logo

إخراج العبادة عن الإلف والعادة


بتاريخ : الثلاثاء ، 23 محرّم ، 1443 الموافق 31 أغسطس 2021
بقلم : تيار الاصلاح
إخراج العبادة عن الإلف والعادة

إن لكل عبادة شرعها الله أسرارها وأنوارها، ومزاياها وفوائدها، يؤديها العبد فيكسب بها رضا الله عز وجل، ومع الأيام قد تصبح هذه العبادات عادات؛ بمعنى أن العبد يؤديها دون شعور بأهميتها، ودون شعور بأنوارها، وإذا ما وصل الإنسان إلى هذا الحد في عباداته أو في بعضها فقد أضحى على منعطف خطر، ويجب عليه أن يراجع أعماله ليصححها، وبكل أسف فقد أضحت عبادات الكثير من الناس عادة اعتادوا عليها ودرجوا، ربما تعلموها من آبائهم أو أنهم اعتادوا عليها فيما بعد.

والخطر في الموضوع يكمن في أن روح العبادة ولذتها هي ما يدفع الإنسان لفعلها ولمكابدة المشاق والمتاعب من أجلها، فإذا ما تحولت العبادة إلى عادة فإن الإنسان سيتركها عند أول مشكلة تعترضه؛ ولذلك كان من الواجب على الإنسان أن يحاول فهم ما أراد الله من التشريع (1).

الفرق بين العادة والعبادة:

أن العبادة ما أمر الله به ورسوله تقربًا إلى الله، وابتغاءً لثوابه، وأما العادة فهي ما اعتاده الناس فيما بينهم من المطاعم والمشارب والمساكن والملابس والمراكب والمعاملات وما أشبهها.

وهناك فرق آخر: وهو أن العبادات الأصل فيها المنع والتحريم حتى يقوم دليل على أنها من العبادات، لقول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ} [الشورى: 21]، أما العادات فالأصل فيها الحل إلا ما قام الدليل على منعه، وعلى هذا فإذا اعتاد الناس شيئًا وقال لهم بعض الناس: هذا حرام، فإنه يطالب بالدليل، يقال: أين الدليل على أنه حرام؟ وأما العبادات فإذا قيل للإنسان: هذه العبادة بدعة، فقال: ليست ببدعة، قلنا له: أين الدليل على أنها ليست ببدعة، لأن الأصل في العبادات المنع حتى يقوم دليل على أنها مشروعة.

والعادة مفهوم محايد، فمن الخير أن يعتاد الإنسان الخير، وأن يكون ثابتًا، يفعله الإنسان بلا تكلف، وقد ورد في الحديث: «الخير عادة، والشر لجاجة» (2).

فقوله عليه السلام: «الخير عادة» أي: المؤمن الثابت على مقتضى الإيمان والتقوى ينشرح صدره للخير فيصير له عادة؛ ذلك لأن الإنسان مجبول على الخير، قال الله تعالى: {فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، وأما الشر فلا ينشرح له صدره، فلا يدخل في قلبه إلا بلجاجة الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، واللجاجة الخصومة.

قال المناوي: «الخير عادة» لعود النفس إليه، وحرصها عليه من أصل الفطرة، قال في الإحياء: من لم يكن في أصل الفطرة جوادًا مثلًا فيتعود ذلك بالتكلف، ومن لم يخلق متواضعًا يتكلفه إلى أن يتعوده، وكذلك سائر الصفات يعالج بضدها إلى أن يحصل الغرض، وبالمداومة على العبادة ومخالفة الشهوات تحسن صورة الباطن، «والشر لجاجة» لما فيه من العوج وضيق النفس والكرب.

والعادة مشتقة من العود إلى الشيء مرة بعد أخرى، قال العامري في شرح الشهاب: وأكثر ما تستعمل العرب العادة في الخير وفيما يسر وينفع.

اعترض كلب في طريق عيسى عليه السلام فقال: اذهب عافاك الله، فقيل له: تخاطب به كلبًا؟ قال: لسان عودته الخير فتعود.

