logo

قواعد في التعامل مع الشدائد


بتاريخ : الأحد ، 23 ربيع الآخر ، 1443 الموافق 28 نوفمبر 2021
بقلم : تيار الاصلاح
قواعد في التعامل مع الشدائد

الابتلاء يُرفع شأن الأخيار، ويعظم أجر الأبرار، يقول سعد بن أبي وقاص قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءٌ؟ قال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة» (1).

ومن الناس من يبتلى بالفقر بعد الغنى، وبالعسر بعد اليسار، وبضنك العيش وقلة الحيلة بعد ناعم الحياة وخفض العيش وبسطة الرزق وسعة التدبير، ومن الناس من يبتلى بكساد تجارته، أو فساد عشيرته، أو خراب بيته، أو تنكّر أهله، ومن الناس من يبتلى بالأمراض التي تنغِّص عليه عيشه، وتكدِّر عليه صفو حياته، وتقعد به عن بلوغ كثير من آماله، ومنهم من يبتلى بنقيض ذلك من بسطة في المال، وحُظوة في الجاه، ورفعة القدر وسعة النفوذ، والإمداد بمتع الحياة ولذائذها، والتمكن من بلوغ أقصى الغايات فيها كما قال سبحانه: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]؛ أي اختبارًا وإمهالًا قد يكون استدراجًا، إن كان من يبتلى بذلك ممن يستعين بنعم الله على معصيته فيترك أمره، ويرتكب نواهيه كما قال سبحانه: {لَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].

يقول المصطفى: «من يرد الله به خيرًا يصب منه» (2).

قال بعض أهل العلم: من خلقه الله للجنة لم تزل تأتيه المكاره، والمصيبة حقًا إنما هي المصيبة في الدين، وما سواها من المصائب فهي عافية، فيها رفع الدرجات، وحط السيئات، وكل نعمة لا تُقرّب من الله فهي بلية، والمصاب من حُرِم الثواب، فلا تأس على ما فاتك من الدنيا، فنوازلها أحداث، وأحاديثها غموم، وطوارقها هموم، الناس معذبون فيها على قدر هممهم بها، الفرح بها هو عين المحزون عليه، آلامها متولدة من لذاتها، وأحزانها من أفراحها، يقول أبو الدرداء: من هوان الدنيا على الله أنه لا يُعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها (3).

فتشاغل بما هو أنفع لك من حصول ما فاتك، من رفع خلل، أو اعتذار عن زلل، أو وقوف على الباب إلى رب الأرباب، وتلمّح سرعة زوال بليتك تهن، فلولا كرب الشدة ما رُجيت سعة الراحة، وأجمع اليأس مما في أيدي الناس تكن أغناهم، ولا تقنط فتُخذل، وتذكر كثرة نعم الله عليك، وادفع الحزن بالرضا بمحتوم القضا، فطول الليل وإن تناهى فالصبح له انفلاج، وآخر الهم أول الفرج، والدهر لا يبقى على حال، بل كل أمر بعده أمر، وما من شدة إلا ستهون، ولا تيأس وإن تضايقت الكروب، فلن يغلب عسر يسرين، واضرع إلى الله يزهو نحوك الفرج، وما تجرّع كأس الصبر معتصم بالله إلا أتاه المخرج، يعقوب عليه السلام لما فقد ولدًا وطال عليه الأمد، لم ييأس من الفرج، ولما أُخد ولده الآخر لم ينقطع أمله من الواحد الأحد، بل قال: {عَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف: 83].

قال ابن القيم: والمصائب التي تحل بالعبد، وليس له حيلة في دفعها، كموت من يعزُّ عليه، وسرقة ماله، ومرضه، ونحو ذلك، فإن للعبد فيها أربع مقامات:

أحدها: مقام العجز، وهو مقام الجزع والشكوى والسخط، وهذا ما لا يفعله إلا أقل الناس عقلًا ودينًا ومروءة.

المقام الثاني: مقام الصبر إما لله، وإما للمروءة الإنسانية.

المقام الثالث: مقام الرضى وهو أعلى من مقام الصبر، وفي وجوبه نزاع، والصبر متفق على وجوبه.

المقام الرابع: مقام الشكر، وهو أعلى من مقام الرضى؛ فإنه يشهدُ البليةَ نعمة، فيشكر المُبْتَلي عليها (4).

وقد علق على هذه المقامات الأربع الشيخ محمد بن عثيمين فقال: للإنسان عند حلول المصيبة له أربع حالات:

أن يتسخط، أو أن يصبر، أو أن يرضى، أو أن يشكر؛ هذه أربع حالات للإنسان عندما يصاب بالمصيبة.

