logo

الخطبة بين الروتين والتأثير


بتاريخ : الأحد ، 14 رمضان ، 1440 الموافق 19 مايو 2019
بقلم : تيار الاصلاح
الخطبة بين الروتين والتأثير

خطبة الجمعة من أعظم شعائر الإسلام، فهي التي تعطي المسلم الدفعة الإيمانية، التي يسير بها في حياته اليومية، خلال الأسبوع، حتى تأتي الجمعة التي تليها، وورد بالشرع الحنيف نصوص قرآنية وأحاديث نبوية ترغب المسلم وتحثه على المسارعة والسعي إلى ذكر الله والصلاة يوم الجمعة، وترك البيع واللهو، فإذا انقضت الصلاة عاد المسلم ليمارس عمله المعتاد الذي أباحه الله له  {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله} [الجمعة:10].

لكن هذه الأيام التي نعيشها شهدت تراجعًا ملحوظًا في تأثير خطبة الجمعة، وكثير من المسلمين يشكون من أساليب الوعاظ والخطباء، والخطباء بدورهم يرفضون أن يُلقى عليهم وحدهم مسئولية هذا التراجع؛ إذ ثمة عوامل أخرى أوجدت هذه المشكلة.

 يقول الدكتور طلعت عفيفي: «لا شك أن خطبة الجمعة فرصة يتلاقى فيها الدعاة مع أفراد المجتمع، ولهذه الخطبة تأثير وأيما تأثير، إذا أحسن استعمالها على الوجه الذي ينبغي أن يكون؛ مما جعل العلمانيين يتحسرون لعدم وجود تلك الفرصة لهم، ويحسدون الخطباء عليها.

فالناس يأتون مختارين مبكرين؛ فينبغي لمن يتصدر للتحدث إليهم أن يحترم عقولهم وأوقاتهم، وأن يقدم لهم النصيحة التي تعود عليهم بالنفع في دينهم ودنياهم، وأن يعد نفسه جيدًا.

وللأسف الشديد فإن بعض من يتصدرون للخطبة أصبح يؤديها على أنها وظيفة وليست رسالة، وكأنه يملأ فراغ المنبر؛ بالتالي سيقول أي كلام لا مضمون ولا لغة ولا أداء.

وأحيانًا تتدخل بعض الجهات في منع أو إيقاف أي خطيب لمجرد اختلافه معهم؛ وبالتالي يمنع الأكفاء؛ مما يفسح المجال لأناس غير مؤهلين، وهي أمانة عظيمة.

إن رسالة المنبر تتكون من ثلاثة عناصر: مرسل، ومستقبل، وموضوع، فإذا اكتملت هذه الثلاث أثمرت الخطبة وآتت أكلها، وأنتجت خيرًا عميمًا ينفع الله به الناس في حياتهم ومماتهم؛ ولكن الخلل يبدأ من المرسل، وهذا لا يعني تبرئة باقي عناصر الخطبة، إلا أن المرسل (الواعظ، الملقي، الخطيب، الداعية) هو العنصر الأول والأساس، فبقدر ملئه لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإخلاصه في نيته، وثبات قدمه ورسوخه في العلم والفقه، وحسن الإلقاء، وجودة الكلمات وسلامتها، وحسن الصياغة، وفهمه لواقع الناس، ومعرفة ما يحتاجونه... إلخ، بقدر ما يؤثر فيهم ويجذبهم ويعلمهم، وينفع الله به العباد والبلاد، ويكون بركة على أهله.

إن يوم الجمعة وخطبة الجمعة هي من أبرز سمات قوة هذه الأمة، وهي فرصة نادرة للتأثير في المجتمع المسلم نحو الخير إن أُحسِن الاستفادة منها، لكن بعض خطباء الجمعة لا يجيدون الاستفادة من تلك الفرصة؛ بل للأسف أصبح بعضهم سببًا لتنفير الناس ومللهم من السماع لخطيب الجمعة، رغم حرصهم على الطاعة وتلبية النداء.