وقال الحكماء: العادة طبيعة خامسة، واللجاج أكثر ما يستعمل في المراجعة في الشيء المضر بشؤم الطبع بغير تدبر عاقبة، ويسمى فاعله لجوجًا، كأنه أخذ من لجة البحر، وهي أخطر ما فيه، فزجرهم المصطفى صلى الله عليه وسلم عن عادة الشر بتسميتها لجاجة، وميزها عن تعود الخير بالاسم للفرق، فعلى من لم يرزق قلبًا سليمًا من الشر أن يروض نفسه على الخير والكف عن الشر ويلزمها المداومة على ذلك، وإنما يؤتى العبد من الضجر والملال والعجلة (3).

وعن عائشة، أنها قالت: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصير، وكان يحجره من الليل فيصلي فيه، فجعل الناس يصلون بصلاته، ويبسطه بالنهار، فثابوا ذات ليلة، فقال: «يأيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه، وإن قل»، وكان آل محمد صلى الله عليه وسلم إذا عملوا عملًا أثبتوه (4).

دل الحديث على مشروعية التوسط والاعتدال في العمل، وكراهة التعمق في الطاعة، وعلى بيان ما كان عليه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من الشفقة والرأفة بأمته؛ حيث أرشدهم إلى ما فيه صلاحهم، وما يمكنهم المحافظة عليه بلا مشقة، لأن النفس تكون فيه أنشط، ويحصل منه المقصود من الطاعة؛ وهو الخشوع والدوام عليها، بخلاف العمل الذي يشق على النفس فإنه عرضة لأن يتركه كله أو بعضه، أو يفعله بمشقة وبلا رغبة فيفوته الخير العظيم.

وقد ذم الله تعالى من التزم فعل البر ثم قطعه بقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 2].

وفيه الحث على العمل الدائم، وأن القليل الدائم خير من الكثير المنقطع؛ لأن بدوام القليل تدوم الطاعة، والإقبال على الله تعالى مع الإخلاص والخشوع، ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا (5).

وهكذا يحث صلى الله عليه وسلم أمته أن لا يشقوا على أنفسهم فلا يتشدد في الدين أحد إلا غلبه، وأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، فليتعبد المؤمن بما لا يشق عليه وعلى الله القبول.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: «ما هذا الحبل؟» قالوا: هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حلوه ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد» (6).

والحاصل أن سالك طريق الآخرة ينبغي أن يجتهد في العبادة من الصلاة وغيرها بقدر الطاقة، ويختار سبيل الاقتصاد في الطاعة، ويحترز عن السلوك عن وجه السآمة والملالة، فإن الله لا ينبغي أن يناجى عن ملالة وكسالة، وإذا فتر وضعف قعد عن القيام، واشتغل بنوع من المباحات من الكلام والمنام على قصد حصول النشاط في العبادة، فإنه يعد طاعة، وإن كان من أمور العادة (7).

وكما قال أبو الطيب: لكل امرئ من دهره ما تَعَوَّدَا.

ومن المعلوم أن من أعظم أسباب استقامة العبد في سيره إلى الله؛ أن يكون له طاعات يلازمها، ويحافظ عليها، ويعتادها، لا يفرط فيها ولا يتهاون، ولا يتكاسل عنها، وهكذا كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم ديمة؛ أي: دائمًا، ثابتًا، مستمرًا، وكان أهله إذا عملوا عملًا: أثبتوه.

أما العادة بمعنى: ألا يشعر الإنسان بالعبادة، فيفعلها بصورة آلية لا روح فيها، فإنه خطر ينبغي على الإنسان أن ينتبه إليه.

فإن الأجر مرتب في العبادة على حضور القلب فيها، كما قال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1- 2].

فمن المهم أن يكون القلب حاضرًا في العبادة غير منشغل عنها.

مِن أعظم آفات العبادات:

آفة الإلف والعادة، فعندما يعتاد المرء العبادات وتصبح جزءًا مِن برنامجه اليومي: كالصلاة، والأسبوعي: كالجمعة، والسنوي: كرمضان، والحج؛ تتحول هذه العبادات إلى مجرد أفعال وأقوال متكررة لا تضيف جديدًا إلى حياة الفرد.

