آداب المجالس
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ} [المجادلة:11].
قال ابن كثير: «يقول تعالى مؤدبًا عباده المؤمنين، وآمرًا لهم أن يحسن بعضهم إلى بعض في المجالس: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ}، وذلك أن الجزاء من جنس العمل...
لا تعتقدوا أنه إذا فسح أحد منكم لأخيه إذا أقبل، أو إذا أُمِرَ بالخروج فخرج، أن يكون ذلك نقصًا في حقه؛ بل هو رفعة ومزية عند الله، والله تعالى لا يضيع ذلك له؛ بل يجزيه بها في الدنيا والآخرة، فإن من تواضع لأمر الله رفع الله قدره، ونشر ذكره؛ ولهذا قال: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11](1).
كلما التزم المؤمن بالأدب في المجلس كان أحب إلى الجالسين، وكان قريبًا من ربه سبحانه، وغفر الله له ذنبه، فمن هذه الآداب:
1- تعميرها بذكر الله:
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قعد مقعدًا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعًا لا يذكر الله فيه كان عليه من الله ترة»(2).
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة»(3).
قال الطيبي: «يعني من فتر ساعة من الأزمنة، وفي مكان من الأمكنة كان عليه حسرة وندامة؛ لأنه ضيع رأس ماله، وفوت ربحه، كما مر قبيل هذا، وأية حسرة أعظم من هذا!
والمثل يراد به الكلام الذي يجري بين الناس في المجالس من الأمور الدنيوية والهفوات والسقطات، فإذا لم تجر باسم الله تعالى يكون كجيفة يعافها الناس، وخص الحمار بالذكر ليشعر ببلادة أهل المجلس، ولأن الكلام إما خير أو شر أو مباح، ففي الخير أجر، وفي الشر إثم، وفي المباح عفو لا إثم فيه ولا أجر، والمراد بذكر الله هنا ما فيه رضا الله من الكلام؛ كالتلاوة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والتسبيح، والتهليل، والدعاء للمؤمنين وما أشبه ذلك»(4).
قال ابن عباس: «ما جلس قوم في بيت من بيوت الله، يذكرون الله، إلا كانوا أضيافًا لله عز وجل ما داموا فيه حتى يتصدعوا عنه، وأظلتهم الملائكة بأجنحتها ما داموا فيه»(5).
وعن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)»(6).
وعن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم، وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ قالوا: يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله، ما رأوك؟ فيقول: وكيف لو رأوني؟ يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدًا وتحميدًا، وأكثر لك تسبيحًا، يقول: فما يسألوني؟ قال: يسألونك الجنة، يقول: وهل رأوها؟ يقولون: لا والله يا رب، ما رأوها، يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصًا، وأشد لها طلبًا، وأعظم فيها رغبة، قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار، يقول: وهل رأوها؟ يقولون: لا والله يا رب، ما رأوها، يقول: فكيف لو رأوها؟ يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا، وأشد لها مخافة، فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم، يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة، قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم»(7).
2- اختيار الجليس الصالح:
عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يُحذيك [يعطيك]، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة»(8).
فيه تجنب خلطاء السوء ومجالسة الأشرار وأهل البدع والمغتابين للناس؛ لأن جميع هؤلاء ينفذ أثرهم إلى جليسهم، والحض على مجالسة أهل الخير، وتلقي العلم والأدب، وحسن الهدي والأخلاق الحميدة(9).
والصالح هو من يدل على الله وعلى ما يقرب إليه، من قول أو عمل، والسيء بعكسه.
عن أبي موسى الأشعري قال: «إياك ومجالسة الأشرار؛ فإن طبعك يسرق منهم وأنت لا تدري، وليس إعداء الجليس جليسه بمقاله وفعاله فقط؛ بل وبالنظر إليه، فإن النظر إلى الصور يؤثر في النفوس أخلاقًا مناسبة لِخُلُق المنظور إليه، فإن مَن دامت رؤيته للمسرور سر، ومن دامت رؤيته للمحزون حزن، وليس ذلك في الإنسان فقط؛ بل في الحيوانات والجمادات، فالجمل الصعب يصير ذلولًا بمقارنة المذلول، والريحانة النضرة تصير ذابلة بمجاورة الذبلة؛ ولذا يلفظ أهل الزراعة الذابل من الزرع لئلا يفسد الصالح منه(10).