أما الحال الأول: أن يتسخط إما بقلبه أو بلسانه أو بجوارحه.

فتسخط القلب أن يكون في قلبه شيء على ربه عز وجل من السُّخط والشره على الله تعالى والعياذ بالله وما أشبهه، ويشعر وكأن الله قد ظلمه بهذه المصيبة.

وأما باللسان فأن يدعو بالويل والثبور، يا ويلاه! يا ثبوراه! وأن يسب الدهر فيؤذي الله عز وجل وما أشبهه.

وأما التسخط بالجوارح مثل: أن يلطم خده، أو يصفع رأسه، أو ينتف شعره، أو يشق ثوبه، وما أشبهه ذلك.

 هذا حال السخط حال الهلعين الذين حرموا من الثواب، ولم ينجوا من المصيبة بل الذين اكتسبوا الإثم؛ فصار عندهم مصيبتان: مصيبة في الدين بالسخط، ومصيبة في الدنيا لما أتاهم ممَّا يؤلمهم.

أما الحال الثانية: فالصبر على المصيبة بأن يحبس نفسه؛ هو يكره المصيبة ولا يحبها، ولا يحب إن وقعت، لكن يصبّر نفسه؛ لا يتحدث باللسان بما يسخط الله، ولا يفعل بجوارحه ما يغضب الله تعالى، ولا يكون في قلبه على الله شيءٌ أبدًا؛ صابر لكنه كاره لها.

والحال الثالثة: الرِّضى بأن يكون الإنسان منشرحًا صدره بهذه المصيبة ويرضى بها رضاءً تامًا، وكأنه لم يصب بها.

والحال الرابعة: الشُكر فيشكر الله تعالى عليها، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يكره قال: «الحمد لله على كل حال» (5).

فيشكر الله من أجل أن يُرتب له من الثواب على هذه المصيبة أكثر مما أصابه (6).

ما ينبغي لمن بلغته المصيبة أن يفعل:

ينبغي لمن بلغته مصيبة، أيًّا كانت هذه المصيبة أمور:

أ- الصبر؛ فيسن الصبر على المصيبة، ويجب منه ما يمنعه عن المحرم (7).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والصبر واجب باتفاق العلماء (8).

قال ابن القيم: والصبر واجب بإجماع الأمة، وهو نصف الإيمان، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر (9).

والصبر هو: حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش (10).

قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155- 156].

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: «اتقي الله واصبري»، قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه! فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» (11).

قال الحافظ ابن حجر عند قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّما الصبر عند الصّدمَة الأولى» المعنى إذا وقع الثبات أول شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتَب عليه الأَجر؛ قال الخطابي: المعنى أن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأَة المصيبة، بخلاف ما بعد ذلك فإنه مع الأيام يسلو؛ وحكى الخطابي عن غيره أن المرء لا يُؤجر على المصيبة لأنّها ليست من صنعه، وإنَما يؤجر على حسن تثبته وجميل صبره؛ وقال ابن بطّال: أراد ألا يجتمع عليها مصيبة الهلاك وفقد الأَجر (12).

قال الإمام الموفق ابن قدامة: وينبغي للمصاب أن يستعين بالله تعالى، ويتعزى بعزائه، ويمتثل أمره في الاستعانة بالصبر والصلاة، ويَتَنَجَّز ما وعد الله الصابرين، قال الله عز وجل: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}، ويسترجع (13).

 ب- الرضا بالقضاء والقدر، والتسليم التام لله عز وجل، وهذه الصفة هي من أعظم صفات المؤمن المتوكل على الله، المصدق بموعود الله، الراضي بحكم الله، وبما قضاه الله تعالى وقدره، بل الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان، الواردة في حديث أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الطويل وفيه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره» (14).

ج- قول: إنا لله وإنا إليه راجعون: وذلك لما جاء في قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [البقرة: 156].

وله أن يزيد: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، لما جاء من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبدٍ تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها»، قالت: فلما توفي أبو سلمة رضي الله عنه قلت: ومن خيرٌ من أبي سلمة؟ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عزم الله علي فقلتها، فما الخلف؟! قالت: فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خير من رسول الله صلى الله عليه وسلم (15).

د- أن تعلم أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان؛ لذا فهي مليئة بالمصائب، والأكدار، والأحزان، كما قال ربنا الرحمن: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}، وقال عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4].

هـ- تذكر أن العبد وأهله وماله لله عز وجل؛ فله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، قال لبيد:

وما المال والأهلون إلا ودائع          ولا بد يومًا أن ترد الودائع

و- الاستعانة على المصيبة بالصلاة، قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} [البقرة: 45]؛ وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى (16)، ومعنى حزبه: أي نزل به أمرٌ مهم، أو أصابه غم.

