قصة التضحية والفداء
أن يضحي الإنسان بجزء من ماله أو بماله كله، أو يضحي بوقته، أو بعلمه، أو بسعادته؛ أمر تقبله النفوس وتدركه العقول، أما أن يضحي المرء بفلذة كبده وثمرة فؤاده؛ فهذا أمر يفوق مستوى الادراك.
لقد امتحن الله نبيه إبراهيم عليه السلام بامتحانين عظيمين، وكلتاهما غاية في الشدة والابتلاء، أولهما محنة النار والإلقاء، وثانيهما محنة الذبح والفداء، حيث كوفئ إبراهيم عند اجتيازه المحنة الأولى بالبشارة بالغلام الحليم، ثم أتبعه بقصة الذبيح وبشره بالفداء والذبح العظيم، وزاده بشرى أخرى بإسحاق نبيًا من الصالحين.
وقد أقبل إبراهيم عليه السلام على ربه بقلب مخلص موحد خال من شوائب الشك، نافر من الشرك ومن جميع النقائص؛ كالغل والحسد والكبر، كما أنه جمع مكارم الأخلاق، وكان أمة لوحده، فانظر إلى وصف الله له، قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} [هود: 75].
وأما إسماعيل عليه السلام أول ولد بشر به إبراهيم، وكان عمره يومئذ ست وثمانون سنة، ولما نجّا الله إبراهيم من إحراق النار، وأيس من إيمان قومه قرر مفارقتهم، وهاجر من بلاد بابل إلى بلاد الشام المباركة، وفي أثناء الهجرة دعا ربه أن يرزقه الذرية الصالحة لتكون عونًا له على الطاعة، وأُنسًا في الغربة، وعوضًا على قومه، وكان وقتئذ وحيدًا فكانت البشارة بالغلام انطوت فيه ثلاث خصال: أنه غلام ذكر، أنه سيبلغ معه سن الرشد، أن يكون حليمًا في كبره.
قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)} [الصافات: 102- 113].
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} يعني: شب وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل (1).
قال القرطبي: فلما بلغ مع المبلغ الذي يسعى مع أبيه في أمور دنياه معينًا له على أعمال، {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}.
وقال مجاهد: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} أي شب وأدرك سعيه سعي إبراهيم.
وقال الفراء: كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة، وقال ابن عباس: هو احتلام، وقال قتادة: مشى مع أبيه، وقال الحسن ومقاتل: هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة، وقال ابن زيد: هو السعي في العبادة، وعن ابن عباس: صام وصلى، ألم تسمع الله عز وجل يقول: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19] (2).
وهذا اختبار من الله عز وجل لخليله في أن يذبح هذا الولد العزيز الذي جاءه على كِبَر، وقد طعن في السن، بعد ما أمر بأن يسكنه هو وأمه في بلاد قفر وواد ليس به حسيس ولا أنيس ولا زرع ولا ضرع، فامتثل أمر الله في ذلك، وتركهما هناك ثقة بالله وتوكلًا عليه، فجعل الله لهما فرجًا ومخرجًا، ورزقهما من حيث لا يحتسبان، ثم لما أمر بعد هذا كله بذبح ولده هذا الذي هو بكره ووحيده الذي ليس له غيره؛ أجاب ربه وامتثل أمره وسارع إلى طاعته، ثم عرض ذلك على ولده ليكون أطيب لقلبه وأهون عليه من أن يأخذه قسرًا ويذبحه قهرًا: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى}، فبادر الغلام الحليم .. {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} وهذا الجواب في غاية السداد والطاعة للوالد ولرب العباد.
قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}، قيل أسلما أي استسلما لأمر الله وعزما على ذلك، ومعنى تله للجبين، أي ألقاه على وجهه، قيل: أراد أن يذبحه من قفاه لئلا يشاهد وجهه في حال ذبحه، قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك .. وأسلما أي سمّى إبراهيم وكبر وتشهّد الولد للموت، قال السدي وغيره: أمَرَّ السكين على حلقه فلم تقطع شيئًا، ويقال جُعل بينها وبين حلقه صفيحة من نحاس والله أعلم، فعند ذلك نودي من الله عز وجلّ: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}، أي قد حصل المقصود من اختبارك وطاعتك ومبادرتك إلى أمر ربك وبذْلِك ولدك للقربان، كما سمحت ببدنك للنيران، وكما مالك مبذول للضيفان، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} أي الاختبار الظاهر البيّن، وقوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} أي وجعلنا فداء ذبح ولده ما يسَّرَه الله تعالى له من العِوَض عنه والمشهور عن الجمهور أنه كبش أبيض أعْيَن أقرن، عن ابن عباس قال: كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفًا (3).