وفيه الإرشاد إلى مجالسة الأخيار الذين يستفيد منهم عملًا نافعًا، وحسن خلق، وذكرًا لله، وتزهيدًا في الدنيا، وترغيبًا في الآخرة.
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل»(11).
قال معاذ بن جبل: «إياك وكلَّ جليس لا يفيدك علمًا».
وقال ابن مسعود: «ثلاث مَن كنَّ فيه ملأ الله قلبَه إيمانًا: صحبة الفقيه، وتلاوة القرآن، والصيام».
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: «لا تجالس عدوك؛ فإنه يحفظ عليك سقطاتك، ويماريك في صوابك».
وقال ابن عجلان: «ثلاثة لا أُقل منهن، ولا يزددن إلا قلة: درهم حلال تنفقه في حلال، وأخ في الله تسكن إليه، وأمين تستريح إلى الثقة به»(12).
3- النهي عن إقامة الرجل من مجلسه:
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا، وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه(13).
يعني: لا يليق بإنسان أن يقيم أحدًا من أجل أن يجلس مكانه، وأيضًا لا يجلس مكان أحدهم، وإنما يتوسعون ويتراحمون فيما بينهم، ويفسح بعضهم لبعض.
وكان ابن عمر إذا قام له الرجل من مجلسه لم يجلس فيه، وهذا محمول من ابن عمر على الورع؛ لاحتمال أن يكون الذي قام لأجله استحى منه، فقام عن غير طيب قلب، فسدّ الباب ليسلم من هذا.
وقال النووي: «قال أصحابنا: هذا في حق من جلس في موضع من المسجد أو غيره لصلاة مثلًا، ثم فارقه ليعود إليه؛ كإرادة الوضوء مثلًا والشغل يسير ثم يعود، لا يبطل حقه في الاختصاص به، وله أن يقيم من خلفه وقعد فيه، وعلى القاعد أن يطيعه»(14).
اختيار الجلسة المناسبة التي لا محظور فيها، ولا تكشف عورة، ومن ذلك كراهة الاتكاء على ألية اليد اليسرى خلف الظهر، فعن الشريد بن سويد رضي الله عنه قال: «مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس هكذا، أي وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على ألية يدي، فقال: (أتقعد قعدة المغضوب عليهم؟)»(15).
ومن ذلك أيضًا: عدم الاستلقاء على الأرض ووضع إحدى الأرجل على الأخرى، وكان ذلك الاستلقاء تنكشف به العورة، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمش في نعل واحد، ولا تحتب في إزار واحد، ولا تَأكل بشمالك، ولا تشتمل الصّماء، ولا تضع إحدى رجليك على الأخرى إذا استلقيت»(16).
ومن ذلك أيضًا: عدم الجلوس بين الظل والشمس، فعن ابن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقعد بين الظل والشمس(17).
4- السلام في القدوم والذهاب:
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا انتهى أحدكم إلى مجلس فليسلم، فإن بدا له أن يجلس فليجلس، ثم إذا قام فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة»(18).
والظاهر: أن المراد به أنه إذا أراد أن ينصرف ولو لم يجلس «فليسلم»؛ أي: ندب «فليست الأولى»؛ أي: التسليمة الأولى «بأحق»؛ أي: بأولى وأليق «من الآخرة»؛ بل كلتاهما حق وسنة مشعرة إلى حسن المعاشرة، وكرم الأخلاق، ولطف الفتوة ولطافة المروءة، فإنه إذا رجع ولم يسلم ربما يتشوش أهل المجلس من مراجعته على طريق السكوت، وبهذا يتبين أنه قد يقال؛ بل الآخرة أولى من الأولى; لأن تركها ربما يتسامح فيه بخلاف الثانية على ما هو المشاهد في المتعارف، لا سيما إذا كان في المجلس ما لا يذاع ولا يشاع؛ ولذا قيل: كما أن التسليمة الأولى إخبار عن سلامتهم من شره عند الحضور، فكذلك الثانية إخبار عن سلامتهم من شره عند الغيبة، وليست السلامة عند الحضور أولى من السلامة عند الغيبة؛ بل الثانية أولى، هذا وليس في الحديث ما يدل على وجوب جواب التسليمة الثانية أصلًا، لا نفيًا ولا إثباتًا، وقد قدمنا عن بعض أئمتنا التصريح بعدم وجوب جواب السلام الثاني ووجهنا توجيهه(19).
