط عنه لأنها حقوق لا ذنوب، إنما الذنب تأخيرها، فنفس التأخير يسقط بالحج لا هي نفسها، فلو أخره بعد الحج تجدد إثم آخر، فالحج المبرور يسقط إثم المخالفة لا الحقوق؛ ولا يسقط حق الآدمي بالحج إجماعًا، والله أعلم (19).
ثامنًا: لأنهم يرجون نفي الفقر والذنوب: للحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد، والذهب، والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة» (20)، لأن الفقر قد أرهقهم والذنوب قد أثقلتهم، وإزالته للفقر كزيادة الصدقة للمال؛ كذا قال الطيبي، وقال في المطامح: يحتمل كون ذلك لخصوصية علمها المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكونه إشارة إلى أن الغنى الأعظم هو الغنى بطاعة الله، ولا عطاء أعظم من مباهاة الله بالحاج الملائكة (21).
فلما سمعوا الداعي ينادي هلموا إلى الغني ليعطيكم وينفي عنكم فقركم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]، هلموا إلى العفو ليعفو عنكم ويغفر لكم ذنبكم، كم ذا توَدوا أن تنزاح عن نفوسكم جبال الذنوب وأن تطلِّقوا الفقر الكئود، فلن تجدوا ذلك إلا عند العفو الغفور الغني الودود، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مدرارًا (11) ويمددكم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)} [نوح: 10- 12].
تاسعًا: ولأنهم يريدون الأجر والمثوبة من الله: عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هذا البيت دعامة الإسلام، فمن خرج يؤم هذا البيت من حاج أو معتمر، كان مضمونًا على الله، إن قبضه أن يدخله الجنة وإن رده، رده بأجر وغنيمة» (22)، كم ذا تودّ القلوب المبصرة أن تكون الخاتمة هناك حيث الطهر الذي لا ذنب بعده والعطاء الذي لا مَنع بعده، والمنة التي لا حجب لها.
عاشرًا: كما أنهم ينتظرون الأجر من الله على نفقتهم: فقد وعدهم حبيبهم المصطفى بذلك ففي الحديث: عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله: الدرهم بسبعمائة ضعف» (23)، وأخبر عن رب العزة قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272]، أفلا تطمئن بأن الذي سيوفي هو رب العالمين، {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111] (24).
-----------
(1) أخرجه مسلم (1337).
(2) التفسير المنير للزحيلي (2/ 197).
(3) روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص: 269).
(4) التبصرة لابن الجوزي (2/ 144).
(5) صفة الصفوة (2/ 516).
(6) التبصرة لابن الجوزي (2/ 143).
(7) مختصر تاريخ دمشق (22/ 152).
(8) حنين الأفئدة (ص: 3).
(9) أخرجه البخاري (6502).
(10) فتح الباري لابن حجر (11/ 343).
(11) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1545).
(12) أخرجه البخاري (26)، ومسلم (83).
(13) شرح النووي على مسلم (2/ 74).
(14) أخرجه الطبراني في الأوسط (4287).
(15) أخرجه البخاري (1520).
(16) صحيح الترغيب والترهيب (1128).
(17) في ظلال القرآن (1/ 118).
(18) أخرجه البخاري (1521).
(19) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (9/ 151).
(20) أخرجه الترمذي (810).
(21) فيض القدير (3/ 226).
(22) أخرجه ابن حجر في المطالب العالية (1167).
(23) أخرجه أحمد (22999).
(24) إلى المشتاقين إلى بيت الله العتيق/ الإعجاز العلمي في القرآن.