الخطبة مهما كانت فهي صناعة الخطيب وصياغته، في مضمونها وشكلها وطريقة تبليغها، وإن كان مطلوبٌ فيها صحةَ المضمون، وقوة تأثيره وإقناعه، ومناسبته للزمان والمكان والمخاطبين.

ولا شك أن وضعية الناس وما يحيط بهم من ظروف وأجواء وعوامل التحفيز أو التثبيط، كل ذلك يؤثر، إيجابًا أو سلبًا، في علاقتهم بالمنبر والخطيب، ونسبة تجاوبهم مع الخطبة، خاصة في ظروف عصرنا، الذي يعج بالفتن من جهة، وبوسائل الاتصال والإعلام المتطورة بتقنياتها وإمكاناتها الباهرة من جهة ثانية.

وهذا مما يضاعف اليوم مسئولية الخطيب ومأموريته، ويفرض العمل على تطوير آليات فنه الخطابي حتى يواكب متطلبات العصر.

إن من ثقافة الخطيب الضرورية فقه الواقع والحياة، ومواكبة تطورات العصر، ولا بد أن يغذي خطبه الأسبوعية بما يقنع الناس بحيوية المنبر، وتفاعله مع الواقع والحياة؛ وإلا فَقَد حجة الواقع فيما يخاطب به الناس(1).

يقول الداعية الدكتور هشام آل عقدة: «من أهم أسباب تراجع تأثير خطبة الجمعة تفادي أكثر الخطباء الموضوعات الحساسة المؤثرة في الواقع؛ نظرًا للضغوط الأمنية، إضافة إلى يأس أكثر المستمعين من جدوى أو نتائج الخطب؛ لكثرة التجارب التي أخفقت في تغيير الواقع».

وأضاف أيضًا: «من الأسباب كذلك عدم وجود رؤية موحدة عند الخطباء يجيشون الأمة نحوها، فصار المستمع معلقًا على وجهات نظر الخطباء فحسب، وكأن هدف الخطيب أخذ موافقة على فكرة يروج لها، كما أن الرموز الكبيرة تراجع خطابها بحيث صار مجاملًا للأنظمة، متبرمًا من الحركات الإسلامية، فصار المستمعون لا يلوون على شيء.

 لا شك أن خطبة الجمعة في الفترات الأخيرة لم تعد تتمتع بالتأثير القوي والفاعل في النفس مثلما كان عليه الحال في السابق، وذلك أنها تستهدف بشكل أساسي إحداث حالة من يقظة الوعي الإيماني؛ فهي أشبه بجرس الإنذار الذي يعمل كل أسبوع على تذكير المؤمن بثوابته العقائدية، ويحثه على تجديد العهد مع ربه.

ومن الأسباب القوية التي تقف وراء تراجع تأثير خطبة الجمعة هو ميل العديد من الخطباء إلى تكرار المعاني والأطروحات، وليت التكرار وقف عند حد طبيعة المضمون؛ وإنما امتد إلى أسلوب وحرارة الأداء، فأصبحت خطب الجمعة، في غالب الأحيان، تتسم بالرتابة، وتؤدي إلى حالة من الملل لدى جمهور المصلين؛ نظرًا لخلوها من العاطفة الجياشة، التي يمكن، في كثير من الأحيان، أن تعوض ضعف المضمون.

ومن الأهمية بمكان تذكير خطباء الجمعة بأهمية الالتزام بتجديد المضامين التي يتم عرضها في الخطبة، مع الحفاظ على جاذبية العرض وقوة الطرح، مع تنويع الموضوعات، هذا بالإضافة إلى عدم إغفال أهمية أن تكون الخطبة تذكيرًا حقيقيًا للمسلم بربه والدار الآخرة»(2).

العجيب أن أكثر المُصلين لا يتذكرون موضوع خطبة الجمعة الماضية، إمّا نتيجة تشتت انتباههم، أو بسبب حضورهم المُتأخر للصلاة، وهذا يتنافى مع الأهمية التي اكتسبتها خطبة الجمعة ومكانتها السامية كمنبر مؤثر يُبَصر الناس بأمور دينهم، ويرشدهم للعبادة الصحيحة، ويساعد على نشر الفضائل وتحسين السلوك.