واحتج القائلون بأنه إسماعيل بوجوه:
الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا ابن الذبيحين» (4).
الحجة الثانية: نقل عن الأصمعي أنه قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال: يا أصمعي أين عقلك، ومتى كان إسحاق بمكة، وإنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة؟
الحجة الثالثة: أن الله تعالى وصف إسماعيل بالصبر دون إسحاق في قوله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء: 85]، وهو صبره على الذبح، ووصفه أيضًا بصدق الوعد في قوله: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54]، لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به.
الحجة الرابعة: قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71]، فنقول لو كان الذبيح إسحاق لكان الأمر بذبحه إما أن يقع قبل ظهور يعقوب منه أو بعد ذلك، فالأول: باطل؛ لأنه تعالى لما بشرها بإسحاق، وبشرها معه بأنه يحصل منه يعقوب فقبل ظهور يعقوب منه لم يجز الأمر بذبحه، وإلا حصل الخلف في قوله: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} والثاني: باطل لأن قوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102]، يدل على أن ذلك الابن لما قدر على السعي ووصل إلى حد القدرة على الفعل أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه، وذلك ينافي وقوع هذه القصة في زمان آخر، فثبت أنه لا يجوز أن يكون الذبيح هو إسحاق.
الحجة الخامسة: حكى الله تعالى عنه أنه قال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]، ثم طلب من الله تعالى ولدا يستأنس به في غربته فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، وهذا السؤال إنما يحسن قبل أن يحصل له الولد، لأنه لو حصل له ولد واحد لما طلب الولد الواحد، لأن طلب الحاصل محال وقوله: {هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} لا يفيد إلا طلب الولد الواحد، وكلمة من للتبعيض، وأقل درجات البعضية الواحد فكأن قوله: {مِنَ الصَّالِحِينَ} لا يفيد إلا طلب الولد الواحد، فثبت أن هذا السؤال لا يحسن إلا عند عدم كل الأولاد، فثبت أن هذا السؤال وقع حال طلب الولد الأول، وأجمع الناس على أن إسماعيل متقدم في الوجود على إسحاق، فثبت أن المطلوب بهذا الدعاء وهو إسماعيل، ثم إن الله تعالى ذكر عقيبه قصة الذبيح؛ فوجب أن يكون الذبيح هو إسماعيل.
الحجة السادسة: الأخبار الكثيرة في تعليق قرن الكبش بالكعبة، فكان الذبيح بمكة، ولو كان الذبيح إسحاق لكان الذبح بالشام (5).
ورؤيا الأنبياء حق، وقد أخبره بذلك ليستعد لتنفيذ أمر ربه فيكسب مثوبة الانقياد، وليعلم صبره لأمر ربه فدعاه إلى نظر العقل لا البصر {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ} حيث الأمر بالذبح أمر ابتلاء لإظهار عزمه وعلو مرتبته، فبعد الإجابة أمره بذبحه بيده، وهو أحب النفوس إليه مقابل ذلك الامتثال، وهذا معنى البلاء المبين.
ويأتيه جواب الابن: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِين} يقل: اذبحني، للجمع بين الإذن وتعليله، أي أذنت لك أن تذبحني لأن الله تعالى أمرك بذلك، ففيه تصديق أبيه وامتثال أمر الله تعالى فيه، وفي تحديد من الصابرين مبالغة في اتصافه بالصبر وتأكيد لوصفه السابق بالحلم.
فلما سلما أمرهما إلى الله تعالى، انقيادًا لحكمه، وتفويضًا إليه في قضائه، وكان استسلام إبراهيم بالتهيؤ للذبح، واستسلام إسماعيل بطاعة أبيه فيما بلغه عن ربه {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}، أي وضعه بقوة على وجهه، ووجهه إلى القبلة، وحين أضجعه للذبح جاءه النداء أن قد حصل المقصود من رؤياك، وتحقق المطلوب.