وهذا حال المؤمن الصادق، الذي لا يخطر على قلبه في وقت المحن والشدائد، إلا تذكر الله عز وجل، لأنه الذي بيده مفاتيح الفرج.

ولما أخبر ابن عباس رضي الله عنهما بوفاة أحد إخوانه استرجع وصلى ركعتين أطال فيهما الجلـوس، ثم قام وهـو يقول: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} (17).

ز- إخلاص التوجه إلى الله والرجوع إلى أمره وشرعه:

فهو الخالق، وكل مَن عداه وما سواه مخلوقٌ مربوبٌ، وهو سبحانه المتصرف في الكون بما شاء وكيف شاء، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، ومِن ثَمَّ وجب على العباد اللجوء إليه وحدَه في رفع المصائب والابتلاءات، فيصرفوا جميع الطاعات والعبادات والقربات له وحده، قال سبحانه: {وَإذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ} [الإسراء: 67]، وقال سبحانه: {أَمَّن يُجِيبُ الْـمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62].

وإخلاص التوجه إلى الله تعالى لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب المشروعة؛ كالبحث عن الدواء في حال المرض ونزول الوباء.

ح- التضرع إلى الله تعالى:

التضرع مِن أجلِّ وأعظم العبادات التي ينبغي على المسلم أن يتقرب بها إلى الله تعالى عند نزول الشدائد والمصائب، قال تعالى في الأمـم السابقة: {فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42]، وقال سبحانه: {فَلَوْلَا إذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام: 43]، وقال أيضًا: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف: 94].

وقال الله تعالى في المشركين الطغاة الأوائل من هذه الأمة: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76]، ومعنى التضرع: التذلل والخشوع لله تعالى وإظهار الضعف عند اللجوء إليه في رفع البلاء.

ط- اليقين بالفرج:

على المسلم أن يتيقن بأن المصائب والشدائد مهما طالت ستزول يومًا ولن تدوم، لقوله تعالى: {فَإنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشرح: ٥- ٦]. 

فالمصائب والشدائد ينزلها الله بالعباد لحِكِمٍ كثيرةٍ، منها: إيمانُ الكافر، وتوبةُ العاصي، وكفُّ ظلم الظالم، واختبارُ إيمان المؤمن، ثم تزول بعد مدتها وأمدها، قال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْـجَنَّةَ وَلَـمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة: ٢١٢].

وقال الله تعالى في شأن موسى عليه الصلاة والسلام مخبرًا عن يقينه وحسن توكله على الله تعالى: {قَالَ كَلَّا إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]، قال موسى عليه الصلاة والسلام هذا موقنًا بنصرة الله تعـالى له، لَـمَّا أدركته ومَن معه مِن المؤمنين جنود الفرعون.

ي- عدم اليأس والقنوط:

نهى الله تعالى عباده المسلمين عن اليأس والقنوط من رحمته، ومعناه: أن يتصورَ الإنسان ويقعَ في ذهنه أن لا يأتيَ بعد الشدة والبلاء خيرٌ ولا يترجى رفع المصيبة، قال تعالى على لسان سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]، وقال سبحانه: {لَا يَسْأَمُ الإنسَانُ مِن دُعَاءِ الْـخَيْرِ وَإن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49]، وقال أيضًا: {وَإذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36].

قال ابن كثير في معنى هذه الآية: هذا إنكار على الإنسان من حيث هو إلا من عصمه الله ووفقه؛ فالإنسان إذا أصابته نعمة بطر، وقال: {ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 10]؛ أي يفرح في نفسه ويفخر على غيره، وإذا أصابته شدة قنط وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير بالكلية (18).

ك- احتساب الأجر عند الله تعالى:

في أوقات وفترات انتشار الأمراض والأوبئة أرشد الإسلام إلى لزوم الدُّور والبيـوت مع التحلي بالصبر واحتساب الأجر عند الله تعالى؛ فقد سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرها نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه كان عذابًا يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين؛ فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرًا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد (19).

فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن من لزم بلده صابرًا محتسبًا، مفوِّضًا أمره لربه سبحانه، فله من الأجر والثواب مثل ما للشهيد من الأجر العظيم.

ل- التوبة من المعاصي والذنوب:

يبتلي الله من عباده بالمصائب والشدائد بسبب ما هم عليه من الذنوب والمعاصي لعلهم يكفُّون ويتوبون قال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]؛ أي يرجعون عن فعل المعاصي والآثام بالتوبة والكف والإقلاع والندم (20).

م- تذكر ثواب المصائب، والصبر عليها، وإليك شيئًا منه:

1- دخول الجنة: قال الله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 23- 24].