وإن مَن يدقق النظر في ركن الدين الأعظم بعد توحيد الله تعالى وهو الصلاة، التي وصفها الله -سبحانه- بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فقال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]، يجد أنها تحولت إلى عادة مِن العادات عند كثيرٍ منا، فأصبحت لا تنهى عن الفحشاء ولا المنكر! بل صارت أشبه بجهاز تسجيل، يكبر المسلم ليدخل صلاته، فيكرر لسانه المحفوظات التي اعتادها بلا تفكير منه فيما يقرأ ولا تدبر لأذكارها، ويخرج منها كما دخل، فلا خشوع ولا خضوع ولا قرب -إلا مَن رحم الله تعالى-؛ فصاحب التدخين ما زال يدخن، وصاحب الأغاني مستمر، وصاحب الربا مصر، وصاحب الغيبة ربما يكثر منها، وصاحبة التبرج تتباهى به، إلخ.

وهذه المعاصي تضعف الايمان وتقوي جانب الشيطان، وتمرض القلب، وهو الران: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]؛ فأين التأثر بالصلاة وتذوق طعم الإيمان؟!

إن مقياس وضابط تحول الصلاة إلى عادة هو مقدار الإحساس بالخشوع واللذة فيها، فإن كانت الصلاة حركات وأقوالًا مجردة لا تحرك في الوجدان ساكنًا سواء بالتأخر عنها، أو بما فيها مِن أقوالٍ وأذكارٍ؛ فهي إذًا عادة؛ ألا ترى يا أخي كيف كان ينظر الرسول صلى الله عليه وسلم إليها؟! فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول لبلال رضي الله عنه: «يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها» (8)، هذه هي الصلاة التي ضيَّع روحها وثمرتها كثير مِن الناس ممَن أصبحت الصلاة لا تمثِّل عندهم إلا حركات وكلمات لا صلة بينها وبين قلوبهم.

واعلم يا أخي أن مَن صارت صلاته كذلك؛ تجده لا يعرف حتمًا صلاة الليل وقيامه؛ لأنه لو كان يعلمها لوجد لذة الصلاة، ولجاهد مِن أجلها.

وكذا في صيام رمضان: فالملاحظ أننا في كل سنة نستقبل شهر رمضان ثم نودعه، نسمع قبله بقليل عن فضل هذا الشهر وأهميته ومكانته، وما يجب علينا مِن اغتنامه، حتى حفظ الناس أحاديثه وآياته، فلم يتدبروها ويفكروا فيها، ثم بعد رحيله نسمع كذلك بعض المواعظ في وداعه والحزن على فراقه، حتى أصبح ذلك الأمر عادة تعودناها وقضية ألفناها؛ عبر أحداثٍ رتيبة تتكرر علينا في السنة وفي الشهر وفي الأسبوع وفي اليوم.

ولئن كان الاعتياد على كثيرٍ مِن شئون حياتنا الدنيوية مقبولًا، فإن مِن غير المقبول أن ينسحب ذلك على عباداتنا التي نتقرب بها إلى الله سبحانه؛ لذلك ينبغي لنا أن نتذكر جيدًا أن مِن آفات العبادات الخطيرة العظيمة أن تتحول العبادة إلى عادة، يؤديها الواحد منا دون أن تترك أثرًا في نفسه أو سلوكه.

ومما يعين على حضور القلب في العبادة:

1- تنويعها، فينوع الإنسان العبادات، من صلاة، وتلاوة قرآن، وذكر، وصدقة، وبر والدين، وصلة أرحام، وزيارة مرضى، وتشييع جنازة.. ومن رحمة الله وفضله أن العبادات كثيرة ومتنوعة.

2- الصبر على استحضار النية حال العمل.

قال ابن القيم: الصبر حال العمل: فيلازم العبد الصبر عن دواعي التقصير فيه والتفريط، ويلازم الصبر على استصحاب ذكر النية، وعلى حضور القلب بين يدي المعبود، وألا ينساه في أمره، فليس الشأن في فعل المأمور، بل الشأن كل الشأن ألا ينسى الآمر حال الإتيان بأمره، بل يكون مستصحبًا لذكره في أمره.

فهذه عبادة العبيد المخلصين لله، فهو يحتاج إلى الصبر على توفية العبادة حقها، بالقيام بأدائها وأركانها وواجباتها وسننها، وإلى الصبر على استصحاب ذكر المعبود فيها، ولا يشتغل عنه بعبادته، فلا يعطله حضوره مع الله بقلبه، عن قيام جوارحه بعبوديته، ولا يعطله قيام الجوارح بالعبودية عن حضور قلبه بين يديه سبحانه (9).