والرؤيا اسم لما يُرى من قِبل الله تعالى، والحلم اسم لما يُرى من قِبل الشيطان، وفي الصحيحين: «الرؤيا من الله والحلم من الشيطان» (6).
إبراهيم الشيخ، المقطوع من الأهل والقرابة، المهاجر من الأرض والوطن، ها هو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام، طالما تطلع إليه، فلما جاءه جاء غلامًا ممتازًا يشهد له ربه بأنه حليم، وها هو ذا ما يكاد يأنس به، وصباه يتفتح، ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة، ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد، حتى يرى في منامه أنه يذبحه، ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية، فماذا؟ إنه لا يتردد، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم، نعم إنها إشارة، مجرد إشارة، وليست وحيًا صريحًا، ولا أمرًا مباشرًا، ولكنها إشارة من ربه، وهذا يكفي، هذا يكفي ليلبي ويستجيب، ودون أن يعترض، ودون أن يسأل ربه، لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد؟!
ولكنه لا يلبي في انزعاج، ولا يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب، كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء، يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102].
فهي كلمات المالك لأعصابه، المطمئن للأمر الذي يواجهه، الواثق بأنه يؤدي واجبه، وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن، الذي لا يهوله الأمر فيؤديه، في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي، ويستريح من ثقله على أعصابه.
والأمر شاق ما في ذلك شك، فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة، ولا يطلب إليه أن يكلفه أمرًا تنتهي به حياته، إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده، يتولى ماذا؟ يتولى ذبحه، وهو مع هذا يتلقى الأمر هذا التلقي، ويعرض على ابنه هذا العرض؛ ويطلب إليه أن يتروى في أمره، وأن يرى فيه رأيه.
إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه؛ وينتهي، إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر، فالأمر في حسه هكذا ربه يريد، فليكن ما يريد، على العين والرأس، وابنه ينبغي أن يعرف، وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلامًا، لا قهرًا واضطرارًا، لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم.
إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها؛ وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى .
فماذا يكون من أمر الغلام، الذي يعرض عليه الذبح، تصديقًا لرؤيا رآها أبوه؟
إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102].
إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب، ولكن في رضى كذلك وفي يقين، {يَا أَبَتِ} في مودة وقربى، فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده، بل لا يفقده أدبه ومودته.
{افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} فهو يحس ما أحسه من قبل قلب أبيه، يحس أن الرؤيا إشارة، وأن الإشارة أمر، وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب.
ثم هو الأدب مع الله، ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال؛ والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية، ومساعدته على الطاعة: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.
ولم يأخذها بطولة، ولم يأخذها شجاعة، ولم يأخذها اندفاعًا إلى الخطر دون مبالاة، ولم يظهر لشخصه ظلًا ولا حجمًا ولا وزنًا، إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه، وأصبره على ما يراد به: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.
يا للأدب مع الله! ويالروعة الإيمان، ويا لنبل الطاعة، ويا لعظمة التسليم.
ويخطو المشهد خطوة أخرى وراء الحوار والكلام، يخطو إلى التنفيذ {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}.
ومرة أخرى يرتفع نبل الطاعة، وعظمة الإيمان، وطمأنينة الرضى وراء كل ما تعارف عليه بنو الإنسان، إن الرجل يمضي فيكب ابنه على جبينه استعدادًا، وإن الغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعًا، وقد وصل الأمر إلى أن يكون عيانًا.
لقد أسلما، فهذا هو الإسلام، هذا هو الإسلام في حقيقته، ثقة وطاعة وطمأنينة ورضى وتسليم وتنفيذ، وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم.
إنها ليست الشجاعة والجراءة، وليس الاندفاع والحماسة، لقد يندفع المجاهد في الميدان، يقتل ويقتل، ولقد يندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود، ولكن هذا كله شيء والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل هنا شيء آخر، ليس هنا دم فائر، ولا حماسة دافعة ولا اندفاع في عجلة تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص! إنما هو الاستسلام الواعي المتعقل القاصد المريد، العارف بما يفعل، المطمئن لما يكون.
لا بل هنا الرضى الهادئ المستبشر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل.