معالم الخطبة المؤثرة:

فمضمون الخطبة هو الجانب الأهم في الخطبة، وهو الذي عليه مدار إصلاح القلوب والأعمال، والأخلاق والسلوك، تثبيتًا للصواب، وتكثيرًا له، وتحذيرًا من الخطأ وتقليلًا له، وهناك عدة معالم وأسس تنطلق منها الخطبة الهادفة وترتكز عليها:

الأول: تقرير الأصول والأركان:

حيث يكون للخطيب عناية خاصة بتقرير مسائل الإيمان والعقيدة، ولا يأنف من ذكرها والتأكيد عليها بين الفينة والأخرى، ولا يستبد به الولع بالمستجدات أيًا كانت، وتطغى عليه هذه النـزعة، فيهمل تلك الجوانب العظيمة، ولربما تركها أو تساهل فيها بعض الخطباء؛ اعتمادًا على سبق معرفة المستمعين لها أو دراسته إياها، وهذا على فرض ثبوته، فإن لغة الخطيب قدسية المكان وعبودية الاستماع تختلف عن لغة التعليم والدراسة فهمًا وتأثرًا وتطبيقًا، إضافة إلى أن في المستمعين ربما من لم يتعلم في التعليم النظامي، أو ليست هذه المسائل من ضمن فقرات المنهج، ولهذا كانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم مشتملة على هذه القضايا الأساسية.

يقول ابن القيم، كما في زاد المعاد: «كانت خطبه صلى الله عليه وسلم إنما هي تقرير لأصول الإيمان؛ من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، وذكر الجنة والنار، وما أعده لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبته إيمانًا وتوحيدًا»، ويقول أيضًا: «ومن تأمل خطب النبي صلى الله عليه وسلم وخطب أصحابه وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله، وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذكر آلائه التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه، فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم»(3).

القضية الثانية: التنويع:

فالخطبة الناجحة النافعة هي التي ينوع الخطيب في موضوعاتها، كل خطبة بما يناسب مقامها وظروفها الزمانية والمكانية، بحيث لا يكرر ولا يعيد؛ بل يرسم لنفسه خطًا بيانيًا علميًا، يحاول أن يأتي عليه جميعًا في فترة معينة يحددها؛ بحيث إن المستمع الذي لا يكاد يفارق هذا الخطيب يطمئن إلى أنه استوعب واستمع إلى جميع ما يحتاجه في أمور دينه، ولم يفته منه شيء، وقد يعيد الخطيب بعض الموضوعات التي تتأكد الحاجة إليها، ولكن بأسلوب مغاير، وعرض مختلف.

وتهيئة الخطيب نفسه على تنويع الموضوعات، حسب ما تقتضيه المناسبات أو الظروف والأزمات، يقضي على الرتابة عنده والتكرار الذي ربما لا يحس به، كمن يأسره مثلًا موضوع معين أو أكثر أو تخصص معين؛ فتجده لا ينفك عن طرحه إلا قليلًا، وكان سيد الخطباء صلى الله عليه وسلم يراعي مقتضى الحال في خطبه، ويذكر عنه ابن القيم رحمه الله: «وكان صلى الله عليه وسلم يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم»(4).

ومن هنا فإن على الخطيب أن يتناول في خطبته القضايا الإيمانية والعبادية والأخلاق والسلوكيات.