وقال صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة (21)، وصفيه هو حبيبه المصافي كالولد، والأخ، وكل من يحبه الإنسان، والمراد بقوله عز وجل (ثم احتسبه): أي صبر على فقده راجيًا الأجر من الله تعالى على ذلك (22).

2- الصابرون يوفون أجورهم بغير حساب، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، قال الأوزاعي: ليس يوزن لهم ولا يكال، إنما يغرف لهم غرفًا (23).

3- معية الله للصابرين، وهي المعية الخاصة المقتضية للمعونة والنصرة والتوفيق، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].

4- محبة الله للصابرين، قال تعالى: {وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].

5- تكفير السيئات لمن صبر على ما يصيبه في حال الدنيا، كبر المصاب أم صغر؛ قال صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب، ولا همٍ، ولا حزن، ولا أذىً، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه» (24)، والنصب التعب، والوصب: المرض، وقيل هو المرض اللازم.

قال الإمام القرافي: المصائب كفارات جزمًا سواءً اقترن بها الرضا أم لا، لكن إن اقتران بها الرضا عظم التكفير وإلا قل (25).

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة» (26).

6- حصول الصلوات، والرحمة، والهداية من الله تعالى للعبد الصابر؛ قال الله عز وجل: {أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155- 157].

7- رفع منزلة المصاب؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده، ثم صبّره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى» (27).

فإذا تكالبت عليك الأيام، وأغلقت في وجهك المسالك والدروب، فلا ترجُ إلا الله في رفع مصيبتك ودفع بليتك، وإذا ليلة اختلط ظلامها، وأرخى الليل سربال سترها، قلب وجهك في ظلمات الليل في السماء، وارفع أكف الضراعة، وناد الكريم أن يفرج كربك، ويسهل أمرك، وإذا قوي الرجاء، وجمع القلب في الدعاء لم يرد النداء، {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]، وتوكل على القدير، والجأ إليه بقلب خاشع ذليل يفتح لك الباب، يقول الفضيل بن عياض: لو يئست من الخلق لا تريد منهم شيئًا لأعطاك مولاك كل ما تريد (28).

إبراهيم عليه السلام ترك هاجر وابنه إسماعيل بواد لا زرع فيه ولا ماء، فإذا هو نبيٌ يأمر أهله بالصلاة والزكاة، ومضى يونس مجردًا في العراء، ومن فوّض أمره إلى مولاه حاز مناه، وأكثر من دعوة ذي النون: {لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، يقول العلماء: ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه، يقول ابن القيم: وقد جُرب أن من قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]، سبع مرات كشف الله ضره (29).

فألقِ كنفك بين يدي الله، وعلّق رجاءك به، وسلِّم الأمر للرحيم، واسأله الفرج، واقطع العلائق عن الخلائق، وتحرّ أوقات الإجابة، كالسجود وآخر الليل، وإياك أن تستطيل زمن البلاء، وتضجر من كثرة الدعاء، فإنك مبتلى بالبلاء، متعبَّد بالصبر والدعاء، ولا تيأس من روح الله وإن طال البلاء، فالفرج قريب، وسل فاتح الأبواب فهو الكريم، {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [يونس: 107]، وهو الفعال لما يريد (30).

________________

(1) أخرجه الترمذي (2398).

(2) أخرجه البخاري (5645).

(3) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (1/ 278).

(4) عدة الصابرين (ص: 81).

(5) أخرجه ابن ماجه (3803).

(6) شرح رياض الصالحين (1/ 174).

(7) الفروع (2/ 223).

(8) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص: 265).

(9) مدارج السالكين (2/ 158).

(10) مدارج السالكين (2/ 162).

(11) أخرجه البخاري (1283)، ومسلم (926).

(12) فتح الباري (3/ 494- 495).

(13) المغني (3/ 495).

(14) أخرجه مسلم (9).

(15) أخرجه مسلم (918).

(16) أخرجه أبو داود (1319).

(17) فتح الباري (3/ 524).

(18) تفسير ابن كثير (6/ 317).

(19) تفسير القرطبي (3/ 235).

(20) توجيهات إسلامية عند وقوع المصائب والشدائد/ مجلة البيان.

(21) أخرجه البخاري (6424).

(22) فتح الباري (13/ 20).

(23) تفسير ابن كثير (4/ 52).

(24) أخرجه البخاري (5641).

(25) فتح الباري (11/ 242- 243).

(26) أخرجه الترمذي (2399).

(27) أخرجه أبو داود (3090).

(28) خطوات إلى السعادة (ص: 28).

(29) الفوائد (ص201).

(30) الصبر على أقدار الله/ طريق الإسلام