وهنا كان إبراهيم وإسماعيل قد أديا، كانا قد أسلما، كانا قد حققا الأمر والتكليف، ولم يكن باقيًا إلا أن يذبح إسماعيل، ويسيل دمه، وتزهق روحه، وهذا أمر لا يعني شيئًا في ميزان الله، بعدما وضع إبراهيم وإسماعيل في هذا الميزان من روحهما وعزمهما ومشاعرهما كل ما أراده منهما ربهما.
كان الابتلاء قد تم، والامتحان قد وقع، ونتائجه قد ظهرت، وغاياته قد تحققت، ولم يعد إلا الألم البدني، وإلا الدم المسفوح، والجسد الذبيح، والله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء، ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء، ومتى خلصوا له واستعدوا للأداء بكلياتهم فقد أدوا، وقد حققوا التكليف، وقد جازوا الامتحان بنجاح.
وعرف الله من إبراهيم وإسماعيل صدقهما، فاعتبرهما قد أديا وحققا وصدقا: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات: 104 - 107].
قد صدقت الرؤيا وحققتها فعلًا، فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله أو تعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه، ولو كان هو الابن فلذة الكبد، ولو كانت هي النفس والحياة، وأنت يا إبراهيم قد فعلت، جدت بكل شيء، وبأعز شيء، وجدت به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين، فلم يبق إلا اللحم والدم، وهذا ينوب عنه ذبح، أي ذبح من دم ولحم! ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت، يفديها بذبح عظيم، قيل: إنه كبش وجده إبراهيم مهيأ بفعل ربه وإرادته ليذبحه بدلًا من إسماعيل.
وقيل له: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} نجزيهم باختيارهم لمثل هذا البلاء، ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها إلى مستوى الوفاء، ونجزيهم بإقدارهم وإصبارهم على الأداء، ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء.
ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان، وجمال الطاعة، وعظمة التسليم، والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم، الذي تتبع ملته، والذي ترث نسبه وعقيدته، ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها، ولتعرف أنها الاستسلام لقدر الله في طاعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لماذا؟ ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه، ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئًا، ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم.
ثم لتعرف أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء؛ ولا أن يؤذيها بالبلاء، إنما يريد أن تأتيه طائعة ملبية وافية مؤدية، مستسلمة لا تقدم بين يديه، ولا تتألى عليه، فإذا عرف منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات والآلام (7).
نعم الله على إبراهيم عليه السلام:
وفي الآيات تعداد لنعم خمسة أنعم الله تعالى بها على إبراهيم عليه السلام:
أولها: الإحسان إليه، فقد جازاه بالعفو عن الذبح حين صبر محتسبًا {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)} [الصافات: 104، 105]، وكذلك يجزي الله كل محسن ويجازيه على طاعته ويفرج همه وكربته.
ثانيها: افتداء الذبح وذلك بتقديم الكبش العظيم {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}.
ثالثها: الثناء الجميل عليه فقد بقي ذكرًا حسنًا في الأجيال المتلاحقة، قال تعالى حاكيًا طلب إبراهيم عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84].
رابعها: البشارة بإسحاق، {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112]، فقد وهبه الله إياه بعد إسماعيل، وجعله نبيًا صالحًا.
خامسها: مباركة إبراهيم وإسحاق، {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113]، فقد أمدهما بالنعم والبركات الدنيوية والأخروية من كثرة الولد والذرية، وإن من ذريته محسن فاعل للخير وظالم لنفسه (8).
الدنيا دار عمل وابتلاء، وليست دار نعيم وجزاء، وقد فقهها إبراهيم الذي هو أبو الأنبياء، وصاحب الملة الحنيفية السمحاء، فلعمري إنه قدوة كل مهاجر، خليل الرحمن، محطم الأوثان، ومكرم الضيفان.
فهلا تعلمنا منه الإيمان، التوكل، الرضا، الصبر والاستسلام لله تعالى (9).
----------
(1) تفسير ابن كثير (7/ 27).
(2) تفسير القرطبي (15/ 99).
(3) قصة الذبيح/ الإسلام سؤال وجواب.
(4) أخرجه الحاكم (4048).
(5) تفسير الرازي (26/ 347).
(6) أخرجه البخاري (5747)، ومسلم (2261).
(7) في ظلال القرآن (5/ 2994- 2996).
(8) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم (ص: 394) بتصرف.
(9) قصة الذبيح إسماعيل ملحمة ومرحمة/ تبيان.