القضية الثالثة: العلمية:

فالخطبة الناجحة المؤثرة هي التي يعتمد فيها الخطيب على التأصيل العلمي؛ لأنه يتحدث من منبر شرعي، يحضره الناس لتلقي الطرح الشرعي المؤصل، وليس المنبر موقعًا خاصًا أو ديوانية أو وسيلة إعلامية تنسب للشخص ذاته، فعلى الخطيب أن يتقي الله فيما يطرح، فلا يخوض في القضايا بغير تأصيل وعلم وسبق تحرٍّ وبحثٍ، وألا يكون طرحه للقضايا المهمة مبنيًا على وجهة نظر شخصية، عارية عن التنقيح أو التحقيق، ومهما كان للخطيب فصاحة وبلاغة وثقافة فلا يغنيه ذلك عن التأصيل العلمي، والرجوع إلى المحكمات دون المشتبهات، وإلى اليقينيات دون الظنيات، وإلى ما تثبت منه دون ما ظنه، أو اشتبه عليه، يقول أحد السلف: «من أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل»(5).

يقول الشيخ علي الطنطاوي: «ومن أعظم عيوب الخطبة في أيامنا أن الخطيب ينسى أنه يقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتكلم بلسان الشرع، وأن عليه أن يبين حكم الله فقط لا آراءه هو، وخطرات ذهنه»، إلى أن يقول: «ومن الخطباء من يأتي بأحكام غير محققة ولا مسلمة عند أهل العلم، يفتي بها على المنبر، ويأمر الناس بها، ولو اقتصر على المسائل المتفق عليها فأمر بها العامة، وترك الخلافية لمجالس العلماء لكان أحسن».

القضية الرابعة: الاستدلالية:

فالخطبة المؤثرة هي التي يزينها الخطيب بكثرة الأدلة، من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ ليربط السامعين بمصادر التلقي الشرعية أولًا، وليثبت القضية المطروحة ثانيًا، ويحسن أن يكون الاستدلال بعد عرض المسألة وطرحها؛ لتتهيأ النفوس لسماع ما يثبت ذلك؛ فإذا سمعته بعد ذلك وعته وعقلته، وأحسنت ربط القضية بدليلها.

قال عمران بن حطان: «خطبت عند زياد خطبة ظننت أني لم أقصر فيها عن غاية، ولم أدع لطاعة علة، فمررت ببعض المجالس فسمعت شيخًا يقول: (هذا الفتى أخطب العرب لو كان في خطبته شيء من القرآن)»(6).

وفي قضية الاستدلال يجب على الخطيب أن يتحرى الأحاديث التي يلقيها في خطبته، فيتقي الله أن يأتي بأحاديث موضوعة أو منكرة أو ضعيفة، أو يتبع فيها غيره ممن يتساهل من مؤلفي دواوين الخطب القديمة أو الحديثة ورسائل التخريج، وتمييز الصحيح من غيره أصبحت ميسرة جدًا بحمد الله، سواء كان عن طريق البحث الموضوعي في أبواب كتب السنة عن طريق فهارسها، والحاسب الآلي والشبكة العنكبوتية سهلت ذلك أكثر وأكثر، فلا عذر في التقاعس والتقصير في التخريج أو في الحكم على الحديث.

القضية الخامسة: الوعظية:

ولا بد من اشتمال الخطبة الناجحة على عنصر الوعظ، كما كان هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وليس الوعظ قسيمًا للعلم، أو مقابلًا له، كما قد يتصور الكثيرون ممن يقصرون معنى الوعظ على الجانب التخويفي أو الترغيب فقط، وهذا فهم قاصر؛ إذ الوعظ في اصطلاح القرآن أعم من مجرد الترغيب والترهيب؛ ولهذا جاء وصف القرآن كله بأنه موعظة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57].

وفي الأحكام قال تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2].

ومن هنا يتضح أن الموعظة وعاء ومَرْكَب وقالب لجميع الموضوعات الإيمانية، أو العبادية، أو الأخلاقية، أو الاجتماعية، فلا تكون الخطبة مجرد عرض بارد أو تقرير هادئ، أو أخبار مسرودة، وإنما لا بد أن تساق بسياق وعظي بالندب للفعل إن كان الموضوع علميًا، والتحذير منه إن كان يتعلق بمحرم ومعصية، والتحفيز على ما وراء الخبر إن كان الموضوع خبرًا أو قصصًا قرآنيًا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمر وجهه، وعلا صوته، حتى كأنه منذر حرب يقول: صبحكم ومساكم، وهكذا مفهوم اللغة الوعظية في الخطبة، لا يتصور أن يفضَّل عليها أي مضمون(7).