وظاهر هذا الحديث يدل على أنه يجب على الجماعة رد السلام على الذي سلم على الجماعة عند المفارقة، قال القاضي حسين وأبو سعيد المتولي: «جرت عادة بعض الناس بالسلام عند المفارقة، وذلك دعاء يستحب جوابه ولا يجب؛ لأن التحية إنما تكون عند اللقاء لا عند الانصراف»، وأنكره الشاشي وقال: «إن السلام سنة عند الانصراف كما هو سنة عند اللقاء، فكما يجب الرد عند اللقاء كذلك عند الانصراف»، وهذا هو الصحيح(20).
5- أن يجلس حيث ينتهي به المجلس:
عن جابر بن سمرة قال: «كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم جلس أحدنا حيث ينتهي»(21)، يجلس أحدهم حيث ينتهي به المجلس، فيكون من سبق له المكان، وغيره يأتي فيجلس حيث ينتهي به المجلس، وهذه هي الهيئة التي كان الصحابة يفعلونها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من الآداب أن الإنسان يأتي ويجلس حيث ينتهي به المجلس، وهذا الأدب الشرعي.
أما أن يخترق الصفوف، ويتخطى الرقاب، ويضايق الناس لأجل أن يأتي قدام ويجلس فهذا ليس من أدب المجالس، إنما يجلس حيث ينتهي به المجلس، وإذا وجد فرجة في مكان جلس فيها من غير أن يؤذي أحدًا.
عن أبي الزاهرية قال: «كنت جالسًا مع عبد الله بن بسر يوم الجمعة، فجاء رجل يتخطى رقاب الناس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: (اجلس، فقد آذيت وآنيت)»(22).
وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل للرجل أن يفرِّق بين اثنين إلا بإذنهما»(23).
قال القاضي أبو يعلى: «إن شق عليهم لم يجز؛ لأن فيه أذية لهم، وشغلًا لقلوبهم»(24).
6- دعاء كفارة المجلس أو في آخر المجلس:
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك»(25).
وإنما ترتب على هذا الذكر غفر ما كسب في ذلك المجلس لِما فيه من تنزيه المولى سبحانه، والثناء عليه بإحسانه، والشهادة بتوحيده، ثم سؤال المغفرة من جنابه، وهو الذي لا يخيب قاصد بابه(26).
عن ابن عمر قال: «قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا)»(27).
7- النهي عن الجلوس بين الظل والشمس:
عن ابن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقعد بين الظل والشمس(28)، ولغيره بألفاظ قريبة.
وفي هذه الأخبار اختيار الظل والفيء، فلا يكثر الجلوس في الشمس ولا ينام فيها، ولا بينهما.
8- التحول من المجلس عند النعاس:
عن ابن عمر قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا نعس أحدكم في المسجد يوم الجمعة فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره)»(29).
والحكمة في الأمر بالتحول أن الحركة تذهب النعاس، ويحتمل أن الحكمة فيه انتقاله من المكان الذي أصابته فيه الغفلة بنومه، وإن كان النائم لا حرج عليه، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في قصة نومهم عن صلاة الصبح في الوادي بالانتقال منه.
وأيضًا من جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة، والنعاس في الصلاة من الشيطان، فربما كان الأمر بالتحول لإذهاب ما هو منسوب إلى الشيطان، من حيث غفلة الجالس في المسجد عن الذكر، أو سماع الخطبة أو ما فيه منفعة(30).