3- الاجتهاد في الدعاء.

وهو من أعظم الأسباب المعينة على استحضار معية الله، وعونه للعبد.

4- ألا يترك العمل:

فإن هذا من وسائل الشيطان، أن يثبط الإنسان عن العمل لعدم حضور القلب، فليحذر المؤمن، وليستمر على العمل.

5- التهيؤ للعبادة والاستعداد لها، والابتعاد عما قد يشغل القلب.

وعن عائشة أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يصلى بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان» (10).

تنشط النفوس عندما تحملها العادة والإلف ولو في أعمال ثقيلة، وتتكاسل لو تجرد الأمر الشرعي بدون عادة وإلف، وهذا علامة خلل وفساد.

إن أداء الأعمال الصالحة وترك المنهيات يجب أن يكون تعبدًا لله لك؛ محبة وخوف ورجاء، وليس من باب الإلف والعادة.

فاستحضار معنى العبودية لله عز وجل حين أداء العمل الصالح شرط في قبوله والحصول على ثماره اليانعة في الدنيا والآخرة.

6- استصحاب شعور العبودية:

وحينما يصاحب العامل شعور العبودية لله، فإنه يكون محافظا على شروط صحتها وقبولها عند الله تعالى. وأهم هذه الشروط الإخلاص لله تعالى والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلما كان شهود معنى العبودية لله تعالى في الأعمال أقوى وأكمل كان ذلك دليلا على قوة الإيمان في القلب وصلاح السريرة.

وعندما يغفل العبد عن شهود العبودية لله تعالى في أداء الأعمال وترك النواهي، فإن باعث العادة والإلف هو الذي يغلب على أعماله، ومن ثَم تضعُف ثمار هذه الأعمال، وقد يخسرها عند الله عز وجل.

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في منزلة التواضع: التواضع بأن تخدم الحق سبحانه وتعالى، وتعْبُده بما أمرك به على مقتضى أمره، لا على ما تراه من رأيك، ولا يكون الباعث لك داعي العادة كما هو باعث من لا بصيرة له، غير أنه اعتاد أمرا فجرى عليه، ولو اعتاد ضده لكان كذلك. وحاصله أنه لا يكون باعثه على العبودية مجرد رأي وموافقة هوى ومحبة وعادة، بل الباعث مجرد الأمر، والرأي والمحبة والهوى والعوائد منفذة تابعة، لا أنها مطاعة باعثة، وهذه نكتة لا ينتبه لها إلا أهل البصائر (11).

ويقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: رأيت عادات الناس قد غلبت على عملهم بالشرع، فهم يستوحشون من فعل الشيء لعدم جریان العادة لا لنهي الشرع... ونرى خلقًا يحافظون على صلاة الرغائب، ويتوانون عن الفرائض، ومنهم من يعلم أن أصل ماله حرام، ويصعب عليه فراقه للعادة؛ وإن وقعت موافقة للشرع، فكما اتفق أو لأجل العادة، فإن الإنسان لو ضُرب بالسياط ما أفطر في رمضان عادة قد استمرت، ويأخذ أعراض الناس وأموالهم عادة غالبة (12).

ويشرح ابن القيم رحمه الله تعالى قول الهروي في منزلة التهذيب: وهو على ثلاث درجات؛ الأولى: تهذيب الخدمة ألا يخالجها جهالة، ولا يشوبها عادة، ولا يقف عندها همة؛ فيقول في شرحه لقوله «لا يشوبها عادة»:

شوب العادة؛ وهو أن يمازج العبودية حكم من أحكام عوائد النفس تكون منفذة لها، معينة عليها، وصاحبها يعتقدها قربة وطاعة، کمن اعتاد الصوم -مثلًا- وتمرَّن عليه، فألِفته النفس، وصار لها عادة تتقاضاها أشد اقتضاء، فيظن أن هذا التقاضي محض العبودية، وإنما هو تقاضي العادة.