أسباب التنفير من خطبة الجمعة:

ومن أهم أسباب التنفير في خطبة الجمعة ما يلي:

أولًا: غياب الإعداد الجيد:

فكثير من الخطباء لا يُعِدُّون خطبة الجمعة إلا ليلة الجمعة؛ بل ربما صبيحة الجمعة، فلا يستغرق إعداد المادة العلمية في خطبة الجمعة إلا نذرًا يسيرًا من الوقت؛ مما يعني النذر اليسير من الفائدة.

ومن أسباب عدم التحضير الجيد أن الخطباء لم يتدربوا في الكليات الشرعية على كيفية التحضير والتجهيز لخطبة الجمعة، فليست هناك دورة في الإعداد لخطبة الجمعة، وليست هناك ورشة عمل لخطبة الجمعة، وغالب الخطباء الذين تخرجوا من الكليات الشرعية يدرسون قرابة خمسة عشر عامًا أحيانًا، إن كان قد درس التعليم الديني، لكنه رغم كثرة السنوات التي درسها فهو لم يعتلِ منبرًا، ولم يمارس الخطابة وهو في مرحلة الطلب، ويفاجأ أنه بعد تخرجه قد تعين إمامًا وخطيبًا، فيتعلم في الناس، ولا يدري من أين يبدأ، ومن تميز فيهم بعد ذلك فباجتهاد شخصي، ولكثرة الممارسة فيما بعد، وقليل ما هم.

ثانيًا: الجهل بالمراجع والمصادر:

فمن الخطباء رغم دراسته في الكليات الشرعية ليست عنده مكتبة جيدة، وإن كان عند البعض مكتبة لكنه لا يدري أي كتاب يأخذ منه، وإن أراد معلومة لا يعرف من أين يستقيها من أمهات الكتب، وأقرب شيء هو أن يبحث عن خطبة قديمة قالها، أو خطبة جاهزة من كتاب سابق، أو يبحث في الإنترنت عن عنوان خطبة، فتكون منقولة ليس فيها روح الواقع، ولا يظهر فيها بصماته الشخصية.

ثالثًا: انفصال خطبة الجمع عن قضايا الأمة والمجتمع:

فكثير من الخطب التي تلقى على مسامع المسلمين مكررة، جافة، تفقد روح النصوص ورونقها، ولا تنزل الآيات على واقع المجتمع والأمة؛ بل تكون بعيدة كل البعد، ففي الوقت الذي تحصل فيه بلبلة في المجتمع في قضية من القضايا، فينظر الناس الخطيب مرشدًا لهم، كاشفًا لهم عن وجه الشريعة في القضية، تجد الخطيب يتكلم في واد والناس في واد آخر، فتنفك خطبة الجمعة عن مقصدها ووظيفتها من بيان الحق في قضايا الساعة، من غير تحيز ولا تحزب؛ بل إظهارًا للحق، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187].

فمن الواجب أن تلتحم خطبة الجمعة مع واقع الناس، وأن تكون معبرة عن قضاياهم واهتماماتهم، فتكون لها قيمة أكبر في نفوس المصلين.

رابعًا: طول الخطبة: ومن المنفرات من خطبة الجمعة أن طائفة من الخطباء لا يحلو لهم إلا أن يطيلوا على الناس الخطبة، ولو كان المسجد صغيرًا ضيفًا، ولو كان الجو صيفًا والناس يتصببون عرقًا، فهو لا يشعر بما يشعر به الناس، ويطيل إطالة ممقوتة، فيها نوع من الاستطراد والتكرار الممل، فيكرر المعنى الواحد بجمل متعددة، ويكثر الإنشاء من الكلام، ويقل في خطبته الآيات والأحاديث والآثار، ظانًا منه أنه يفهم الناس أكثر، ولو أردنا أن نلخص الخطبة التي تقترب من الساعة لاختصرناها في خمس دقائق على أكثر وجه؛ مما يدفع الناس إلى التأخر عن سماع الخطبة، ويكتفي أن يدرك الخطبة الثانية والصلاة.