9- النهي عن التصنت على الآخرين:
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تحلَّم بحُلْم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه صب في أذنه الآنُك يوم القيامة، ومن صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها وليس بنافخ»(31).
نهى النبي عليه السلام عن الاستماع إلى حديثهم نهيًا عامًا، فلا يجوز لأحد من الناس أن يستمع إلى حديث قوم يكرهون استماعه، فإن فعل ذلك فأمره إلى خالقه؛ إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، فإن قيل: أفرأيت من استمع إلى حديثهم وهو لا يعلم هل يكرهون ذلك، هل هو داخل فيمن يصب في أذنيه الآنك يوم القيامة؟ قيل: إن الخبر إنما ورد بالوعيد لمستمع ذلك وأهله له كارهون، فأما من لم يعلم كراهتهم لذلك فالصواب ألا يستمع حديثهم إلا بإذنهم له في ذلك؛ للخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الدخول بين المتناجيين، في كراهية ذلك إلا بإذنهم(32).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى رجلان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس أجل أن يحزنه»(33).
قال النووي: «المناجاة المسارة، وانتجى القوم وتناجوا؛ أي سَارَّ بعضهم بعضًا، وفي الحديث النهي عن تناجي اثنين بحضرة ثالث وأكثر بحضرة واحد، وهو نهي تحريم، فيحرم على الجماعة المناجاة دون واحد منهم إلا أن يأذن، ومذهب ابن عمر ومالك وأصحابه وجماهير العلماء أن النهي عام في كل الأزمان في الحضر والسفر»(34).
10- عدم مقاطعة المتحدث:
عن أبي هريرة قال: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: (متى الساعة؟)، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: (سمع ما قال فكره ما قال)، وقال بعضهم: (بل لم يسمع)، حتى إذا قضى حديثه قال: «أين أراه السائل عن الساعة؟»، قال: (ها أنا يا رسول الله)، قال: (فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)، قال: (كيف إضاعتها؟)، قال: (إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)»(35).
قال المهلب: «فيه أن من أدب المتعلم ألَّا يسأل العالم ما دام مشتغلًا بحديث أو غيره؛ لأن من حق القوم الذين بدأ بحديثهم ألا يقطعه عنهم حتى يتمه»(36).
11- تجنب طرق الناس:
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله عليه السلام قال: «إياكم والجلوس بالطرقات»، قالوا: «يا رسول الله، لا بد من مجالسنا نتحدث فيها»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقه»، قالوا: «وما حق الطريق يا رسول الله؟»، قال: «غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(37).
اختيار المكان المناسب للمجلس، فلا يجلس في الطرقات، ولا أبواب السكك، وأماكن العبادة والراحة.
جاء في مرقاة المفاتيح: «قال الطيبي: من مجالسنا متعلق بقوله بد؛ أي: ما لنا فراق منها، والمعنى: أن الضرورة قد تلجئنا إلى ذلك، فلا مندوحة لنا عنه، ومن جملة ما نحتاج إليه ما بينه بقوله: «نتحدث فيه»؛ أي: يحدث بعضنا بعضًا فيما يتعلق بأمر دنيوي أو أخروي؛ كالمشاورة والمذاكرة، والمعالجة والمعاملة والمصالحة»(38).
12- الاستفادة من أهل الفضل الذين في المجلس، فقد يكون في المجلس من يستفاد منه؛ بل قد لا تتيسر الفرصة للقاء به، أو الاستفادة منه إلا في هذا المجلس، وقد ينفع الله به في ذلك المجلس، فقد كان الإمام البخاري في مجلس إسحاق بن راهويه، فقال أستاذه، أمير المؤمنين في الحديث والفقه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه: «لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم», قال البخاري: «فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الصحيح»(39).
13- احترام الكبير وتوقيره، ورحمة الصغير والشفقة عليه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من لم يوقر الكبير ويرحم الصغير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر»(40)، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)»(41).