وعلامة هذا: أنه إذا عُرض عليها طاعة دون ذلك، وأيسر منه، وأتمّ مصلحة لم تؤثرها إيثارها لما اعتادته وألِفته، کما حُكي عن بعض الصالحين من الصوفية قال: حججت كذا وكذا حجة على التجريد، فبان لي أن جميع ذلك كان مشوبًا بحظي، وذلك أن والدتي سألتني أن أستقي لها جرعة ماء، فثقل ذلك على نفسي، فعلمت أن مطاوعة نفسي في الحجات كان لحظ نفسي وإرادتها، إذ لو كانت نفسي فانية لم يصعب عليها ما هو حق في الشرع (13).

التناقض بين أنشطة الدعوة وتعبدات أعظم:

ويقع في ذلك كثير من شباب الدعوة والعاملين في الإغاثة والمناشط الدعوية المختلفة، حيث نرى الكثير منهم يبذل وقته وجهده ويتحمل في ذلك السهر والتعب والسفر دون ملل ولا فتور -نسأل الله عز وجل أن يثيبهم على ذلك- ولكن ما يجب التنبيه عليه هنا هو أن باعث الإلف والعادة والتلذذ لهذه الأعمال أفقدها عند بعضهم شهود التعبد لله عز وجل فيها.

ومن الأدلة على ذلك أن يوجد من هؤلاء الشباب من هو مقصر جدًا في خدمة والديه أو أحدهما، بحيث أصبحنا نسمع الشكاوی من الأب أو الأم تجاه أبنائهم الملتزمين، وبأنهم يتثاقلون في تلبية طلبات والديهم؛ ولو كان في أمر يسير كإحضار حاجة للبيت، أو إيصال الأب أو الأم لزيارة قريب لها، لا يستدعي أحيانًا دقائق من الوقت، وهنا يقال: أين النشاط المتواصل والسهر والتعب في مناشط الدعوة، الذي قد يستغرق ساعات، بل أيام دون ملل ولا تعب، لماذا لم يحصل التثاقل هنا، وحصل عند حاجة الوالدين مع فارق الوقت الذي يكون في العملين؟ أليس كلاهما عبادة؟ بل إن عبادة بر الوالدين والإحسان إليهما لا يتقدمها إلا الواجبات الكبرى، وهي مقدَمة على من دونها.

والجواب على هذه المفارقة -والله أعلم- أن باعث العمل الدعوي عند البعض تغلب عليه العادة والإلف وحظ النفس، وبر الوالدين وخدمتهما لم تتعود عليه النفس، ولا حظَّ لها فيه، فصار ثقيلًا.

من الخير للعبد أن يتفقد قلبه، ويفتش في نفسه عن تسرب الخلل واختلال موازين الأعمال، كما تفقد ذلك الصالح قلبه عند طلب والدته.

وثمة علامات أهم بل وأثمان أفدح نراها بسبب ذلك الخلل، في بيئة الدعوة وفي نموذج المسلم المعاصر.

فالخير في التقيد بالعبودية واستهداف تحقيقها، والله الهادي إلى صراط مستقيم (14).

والمطلوب من الإنسان شيئان:

الأول: ألا تتحول عباداته إلى عادات.

والثاني: أن تتحول عاداته إلى عبادات، وهذه نعمة مِن نعم المولى عز وجل مَنَّ بها على عباده؛ فكل عادة نويت بها نية طيبة صارت بمجرد النية عبادة، وهذا باب من أبواب الكرم الإلهي؛ فلنحسن نياتنا ولنراقب سرائرنا، ولنحاول فهم سر التشريع وتذوق حلاوته.

--------

(1) عندما تغدو العبادة عادة/ رابطة العلماء السوريين.

(2) أخرجه ابن ماجه (221).

(3) فيض القدير (3/ 510).

(4) أخرجه البخاري (5861)، ومسلم (782).

(5) المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (7/ 302- 303).

(6) أخرجه البخاري (1150)، ومسلم (784).

(7) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/ 933).

(8) أخرجه أبو داود، (4985).

(9) عدة الصابرين (65 – 66).

(10) أخرجه أبو داود (89).

(11) مدارج السالكين (2/ 338).

(12) صيد الخاطر (ص: 231).

(13) مدارج السالكين (2/ 98- 99).

(14) إخراج العبادة عن الإلف والعادة من علامات صلاح السريرة/ ناصحون.