خامسًا: ضعف أسلوب الخطبة:

يشعر الإنسان أحيانًا أنه مجبر لسماع خطبة الخطيب فلا يجد فيها معلومة جديدة، ولا أسلوبًا جيدًا؛ بل يتخبط الخطيب في أسلوبه، فلا إدراك للتراكيب اللغوية، ولا مراعاة للقواعد اللغوية، فإذا به يرفع المنصوب، ويجر المرفوع.

والواجب على الخطيب أن ينمي مهاراته اللغوية، وأن يدرب نفسه على التحدث باللغة العربية الفصحى اليسيرة، التي تكون بعيدة عن التقعر اللغوي، وهي في ذات الوقت تحافظ على النسق اللغوي، وقواعد اللغة وجمالها.

وأن يطعم الخطبة ببعض الشعر والأدب، وبعض الحكم والفوائد؛ حتى يزين خطبته بأسلوب عربي مبين.

سادسًا: عدم تطوير الخطيب نفسه: ولأن وظيفة الخطابة من أوضع الوظائف في العائد المادي، فنرى الخطيب يبحث عن وظيفة أخرى يحاول أن يسد به حاجاته ولا يتسول الناس؛ بل هناك من الخطباء من يتسول الناس فعلًا وإن كانت بأشكال مختلفة، فلا يفرغ الخطيب لوظيفته، عاملًا بالمثل القائل: (على قدر فلوسهم نعمل)، ناهيك عن أن الخطيب ولو كانت هناك من الدول من تكفيهم حاجاتهم فهو لا يطور نفسه، فلا يكتسب مهارات جديدة تعينه على أداء وظيفته على أكمل وجه، كدورات في التخطيط، أو دورات في الإلقاء، أو دورات في البحث والإعداد أو غيرها، حتى تنكمش وظيفة الخطابة في إلقاء بعض كلمات يعرفها الناس، وربما سمعوها عشرات المرات، خاصة خطب المناسبات؛ بل ربما يكتفي الإمام بنقل خطبة أحد الخطباء المشاهير، راحة لباله، وتوفيرا لجهده، ولو علم المسكين لرأى أن التعب في تجهيز خطبة متميزة لها أثر كبير في الأمة، لكن الأمة عن فكره غائبة.

إن الواجب على الخطباء أن يتقوا الله تعالى في خطبتهم، دون أن يتحجج البعض بأن وظيفة الإمامة والخطابة لا تكفي حاجاته وأهله؛ بل قليل من الجهد والتفكير يجعل الخطبة ناجحة لها أثر كبير، ولا ينسى الخطباء أن وظيفتهم امتداد لوظيفة الأنبياء والمصلحين، وأنهم مسئولون عنها أمام الله تعالى قبل أن تكون مسئولية وزارات الأوقاف، التي يجب عليها أن تراعي حقوق الأئمة والخطباء، وأن يغنوهم عن ذل المسألة، وأن يجزلوا لهم العطاء؛ لأن باستقرارهم يكون استقرار المجتمع، فإن كانت وزارات الداخلية تعالج الجريمة بعد وقوعها، فإن الخطباء يعالجون الجريمة قبل وقوعها(8).

***

______________

(1) أسباب تراجع تأثير خطبة الجمعة، مجلة البيان.

(2) المصدر السابق.

(3) زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 423).

(4) المصدر السابق (1/ 181).

(5) جامع بيان العلم وفضله (1/ 143).

(6) البيان والتبيين (1/ 77).

(7) كيف تكون خطبتك مؤثرة؟ موقع: تيار الإصلاح.

(8) سبعة أسباب لخطبة منفرة، موقع: إسلام أون لاين.