14- حفظ اللسان، ولا يقول ما يغضب الله تعالى، وذلك أن المجالس تقوم على الحوار والكلام، فإن منهج السلامة في المجالس حفظ اللسان، والحذر من كثرة الكلام إلا في الخير، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)»(42).
قال الإمام النووي: «وهذا الحديث صريح في أنه ينبغي ألا يتكلم إلا إذا كان الكلام خيرًا، وهو الذي ظهرت مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة فلا يتكلم»(43).
15- الحذر من تتبع عورات الناس، فعن ابن عمر قال: «صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: (يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله)»(44).
16- انتقاء الألفاظ الحسنة، واختيار الكلام المناسب، فعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، رجالٌ ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغشى بياض وجوههم نظر الناظرين، يغبطهم النبيون والشهداء بمقعدهم وقربهم من الله عز وجل»، قيل: «يا رسول الله، من هم؟»، قال: «هم جماع من نوازع القبائل، يجتمعون على ذكر الله فينتقون أطايب الكلام كما ينتقي آكل التمر أطايبه»(45).
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: «لولا ثلاث خِلالٍ لأحببت ألا أبقى في الدنيا، لولا وضوع وجهي للسجود لخالقي في اختلاف الليل والنهار يكون تقدمة لحياتي، وظمأ الهواجر، ومقاعدة أقوام ينتقون الكلام كما تنتقى الفاكهة»(46).
17- حسن الاستماع والإنصات، وهذا الأدب من الآداب المهمة في المجالس، فكيف تريد أن تستأثر بالحديث وغيرك يستمع لك، ولا يملك أن يوصل فكرته لك بسبب كثرة مقاطعتك، وعدم انصاتك له، وقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم في موقفه مع عتبة بن ربيعة أروع المثال في الأدب والتحلي بمكارم الأخلاق، ومن ذلك حسن استماعه لهذا المشرك الذي يدعو إلى الشرك ويساوم على التوحيد.
18- ترك المجالس التي فيها استهزاء بالله وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم:
إذا وجد المنكر في أي مكان كان فإنه لا يجوز الجلوس فيه بعد النكير على أهل المنكر، وذلك متقرر بقوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140].
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى عند قوله عز وجل: {إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ}: «فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية، وعملوا بها؛ فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية»(47).
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: «وقد نبهت الآية على التحذير من مجالسة العصاة، قال إبراهيم النخعي: إن الرجل ليجلس في المجلس فيتكلم بالكلمة، فيرضي الله بها، فتصيبه الرحمة، فتعم من حوله؛ وإن الرجل ليجلس في المجلس فيتكلم بالكلمة، فيسخط الله بها، فيصيبه السخط، فيعم من حوله»(48).
فيحرم بعد هذا البيان الجلوس في أي مجلس يعصى الله تعالى فيه، ويجب تذكير من فيه بالله عز وجل، وتخويفهم به، فإن أبوا فلا يجالَسون، والتعامل مع أهل البدع أشد من التعامل مع أهل المعاصي؛ لأن أهل البدع أخطر على المسلم من أهل المعاصي.
19- ترك القيام للداخل إذا كان ذلك يعجبه ويحبه، لما في ذلك من المخالفة الصريحة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما فيه من تعظيم غير الله تعالى والقيام له.
وهذه المسألة (مسألة القيام للداخل) فيها تفصيل بالنسبة للوقوف للداخل، فقد أجاب عنها شيخ الإسلام بن تيمية إجابة مفصلة مبنية على الأدلة الشـرعية، فقال رحمه الله تعالى: «لم تكن عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام كلما يرونه صلى الله عليه وسلم، كما يفعله كثير من الناس؛ بل قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (لم يكن شخص أحب إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لِمَا يعلمون من كراهته لذلك)»(49)، ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقيًا له، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لعكرمة، وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ رضي الله عنه: «قوموا إلى سيدكم»(50)، وكان قد قدم ليحكم في بني قريظة؛ لأنهم نزلوا على حكمه.
والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يعدل أحد عن هدي خير الورى وهدي خير القرون إلى ما هو دونه، وينبغي للمطاع ألا يقر ذلك مع أصحابه بحيث إذا رأوه لم يقوموا له إلا في اللقاء المعتاد.
وأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تَلَقِّيًا له فحسن، وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام، ولو تُرِكَ لاعتقد أن ذلك لِتَرْكِ حقه أو قصد خفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يقام له؛ لأن ذلك أصلح لذات البين وإزالة التباغض والشحناء، وأما مَن عَرف عادة القوم الموافقة للسنة فليس في ترك ذلك إيذاء له، وليس هذا القيام المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: «مَن سَرَّه أن يتمثَّل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار»(51)، فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد، ليس هو أن يقوموا له لمجيئه إذا جاء، ولهذا فرقوا بين أن يقال: قمت إليه، وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام، بخلاف القائم للقاعد.
فمن لم يعتقد ذلك، ولم يعرف أنه العادة، وكان في ترك معاملته بما اعتاد من الناس من الاحترام مفسدة راجحة، فإنه يدفع أعظم المفسدتين بالتزام أدناهما، كما يجب فعل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما(52).
20- عدم إفشاء أسرار المجالس؛ لأن الأسرار أمانة، وإفشاؤها خيانة، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا حُدِّثَ الإنسانُ حديثًا والمُحدِّث يلتفت حوله فهو أمانة»(53).
***
______________
(1) تفسير ابن كثير، ت سلامة (8/ 48).
(2) أخرجه أبو داود (2272).
(3) أخرجه أبو داود (2273).
(4) شرح المشكاة، للطيبي (5/ 1736).
(5) شرح صحيح البخاري، لابن بطال (10/ 137).
(6) أخرجه مسلم (2699).
(7) أخرجه البخاري (6045)، ومسلم (2689).
(8) أخرجه البخاري (5534)، ومسلم (2628).
(9) إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 108).
(10) التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 522).
(11) أخرجه الترمذي (2378)، وأبو داود (4833).
(12) الآداب الشرعية والمنح المرعية (3/ 572).
(13) أخرجه البخاري (6270).
(14) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (22/ 258).
(15) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (3/ 331).
(16) أخرجه مسلم (2099).
(17) أخرجه ابن ماجه (3722).
(18) أخرجه الترمذي (2706)، وأبو داود (5208).
(19) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 2952).
(20) شرح المشكاة للطيبي، الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3049).
(21) أخرجه الترمذي (2725)، وأبو داود (4825).
(22) أخرجه ابن حبان (2790).
(23) أخرجه الترمذي (2752)، وأبو داود (4844).
(24) فتح الباري، لابن رجب (8/ 207).
(25) أخرجه الترمذي (3433).
(26) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (5/ 307).
(27) أخرجه الترمذي (3502).
(28) أخرجه ابن ماجه (3722).
(29) أخرجه الترمذي (526)، وأبو داود (1119).
(30) نيل الأوطار (3/ 298).
(31) أخرجه البخاري (6635).
(32) شرح صحيح البخاري، لابن بطال (9/ 556).
(33) أخرجه البخاري (5932)، ومسلم (2184).
(34) السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 170).
(35) أخرجه البخاري (59).
(36) شرح صحيح البخاري، لابن بطال (1/ 138).
(37) أخرجه البخاري (5857)، ومسلم (2121).
(38) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 2942).
(39) سير أعلام النبلاء (12/ 401).
(40) أخرجه أحمد (2329).
(41) أخرجه أبو داود (4843).
(42) أخرجه البخاري (5672)، ومسلم (74).
(43) رياض الصالحين، ص427.
(44) أخرجه الترمذي (2032).
(45) أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 99).
(46) حليلة الأولياء(1/ 212).
(47) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (5/ 268).
(48) زاد المسير (2/ 228-229).
(49) أخرجه أبو يعلى في مسنده (6/ 417).
(50) أخرجه البخاري (3043)، ومسلم (1768).
(51) أخرجه الترمذي (2755).
(52) مجموع الفتاوى (1/ 376).
(53) أخرجه الترمذي (3433).